مجموعة قصص للاستاذ كمال الجزولي

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-22-2024, 11:06 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف العام (2003م)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
06-10-2003, 06:27 PM

خالد
<aخالد
تاريخ التسجيل: 02-02-2003
مجموع المشاركات: 856

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
مجموعة قصص للاستاذ كمال الجزولي

    Last Update
    جَنُوبِيُّون
    كمال الجزولى [email protected]
    مَدْخَلٌ لا بُدَّ مِنه *فى سَبيلِ الخُروجِ من حَالةِ "الجَّوْرَبِ المَقْلوب"! (1) سواء انتهت ، أو لم تنتهِ ، مفاوضات "مشاكوس" الحاليَّة إلى أىِّ شئ ، فإن أحكَمَ ما نستطيع بلوغه من نظر تجاهها هو أن نكُف عن اعتبارها "يوم قيامة" سياسى ، ينجرد فيه "الحساب" الختامى "للحالة السودانية" ، وتنغلق "الدفاتر" تماماً ، ويتم تبادل "المخالصات" النهائية ، لمجرد أن "شركاء الايقاد" و"أصدقاءها" يريدون ذلك! "فمشاكوس" ، كما يُفترض ، ليست حقلاً تفرخ فيه الارادة "الأجنبية" ، فحسب ، بل هى ، فى واقع الأمر ، "مناسبة" أخرى من مناسبات صراعاتنا "السياسيَّة" التى يقع علينا وحدنا عبء مجابهتها وتدبيرها وحسمها. على أننا ، للأسف ، لم نحسن حتى الآن ، كعادتنا ، أمر هذه المجابهة جيداً ، دع التدبير والحسم جانباً ، ربما لأن أحداً ، فى "الايقاد" أو "شركاء الايقاد" أو "أصدقاء الايقاد" ، ممَّن مكَّناهم من "الأمر" كله بغفلتنا ، لم يحفل ، أصلاً ، بإشراكنا فيه! ولا يتوهَّمنَّ كريمٌ أن "ضمير الجمع" عائدٌ هنا ، فقط ، إلى قوى المعارضة ، فثمة أكثر من سبب للاعتقاد ، فى التحليل النهائى ، بأن "الحكومة" و"الحركة" نفسيهما ما انفكا يتزحزحان ، وفق برنامج محسوب طوال الأشهر الماضية ، من خانة "الذات" إلى خانة "الموضوع" فى هذه المفاوضات! وما الطريقة الدراماتيكية التى أخرج بها "الاتفاق الاطارى" فى ختام الجولة الأولى (20/8/2002م) ببعيدة عن الأذهان! صحيح أنه لا جدال ، البتة ، فى أننا أمسينا نعيش فى عالم يزداد تقارباً وانشغالاً بأطرافه مهما ترامت ، وأن أهم ما يهمه إطفاء بؤر النزاعات المشتعلة. ولكنه عالم منقسم من جهة المصالح ، والفكر ، والأجندة ، والسياسات. أقلُّه قوى استعمارية استكملت مقومات بطشها المادى ، وأكثره شعوب ما تزال تراكم عناصر نفوذها المعنوى ، والخلط بينهما ضرب من "الغشامة" فى أفضل الأحوال! لذلك ، ولأن من يفرِّط فى أجندته الوطنية ، لا يعود أمامه من سبيل لذمِّ الأجندة الأجنبية، فإن الأمل معقود ، الآن ، بالمدى الذى نستطيع أن نفيق فيه جميعاً إلى حقيقة أن ما نصطلح عليه "بمشكلة الجنوب" هو ، فى الواقع ، مجرد ملمح أعلى صوتاً لمشكلة بنائنا الوطنى بأسره. فهل كفت "الوحدة" ، نهائياً ، عن أن تكون خيارنا المصيرى؟! ألم يتبقَّ لنا ، حقاً ، سوى المفاضلة اليائسة بين "انفصال" مأساوى ، وبين "وحدة" بشعرة معاوية لا نجد فى أيدينا ما يدعمها غير هذه الحفنة من التدابير الاجرائية العجفاء (منصب النائب الأول ، وضع العاصمة القومية ، قسمة الثروة .. الخ)؟! أين ، تراه ، موقع العامل الثقافى والنفسى التاريخى من إعراب هذه التدابير التى لا يتوقف وسطاء مشاكوس عن اجتراحها بلا هوادة؟! (2) لقد شاع التأكيد على عناصر "الوحدة" بين مفردات منظومة "التعدد السودانى" لدى أغلب الباحثين والكاتبين ، بما يعفينا ، فى سياق هذه المساهمة ، من الخوض فى تفاصيل اقتران "الثقافى" مع "السياسى" ، و"العرقى" مع "الاقتصادى" ، على طول خطوط "التاريخى" و"الجغرافى" و"الانثروبولوجى" و"السايكولوجى" وما إلى ذلك. على أننا نرى أنه ، وبرغم علو صوت "السياسى" وسط هذه العوامل مجتمعة ، فثمة ما يحمل ، بوجه عام ، على التجرؤ بالقول بأن ثمة "مشكل ثقافى" يكمن ، يقيناً ، خلف كل "مشكل سياسى" يتصل بقضية "الوحدة" فى السودان ، وذلك لشدة ارتباط "الثقافى" بمسائل "الهوية" التاريخية ، والوعى "بالذات" و"بالآخر" ، والشعور المشروع "بالتميز" ، قبل أن يُخرج "الاقتصاد السياسى" ، من فوق كل هذا ، أثقال "قسمة السلطة والثروة" .. الخ. ولكون "الثقافى التاريخى" هو ، فى المحصلة النهائية ، المختبر الأكثر دقة لقياس "رغائب" الناس الحقيقية ، والتعبير الأكثر صدقاً فى تفسير "دوافعهم" و"خياراتهم" ، فإن ضجيج التعانف السياسى فى ما يتصل "بمشكلة الجنوب" ، على كلا المستويين الحربى والسلمى ، عاجز ، فى هذا المنظور ، عن إخفاء حقيقة أن المقومات النفسية/الثقافية "للوحدة" تظلُّ ، بالنسبة للجنوبيين بعامة والمثقفين منهم بخاصة ، أقوى من دواعى "الانفصال" المتهومين به فى مستوى الوعى الاجتماعى السائد فى الشمال ، وتلك هى الفرضية الرئيسة التى تتحرك منها هذه الكتابة. ولعل أعجل نظرة مستبصرة للتاريخ القريب تكفى للتدليل على هذه الفرضية، فعلى سبيل المثال1) لم تحُل "ذاكرة الرق" التاريخية ، وتأثيراتها السالبة على صورة "العربى المسلم" عموماً منذ عشرينات القرن التاسع عشر ، دون أن تتبلور صورة الامام المهدى ، عليه السلام ، كإبن للروح المقدسة "دينق" لدى الدينكا ، ، مثلاً ، وانخراطهم من ثمَّ فى حربه الثورية ضد الاتراك ، بصرف النظر عن انقلابهم لاحقاً لمقاومة المهدية!(2) وبرغم ما سمى "بالسياسة الجنوبية" التى استندت على تلك الذاكرة ، والتى اتبعتها الادارة البريطانية منذ بداية الحقبة الاستعمارية مطلع القرن العشرين ، وأقامت هيكلها الأساسى على ترسانة من القوانين والإجراءات الرامية لاستبعاد المؤثرات الشمالية ، وإعاقة التقارب بين الشطرين ، كقانون الجوازات والتراخيص لسنة 1922م وقانون المناطق المقفولة لسنة 1929م ، واللذين قصد منهما أن يصبح الجنوب ، فضلاً عن جبال النوبا الشرقية والغربية ، أرضاً أجنبية بالنسبة للسودانى الشمالى ، وإلى ذلك قانون محاكم زعماء القبائل 1931م ، وفرض "الانجليزية" لغة رسمية فى الجنوب ، وتحديد عطلة نهاية الاسبوع فيه بيوم الأحد ، وتحريم ارتداء الأزياء الشمالية على أهله ، وابتعاث الطلاب الجنوبيين لإكمال تعليمهم فى يوغندا ، وغيرها من السياسات ، برغم ذلك كله فإن الأمر لم يحتج ، بعد قرابة نصف القرن ، إلى أكثر من إبداء حسن النية والوعد بتلبية أشواق الجنوبيين للحكم الفيدرالى كيما يصوِّت نوابهم فى أول برلمان سودانى مع استقلال السودان "الموحَّد".(3) وبرغم تدشين الأجندة الحربية الدموية إبتداءً من 1955م ، واستمرار "العدائيات" الناشئة من خراقة "السياسة الشمالية" التقليدية تجاه الجنوب ، وقصر نظر المواقف الجنوبية ، والنخبوية منها تحديداً ، تجاه الشمال ، عسكرية كانت أم مدنية ، فإن صوت التعبيرات الوحدوية لم يخفت عبر كل تلك الفترات ، سواء فى مؤتمر المائدة المستديرة عقب ثورة أكتوبر ، أو فى اتفاقية أديس أبابا 1972م ، أو على هامش كل المواجهات المتواصلة منذ 1983م .(4) وبرغم "المكابرة السياسية" الواضحة فى إصرار أقسام مهمة من الانتلجينسيا الجنوبية على تضمين "الانجليزية" فى النصوص الدستورية لغة رسمية فى الجنوب ، واقتراح بعضهم "السواحيلية" لغة قومية هناك ( Mirror, Feb. 1974 (Sir Anaye, Nile ، إلا أن كلمة "الثقافى" الحاسمة قد مضت فى هذا الأمر ، بحيث انحصرت "الانجليزية" ، وهى ليست لغة أفريقية ، بين أقليات النخب المتعلمة ، بينما واصلت اللغات المحلية أداء رسالتها ، من جهة ، وتكرس "عربى جوبا" ، من الجهة الأخرى ، لغة للتواصل فى قاعدة المجتمع الجنوبى بين قومياته المختلفة lingua franca ، وذلك على غرار "عربى أم درمان" فى الوسط والشمال. و"العربية" ، من قبل ومن بعد ، لغة أفريقية حملها "الجلابى .. إلى الجنوب .. منذ 1878م ، ووزع مفرداتها وصيغها مع بضائعه ، وقد وجدت فيها قبائل الجنوب .. لغة تتفاهم بها فى ما بينها" (عبد الله على ابراهيم ؛ الماركسية ومسألة اللغة فى السودان ، عزة للنشر ، الخرطوم 2001م ، ص 40). ومع الاقرار بأن هذا كله لا يزال أقصر من قامة المعالجات المطلوبة فى إطار التخطيط الثقافى الديموقراطى الراشد ، إلا أننا ".. لسنا بحاجة إلى اعتساف هذا التطور الحر والموضوعى بصيغ دستورية .. تنطوى على الاكراه" (نفسه).(5) ضف الى ذلك الملاحظة السديدة التى لم تغب عن تحليلات واستنتاجات الكثير من الكتاب والسياسيين حول ظاهرة نزوح أكثر الجنوبيين شمالاً ، هرباً من الفاقة وويلات الحرب ، مقارنة بالقليل منهم الذى يلجأ ، إضطراراً ، إلى البلدان الأفريقية المجاورة.(6) وقد استندت ، فى أكثر من مناسبة ، إلى الملاحظة السديدة التى كان قد أبداها صديقى الشاعر المفكـر الراحل سر أناى كيلويلجانق ، عليه رحمة الله ، حول أن معظم اللغات الجنوبية تستخدم مفردة "جورشول" ، بمعنى "الغريب" ، فى الاشارة إلى اليوغندى أو الزائيرى ، مثلاً ، فى حين تستخدم مفردة "مندوكورو" فى الاشارة إلى السودانى الشمالى!(7) ومن ملاحظات سر أناى ذات الدلالة القوية أيضاً أن إحساس "الجنوبى" ، وهو يتجول فى مدن الشمال ، إنما هو إحساس من يتجول فى أرض تخصه ، بعكس مشاعر الغربة التى ما تلبث أن تلفه بمجرد أن تطأ قدماه أرض أى بلد أفريقى آخر! فلا يعود سائغاً ترويج الاعلام الرسمى ، فى سياق "العدائيات" ، لعبارة جون قرنق الشهيرة بأنه يشتهى أن يشرب القهوة فى "المتمة" أو نحو ذلك!( وحتى فى مفاوضات "مشاكوس" الجارية حالياً ، منذ يونيو الماضى ، بين الحكومة و"الحركة الشعبية/الجيش الشعبى لتحرير السودان ، وبرغم ما قد يلوح فيها من ميل مظهرى الى "المفاصلة" ، إلا أن "عين السخط" وسوء النية وحدها هى التى لا تستطيع أن تلمح خلف كل ذلك طيوف رغبة "جنوبية" حقيقية فى "الوحدة" ، وإن كانت بأشراط أكثر غلظة! (3) لقد ظلت حكومات "الجلابة" المتعاقبة فى الخرطوم ، منذ الاستقلال ، أسيرة للنقوش والظلال والتلاوين الأساسية فى "صورة الذات" كما تشكلت تاريخياً لدى الجماعة السودانية المستعربة المسلمة ونخبها المختلفة ، وهى النقوش والظلال والتلاوين التى لطالما بلورت "وعى" هذه الجماعة الخاص بتوطنها النهائى فى "العرق" العربى الخالص ، و"اللسان" العربى الخالص ، و"الثقافة" العربية الاسلامية الخالصة ، قبل أن تدفع تأثيرات اندغامها فى ملابسات حركة التحرر فى المنطقة بأقسام مهمة منها إلى البدء فى الاستشعار البطىء والخافت لنبض العنصر الأفريقى ضمن مكونات هذا "الوعى" . وليس من العسير تلمس ملامح "صورة الذات" هذه فى أساسيات المنهج الذى أتبعته عام 1956م لجنة التحقيق فى الأحداث المأساوية التى وقعت فى توريت وغيرها عام 1955م. فلقد ركزت تلك اللجنة تركيزاً شديداً ، كما لاحظ فرانسيس دينق مثلاً ، وبحق ، على ما يفرق لا على ما يجمع ، وذلك تحت تأثير المبالغة فى تقدير النتائج التاريخية لعمليات "الأسلمة والتعريب" فى الشمال ، وتضخيم الفوارق التى ترتبت عليها بين الشمال والجنوب (فرانسيس دينق ؛ مشكلة الهوية فى السودان ـ أسس التكامل القومى ، ترجمة محمد على جادين ، مركز الدراسات السودانية ، القاهرة 1999م ، ص 122 ـ 123). لقد أضحت تلك الفوارق وحدها هى القضايا التى ينبغى وضعها فى الاعتبار على رأس أى مرشد لعمل أية حكومة فى الخرطوم تجاه الجنوب ، عسكرية كانت أم مدنية ، إلى حد التيئيس من "الوحدة". وتتلخص تلك القضايا ، كما حصرتها لجنة التقرير ، فى خمسة محاور رئيسة:أولها: أن الشمال عرقياً عربى والجنوب زنجى ، وأن الشمال دينياً مسلم والجنوب وثنى ، وأن الشمال لغوياً يتكلم العربية والجنوب يتكلم أكثر من ثمانين لغة.وثانيها: أن الجنوبيين يعتبرون الشماليين ، لأسباب تاريخية ، أعداءهم التقليديين.وثالثها: أن السياسة البريطانية قد عملت حتى عام 1947م على ترك الجنوبيين يتطورون فى خطوط أفريقية زنجية ، واستخدمت أداة القانون ، كقانون المنطق المقفولة وقانون الرخص التجارية ، لإعاقة أية إمكانية لتعارف وتقارب السودانيين فى الشمال والجنوب ، مثلما عمل النشاط التعليمى للارساليات التبشيرية على تغذية هذه السياسة .ورابعها: أن الشمال تطور سريعاً فى مختلف المجالات ، لعدة أسباب اقتصادية وسياسية وجغرافية وغيرها، بينما ظل الجنوب على تخلفه المزرى ، الأمر الذى أورث أهله شعوراً بأنهم ضحايا خداع واستغلال وهيمنة من قبل أهل الشمال.وخامسها: أنه ، ولكل هذه العوامل ، فإن الجنوبيين يفتقرون إلى الشعور بالمواطنة المشتركة مع الشماليين (لاحظ الإحالة المستعلية إلى الشمال فى ما يتصل بمعيار المواطنة) ، بل وأنهم ، أى الجنوبيين ، يفتقرون إلى الشعور بالوطنية والانتماء الى السودان ، وحتى الوعى الذى برز مؤخراً ، أى عشية الاستقلال ، هو وعى "إقليمى" وليس "وطنياً". وكالعادة لم ينس التقرير الاشارة ، ضمن تلك العوامل ، إلى ازدياد نشاط الشيوعيين فى مركز الزاندى والمورو وبين عمال صناعة القطن ونقاباتهم! باختصار كان ذلك التقرير "نعياً" حقيقياً لكل مقومات "الوحدة" كونة جاء نتاجاً طبيعياً للذهنية النخبوية المستعلية "بمركزوية" الذات فى علاقتها بالآخر ، والمنطلقة من "معيارية" صراحة العرق ، وصفاء اللسان ، وتفوق الثقافة! وفى هذا تكمن تأثيراته المأساوية اللاحقة ، حيث شكل ، عملياً ، المعطيات المعتمدة فى خلفية جُلِّ السياسات المتعاقبة بشأن الجنوب ، منذ الاستقلال ، باستثناء القليل من الشواهد التاريخية الايجابية ، كبيان 9 يونيو 1969م ، وجهود وزارة شئون الجنوب تحت قيادة جوزيف قرنق (1969م ـ 1971م) ، وإلى حدٍ ما إتفاقية أديس أبابا 1972م. وإذن ، فقد توهَّمت الحكومات المتعاقبة ، تبعاً لذلك "المرشد" أن تكريس "الوحدة" لا بد أن يعنى "ميكانيكياً" ، وبصورة تبسيطية مخلة ، الانطلاق على طول الخط المعاكس لترتيبات الادارة البريطانية السابقة ، حسب رؤيتها لها ، فأصبحت خطة " الأسلمة والتعريب" المتلازمين ، ضربة لازب ، فى المنظور الاجرائى البحت ، والقائمين فى رموزيات القوة المادية ، وفى شطط التفوق العرقى والثقافى ، وفى الاستهانة بحق التميز الذاتى لثقافة الآخر ، هى البديل الوطنى "الحر المستقل" للسياسات الاستعمارية! وقد فاقم من ذلك ، لأقصى حد ، توهُّم الجماعة المستعربة المسلمة الصغرى ، أو بالأحرى نخبها ، بأن عليها القيام ، فى هذه التخوم من العالمين العربى والاسلامى ، بواجب الوفاء "بتكليف ما" ألقت به على عاتقها الجماعة العربية المسلمة الكبرى فى مركز القلب من المنطقة ، وفحواه تجسير الهوة التى تعوق حركة "العروبة" و"الاسلام" صوب عالم الأفارقـة الوثنيين ، حتى تنساب الحضارة باتجاه واحد : من الشمال للجنوب ، الأمر الذى ولد لدى غالب النخب الشمالية المتسيدة ذهنية "رسالية" مستعلية تجاه الجنوب ، تقصى أى مشروع "لمثاقفة" متكافئة ، لتستعيض عنها بمناهج وآليات " الاخضاع" و"الاستتباع" وحدها ، مثلما ولد لدى قطاعات عريضة من النخب الجنوبية ردود فعل شديدة العنف والحِـدَّة تجاه كل ما هو "عربى" و"إسلامى" ، مما يتمظهر غالباً فى الميل الى المبالغة فى تضخيم الانتماء إلى الرموزيات الثقافية والعرقية الأفريقية والديانة المسيحية واللغة الانجليزية ، رغم أنف "عربى جوبا" الذى لا تعرف القوميات الجنوبية نفسها، بلغاتها الثمانين ، لغة تواصل غيره فيما بينها. تساوت فى هذه النظرة أنظمة مختلفة فى الخرطوم : بعضها يدعى العلمانية ، وبعضها الآخر يتلبس النهج الثيوقراطى ، وحكومات بعضها عسكرى ديكتاتورى ، وبعضها الآخر مدنى ديمقراطى ، وبعضها الثالث عسكرى مدنى يلعب "بالبيضة والحجر " ! كما تساوت فى النظرة المعاكسة ، أو ردود الأفعال ، على تفاوتها ، أحزاب وتنظيمات وحركات جنوبية ، فى "المدينة" وفى "الغابة" على السواء. (4) خطل هتين النظرتين المتصادمتين ، واللتين لطالما حبستا "العروبة" و"الأفريقية" فى أسر مفاهيم عرقية وثقافية ضيقة ، إنما يكمن ، على اختلاف الأنظمة والحكومات الشمالية ، والأحزاب والتتنظيمات الجنوبية ، فى كونهما تمتحان من "الأوهام" بدلاً من "الوعى" الراسخ بحقائق الواقع الموضوعى التاريخية ، وخطورتهما إنما تتمثل فى كونهما تواصلان دعم مناخ "العدائيات" المستمر بلا طائل ، بدلاً من الأسهام فى دعم أى مشروع محتمل "لوحدة" مرموقة. لسنا البلد الوحيد الذى تلاقحت فيه الأعراق ، على أنه ما من بلد كما السودان كذب فيه بعض الناس على أنفسهم بزعم الانتساب إلى عرق "خالص" يستعلون به على بقية الأعراق ، فوجد الآخرون أيضاً أنفسهم منخرطين فى الكذب على النفس بمجابهة هذا الاستعلاء باستعلاء مساو له فى المقدار ومضاد له فى الاتجاه! ولسنا البلد الوحيد الذى قام على تعدد وتنوع تحتاج مكوناته إلى حوار تاريخى هادئ ومثاقفة تلقائية رائقة ، غير أنه ما من بلد كالسودان كابرت فيه جماعة بتفوقها الثقافى والدينى واللغوى ، طالبة تنازل الآخرين لها عما بأيديهم ، فلم تحصل منهم طوال عمر أوهامها على أكثر من الإيغال فى أوهام الكراهية المختلقة والدم المفتعل! ولسنا البلد الوحيد الذى أدى استلحاقه القسرى بفلك السوق الرأسمالية العالمية إلى تفاوت قسمة الثروة وحظوظ التنمية والتطور بين مختلف أقاليمه ، سوى أنه ما من بلد كما السودان انطمست بصائر نخبه الحاكمة عن رؤية المخاطر التى يمكن أن تحيق بسلطتها نفسها، فيما لو تحولت هذه المظالم إلى "غبينة" تاريخية! ومع ذلك فإنه ليس من قبيل "المعجزات" أن تفضى بنا حقائق الصراع وحركة التدافع ، وطنياً وإقليمياً وعالمياً ، إلى مستقبل تنعم فيه بلادنا بدرجة معقولة من توازن التطـور ، وتساوى الأعراق ، وتعايش الأديان ، وتحاور الثقافات ، فى ظل "وحدة وطنية" راسخة. وما من شك فى أننا سنكون أكثر قرباً من هذا المستقبل ، بقدر ما سيراكم تاريخنا من معطيات موضوعية تتيح لكل "مفردة" فى منظومة "تعددنا" و"تنوعنا" أن تعى نفسها ، دونما أوهام ، فى نسق علاقاتها "بالمفردات" الأخرى ، وأن تعى مصالحها ، بصورة أفضل وأكثر واقعية ، فى لجج هذا الصراع والتدافع ، الأمر الذى سيجعل من التوازن والمساواة والحـوار والتعايش ، ليس فقط حالة بديلة عن حالة الاحتراب الماثلة ، بل ضرورة لا غنى عنها لوجودنا نفسه. على أن هذا المستقبل المأمول ليس محض "طور" من أطوار "الارتقاء التلقائى" ، بحيث يقع حتماً فى كل الأحوال سواء عملنا أم لم نعمل لأجله ، وإنما يحتاج إلى حركة دفع قوية ومقصودة وجادة باتجاهه ، تهدف للخروج بعمليات التطور من احتكار مثلث (الخرطوم ـ كوستى ـ سنار) ، ويمكن إجمال عناصر هذه الحركة فى ثلاثة محاور أساسية1) الانطلاق من مجرد الاقرار بواقع "التنوع" إلى تصميم برامج للتنمية المتوازنة بين كل مكوناته ، مع إعطاء الأولوية لاستغلال الموارد القومية ، وخاصة البترول ، فى التنمية القومية الاقتصادية ـ الاجتماعية التى تحقق تعاوناً بين هذه المكونات ، كخطة ذات جدوى أكبر من مجرد الاقتصار على "قسمة العائد" البائسة التى اتفقت الحكومة عليها ، من قبل ، مع مجموعتى "مشار ولام أكول" ضمن "اتفاقية الخرطوم للسلام ـ 1997م" ، حتى غدت "عجلاً مقدساً" لا يمكن التخلى عنه ، وها هى الآن تشكل "ورطة" للمفاوضات فى ميشاكوس! غير أنه من المهم ، أيضاً ، عدم إغفال أهمية تخصيص ما يكفى من الموارد للاسراع فى ردم فجوة التخلف والتهميش التى ظلت تعانى منها مناطق الأقليات القومية ، فى الجنوب وغير الجنوب، وذلك بإيلاء الاعتبار الكافى لمبدأ المعاملة التفضيلية لهذه المناطق فى ما يتصل بإعادة توزيع عائدات البترول والذهب والانتاج الزراعى والحيوانى وغيرها من الثروات ، سواء كان ذلك من خلال ما تخصصه الميزانية السنوية العامة أو ما يرصد ضمن ميزانية التنمية لأغراض الارتقاء بخدمات الصحة والتعليم وغيرها فى هذه المناطق.(2) ولأن العامل الاقتصادى ، رأسمالياً كان أم اشتراكياً ، غير جدير وحده ، يقيناً ، بالتكفل بحل "المشكلة القومية" ، ولنا الأسوة فى ما وفرته خبرة الاتحاد السوفيتى سابقاً ، ومشكلتى "الباسك" فى أسبانيا و"البريتان" فى فرنسا ، ووقائع صراعات الجيش الجمهورى الايرلندى مع الحكومة البريطانية ، على سبيل المثال ، فليس ثمة مناص من التواضع على بناء دولة مدنية ديمقراطية قائمة فى "معيارية المواطنة" ، و"العدالة الاجتماعية" ، و"الحريات العامة" و"حقوق الانسان" كما نصت عليها المواثيق الدولية ، لتكون حاضنة وطنية لهذه العمليات ، ليس فى مستوى الاطار الدستورى والقانونى فحسب ، وإنما بالمراجعة التاريخية المطلوبة بإلحاح لمحددات "الهوية الوطنية" فى السياسات الثقافية ، ومناهج التربية والتعليم ، وبرامج الراديو والتلفزيون ، وغيرها من أجهزة الاعلام ووسائط الاتصال الجماهيرية الاخرى ذات التأثير الحاسم فى صياغة بنية الوعى الاجتماعى ، بما يشيع مناخاً صالحاً لازدهار كل المجموعات بمختلف ثقافاتها وأديانها ومعتقداتها ولغاتها ، وانخراطها فى مثاقفة ديموقراطية هادئة فى ما بينها ، "فليس أمرّ من صدام الثقافات وأدمى" ، على قول المرحوم جمال محمد أحمد. خطوة كهذه يستحيل إنجازها عبر صفقة منفردة بين قيادات جنوبية ، مهما بلغت درجة نفوذها ، وبين أية حكومة فى الخرطوم ، بالغاً ما بلغ مستوى فلاحها فى بسط سلطتها ، بل لا بد من انجازها من خلال أوسع مشاركة للحركة الجماهيرية المنظمة فى أحزابها وتنظيماتها السياسية ونقاباتها واتحاداتها المهنية والنوعية وروابطها الاقليمية والجهوية وغيرها فى الشمال والجنوب والشرق والغرب.(3) وإلى ذلك لا بد من انخراط الجماعة المستعربة المسلمة فى السودان فى حوار داخلى حر بين جميع أقسامها حول فهومها المتعارضة لدينها الواحد ، فى ما يتصل بعلاقته بالدولة وبالسياسة ، الأمر الذى لطالما شكل ، منذ فجر الحركة الوطنية ، بؤرة نزاعات خطرة لم يقتصر أثرها السالب على هذه الأقسام وحدها ، بل وامتد ليطال علاقات هؤلاء المستعربين المسلمين بمساكنيهم من أهل الأعراق والأديان والثقافات الأخرى فى الوطن ، فيعوق أى مشروع "للوحدة الوطنية" من كل الجوانب الاقتصاية والسياسية والثقافية وغيرها. هذه المعالجات المستقبلية المأمولة هى "سيرورة" تاريخية وليست محض "إجراءات" إدارية ، ولذلك فمن الصعب ، بل من العبث محاولة توصيفها هنا تفصيلاً ، أو تقييدها بمدى زمنى محدد ، أو بترتيبات معينة ، سواء من خلال "مشاكوس" أو غيرها. وقد تتعرض هذه البرامج لانتكاسات حتى بعد التواضع عليها ، وقد تبلغ هذه الانتكاسات حد "الانفصال" نفسه ، سواء فى المدى القريب أو المتوسط ، على أن جملة عوامل "التوحيد" التى أشرنا اليها تدفعنا إلى التفاؤل بأن خيار "الوحدة" سوف يشكل الخيار النهائى فى المدى البعيد. وربما زودتنا بالمزيد من التفاؤل عبارة سر أناى الشاعرية الحكيمة : إن الآلام التى يعانيها وطننا الآن هى، قطعاً ، الآم "الطلق" ، بأكثر مما هى الآم "المرض" ! (5) كثيرون هم المثقفون والسياسيون السودانيون الذين أفاقوا ، منذ زمن ليس بالقصير ، فى الشمال كما فى الجنوب ، على "وعى جديد" بخطل هتين النظرتين المتصادمتين "للعروبة الخالصة" و"الأفريقية الخالصة" ، وخطورتهما. وحتى من لم يفق ، بعد ، تماماً ، أو ما يزال فى طور المكابرة الفصامية ، لا تعدم تعبيراته ، فكرياً أو سلوكياً ، لوامع وإشراقات من هذا "الوعى الجديد" الذى أنتج ، على الأقل ، دعوة جادة ومؤثرة ، على صعيدى السياسة والثقافة ، لصياغة مداخل "سودانوية" جديدة للتعامل مع قضايا بلادنا ومشاكلها ، ليس بالنسبة "للجنوب" فحسب ، بل بالنسبة لكل الجهويات ، إنطلاقاً من ضرورة "الوعى" الذى لاغنى عنه بحقائق السودان نفسه ، على ما هو عليه ، دونما حاجة "للإحالة" إلى غيره. ولقد شكلت هذه الدعوة ، كنموذج ، أحد أهم المحاور التى اشتغل عليها كثيرون ، من أبرزهم د. فرانسيس دينق ، وبالاخص فى مباحثه حول مشكلة الهوية وديناميكياتها. إن منهج "الإحالة" هذا لبائس حقاً ، بل انه قد يفضى ، أحياناً ، إلى حدٍّ مُروِّع من البؤس المعرفى ، ومن ذلك ، على سبيل المثال ، توصيف السودان كمحض "جسر" يربط بين العالمين العربى والأفريقى! ولعل فى هذا شيئاً مما نبه د. نور الدين ساتى إلى خطورته الاستثنائية ، كونه لا يورثنا ، فى المحصلة النهائية ، سوى النظر إلى الذات "كجورب مقلوب"!ولما كان للمثقف الجنوبى ، على وجه التحديد ، دوره غير المنكور فى تعيين المآلات النهائية التى يندفع باتجاهها هذا النزاع ، فلقد بدا لى دائماً غير كاف مجرد الاقتصار على مناهج البحث التقليدية التى تغيِّب هذا المثقف ، كإنسان من جهة ، وكدور فاعل شديد التأثير والخطورة من الجهة الأخرى. ووقع عندى سداد كثير فى محاولة الاطلال على المشكلة من باب المقاربة لهذا الكيان الفاعل والخطير ، عبر ثلاثة نماذج منه ، مقاربة لا تجفل فرقاً من أن تصنف فى كثير من لحظاتها وملامحها العامة كجنس فى الابداع الأدبى ، التماساً لمعرفة أوثق بالكيفية التى تمور وتعتمل بها فى عقل هذا الانسان ووجدانه معاً شتى الأفكار والرؤى التى ترسم خطوط توجهاته ، ومختلف المشاعر والأحاسيس التى غالباً ما تؤثر فى حسم خياراته ، بالحق أو بالباطل ، وربما كان هذا هو أقصى ما تأمل فى بلوغ شئ منه هذه المساهمة التى تتحرك ، كما سبق وأوضحنا ، من افتراض أصالة "النزوع الوحدوى" لدى المثقف الجنوبى ، برغم قشرة الجفاء المظهرية السميكة. (يتبع) ■ ■ ■ (1) جُـوْ : أىُّ فتىً أضاعوا؟! (1) كانت عقارب الساعة تشير إلى تمام التاسعة إلا ربعاً مساء الأحد الخامس والعشرين من يوليو عام 1971م. المطر الذى بدأ عزيفه منذ أول حلول الظلمة الموحشة كان لا يزال يجلد وجه المدينة بزخات كثيفة من النثيث الهطـَّال. والمصابيح الصفراء تنثر ، بالكاد ، شيئاً من ضوئها الشاحب الذى أوهنته العاصفة فوق الأسوار الصخرية لسجن كوبر. كان الرعد لا ينفك يقعقع بدوىٍّ يصم الآذان ، والوميض المتلاصف يجهش ، بين الفينة والأخرى ، عبر الكـُوى الحديدية للعنابر المكتظة بمئات المعتقلين من الشيوعيين والديموقراطيين ورموز اليسار وقادة التنظيمات النقابية والجماهيرية. كان الجميع قد أخلدوا ، تحت وطأة إحساس ساحق بالرهق الثقيل ، إلى نوم مؤرق متقطع.فجأة ، صلصت المفاتيح الضخام فى الأقفال الفولاذية ، وصرَّت الأبواب صريراً عالياً، ودخلت مجموعة صغيرة من الجنود مدجَّجة بالرشاشات الخفيفة والأحذية العسكرية الملطخة بالوحل. جاست قليلاً ، بين الأجساد المتكدِّسة ، قبل أن يجلجل صوت آمرها ينادى ، من فوق كل تلك الزوبعة الخريفية: "جوزيف قرنق"!نهض من فرشته الحصيرية البالية التى كان يستلقى عليها بالبنطال والفنلة الداخلية. أحكم تثبيت قطعة القطن التى كان يضعها فى أذنه اليمنى ، جراء ما كان يعانى من ألم حاد لم يُسمح له بعلاجه ، ومضى يرتدى قميصه ، محاولاً أن يجعله يستقر بصورة أنيقة ، قدر المستطاع ، داخل بنطاله ، وأن يسوِّى ما تجعد منهما ـ القميص والبنطال ـ خلال ثلاثة أيام من اعتقال مفاجئ بدون غيار. إنتبه البعض ، فسرت فى أنحاء العنبر همهمات محتشدة بالأمل المحصور والتشهيات الأسيرة:ـ "إطلاق سراح بدون شك".ـ "أكيد".ـ "طبعاً".ـ "طيب ، وما الذى يمكن أن يأخذوه به وقد عاد من أفريقيا الوسطى قبل أيام"؟!ـ "يا رجل حمداً لله على السلامة"! هبَّ الراقدون إلى جواره يعاونونه. طلب مشطاً. بحثوا عبثاً. ولمّا لم يكن من الممكن العثور على شئ كهذا فى مثل ذلك المكان ، اكتفى بأن خلل شعره بأصابع يديه. وما أن فرغ من ذلك حتى وقف متمكثاً لبرهة ، ثم أخذ نفساً عميقاً وهو يسرِّح عينيه الوديعتين فى الوجوه التى راح يتعاورها ، فى تلك اللحظات ، مزيج من التفاؤل الرغبى والقلق الكتيم ، ثم ما لبث أن مشى بين الجنود ، بخطوه الواثق ، ورزانته المعهودة ، صامتاً لا يعلق على الهمهمات المتناثرة من حوله. سوى أنه ، وعلى حين كان الباب الضخم يوشك أن يوصـد ، مرة وللأبد ، بينه وبين رفاق العنبر ، إلتفت إليهم ، فلمحوا ، للمرة الأخيرة ، طيف الابتسامة الغامضة على شفتيه ، وسمعوا الصوت الهادئ ، المتيقن ، الواضح برغم الرعد والمطر ، يخاطبهم أجمعهم بإنجليزية مبينة ، وبنبرة محتقنة بأطيب ما فى الانسانية من نبل الطويَّة ، وأعمق ما فيها من جرح الخذلان:ـ good by, we might not meet again, I wish you will hold on "مع السلامة ، ما أظن نتلاقى تانى ، شدوا حيلكم"**!! (2) ولد (جو) ذات صباح من عام 1932م ، لأبوين مزارعين مسيحيين من قبيلة الجور ، فى قرية نائية تقع على بعد 33 ميلاً شمال غرب واو ببحر الغزال ، حيث تلقى تعليمه الأولى فى نقطة الارسالية الكاثوليكية ، قبل أن ينتقل للدراسة بمدرسة بوسرى الوسطى على بعد 10 أميال إلى الجنوب من واو ، ومنها إلى مدرسة رمبيك الثانوية ، ثم كلية القانون بجامعة الخرطوم التى تخرج منها عام 1956م ، ليلتحق بمهنة المحاماة ، متدرباً فى البداية ، ثم شريكاً فى عام 1958م بمكتب الأستاذ أحمد سليمان المحامى بعمارة سلافوس بالخرطوم. لم تكن قراباته ، فضلاً عن تأهيله الممتاز ، لتخلو من خيوط تشدُّها ، فى النسيج الاجتماعى المتخلف ، إلى بعض مواقع السلطة والنفوذ. فلقد شغل خاله جيرفث ياك ، مثلاً ، منصب مساعد المحافظ لمديرية بحر الغزال فى فترة من الفترات. وذاك باب فى الاتصال بأهل الحظوة الحكومية مشهود فى توسيع فرص الاستوظاف والترقى المادى ، خاصة إذا كان المرء ، مثل (جو) ، ليمونة فى بلد تعانى الغثيان! على أن خيارات الرجل نحت منحىً مختلفاً تماماً ، حيث انضم فى الجامعة إلى الحزب الشيوعى ، ليصبح العضو الجنوبى الثانى فيه بعد هلرى لوقالى الذى كان قد انضم إليه فى مطلع خمسينات القرن الماضى ، وبقى فيه حتى قبيل ثورة أكتوبر 1964م بفترة قصيرة. وما لبث (جو) أن انتخب ، عن جدارة واستحقاق ، وهو لما يزل ، بعد ، طالباً بالجامعة ، عضواً فى لجنة الحزب المركزية ، من خلال المؤتمر الثالث (فبراير 1956م). وفاز فى انتخابات 1965م نائباً بالجمعية التأسيسية عن دوائر الخريجين. ثم عاد وحصل فى انتخابات 1968م على أعلى نسبة من الأصوات فى مدينة واو ، حين رشحه الحزب فى دائرتها الجغرافية ، وكاد يفوز بها لولا أن خذلته ، كما كان متوقعاً ، صناديق الأرياف المستلبة للوعى الزائف! كان ذاك أوان عجزت الأحزاب الشمالية التقليدية عن استمالة الجنوبيين إلى صفوفها ، فلم يكونوا لينخرطوا فى العمل السياسى إلا من خلال تكويناتهم الجهوية الخاصة. وأذكر أننى أبديت ، أواخر ثمانينات ذلك القرن ، ملاحظة عابرة حول مبالغة صديقنا جوزيف موديستو فى الاصرار على التذكير بانتمائه للحزب فى كل أحاديثه ، فضحك الأستاذ نقد وقال:ـ "جوزيف قرنق ، خال موديستو ، كان يفعل الشئ نفسه. هؤلاء الزملاء الجنوبيون لا يكتفون بالاعلان عن نزعتهم الوحدوية ، فحسب ، بل ويصرون على أن يضيفوا إليها أنهم أعضاء فى الحزب الشيوعى .. كمان"! لحظتها سطعت ، فجأة ، فى ذاكرتى كلمة عبد الخالق الشهيرة أمام مؤتمر المائدة المستديرة (مارس 1965م) ، فى معرض تعليقه على تكرار الجنوبيين (الآخرين) ، من حزب سانو وجبهة الجنوب ، اتهامهم للشماليين ، فى كل كلماتهم أمام المؤتمر ، بأنهم (أحفاد الزبير باشا) ، قائلاً بجرأة وحزم:ـ "نعم نحن أحفاد الزبير باشا ، ولكن أحفاد الزبير باشا تطوروا وتغيروا ، حتى صار بينهم الآن .. حزب شيوعى" ، فانفجرت القاعة بالقهقهات والتصفيق ، وانقشع توتر كثير! (3) شغل (جو) منصب وزير الدولة بوزارة شئون الجنوب فى حكومة مايو الأولى ، فمنح كل وقته لتنزيل البرنامج السياسى تجاه قضية الجنوب إلى أرض الواقع ، وهو الذى شارك فى صياغته داخل الحزب ، وظل يبشـِّر به ، ويناضل من أجله ، لسنوات طوال قبل مايو. فأعد بيان التاسع من يونيو 1969م الذى أذاعه جعفر نميرى بصوته فى حينه بعد أن أجيز فى اجتماع مشترك بين مجلسى قيادة الثورة والوزراء. إرتكز البيان على الاعتراف المستقيم بالحقائق الموضوعية للقضية القائمة بالأساس فى الفوارق التاريخية والثقافية بين الشمال والجنوب ، والمترتبة على خطة الاستعمار الهادفة إلى تكريس التطور غير المتكافئ بين شقى البلاد ، مما شكل عائقاً أمام أى مشروع للوحدة ، والاعتراف ، من ثمَّ ، بأن من حق شعبنا فى الجنوب أن يبنى ويطور ثقافاته وتقاليده فى نطاق سودان إشتراكى موحد. وأنه لا بد ، لبلوغ هذا الهدف ، من نمو حركة إشتراكية ديموقراطية فى الجنوب تضع يدها على يد الحركة الثورية فى الشمال ، وتتقلد زمام السلطة فى هذه الرقعة من البلاد على أساس الحكم الذاتى الاقليمى (راجع نص البيان ضمن: محمد عمر بشير ؛ مشكلة جنوب السودان ، ترجمة هنرى رياض والجنيد على عمر ، دار نهضة مصر ومكتبة النهضة السودانية ، القاهرة 1970 ، ص 168 ـ 171). ولما كانت الفكرة الأساسية فى ذلك البرنامج هى إنجاز تنمية حقيقية فى الجنوب ، ودعم الثقة المتبادلة ، وترميم التشوهات والشـروخ التاريخية فى العلاقات الشمالية الجنوبية ، فقد سارعت الوزارة ، عن طريق مجلسها الاقتصادى ، إلى تنظيم مؤتمر أركويت صيف 1970م ، والذى انتهى إلى توصيات مهمة بشأن خطة للتنمية الاقتصادية فى الجنوب ، شملت إنشاء مصنع الكناف فى التونج ، ومصنع سكر ملوط ، ومنشـار واو ، ومنشار كترى ، بالاضافة إلى إعادة تأهيل المجمع الصناعى فى أنزارا. وبالنظر إلى ضعف الميزانيات المرصودة ، فقد قاد (جو) مفاوضات مكثفة مع برنامج الأمم المتحدة للغذاء World Food Programme إلى أن تمكن من توفير دعم غذائى كبير ، بلغت قيمته آنذاك أكثر من عشرة ملايين جنيه ، ليقدم للعاملين فى هذه المشروعات ، فى شكل وجبات غذائية ، كجزء من أجورهم. وكان (جو) بعيد النظر حين اعتبر أن استخراج البترول فى ظروف استمرار الحرب الأهلية سوف يندرج كسبب إضافى للتباعد بين الشمال والجنوب(!) وفضل عليه خطة للتنقيب عن الذهب ، بالاستعانة بوزارة التعاون ، بالاضافة إلى تعاونيات لجمعه على شواطئ نهر السوباط بأعالى النيل ، فضلاً عن التعاونيات الزراعية لإنتاج الأرز فى أويل وواو ، على سبيل المثال. وضعت الوزارة ، إلى ذلك ، خطة طموحة وواقعية ، بوساطة مجالسها المتخصصة فى مختلف الجوانب السياسية والاجتماعية ، حيث نجح (جو) ، برغم داء البيروقراطية اللعينة وأعداء الخيال الثورى الخلاق ، فى استصدار الموافقة على تخصيص نسبة 20% من القبول فى مؤسسات التعليم العالى للجنوبيين ، وإتاحة الفرص أمامهم لشغل الوظائف القيادية العليا فى القوات النظامية وفى السلك الدبلوماسى ، فصار من الممكن ، على سبيل المثال ، تعيين جنوبيين للعمل ، لأول مرة منذ الاستقلال ، كقمندانات بوليس وكسفراء بالخارجية. وقد ساعد ذلك إلى حد كبير فى التخفيف من غلواء الضغينة القديمة لدى الجنوبيين ، والتى لم تكن ، على أية حال ، بلا أساس ، حيث رأوا أن الشماليين التهموا وحدهم (كيكة) السودنة كلها! (4) غير أن (جو) ، مع ذلك ، لم يكن ينظر لقضية الحكم الذتى الاقليمى باعتبارها محض مناصب تعوض الجنوبيين عما فاتهم من (غنائم) السودنة و(أسلابها) ، بل كان ينطلق فى النظر إليها من أطروحة الحزب الشيوعى المعروفة ، والتى لطالما شارك شخصياً فى مناقشتها وإقرارها بفاعلية ، والتى ترى فى الحكم الذاتى الاقليمى حلاً جذرياً من كافة الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، وأنه حتى فى حال نجاح حكومة مايو ، آنذاك ، فى تطبيق هذا الحل ، فسوف تتبقى ، بعد ذلك كله ، العناصر المعارضة لهذه الخطة بين الجنوبيين ، الأمر الذى يتوب أخذه فى الاعتبار ، ومن ثم فإن مشروع الحكم الذات الاقليمى ينبغى طرحه ، من هذه الزاوية للاستفتاء ، وهذا شكل من أشكال (تقرير المصير). وقد رد فى وثيقة (حول البرنامج) التى أعدها السكرتير العام للحزب ، وقتها ، عبد الخالق محجوب فى مطل عام 1971م ، وهى آخر إسهاماته قبل إعدامه ، أن الحكم الذاتى الاقليمى ، كحل ديموقراطى شامل ، يجب أن يفضى إلى (تقرير المصير) لحسم الصراع حول قضية (الوحدة) نهائياً. وقد يثور السؤال المشروع هنا: لماذا ، إذن ، لم يطرح الحزب الشيوعى (تقرير المصير) مباشرة ، بدلاً من طرحه كخطوة لاحقة على إنفاذ مشروع الحكم الذاتى الاقليمى بنجاح؟! والواقع أن حركة (أنيانيا) الأولى كانت قد طرحت نفس السؤال على الحب عن طريق ممثليها السريين فى الخرطوم مستندة إلى المرجعية الماركسية للحزب ، وذلك من خلال المناقشات السياسية التى جرت بين الطرفين خارج إطار السلطة فى الفترة من 1969م إلى 1971م. وقد طرح الحزب آنذاك ، عن طريق مندوبيه فى تلك المناقشات الأستاذين محمد أبراهيم نقد ـ السكرتير العام فى ما بعد ـ وجوزيف قرنق ، الحجة القائمة فى أن الماركسية ليست كروتاً جاهزة تستخرج وقت الحاجة ، وإنما يتعامل الحزب مع الواقع السودانى ، وهذا الواقع هو الذى أفرز ثورة أكتوبر التى أفرزت مؤتمر المائدة المستديرة الذى وضع الخطوط العريضة للحكم الذاتى الاقليمى للجنوب كمعادل لمطلب الفيدرالية الذى طرحه النواب الجنوبيون فى أول برلمان سودانى مقابل أن يصوتوا مع الاستقلال ، وهو بالتالى مطلب لا يمكن تجاوزه لمجرد أن "كتاباً ماركسياً" يقول بغير ذلك! يخطئ ، إذن ، ومن باب الاستطراد ، من يتصور أن إقرار الحزب الشيوعى بحق تقرير المصير ، سواء فى مقررات أسمرا للقضايا المصيرية (أكتوبر 1995م) أو غيرها يمكن أن يشكل (ورطة) بالنسبة للشيوعيين! فهو ، كما رأينا ، ليس جديداً على فكر الحزب أو برامجه السياسية. وإذا جاز لنا المزيد من الاستطراد فإنه ليس ثمة مخرج لمن يريد التنصل عن هذا الاقرار التواثقى الملزم سياسياًسوى الموافقة من خلال المؤتمر الدستورى على فصل الدين عن السياسة ، وإقرار المواطنة كمعيار للحقوق والواجبات ، والتوزيع العادل للسلطة والثروة. أما الحزب الشيوعى فليس ثمة ما يشير ، من قريب أو بعيد ، إلى أى حرج يمكن أن يسببه له تمسكه بهذا المبدأ ، مما يحتمل أن يشكل دافعاً لتنصله عنه ، فمثل هذا التنصل لن يحل مشكلة بقدر ما سيعيد إنتاج الأزمة. وأما الحكم الذاتى الاقليمى نفسه فهو صيغة تخطاها الزمن عملياً بعد ما لا يربو كثيراً على العقد الواحد من اتفاقية أديس أبابا ، ولن يقبل به الجنوبيون اليوم. الحل الجديد يحتاج إلى أطر وأشكال جديدة ، وما من شك فى أن هذه الاشكالية تمثل أحد أكبر التحديات الشاخصة فى أفق الحل السياسى الشامل اليوم. (5) نشطت وزارة شئون الجنوب أيضاً ، تحت قيادة (جو) ، فى تشجيع إنشاء ورعاية المنظمات الجماهيرية الديموقراطية فى الجنوب ، كاتحاد العمال ، والتكوينات النقابية ، والكيانات الشبابية والنسائية ، ودعم إقامة المهرجانات المشتركة ، و(تفويج) القوافل الثقافية والفئوية بين الشمال والجنوب ، والاهتمام بإعداد وتدريب الكوادر الجنوبية ، وتعيين (ضباط سلام) بالوزارة ، بكفاءات محددة ، مهمتهم الترويج للسلام بين الأهالى ، وبين المتمردين على وجه التخصيص ، وغيرها من الأعمال التى من شأنها ترميم المعنويات ، ودعم الثقة المتبادلة، وتأهيل القاعدة البشرية والمادية التى يمكن أن ينبنى عليها الحكم الذاتى الإقليمى. ولم يغفل (جو) العامل الخارجى فى المشكلة ، دون أن ينزلق إلى أية أوهام تجعل منه العامل الوحيد أو الأكثر أهمية ، فانطلق ، بهذا الفهم ، فى أسفار وجهود لا تكل ولا تمل. ذهب إلى الفاتيكان ، حيث أثمر لقاؤه مع البابا عن إعادة العلاقات المقطوعة منذ عام 1958م ، وتسوية الأزمة التى كان قد افتعلها نظام الفريق عبود بطرد القساوسة ، أوان ذاك ، من البلاد. وذهب إلى لندن ليخاطب مجلس العموم البريطانى شارحاً أبعاد السياسة الجديدة تجاه قضية الجنوب. وذهب إلى يوغندا وإلى كينيا وإلى الكنغو ، حيث عقد جولات من المباحثات مع قادتها حول أوضاع اللاجئين ، وقضايا الأمن المشترك ، وترتيبات الحل السياسى للمشكلة. كما التقى بقيادات (أنيانيا الأولى) ، وعلى رأسهم أقرى جادين (عرَّاب) التمرد آنذاك، بالاضافة إلى بواشق الحرب الأهلية وقتها: أزبونى منديرى والأب ساتور نينو وجوزيف لاقو وغيرهم ، خائضاً غمار محاولات مضنية لإقناعهم بفكرة التسوية السلمية. وذهب إلى جمهورية أفريقيا الوسطى ، حيث الوجود الكثيف لأعداد غفيرة من اللاجئين من زعماء القبائل وشرائح الانتلجينسيا الجنوبية ، وأبرزهم كانديدو على وشارلس باكورا وآخرون لا حصر لهم. فكان أن انخرط هناك أيضاً فى حوارات منهكة لأجل إقناعهم بالعودة وتقديم كل الضمانات التى طلبوها ، وقد تكلل ، فعلاً ، غالب ذلك الجهد بالتوفيق والسداد. وفى مايو 1971م ، وترتيباً على مفاوضاته السابقة مع قادة (أنيانيا الأولى) ، إستقبل (جو) فى الخرطوم وفداً من (مجلس كنائس عموم أفريقيا) ، وتوصل معهم ، من خلال جولة من المباحثات التى اتسمت بالجرأة والجدية والوضوح ، إلى إقرار ست نقاط مهدت عملياً لاتفاقية أديس أبابا فى ما بعد. وقد تلخصت تلك النقاط فى الآتى1) تؤيد الحكومة إجراء اتصالات مع (حركة تحرير جنوب السودان) بغرض التمهيد لمباحثات تستهدف التسوية السلمية.(2) يشمل التمثيل فى تلك المباحثات الجماعات ذات النفوذ فى الجنوب وبين اللاجئين.(3) تجرى المباحثات فى أى مكان.(4) توافق الحكومة على فترة هدوء عسكرى إذا لم يكن هناك ما يهدد الأمن.(5) تتم المباحثات حول تفاصيل الحكم الذتى الاقليمى فى إطار السودان الواحد.(6) يتم الاتفاق ، لاحقاً ، على من يرعى تلك المباحثات. (6) لم تحُلْ مشاغل (جو) التنفيذية الجمة دون إسهامه ، كمثقف طليعى وعضوى ، فى رفد الفكر السياسى السودانى بعناصر الاستنارة والتفتح. فقد كان يشارك برأيه فى الحوارات الدائرة حول شتى القضايا ، وبخاصة قضية الجنوب التى مهرها عمره ، سواء بالمخاطبة المباشرة عب الاجتماعات واللقاءات المختلفة ، أم بالكلمة المكتوبة ، ككتابه الصادر عن زارة شئون الجنوب عام 1970م ، والموسوم بـ THE DILEMMA OF THE SOUTHERN INTELLIGENTSIA (مأزق الانتلجينسيا الجنوبية). وكان كثيراً ما يردد فى كتاباته ومخاطباته أن المشكلة الوطنية لا تكمن فى التنوع العرقى أو الدينى أو الثقافى أو اللغوى فى البلاد ، بل فى التنمية غير المتوازنة ، وما تستتبع من فقدان للثقة المتبادلة. وكان دائم الالحاح على ضرورة النظر الواضح الدقيق لمستوى العلاج المطالوب لهذه المشكلة ، لا من حيث الانكفاء على تصورات عفا عليها الزمن ، وإنما باعتبارها فى الأصل "مشكلة وطنية فى ظروف التخلف" على حد تعبيره “.. national question under backward conditions”. وكان يصنف السياسيين الجنوبيين تاريخياً فى ثلاث فئات: الأولى هى فئة (الانفصاليين اليمينيين) ، والثانية هى فئة (المرتبكين PERPLEXED) الذين يزعمون أنهم يريدون تطبيق الاشتراكية ولكن .. بعد تحقيق الانفصال (!) وكان يرى أن منسوبى هتين الفئتين يتعاملون مع المشكلة بسطحية تامة ، لكونهم قد عجزوا عن إدراك حجم الخطر الامبريالى الذى يتهدد الجنوب والشمال ، كلاهما ، بالاستضعاف والالتهام. أما الثالثة فهى فئة (الوحدويين) المتوزعين بين قوى اليمين ، من جهة ، وبين قوى الشيوعيين والديموقراطيين من الجهة الأخرى. (7) ولئن كانت قد وقعت لـ (جو) وأسرته ، من خلال عمر بأكمله عاشـوه فى مجتمع الوسط ، علائق مثاقفة رائقة ، فلم يعمهم كدر عصبية أو حزازة معتقد عن رؤية ما يستحق النظر المستبصر فى مسالك المستعربين المسلمين فى الشمال ، فإن أغلب الجنوبيين يكنون ، بعيداً عن توترات القبلية والسياسة ، إحتراماً للرجل ، وتقديراً لدوره ، وإجلالاً لسيرته العطرة. ما أن تسأل عنه مثقف جنوبياً ، فى ساعة صفاء ، إلا ويبتدرك بنبرة ملؤها الصدق والأسى:hi man, we have really lost somebody! "إيه .. يا رجل ، لقد فقدنا شخصية فذة بحق"! أحَبَّه ، أكثر شئ ، بسطاء العمال والموظفين والطلاب من الجنسين ، ولا غرو ، فلقد عرفوه بسيطاً مثلهم ، على دماثة خلق ، وتواضع جم ، ونخوة مشهودة. إسأل ليحدثك الكثيرون كيف أنه كان يصر بعناد ، حتى بعد أن أصبح وزيراً ، على مواصلة السكن مع أسرته فى ذات المنزل الصغير الذى كان يستأجره بحى الزهور بالخرطوم ، برغم إلحاح زملائه الوزراء وكبار موظفى وزارته عليه للانتقال إلى (بيت الحكومة). ويشهد له بطهارة اليد كل من عمل معه فى الوزارة. لم يستغل منصبه لجاه شخصى أو لثروة يكتنزها ، رغم تعامله فى مال كثير كان يستجلبه لدعم مشروعات وزارته وأنشطتها. ولم يستخدم نفوذه يوماً فى محاباة أهل أو قبيلة ، مع أن ذلك كان ميسوراً لو أراد. وقد حدثنى صديقه ووكيل وزارته السيد أبراهيم جاد الله *** ، قال:ـ "عندما عكفنا على وضع ميزانية التنمية لاحظت أن مناطق بأكملها فى أعالى النيل تعانى من العطش ومن شح المياه ، فاقترحت حفر أربعين بئراً أرتوازية هناك. ولكن (جو) أمسك بقلمه فى حزم ، وشطب أربعاً وعشرين منها بلا تردد قائلاً: فى هذا ظلم كثير للناس فى كردفان ودارفور"! ومما أخبرنى به السيد جاد الله أيضاً أن (جو) ضحى كثيراً بصحته وحياته الأسرية فى سبيل المهام الموكلة إلى وزارته ، فكان يعمل ، فى العادة ، حتى الساعات الأخيرة من الليل ، وأنه ما كان يتناول من الطعام إلا القليل. لقد كان (كالمسيح) فى إخلاصه لقضيته ، ولكن كان ثمة أكثر من (يهوذا) فى دهاليز السياسة وأقبية الخدمة المدنية! وما انفك هؤلاء يدخلون العصى فى عجلة حماسته واندفاعه وتفانيه ، بل أن النميرى نفسه اعترف بعد يوليو 1971م ، بأنهم لم يعطوه الضوء الأخضر (!) وأنه كان يعمل وحده (!) وأن كل خططه كانت شيوعية (!) على أن ما هالنى أكثر من أىِّ شئ آخر ، وأفزعنى تماماً ، هو تصريح أرملته السيدة فطومة أكول حسن بأن لديها علماً يقينياً بأن سياسياً جنوبياً مرموقاً ـ لم تسمه ـ هو الذى حرض النميرى على إعدامه (صحيفة الوفاق ، 21/7/2001م) !! ( فى 17/7/1971م عاد (جو) من آخر سفرة قام بها إلى جمهورية أفريقيا الوسطى ليجد طفلته طريحة فراش مستشفى الخرطوم ، حيث كانت قد توعكت أثناء غيابه ، وقرر الأطباء إجراء عملية جراحية مستعجلة لها. ولما كانت تحتاج إلى نقل دم فقد تبرع لها بدمه ، رغم أنه هو نفسه كان منهكاً وفى حاجة إلى راحة. لكنه ظل يراوح ما بين الوزارة والمستشفى حتى أوقات متأخرة من الليل. عصر 19/7/1971م إتصل به السيد أبراهيم جاد الله ليبلغه بأن محاضرته عن قضية الجنوب، والتى كان يفترض أن يلقيها فى ذلك المساء بكلية القادة والأركان ، قد تأجلت بسبب وقوع انقلاب بقيادة الرائد هاشم العطا ، وكانت تلك أول مرة يسمع فيها بالخبر. قضى الأيام التالية كلها مشـغولاً بعملية طفلته ، حتى وقوع الانقلاب المضاد عصر 22/7/1971م. كان قد تناول طعام الغداء ظهر ذلك اليوم بمنزل إبن أخته جوزيف موديستو بالديوم الشرقية ، ثم تحرك من هناك إلى مستشفى الخرطوم ، حيث سمع الأخبار فى الطريق. وصل المستشفى ، وقضى تلك الأمسية إلى جوار طفلته ، يحتضنها فى حنان ويكثر من تقبيلها. وما أن لمح طيف النظرة القلقة فى عينى زوجته حتى هبَّ واقفاً ، أشاح بوجهه وهبَّ واقفاً ، حدق برهة فى الظلمة المتكاثفة خلف النافذة ، ثم همس إليها بآخر كلماته وهو يضغط على الحروف .. حرفاً حرفا:ـ "يا فطومة .. أسمعى كلامى ده كويس .. نميرى رجع وراح يكتلنى. شدى حيلك يا فطومة وربى الأولاد تربية كويسة. يافطومة أنا ما حأشرد. زول كبير فى القبيلة زيِّى يا فطومة ما بشرد. أنا حأمشى أسلم نفسى"!....................................................................................................................................................................................غرقت الغرفة فى صمت رصاصىٍّ ثقيل. لم يعد يتردد فى أذنى فطومة غير صدى صوته العميق ، وأنفاس طفلتهما المتحشرجة ، وعويل الريح بين أغصان شجر المستشفى. وقبل أن تحرك شفتيها المثقلتين بالجفاف والفجيعة أحست بكفه تربت على كتفها ، وبخطواته تتلاشى فى الظلمة السحيقة.هكذا خرج (جو) فى هدوء ،توارى عن مدى عينى فطومة الواجفتين ، مرة .. وللأبد ،توجَّه إلى منزله فى حى الزهور .. ليجد رتلاً من الجنود بانتظاره. (9) ليلة الاثنين 26/7/1971م أعيد (جو) إلى السجن الذى كان قد أخذ منه فى تلك الليلة الخريفية العكرة ، ولكن ليس إلى رفاق العنبر ، بل إلى .. حجرة المشنقة الرطبة ، المعتمة ، زنخة الرائحة، الواقعة ما بين قسم (المعاملة) و(زنازين الشرقيات) ، فقد حاكمه العقيد أحمد محمد الحسن فى جلسة صورية لم تستغرق سوى دقائق معدودات من اللهوجة الاجرائية بمبانى سلاح المدرعات بمنطقة الشجرة بالخرطوم ، وأصدر بعدها حكمه عليه .. بالاعدام شنقاً حتى الموت!! لم يَضِعْ قبرُه فقط بدفنه تحت جنح الظلام فى مكان قفر مجهول ، بل زادت قوات الأمن ضغث اللؤم على إبالة الوحشية حين داهمت منزله ، وصادرت مكتبته ، وأوراقه ، ومتعلقاته ، ومزقت حتى صوره الشخصية!!ـ "كنا أطفالاً وقتها"قال إبنه زكريا.. ـ "قصدوا ألا يتركوا لنا من ذكرى والدنا ولو مجرد أثر صغير"!! (10)بعد أيام خمسة من مقتله توفيت طفلته المريضة...............................................................................................ما أبشعنا!!ما أبشع كل ذلك!! ■ ■ ■ (2) ليلة الخناجر الطويلة (1) السادس من ديسمبر عام 1998م. صباحٌ من الصحو الاستوائىِّ ، وشبورة من النثيث الناعم. إفطارٌ خفيفٌ على موسيقى السواحيلى الخافتة: كوكتيل الفاكهة الطازجة ، وفنجالٌ القهوة بالحليب مع قطعتين من بسكويت الجنزبيل ، ثم اتخذت مقعدى إلى المائدة المستديرة ، فى القاعة الصغيرة ذات النوافذ الزجاجية العريضة التى تهطل خلفها تعاريش الكارنيشن البيضاء والحمراء والصفراء ، بفندق (كانتمير) الريفىِّ الساحر ، الغارق بطابقه الأرضىِّ ، وآجُرِّه المحروق ، وسقوف قرميده البرتقالىِّ المحدودبة ، ومماشى حدائقه المغمورة بزهور الجيكاراندا البنفسجية ، وسط دغل من أشجار الصنوبر والبان والماروبينى والبامبو ، محاطاً بمزارع البن والشاى ذات الخضرة المشعشعة الفصيحة ، تتخلله مسطحات الورود ، وأحراش الأزاهير ، وما لا يحصى ولا يُعد من أنواع النباتات الاستوائية عميقة الندى والعطر ، فى تلك الضاحية الهادئة ، الرابضة "كالمنظر الآخاذ فى إحدى بطاقات البريد" ، على قول صلاح أحمد أبراهيم ، غير بعيد من (تل الموز) Banana Hill ، إلى الشمال قليلاً من العاصمة الكينية التى كنت وصلتها ليلة البارحة ، بدعوة من منظمة أوكسفام الكندية ، للمشاركة فى ورشة عمل حول أوضاع منظمات المجتمع المدنى فى القرن الأفريقى. قضيت الدقائق المتبقية على موعد الافتتاح أرتب أوراقى ، وأحاول أن أميِّز الهمهمات الأمهرية والصومالية والانجليزية والفرنسية التى تناثرت فى المكان ، وأرمق ، بين الفينة والأخرى ، السحنات الزنجية والخلاسية والصفراء والبيضاء للمجموعة الصغيرة التى تحلقت حول مائدة الورشة المستديرة بنشاط وحيوية. بغتة ، فى تلك اللحظة ، وفى ذلك المكان القصىِّ ، إلتقت نظراتنا فى صمت. ألفى كلانا نفسه يحدِّق فى وجه الآخر. هنيهة ، ثم .. غضضنا طرفينا حرجاً. غير أننا سرعان ما عدنا ، لسبب ما ، نحدِّق ، مرة أخرى ، فى وجهى بعضنا البعض. لمحت طيف الابتسامة المترددة فى المحيا الزنجى الوسيم ، والثغر المفتر عن صفين من العاج النضيد ، فابتسـمت. وتبادلنا إيماءة تحية خفيفة برأسينا. ولكن كلانا لم يستطع أن يمنع نفسه ، هذه المرة ، من مواصلة التحديق الصريح فى وجه صاحبه. أدرت شريط ذاكرتى إلى الوراء ، بأقصى ما أوتيت من طاقة ، ولعله فعل أيضاً من جانبه. جرَّدته ، على عجل ، من غضون الحادثات فوق الجبين الوضئ ، وخيوط المشيب على الفودين الأنيقين ، وجرَّدنى ، مسرعاً ، فيما يبدو ، من جهشة البياض فى لحيتى ونمنمات العمـر حول عينىَّ ، فإذا بأحداث صيف العام 1983م تسـطع بيننا ، بكامل هيئتها وتفاصيلها ، وإذا به يهتف ، مستغرباً ، بلهجـته الدينكاوية العذبة:ـ "كا .. مال جو .. زو .. لى"؟!وإذا بى أهتف ، فى نفس الوقت ، وقد ارتفع حاجباى دهشة:ـ "دول .. دول أشويل"؟! غير أن الصديق مرتضى جعفر ، المحامى الكينى من أصل هندى ، مستشار الجمعية الكينية للعون القانونى ، ومنسق برنامج الورشة ، شرع يعلن ، بصوته الجهورى ، عن بدء الجلسة الافتتاحية ، فى نفس اللحظة التى كنت أتمتم فيها ، مأخوذاً ، بين خشخشة الأوراق وانتباهة الأعين:ـ "صحيح .. الحَىْ يلاقى"! (2) فتح (دول) عينيه ، أواخر أربعينات القرن الماضى ، على طوابير النمل الأبيض تزحف عبر الأعشاب الاستوائية الكثيفة إلى أغصان الأشجار التى تشد الهيكل الاسطوانى الداخلى لكوخ والدته ، فى قرية (ثيت) ، أحد مراتع الدينكا بمركز التونج ، مركز وليم دينق ، ببحر الغزال. بعث به والده ، سلطان القرية ، إلى مدارس الارسالية الكاثوليكية هناك ، حيث تلقى تعليمه الأولى والأوسط ، قبل أن ينتقل إلى مدرسة رمبيك الثانوية بالخرطوم ، ومنها إلى كلية القانون بجامعة الخرطوم. عمل (دول) فور تخرجه ، فى منتصف السبعينات ، مساعداً قضائياً خلال العام 1976م ـ 1977م. لكنه ما لبث أن استقال ليتفرغ للعمل السياسى ، حيث عُيِّن محافظاً لمحافظة البحيرات من يناير 1978م وحتى فبراير 1979م. وعندما استعرت الخلافات بين المجلس التنفيذى العالى برئاسة جوزيف لاقو ومجلس الشعب الاقليمى ، أصدر نميرى قراراً بحل المجلسين ، وتعيين حكومة انتقالية برئاسة بيتر جادكوث الذى أجرى تغييرات فى مناصب المحافظين ، خرج فى إثرها (دول) ليخوض انتخابات مجلس الشعب الاقليمى بعد ذلك بعام ، فدخله فى يونيو 1980م نائباً عن المهنيين فى دائرة بحر الغزال. غير أن نميرى عاد وحلَّّ المجلسين ، للمرة الثانية ، فى أكتوبر 1981م. وفى 1982م أجريت انتخابات أخرى فاز فيها (دول) أيضاً ، وتم اختياره ، هذه المرة ، نائباً لرئيس المجلس التنفيذى العالى ، على أيام رئاسة جوزيف جيمس طمبرة لهذا المجلس ، ورئاسة ماثيو أبور لمجلس الشعب الاقليمى. وكان ذلك آخر العهد بتجربة الحكم الذاتى الاقليمى فى ظل سلطة نميرى ، بل و(بصفقة) أديس أبابا نفسها. (3) من المعلوم أن اتفاقية أديس أبابا التى أبرمها النميرى فى فبراير 1972م ، مع قوات الأنيانيا الأولى ، من وراء ظهر المعارضة الشمالية ، أوان ذاك ، وبرعاية الامبراطور الاثيوبى هيلاسلاسى ، قد رتبت لاستقرار نسبىٍّ نعُمَ فى ظله الجنوبيون ، على مدى سنوات عشر (1972م ـ 1983م) ، بما لم ينعم به الناس فى الشمال من حريات وحقوق ، حتى بدا وكأن الجنوبيين يشكلون القوة التى سوف يعتمد عليها النميرى فى قمع أى خطر قد يأتيه من الشمال. شملت تلك (الديموقراطية النسبية) حرية التعبير ، والتنظيم ، وحقوق الترشيح والانتخاب لمجلس الشعب الإقليمى (البرلمان) ، والمجلس التنفيذى العالى (الحكومة) ، ومجالس الحكم المحلى التى كان يجرى دعمها بثلث موارد المجلس التنفيذى من ضرائب أرباح الأعمال ، والتى كانت تملك سلطة تخصيص الميزانيات للتنمية والخدمات فى مناطقها ، بعكس الشمال الذى أحكم النميرى عليه قبضته الخانقة ، وفرض ، عن طريق شبكة واسعة من التشريعات والأجهزة والأعوان ، سلطته المطلقة على كل مؤسسات الحكم المركزى والاقليمى فيه ، من أعلى مستوياتها المسترهبة بقوانين الأمن والعزل السياسى وغيرها ، إلى أدنى مجالسها المحلية ، المقموعة بقانون الحكم الشعبى الذى يقضى بأن يعين النميرى رؤساءها وعُشر أعضائها ، بحيث لم يكن من الممكن أن تتسرب إليها ، ولا إلى المؤسسات الأعلى ، لا بالانتخاب ولا بالتعيين ، سوى العناصر الموالية ، المرضى عنها ، غير المغضوب عليها ، وبحيث لم تعُد سوى هياكل "معوزة مالياً وديموقراطياً على نقيض مجالس الجنوب .. الذى تنعم مؤسساته بحرية الحركة والتصرف" (أبيل ألير ؛ جنوب السودان ، التمادى فى نقض المواثيق والعهود ، ترجمة بشير محمد سعيد ، ط1 ، دار ميدلايت ، لندن 1992م ، ص 19. ولكن ، ما أن انتصف عام 1983م حتى بدا واضحاً أن (عقد العسل) ذاك ، بين نميرى والجنوبيين ، قد آل إلى أفول ، وأن ربيع تلك العلائق قد انتهى إلى أثر من بعد عين ، وذلك حين انفجر النزاع مجدداً ، جراء إقـدام النميرى ، بخراقته المعهودة ، على تجاوز الاتفاقية بإعلانه ، منفردا ، فى أوائل يونيو 1983م ، إعادة تقسيم الاقليم الجنوبى إلى ثلاثة أقاليم ، ثم إلغائه للاتفاقية ذاتها ، فعلياً ، من خلال الأمر الجمهورى رقم (1) الصادر فى 15/6/1983م. وللدقة ، فقد بدأت الأوضاع تتردى بين الطرفين منذ العام 1980م إثر قرار نميرى ، بعد مصالحة 1977م وتحالفه مع الحركة الاسلامية تحت قيادة د. حسن الترابى ، بإعادة ترسيم حدود الإقليم الجنوبى ، بما فى ذلك مساحات شاسعة من أراضيه الزراعية ، ومراعيه الغنية ، والمناطق التى تم فيها اكتشاف النفط شمال بانتيو ، واستتباعها إلى جنوب دارفور وجنوب كردفان والنيل الأبيض والنيل الأزرق ، بالاضافة إلى إنشاء مصفاة نفط بانتيو فى كوستى (!) وإلى ذلك أيضاً اكتشاف حكومة الجنوب للدعم اللوجيستى الذى قدمه نميرى ، آنذاك ، من وراء ظهرها ، للقوات الموالية لصديقه ديكتاتور يوغندا السابق عيدى أمين ، فى هجومها على حاميات بلادها عبر أراضى الإقليم ، الأمر الذى اعتبرته قيادات جنوبية نافذة تهديداً متعمداً للأمن والاستقرار هناك من جانب الحكومة المركزية فى الخرطوم ، علها تستطيع استغلال تلك الأوضاع ذريعة لتمرير بعض الترتيبات التى يريدها نميرى وحلفاؤه الجدد ، أصحاب المشروع السلطوى الاسلاموى العروبوى القديم ، من فوق نصوص إتفاقية أديس أبابا التى ولدت مفتقرة ، فى الأصل ، لدفء الحاضنة الوطنية الديموقراطية فى الشمال !لم يكن ثمة مفر ، والأمر كذلك ، من وقوع الصدام بين الحكومة الاقليمية والحكومة المركزية حول تلك المسائل وغيرها. بل إن الجماهير الجنوب ، وبخاصة جماهير المثقفين والشباب والطلاب والنساء ، وبعد كل سنوات التهليل والترحيب ، والقفز النشط من فوق أجساد الثيران المنحورة ، والرقص الطروب ، بالحراب وجلود الفهود ، مع كبار السلاطين وحسناوات القبائل ، فى حفلات الـ (ترم ترم) الصاخبة ، إنقلبت تستقبل النميرى بالمظاهرات الساخطة ، والتعبيرات المتباذئة ، والهتافات الساخرة ، والنداءات المزرية ، مما زاد من حنقه وغضبه ونقمته وحقده على الجنوب وعلى أهله. وهكذا فاجأ نميرى الجميع ، فى فبراير 1981م ، بإدراج مسألة تقسيم الاقليم الجنوبى ، لأول مرة ، ضمن أجندة اجتماع المكتب السياسى للاتحاد الاشتراكى الحاكم ، ناسباً ذلك المطلب إلى عناصر استوائية لم يسمها. ثم عاد وأدرج المسألة ضمن أجندة اجتماع اللجنة المركزية فى سبتمبر من نفس العام ، متذرعاً ، هذه المرة ، بصدور الكتيب الذى كان قد أعده بعض الأعضاء الجنوبيين فى مجلس الشعب القومى بعنوان (كتاب التضامن) ، فأثار حفيظته بنقده العنيف لمجمل سياساته. ولما تصدى له الأعضاء الجنوبيون بحزم فى تلك الاجتماعات ، وعلى رأسهم أبيل ألير وبيتر جادكوث وآخرون ، لجأ ، فى الخامس من أكتوبر ، إلى عقد اجتماع برئاسته بقاعة الصداقة ، حدَّد بنفسه لحضوره عدداً يحسب على أصابع اليد الواحدة من بين أقرب المقربين إليه من الوزراء والمسئولين ، كما دعا إليه أبيل ألير ، نائب رئيس الجمهورية ورئيس المجلس التنفيذى العالى بالإقليم الجنوبى ، وأنجلو بيدا رئيس مجلس الشعب الاقليمى ، متجاوزاً بذلك مجلس (وزرائه) واللجنة المركزية لـ (اتحاده) الاشتراكى و(مكتبه) السياسى ، وما إلى ذلك من مؤسسات (حكمه) الصورية!كان الاجتماع ، بالطبع ، (تشريفيا)ً أكثر منه (تشاوريا)ً كما يقضى قانون الحكم الذاتى. وفى فاتحته طلب نميرى إلى د. بهاء الدين ، وزير (الشئون الخاصة) ، أن يتلو عدداً من القرارات الجمهورية كان قد أعدها بتاريخ الرابع من يونيو ، وتقضى بحل المجلس التنفيذى العالى ومجلس الشعب الاقليمى ، علاوة على مجلس الشعب القومى الذى تتمتع بعضويته مجموعة من النواب الجنوبيين المشاكسين! وإلى ذلك تعيين اللواء قسم الله عبد الله رصاص رئيساً لمجلس تنفيذى إنتقالى ، وتعيين وزرائه ومحافظى مديرياته ، وما إلى ذلك من التدابير التى هدف ، من ورائها ، إلى اصطناع بيئة سياسية ملائمة لتمرير قرار التقسيم عبر استفتاء شكلى ، وفق تقديراته الذاتية. ولكن ما لم يكن يعلمه النميرى ، وقتها ، أن قراراته التى حسبها تفتض أضابيرها ، لأول مرة ، لتتلى أمام ذلك الاجتماع ، كان قد جرى ، فى الواقع ، تسريبها ، قبل ذلك ، لكثير من القيادات الجنوبية ، بل وكانت قد طارت بها حرم اللواء جوزيف لاقو إلى جوبا ، فى نفس اليوم ، لإبلاغها إلى مؤيدى زوجها! (المصدر ، ص 191 ـ 192). وربما كان الأمر الأكثر مدعاة للسخرية هو أن القرارات التى أريد لها أن تبدو وكأنما ترتبت على اجتماع (التشاور) المنعقد فى 5/10/1981م ، قد صدرت فعلياً وهى تحمل تاريخ 4/10/1981م ، نتيجة لسهو وإهمال وخراقة وسوء تدبير من كلف بمتابعة إجراءات إصدارها! مهما يكن من أمر فإن أنجلو بيدا أعرب فى ذلك الاجتماع عن مخاوفه من أن تلك القرارات لن تجد ترحيباً فى الجنوب ، على أن النميرى رد عليه بصلف مأثور: "إذا رفع أى شخص السلاح مرة أخرى فى الجنوب ، فإن عليه أن يقاتل ، ليس فقط لسبعة عشر عاماً ، ولكن لأعوام كثيرة جداً"! (للمزيد من التفصيل راجع المصدر نفسه ، ص 189 ـ 192). (4) جرت آخر انتخابات لمجلس الشعب الاقليمى ، قبل الطوفان ، خلال الفترة بين مارس ومايو 1982م. ومع أن البرامج الانتخابية للمرشحين حفلت ، كالعادة ، بمشاريع الحلول للمشاكل المحلية ، إلا أن موضوع (تقسيم الجنوب) إحتل موقعاً متقدماً فى كل تلك البرامج. ودار الصراع حوله بين مجموعتين رئيستين: أنصار وحدة الإقليم ، وأنصار التقسيم. وكان لأصحاب كل من الموقفين أسبابهم وحججهم ومبرراتهم. ولم يكن مستغرباً ، بالطبع ، أن تمثل الاستوائية مركز الثقل الأساسى لأنصار التقسيم ، بالنظر إلى جملة عوامل تاريخية إقتصادية وسياسية وإجتماعية وثقافية ، حدت بالقبائل الصغيرة لأن ترى فى التقسيم مخرجاً من سطوة الدينكا وأفقاً للتنمية والازدهار. ولذلك فقد كان من المفهوم ، تماماً ، أن يكثر مرشحو كتلة التقسيم ، المدعومين بالسلطة ، من العزف على هذا الوتر بالذات ، وأن يتركز كل ما استطاعوا تحقيقه من نجاحات فى الاستوائية. غير أن ما يبدو غريباً ، حقاً ، حدَّ الاستغلاق للوهلة الأولى ، هو الموقف المتناقض لبعض قادة تيار وحدة الاقليم المرموقين ، وفيهم دول أشويل وماثيو أبور وآخرين. فقد انسحبوا من كتلتهم ، بعد فوزهم الساحق بأغلبية مقاعد المجلس (81 إلى 32) ، ليؤازروا جوزيف جيمس طمبرة ، مرشح أنصار التقسيم ، الأمر الذى مكنه من الفوز برئاسة المجلس التنفيذى العالى فى مواجهة كلمنت أمبورو ، مرشح أنصار وحدة الإقليم ، ومكن نميرى وحلفاءه ، ليس فقط من تقسيم الجنوب ، بل ومن إصدار الأمر الجمهورى رقم (1) فى 15/6/1983م ، الذى "ألغى اتفاقية أديس أبابا برمتها ، وأعاد إلى الحكومة المركزية ما تضمنته من سلطات ، وخلف أشباحاً لثلاثة أقاليم فى الجنوب ، متوارية فى صورة مؤسسات جديدة للحكم الذاتى الاقليمى" (المصدر ، ص 231). ذلك فى الوقت الذى كان فيه دول وماثيو يطمئنان الطلبة الجنوبيين فى جامعة الخرطوم ".. بأن النميرى لن يقسـم الجنوب ، لأنه ، حسب اعتقادهما ، مسلم متعبد يرفض نقض الاتفاقيات ، والقوانين ، فاستقبل الطلبة منهما هذا الحديث بالترحيب ، مما حثهما للسير خطوة أخرى .. فأعلنا أنهما سيقاومان أية محاولة .. من أية جهة للتلاعب باتفاقية أديس أبابا ، فهتف الطلبة بتأييدهما ، مما أرعب رجال الأمن الذين رأوا المشهد ، وسمعوا الحديث ، فبلغوا عنهما" (المصدر ، ص 199). وفى غياب التفسير المنطقى المتماسك ، وبخاصة من جانب أصحاب هذا الموقف أنفسهم، فإن العقل ليبدو أكثر استعداداً لقبول بعض التفسيرات التى ساقها السيد أبيل ألير ، رغم صدورها من موقع الخصومة ، ومنها أن أكثر أولئك اقتنع بالطمأنة الخادعة التى بذلها لهم نميرى وحلفاؤه من الاسلامويين ودعاة التقسيم الآخرين ، والقائلة بأن لامركزية الادارة فى نطاق الهيكل الاقليمى القائم هو كل ما كانت تعنى مقترحات التقسيم ، وأن بعضهم وجد فى منح التأييد لطمبرة فرصة لتصفية حسابات شخصية مع بعض رموز تيار وحدة الإقليم ، ومنهم أبيل نفسه (المصدر ، ص 197). أما كونهم قد وجدوا فى ذلك فرصة أفضل للحصول على مواقع وزارية ، كما فى بعض إضاءات السيد أبيل (المصدر) ، فهو ما لا يستطيع العقل أن يقبله ، إذ ما أغنى صاحب الأغلبية الميكانيكية عن التماس سبيل آخر للغلبة لدى معسكر الأقلية(!) ومع ذلك ، وحتى إذا اتفقنا مع السيد أبيل فى ما يستفاد من استهجانه للمراهنة على الخصائص الشخصية للنميرى ، كما فعل دول وماثيو ، فإن أدنى قدر من الموضوعية فى النظر والتحليل لا بد أن يستصحب الخلل الأخطر فى مجمل مناهج العمل السياسى التى اتبعها كلا المعسكرين ، منذ البداية ، والقائمة بالأساس فى مراهنتهـما على التزام نظام ديكتاتورى قامع ، كنظام النميرى ، بالمواثيق التى يبرمها ، والعهود التى يقطعها ، وإغفالهما للمنطق البسيط الذى ظلت تؤكده معطيات الواقع الموضوعى تاريخياً ، وهو أن أى مشروع مقاربة سياسية لمشكلة الجنوب لا يمكن أن تتوفر له عناصر السداد إذا أغفل مضمونها الأساسى المتمثل فى كونها قضية وطن بأكمله يجابه تحديات التشكل ، وأمة بأسرها تعانى مخاض التكوين ، أو سعى لانتزاعها ، بشكل متعسف ، من إطار صعوبات التطور الوطنى الديموقراطى العام فى البلاد ، أو حاول أن يغض الطرف عن كونها ، باختصار ، "مشكلة وطنية فى ظروف التخلف" ، على حد تعبير جوزيف قرنق ، فلا يجدى فتيلاً ، من ثمَّ ، تبعيضها أو تجزئة معالجتها بالمفرق ، كما فى (صفقة) أديس أبابا. (5) فى يونيو 1983م إلتقينا وتعارفنا ، لأول مرة ، وسط ملابسات تحوى من عناصر الملهاة بقدر ما تحوى من عناصر المأساة ، وكانت مقابلتنا فى نيروبى محفزاً لاستدعاء وإعادة تركيب جزيئات تلك الملابسات التى ما انفكت تهش بإلحاح على ذاكرتى وذاكرته ، طوال أيام الورشة. فقد تصادف أن جرى اعتقالى ، وقتها ، ضمن مجموعة من المحامين والقضاة ، فى إثر إضراب القضاة الشهير ، وتم ترحيلنا منتصف ليلة صيف خانقة من مبنى جهاز الأمن إلى سجن كوبر. هناك فوجئنا بوجود عدد كبير من قادة ورموز أجهزة الحكم الذاتى فى الجنوب ضمن المعتقلين معنا فى قسم (المعاملة الخاصة) ، وفيهم (دول) ، نائب رئيس المجلس التنفيذى العالى (حكومة الجنوب) ، وماثيو أوبور ، رئيس مجلس الشعب الاقليمى (البرلمان) ، وأمبروز رينى وزير الثقافة والاعلام ، والدكتور جستين ياك وزير الصحة. وقد أثار دهشتنا أكثر من مجرد وجودهم نفسه فى ذلك المكان ـ وهم حكام الجنوب المتحالفون مع مايو ـ اكتظاظ مشاجبهم ، التى اصطنعوها من عروق المساويك الغليظة وغصون أشجار النيم المغروزة فى شقوق حوائط الزنازين الشائهة ، بأصناف من البزَّات والحُلل وربطات العنق الهفهافة الزاهية وارد (كريستيان ديور) فى باريس و(ماركس آند سبنسر) فى لندن ، إلى جانب حزمة من عصىِّ العاج والأبنوس اسلطانيَّة من كل شاكلة ولون!باستفسارنا علمنا أنهم كانوا قد جاءوا قبل أيام قلائل من جوبا إلى الخرطوم للمشاركة فى المؤتمر القومى الرابع للاتحاد الاشتراكى. وقبيل انتهاء جلسة الختام المسائية التى خاطبها (الرئيس القائد) حضر إلى حيث يجلسون فى صدر القاعة ثلاثة شبان مهذبين ، مدربين ، يعلقون على صدورهم شارات المراسم. إنحنوا أمامهم تحية إجلال لقاماتهم ومناصبهم الرفيعة، ثم أخطروهم همساً ، فى توقير وأدب جم ، بأن برنامج مقابلاتهم الرسمية ، على هامش المؤتمر ، يشمل لقاءً رُتبَ لهم مع (سعادة) اللواء عمر محمد الطيب ، النائب الأول لرئيس الجمهورية ورئيس جهاز أمن الدولة ، وقتها ، بمكتبه برئاسة الجهاز. وما أن انتهت الجلسة حتى أحضرت سيارتان رئاسيتان عميقتا السواد ، مسدلتا الستائر ، ما لبثتا أن انطلقتا بهم ، وهما تموءان ، فى ذلك المساء اللطيف ، مثل هرتين ناعمتين ، عبر شوارع الخرطـوم الهادئة ، و"تحت سمائها المرصعة بالنجـوم" - على قول الطيب صالح - إلى حيث ترجلوا منهما ، وأعصابهم ، المشدودة أجمعها إلى مراكز الحساسية (الرئاسية) فى أدمغتهم ، لا تتوقع غير استقبالهم بفرقعات التحايا العسكرية تحت شعشعات الأنوار السلطانية فى ردهات التشريفات المهيبة. ولكن ، كم كانت صدمتهم عنيفة حين ألفوا أنفسهم فى باحة خلفية كئيبة ، ضيقة ومعتمة ، حيث لا (سعادة نائب أول) ولا يحزنون ، بل مجرد (مينى بص) كالح ، تَحلق حوله ، فى انتظارهم ، رهط يتجهَّمُهم من عناصر الجهاز الأشداء ، الغلاظ ، المدججين بالأسلحة الخفيفة والتعليمات الصارمة! هكذا ، وما بين (الهبوط) من (الليموزين) الفارهة و(الصعود) الى (المينى بص) الكالح ، تشكلت معالم اللحظة الفاصلة ما بين (أديس أبابا) و(كوبر) ، واستحالت غرف النوم الفارهة ، فى ذلك الفندق الخرطومىِّ الحالم بنجومه الخمس ، إلى مجرد حصائر بالية وبطانيات نتنة ، وتحول (مستر تشيرمان) و(مستر فايس بريسيدنت) و(مستر منستر) ، ما بين غمضة عين وانتباهتها ، من رجال دولة كانوا ، حتى قبل لحظات قصار ، ملء السمع والبصر ، إلى محض قوم منقطع بهم فى تيه من وراء تيه ، بل إلى محض (أرقام) صماء فى (تمام) السجن الأسود ذلك المساء! أسميناها (ليلة الخناجر الطويلة) ، وتندرنا بوقائعها كثيراً ، داخل السجن ، وخارجه ، بعد أن أطلق النميرى سراحنا وسراحهم ، بينما كان يرتب ، سراً ، لإصدار (قوانين سبتمبر) بعد أقل من ثلاثة أشهر. أنزلوهم ، هذه المرة ، فى فندق (أراك) بوسط الخرطوم ، غير بعيد من القصر الرئاسى ، على حساب جهاز الأمن. زرناهم هناك مراراً ، وزارونا فى بيوتنا مراراًً. وتوثقت العلاقة بينى وبين (دول) بالذات. ثم جاء يوم بحثنا فيه عنهم ، فلم نجد لهم أثراً. قوى لدينا الاعتقاد بأنهم لا بد قد اعتقلوا مرة أخرى ، حتى أتتنا أخبارهم بعد حين ، فإذا بهم قد (خرجوا)! غافلوا أجهزة الأمن و(خرجوا)! دخلوا (الغابة)! إلتحقوا بالحركة الشعبية لتحرير السودان التى كانت قد أسست جيشها ، آنذاك ، ودشنت حربها للتو! حكاية لا تخلو من الطرافة على مأساويتها ، أليس كذلك؟! سوى أن الطرافة سرعان ما تطير أبخرة فى الهواء ، لترسب المأساة وحدها فى الأعماق . فيا لها من أمثولة حيَّة عن قصر نظر (الحركة السياسية) القديم فى (الشمال) حين لا تحسن حساب الخطوة (الأولى) فى (الجنوب) ، وقصر نظر (الحركة السياسية) القديم فى (الجنوب) حين لا تحسن حساب الخطوة (الأخيرة) فى (الشمال) ، وذلك بتصرف غير مخل فى (حكمة) المستعمرين الانجليز السديدة عن محكوميهم السودانيين ، والتى نبهنا إليها الدكتور عبد الله على ابراهيم فى مقالته الساخرة حول (نهاية السياسة) فى بلادنا! (6) فى الورشة احتكرنا يوماً بأكمله. قدم (دول) ورقة جيدة ، خلال الجلسة النهارية ، عن ثقافة العمل الطوعى فى الجنوب ، وقدمت ورقة أخرى ، خلال الجلسة المسائية ، عن ثقافة العمل الطوعى فى الشمال ، (فاكتشفنا) ، قبل أن (يكتشف) الأغيار ، كم نحن رعاة متقاربون فى العادات ، والتقاليد ، والقيم الاجتماعية ، والمبادئ المرعية فى التجاور والتساكن والتربية والتعليم وغيرها. سألته على العشاء:ـ "إذاً فيم كل هذا الاقتتال يا دول"؟!أجابنى ، دون يرفع رأسه ، متشاغلاً بنثر بعض الملح فى طبقه:ـ "تسألنى أنا؟! إسأل نفسك"! واصلنا تناول الطعام فى صمت. فرغت قبله. ألقيت بمنديل السوليفان على المائدة وأدخلت يدى فى جيبى. وما أن لمحنى أخرج صندوق (البرنجى) ، حتى انقض عليه كما النسر الكاسر صائحاً:ـ "هييييه .. كامال .. كامال! ما زالوا ينتجون هذا الشئ! أحضرته معك؟! كيف فكرت فى هذا؟! ماذا أحضرت أيضاً؟! من يا ترى بقى فى السودان من آل حجار؟! هل يُصدِّرونه الآن"؟! أهديته صندوقاً. أشعل لفافة. إسترخى لبرهة ، ثم سعل سعالاً شديداً. كان مصاباً بأنفلونزا حادة. ناولته منديل سوليفان ، وأنا أقول ضاحكاً:ـ "وأنت ، يا رجل ، تهتز كقصبة ، وصدرك يكركر مثل وابور معطوب ، فكيف تستطيع أن ترفع بندقية"؟!بدا لى أن وجهه اكتسى بغلالة من الحزن الشفيف. لذت ولاذ بالصمت. لكنه ما لبث أن عاد إلى أسئلته المتحمسة:ـ "إسمع .. كامال ، ألا يزال مطعم .. مطعم .. اللعنة على هذه الذاكرة الخربة .. نسيت إسمه ، ذلك المطعم الصغير قرب فندق صحارى ، ألا يزال يعمل؟! وصينية الاتحاد الاشتراكى؟! سمعت أن كورنيش النيل قامت فيه جهات المقرن مقاهى رائعة! إسمع .. كامال ، وتلك المثقفة المدهشة فا .. فاطمة .. ياه .. ياه .. أذكرها فى الجامعة .. فاطمة بابكر .. أين هى الآن؟! ومولانا فلان يفترض أن يكون الآن فى المحكمة العليا! ومحطة السكة حديد ألا تزال فى مكانها؟! إسمع .. كامال هل قامت أحياء جديدة فى الخرطوم؟! أظن أن التاكسى لايزال باللونين الأصفر والأخضر؟! ألا يزال كبرى أم درمان يهتز كأنه مشيد فوق زلزال؟! إسمع .. كامال ، وأولئك الأصدقاء .. أين هم الآن .. عمر صديق وأنور عز الدين وعبد المنعم بشير والطيب أبو جديرى وإسحق شداد وسيد عيسى وعبد الله صالح **** والآخرون"؟! وحين أخبرته بوفاة عبد المنعم وعبد الله ، أبدى تأثراً صادقاً حتى دمعت عيناه ، فلم يكن قد سمع بذلك من قبل. وهكذا ، طيلة تلك الأيام ، فى المساءات على مائدة العشاء ، فى الصباحات قبل موعد العمل ، فى الاستراحات ما بين الجلسات ، يسبقه إلىَّ صوته من على البعد:ـ "إسمع .. كامال"!ثم يأخذنى من يدى ، ويبدأ فى الكلام والسؤال فى نشوة طفولية ، وحماسة فائقة ، كيفما اتفق ، وبلا ترتيب ، عن تفاصيل التفاصيل فى الخرطوم ، والجامعة ، والشوارع ، والمطاعم ، وأروقة القضاء ، وأولاد الدفعة ، ومنتديات السياسة ، والناس , و .. تساءلت ، بينى وبين نفسى ، أكثر من مرة ، وهو فى قمة نشوته بسيرة الخرطوم وذكرياته فيها:ـ "هل يعقل أن مثله يريد الانفصال"؟! (7) وقفنا ذات أصيل ناعم ندخن ، خلال استراحة قصيرة ما بين جلسات الورشة. هتفت ، بسذاجة خرطومية مشهودة ، وأنا أسرِّح بصرى فوق شلالات الخضرة المترامية وراء الأفق باحتمالاتها اللانهائية:ـ "يا رجل! لم أرَ فى حياتى جمالاً كهذا"!ولكن سرعان ما صلبنى خجل عميق داخل جلدى حين علق ، بانجليزيته الدينكاوية ، وصوته الخفيض ، وهو يسعل خفيفاً فى منديله الناصع البياض:ـ "وإذن ، فأنت لم ترَ مريدى ، بعدُ ، يا صديقى"! ( دهمنى ، بعد ذلك بعامين ، خبر إصابته بالذبحة والشلل النصفى. أخبرتنى به صديقتنا الكندية دنيلى بيكيلى ، المقيمة فى نيروبى ، قالت: نزوره أنا وزوجى فى المستشفى بانتظام ، ولكن مرآه ، وقد ازداد حزناً وشحوباً ، ومرأى عياله حول سريره ، فى تلك الغربة الهائلة ، يمزق نياط أقسى القلوب. بعثت إليه معها بتحاياى وتمنياتى القلبية. وكتبت له أقول: "يارجل! لقد نفدت من ليلة الخناجر الطويلة ، فابشر ، إذن ، بطول سلامة"! ولكن نعيه ما لبث أن شقَّ علىَّ ، بعدها بشهور ، حين أبلغت به فى القاهرة. "وما تدرى نفس بأى أرض تموت". أسأل الله أن يشمله ، ويشمل عياله ، ويشمل السودان ، ويشملنا أجمعين ، بواسع رحمته وغفرانه. ■ ■ ■ (3) الثقبُ فى سقف البيت! (1) عندما كتب صلاح احمد ابراهيم قصيدته (فكِّر معى ملوال) ، أواخر خمسينات وأوائل ستينات القرن الماضى ، فإن سِر أناى كلويلجانق لم يكن ، يقيناً ، قد خطط ، بعد ، أو حتى فكر فى كتابة قصيدته (إبن عمتى محمد). وللدقة ، فإنه لم يكن ثمة (سِر) أناى ، أصلاً ، بل كان (بيتر) أناى ، وقتها ، هو ذلك التلميذ الدينكاوى الفقير الواقف على أعتاب مدرسة رمبيك الثانوية ، كسير الخاطر ، مهيض الجناح ، ممتلئاً بالفجيعة ، ومحتقناً ، حتى أسنانه ، بمشاعر الغبن وخيبة الأمل ، فلا هو مسموح له بدخولها رغم نجاحه ، ولا هو يطيق مغادرتها على قلة حيلته ، وقد كادت تطيح بأحلامه الفتية عقبة الرسوم الباهظة التى فوجئ بأن عليه سدادها ، قبل أن يسمح له بأن يخطو خطوته المرتبكة الأولى إلى الفصل الدراسىِّ الأول ، بينما أبواه لا يملكان شروى نقير منها. وفى لحظة من تلك اللحظات الحاسمة ، المحتشدة باليأس النبيل ، حزم الولد الناحل أحزانه الكثيفة ، ودموعه المدرارة ، وإهابه الزنجىَّ الأغبش ، وفصوده القبلية المميزة ، واندفع يركب الصعاب من هناك وحتى جوبا ، فى محاولة عدَّها أهله وأقرانه ضرباً من الجنون ، ليرفع ظلامته .. إلى من؟! إلى (سِر) الختم الخليفة نفسه ، الذى كان يشغل ، أوان ذاك ، منصب مدير التعليم بالمديريات الجنوبية! ما انفكت تنهش صدر الصبىِّ ، طوال الطريق ، نوازع الشكوك ، وتتشعب فى عقله مصارف الريب ، إذ كيف لمثله أن يتيقن ، قيد أنملة ، من جدوى فعلته تلك ، ومن أين له أن يحظى برؤية الرجل الذى كان اسمه يرن رنيناً أسطورياً وسط كل التلاميذ والمدرسين فى الجنوب ، دع عنك أن يجد لدى هذا العربىِّ المسلم رفيع السلطة ، شيئاً من الوقت ، مجرد شئ من الوقت ، ليتفهم غبن تلميذ جنوبىٍّ وثنىٍّ مدقع مثله ، أو ليعيره أذناً صاغية ، محض أذن صاغية ، ناهيك عن فؤاد متعاطف ينقذ مستقبلاً بأسره من ضياع وشيك ، أو آمال أسرة بأكملها من بهمة ظلام رهيب راح يحلولك من حولها ويتحشد. لكن ما ظنه (بيتر أناى) معجزة صار إلى حقيقة. فـ (سِر) الختم استقبله ببشاشة بددت رهبته ، و(سِر) الختم ربت على رأسه الصغير بأبوة جففت دموعه ، و(سِر) الختم أحاطه بحنان أشاع الطمأنينة فى نفسه ، و(سِر) الختم أسهب فى سؤاله عن أحوال أبويه وإخوته ، وصحتهم ، والقرية ، والزراعة ، والأمطار ، ورحلته إلى جوبا ، فأشعره باهتمام (الخال) وتعاطفه ، و(سِر) الختم أمَرَ ، فى نهاية المقابلة ، فأعفى (بيتر) أناى من الرسـوم ، وأعيد إلى مدرسته جزلاً تكاد الأرض لا تسعه من الفرح. وهكذا ، ما أن استقر فى رمبيك حتى سارع لإشهار إسلامه ، وتغيير اسمه من (بيتر) أناى إلى .. (سِر) أناى! تعارفنا لأول مرة فى منزلى بشمبات الهجرة ذات أمسية شتائية أواخر عام 1984م. كان قادماً لتوه من جوبا عقب اعتقال طويل بسجنها دام تسعة أشهر. كنت مصاباً ، وقتها ، بنوبة من الملاريا ألزمتنى الفراش ، فجاء يعودنى مع صديقنا المشترك الشاعر الياس فتح الرحمن. إستوقفنى الإسم ، فسألته:ـ "تقصد السِر"؟فأجاب بسرعة:ـ "لا .. لا ، (سِر) .. (سِر) ، من (سِر) الختم"!قلت مداعباً:ـ "يعنى .. شاعر دينكاوى ختمى"؟!فضحكنا ثلاثتنا بصخب ، وهو يحاول أن يشرح وسط قهقهاته العالية:ـ "لا .. لا .. أقصد .. يعنى .."ثم انطلق يروى القصة من أولها ، فوقع عندى أن الأستاذ الجليل (سِر) الختم الخليفة ، أطال الله عمره وأسبغ عليه ثوب الصحة والعافية ، قد حقق للاسلام ، ولا بد ، بتلقائيته السلسة تلك ، شيئاً من المعنى الذى ذهب إليه الحديث الشريف: "الدين المعاملة". فما أحوج الجماعة العربية أو المستعربة المسلمة فى السودان لتأمُّل مثل هذه (الأسرار) شديدة البساطة فى تواضعها الوسيم ، كثيرة الإفصاح فى بلاغتها الصامتة! (2) عشيرة سِر أناى تنتمى ، فى أصلها ، إلى (دينكا روب). ولكنها أصبحت ، فيما بعد ، جزءاً من (دينكا يوم) ، وذلك بعد هجـرتها ، إلى قرية (أراويتش) ، شمال غرب مدينة (رمبيك) ، حيث ولد سر أناى عام 1945م ، وتلقى تعليمه الأولى بمدرسة (بارجيل) فى (شيوبيد) بمنطقة (كوك) على مسافة أربعين ميلاً غربى (رمبيك). ثم ما لبث أن انتقل إلى مدرسة (لوكا) الوسطى على نهر (ياى) بالاستوائية ، ومنها إلى مدرسة (رمبيك) الثانوية. بعد اجتيازه امتحان الشهادة السودانية حصل سر أناى على منحة جامعية من حركة (هارامبى) الثقافية الاجتماعية التى كان يرعاها (معلمو) جوليوس نايريرى لدراسة الصحافة فى دار السلام بتنزانيا. وكانت تلك هى الفترة التى شهدت بداية تأثره بأفكار الاشتراكية الأفريقية قبل انتقاله إلى بومبى بالهند لمواصلة دراسته للصحافة.تزامنت عودة (سِر) من الهند إلى السودان مع وقوع إنقلاب مايو 1969م ، فالتحق محرراً بصحيفة نايل ميرور NILE MIRROR التى كانت تصدر عن وزارة شئون الجنوب. وبعد إتفاقية أديس أبابا (فبراير 1972م) بين نظام مايو بقيادة نميرى ، وبين الأنيانيا الأولى وجناحها السياسى (حركة تحرير جنوب السودان) بقيادة اللواء جوزيف لاقو ، التى نال الإقليم الجنوبى بموجبها حق الحكم الذاتى ، إنتقل للعمل بوزارة الثقافة والاعلام الاقليمية بجوبا. وفى 1980م أسس ورأس تحرير صحيفة HERITAGE (التراث). وعلى هذا النحو قضى (سِر) ما يمكن أن نطلق عليه (عقد العسل المر) بين النميرى والجنوبيين ، إبتداءً من توقيع الاتفاقية عام 1972م وحتى منتصف عام 1983م. وعندما أخذت الأوضاع تتفجر من جديد ، جراء إقدام النميرى وحلفائه من الاسلامويين ، بقيادة د. حسن الترابى ، على تجاوز الاتفاقية ، الأمر الذى انتهى ، فى أوائل يونيو 1983م ، بإعلان إعادة تقسيم الاقليم الجنوبى إلى ثلاثة أقاليم ، ثم بإلغاء الاتفاقية ذاتها ، فعلياً ، من خلال الأمر الجمهورى رقم (1) الصادر فى 15/6/1983م ، أبدى (سِر) معارضته ، ضمن مثقفين جنوبيين آخرين ، لتلك الاجراءات ، فأصبح مطلوباً من قبل الأجهزة الأمنية ، فغادر جوبا إلى رمبيك ، لكنه اعتقل هناك ، ثم تكرر اعتقاله عدة مرات ، وكانت المرة الأخيرة عام 1984م ، حيث جاء بعدها للخرطوم ، وبقى فيها إلى ما بعد الانتفاضة الشعبية فى أبريل 1985م. بعد الانتفاضة أعاد (سِر) إحياء صحيفة HERITAGE من المكتب التابع فى الخرطوم لوزارة الثقافة والإعلام بإقليم بحر الغزال. وفى 1987م حصل على منحة للتحضير لدرجة الماجستير فى كلية لندن للصحافة LONDON SCHOOL OF JOURNALISM ، ونالها على رسالته حول (الكوارث الأفريقية فى الصحافة العالمية). وفى تلك الأثناء حضر إلى السودان ، لآخر مرة قبيل انقلاب يونيو 1989م ، فى بعض شأن مادته وجمعها. وبعد نيله الماجستير توجه مباشرة إلى نيروبى ليعمل محاضراً لطلاب الدراسات العليا بكلية الاعلام بجامعة كنياتا. وفى خواتيم التسعينات شدّ (سِر) الرحال مجدداً من نيروبى إلى لندن للتحضير لدرجة الدكتوراه فى نفس الكلية التى نال منها الماجستير. وعندما أقعده الداء العضال نهائياً ، أواخر التسعينات المنصرمة ، كان قد قطع ، بالفعل ، شوطاً مقدراً فى كدحه الأكاديمى بحصوله على درجة M. Ph ليتأهَّل للتحضير لدرجة الدكتوراه. (3) قبل انقضائه نهائياً فى منتصف 1983م كان (عقد العسل المر) بين النميرى والجنوبيين قد شهد هدوءاً نسبياً على الجبهات العسكرية والسياسية فى الجنوب ، رغم أنه لم يخلُ من توترات كادت تؤدى ، أكثر من مرة ، إلى تفجير الأوضاع والعصف بالاتفاقية. من قبيل ذلك المواجهة العنيفة التى وقعت ، داخل برلمان النظام ، بين الجنوبيين وبين غلاة العربوإسلامويين ، أثناء مناقشة مسودة الدستور (الدائم) فى مايو 1973م ، عقب الاتفاقية مباشرة ، وذلك بسبب إصرار تلك العناصر العربوإسلاموية على النص فى الدستور على أن الاسلام هو دين الدولة ، وأن رئيس الدولة ينبغى أن يكون مسلماً ، وأن تطبق قوانين الشريعة الاسلامية. وإلى ذلك الأحداث التى لازمت تنفيذ البند الخاص فى الاتفاقية باستيعاب قوات الأنيانيا ، البالغ عددها ستة آلاف ومائتين وثلاثة عسكرياً من مختلف الرتب ، فى قوام جيش البلاد الوطنى ، كتمرد الكتيبة (116) فى جوبا على قائدها بيتر سريليو أواخر 1974م ، وتمرد جزء من حامية أكوبو فى 2/3/1975م ، وتمرد حاميتى كبويتا ورمبيك فى يناير 1976م ، وتمرد الكتيبة (110) بقيادة النقيب ألفرد أقويت بواو فى نفس العام ، بالاضافة إلى حوادث إطلاق النار المتبادل بين العسكريين الشماليين والجنوبيين ، والتى طالت حتى المدنيين، بين عامى 1972م و1974م ، وحوادث انفجارات القنابل اليدوية التى تكررت فى واو ، فى عامى 1974م و1980م ، فى بعض دور السينما ، وميزات الضباط ، وأندية الجنود، والمناطق الآهلة بالسكان. ويمكن القول ، إجمالاً ، بأن الارهاص بالتمرد أطل برأسه مجدداً منذ العام 1975م تحت قيادة غوردون كونق وجيمس قونق وفينسون كوانج وآخرين فى أكوبو والناصر ، ولما يكن قد جفَّ ، بعدُ ، حبر التوقيع على اتفاقية أديس أبابا التى أبرمت من خلف ظهر القوى السياسية الرئيسة فى الشمال ، ودون أن تتوفر لها ضمانات الرعاية الشعبية الوطنية الديموقراطية ، الأمر الذى سيَّجها بقدر هائل من الشكوك ، حتى لقد قيل ، فى بعض (الفولكلور) الذى شاع عنها آنذاك ، أنها تنطوى على بنود سرية! (4)لكن سِر أناى الذى أولى الاتفاقية ثقته ، رغم أن عناصر هشاشتها لم تغب عن وعيه ، كان أشقى الناس بتلك الأحداث ، مما عده (انتكاساً) عن مشروع السلام والوحدة الذى أسست له الاتفاقية برأيه. وقد عبر عن ذلك فى أغلب قصائد تلك الفترة ، والتى ضمَّنها ، فيما بعد ، مجموعته الشعرية اليتيمة (وهم الحرية وقصائد أخرى) THE MYTH OF FREEDOM AND OTHER POEMS الصادرة عن (دار نيو بيكون للنشر) بلندن NEW BEACON BOOKS عام 1985م. ففى قصيدته (العاصفة الآتية) THE COMING STORM التى كتبها فى رمبيك فى 17/12/1973م يتخذ سِر أناى موقف الشاعر الاشكالى problematic مطلِقاً نذيره المرعب:"فجأة ، وأنا أتسلل فى رحلتى الهاربةأبصرت سماءً هائلة الكواكب تخيم فوق الجنوبمقعياً تحت سحابة راحلة فى وحدة موحشةغنيت للقية الذهب الأسود تحت جهشة البروقثم رسمت لوحة السماء المعتمة على وميض شعشعة القمروكالشبح المجنح كنت أنا الشاعر الخفى السابح فى الفراغفى مكان ما ، حيث ليس سوى السحاب تحركه الريح ببطءليشكل ، رويداً رويداً ، طائرة حربية !فمضيت أسخر من هذى الأوزان فى كلمات رجل ينظم قصيدة ،بينما هو سابح فى الفضاء ، ينذر بالعاصفة الآتية ،المندفعة بعنف لاقتلاع الشتيلات الصغيرات من تربة الوحدة الهشة"!(القصيدة ، الديوان ، ص 27) وفى قصيدته (حَربُ الحُب) THE WAR OF LOVE التى كتبها فى جوبا فى 13/7/1975م يرمى سِر أناى مثيرى (الحرب الجديدة) بأرتال من الأسئلة المحتجة:"آهٍ ، أىُّ حرب هذى ؟!عودة للأيام الغابرة ؟!لم لا تتعهدون زمن السلام هذابقليل من الحدب ؟أهذا هو الحب الذى جلبه ميثاق سلامنا ؟!فلماذا بعثتم ، إذاً ، بكل هذه البوارج المشحونة بالحجارة ؟أهو استسهال آخر لسحق مسعى تشكلنا القومى ؟!ألا تبصرون روح التغييرتغمر حياة أمتنا ؟!أىُّ حرب هذى ؟!عودة للأيام الغابرة ؟!إشعال لحرب الكراهيةبينما نحن أحوج ما نكونلإشعال حرب الحُب" ؟! (القصيدة ، الديوان ، ص 25) غير أن شكوى سِر أناى لم تقتصر على السلام (يستسهل) سحقه مفجرو (حرب الكراهية) فى الجنوب ، فحسب ، بل إن عينه لم تغفل لحظة عن مكامن (عواصف الخطر) تهب على (الوحدة الهشَّـة) من الشمال بالأساس ، الشـمال الذى ظل يرتبط مع غالب إنسانه بآصرة الاسلام الذى التمسه لديه ، واجتباه عن رغبة ومحبة ، ولم يطلب منه سوى أن يكف عن تغليب هوية الدين على هوية العرق والمكان والثقافة. ولذلك ، حين زلزلت حزازة الشمال زلزالها ، وأخرجت (مكامن الخطر) فيه أثقالها ، مع أحداث الثمانينات الرهيبة ، انفجر يخاطبه منشداً بغضب ومرارة:"هلا تفضلت بالكف عن مضايقتىحتى لا يجد كلانا نفسه مضطراًلإثارة الأسئلة عن أصل الآخروحتى يمكننا ، أنت وأنا ، العيش فى سلاموهلا تفضلت بمعرفة أمر واحدهو أن السودانالذى تكابر فى الزعم بأنه أمة عربية فى قلب أفريقياقد ظل دائماً أنا ، وحدى أنا ،وقد سمى على إسمى ،فالسودان يعنى أنا !ومع ذلكفإننى لم أرغب يوماً فى تذكيرك بجذورك الثقافيةغير السودانيةلأننى أرى ، ببساطة ، أن ليست ثمة أهمية لذلكبل إن أكثر ما يهمنىهو أن كلانا بشروأن لنا حقاً متساوياً فى أن نعيش معاًهنافى أرض السود هذهفى السودان" !(القصيدة ، الديوان ، ص 51) (5) قبل ذلك كان سِر أناى قد أطلق أقوى تعبيراته غضباً ، وأكثرها احتقاناً بالمرارة ، أواخر عام 1975م ، فى إثر ما رآه من مسعى غلاة العربوإسلامويين لإدخال العصىِّ فى عجلة السلام والوحدة ، بإصرارهم على تضمين رؤاهم الأيديولوجية فى مسودة دستور 1973م ، حتى فى مرحلة ما بعد الاتفاقية ، وذلك فى قصيدته (إبن عمتى محمد) ، والتى نرجح ، رغم فارق الزمن ، تحركها بنية المحاورة لقصيدة صلاح أحمد أبراهيم (فكر معى ملوال) التى نشرها ضمن مجموعة (غضبة الهبباى) فى منتصف ستينات القرن الماضى. لقد اتفق الشاعران فى أكثر من موضع من روايتيهما لقصة الصراع الشمالىِّ ـ الجنوبىِّ فى السودان ، سواء من حيث أن:"العربىَّ حامل السوط المِشـَلَّ للجمالشكـَّال كل قارح ، ملاعب السيوف والحرابحلَّ على بادية السودان كالخريف بالسُّنة والكتاب ..يحمل فى رحاله طموحهولوحهوتمرتين فى جرابوشجر الأنسابلاقيته فى تقلى ، فى الترعة الخضراء ، فى كاكا ، وتيجان الأقار والعليابينافس الفرنديت، يريد منك العاج والعنسيت، والعبيد من فرتيت ،والمرعى ،وعسل الغابة والخرتيت ،وكل ما يفرِّح السوميت فى خواطر الجلاَّب تصطرعان مثل جاموسين ياملوال لكن قرنك الصغير ، قرنك الطرى ، قرنك الضعيف لا يهاب" وما تفتـَّحَ عن كل ذلك من:"حقيقة سمراء فى أحشاء كل أمِّ ولدٍ منهنمن بنات جدك الأكبرمما بذرته نطف الأعراب" واعتبر صلاح تلك:"حقيقة كبيرة عارية كالفيل ، كالتمساح ،كالمنيف فوق كسلا ، سليطة الجواب:كذاب الذى يقول فى السودان إننى الصريح ، إننى النقى العِرْق ، إننى المحض ..أجل كذاب"!(صلاح ، "فكِّر معى ملوال" ، غضبة الهبباى ، ص 43 ، 44 ، 45) أو من حيث:"أبوك ذلك العربىِّ جاء من أزمانبثقافة قومه وبالقرآنولكن .. بلا أمة يتخذها زوجةجاء .. يروم أن يعيش بين أصدقاءلا بين عبيد جاء كى يعيش ..ولذا ، دونما أدنى التفاتة للونه أو عنصره ،كان ميسوراً له على الدوام أن يحيط نفسه ، كيف شاء ،بالجوارى الصبيات الحسان ..وبالإماء ،وهكذا أتيت يا ابن عمتى محمدأتيت أنت فى الشمال ثمرة لعمتىتلك الأمَة الصبية التى لطالما تمسكنت للذل والهوانحتى اعتلت ، بقوة الدماء وحدها ، صرح نصرها المؤزر الفصيح ويا للحقيقة الضخمة فى سموِّ جبل الإماتونجفها أنت لست ، مثلما كان أبوك ، ذلك العربى الصريحأنت ، يا ابن عمتى ، هجين أرض أفريقيا هذهوالناتج النفيسلسنىِّ حربها الطويلة الضروس"!(سِر أناى ، "إبن عمتى محمد" MY COUSIN MOHAMED ، مجموعة "وَهْمُ الحُريِّة وقصائد أخرى" THE MYTH OF FREEDOM AND OTHER POEMS ، ص 18 ،19 ، 20). على أن صلاحاً وسِر أناى اختلفا ، مع ذلك ، فى مواضع أخرى مهمة من روايتيهما ، اختلافاً بيِّناً يعكس ، فى حقيقته ، وجهاً من وجوه اختلاف الرؤى بين شاعر اشتراكىٍّ ماركسى وبين آخر اشتراكىٍّ أفريقى. فصلاح ، ومن خلال تقصيه لأسباب الشقاق الشمالى ـ الجنوبى ، يشدِّد تشديداً قوياً على الاستعمار والمؤسسة الكنسية ، فلقد:"رقص الدين على مزمار رأس المال"عندما:"الأبيض الشرير جاء من جديد يتبع الرحالة الجاسوسقد غير من قميصه الثعبان ..ملهم الجرائم الكبرى أتاك والمبشرَ الأبيضَ يبنيانبالقش كنيسة صغيرة فى وسط القرية ، فى معسكر السخرة ، فى عقول البسطاء ،فى مجاهل الأدغال ،جاءاك فى تحالف مقدس ، حكاية المُقعد والأعمى بذاتها ..جاءاك للأرض ، وما على الأرض ، وتحت الأرضكل عَلـَم كالخنجر المغروس فى مكانجاءا لأنغولا ، لموزمبيق ، لجنوب أفريقيا ، لزمبابوى ، للكنغو ،كما جاءاك يا ملوال(غردون) فى خلواته شرابه المفضل الانجيل بالبراندىو(بيكر) الصارم يرسل الرعب إلى حدود الزاندىوكل من معبده مغارة اللصوص ، داره مؤتمر الذئابوكل من لسانه يمجُّ الشهد وهو للشارب صابٌّ صابوكل من حرفته التضليل ، همُّه حرق البخور للضلالوكل من علمه (التفتيش) أن يصمَّ أذنيه عن الصواب ،أن يضطهد الصواب وكل من درَّسه تجار أوربا ، وكل (شيلوك) بها ، كيف يغش بالحسابوالخنجر المغروس فى قلب البلاد صار فى العقول فكرة ،وفى اللسان لغة ،وفى النفوس غلا وحزازات يدور كأسها موتاً ،وحانات أوربا ونيويورك تعتق الشراب"(القصيدة ، الديوان ، ص 45 ، 46) أما سِر أناى فقد انصبَّ تركيزه ، بين هذه الأسباب ، على العامل الذاتى ، عامل الاستعلاء العرقى واللغوى والثقافى العربى الذى مضى ، من وجهة نظره ، يصوِّر الاسلام نفسه ، بلا هوادة ، كما لو كان ديناً عرقياً ، لا يعنى مجده غير مجد العرب ، ولا يعكس نبله وكرمه سوى نبل محتدهم هم وكرم عنصرهم وحدهم ، وهكذا:"يا ابن عمتى محمد ..ما أن شرع أبوك فى تدبُّر أمرهمع القبائل والعشائر المحليةحتى خلص إلى تفوقه العرقى والثقافىعلى إنسان أفريقيافانطلق يفرض تصوره للاسلام كما يراه ،كمحض جزء لا يتجزأ من تقاليده العربية ..فإذا بالاسلام والعروبة سيان ،فى نظر المجاهدين ،وسببان لقوتهم التى لا تنهزم ..إبن عمتى يحسب نفسه ذكياً جداًحين لا يكتفى بأن يتباهى بأنه أفريقى يتكلم العربية ،إذ ليس عنده لسان أصلى سواها ،بل يزعم ، فوق ذلك ، أنه لمن سمات التحضر أن تتكلم العربية! إبن عمتى عربى متعصب بين العرب ،عربى أسود ينكر هوية العنصر ،هوية الإهاب ولون الجلديقول: إذا تكلم الأفريقى العربية فهو عربى ،وإذا استعرب الأفريقى بالثقافة فهو عربى ،ولكن ابن عمتى يزعم أن الاسلام شئ مملوك للعربويقول: أنزل الله القرآن بلسان عربى ،فمن المستحيل ترجمته إلى لغة أخرى لأن الله حرَّم ذلكويقول: على المسلمين تعلم العربيةكونها لغة القرآن الكريم ،والقرآن الكريم هو حامل الثقافة العربية ،ذلك أن العرب هم شعب الله المختار ويقول ابن عمتى ، لا فضَّ فوه: ليس للأفارقة ثقافة ،وليس للأفارقة تاريخ ،وليس للأفارقة دين ،ولا يجتمع الأفارقة على لغة واحدة ،فهم ، لذلك ، أوباش!ويقول إن من واجبه بسط نفوذ العرب على أفريقيا ..فلتتحول أفريقيا بأسرها إلى قارة عربيةكى يتحضر أهلوها !إبن عمتى أصمَّ أذنيه عن كل شئ ما خلا العروبة ..وقد كان طبيعياً ، بإزاء ذلك ،أن يأتمر كل الأفارقة ، ذوى البشرات الحالكة السواد ،من كل القبائل ، ومن كل العشائركيما تجتمع كلمتهم على فكرة كبيرة واحدة: أن يتكتلوا حيث أفضى بعضهم لبعض: إن كان العرب جاءوا لسلب أرضنا ،فإن دون ذلك خرط القتاد ،غير أن العرب السادرين فى غزواتهمأبادوا آلاف الذكور الأفارقة ،واستحيوا نساءهم اللواتى عاشروهن بلا قيود ..وهكذا أتيت أنت يا ابن عمتى" .. الخ(القصيدة ، الديوان ، ص 18 ـ 22).وما أجدت صلاحاً يمينه المغلظة بأن روايته هى الصحيحة:"ملوال ها أنا ألحس سنة القلم ، ألعق ذرة من التراب ،أضرب فخذى بيدى ، أقسم بالقبور بالكتاب ،شلت يدى جنازة لو اننى كذبت يا ملوال ،ولينشف اللسان من جذوره ، ولتنفطر هذى اللهاة من ألم ،كأنها حنظلة الجبال لو اننى كذبت يا ملوال وقبل أن تنكرنى اسمع قصة الجنوب والشمال حكاية العداء والإخاء من قِدَم"!(القصيدة ، الديوان ، ص 43) ما أجدى كل هذا الحلف ، فسِر أناى ما ينفك يصرُّ ، من جانبه ، بعناد على صحة روايته هو:"تلك هى الرواية الحقة ،الرواية التى لا يجرؤ أن يرويها المؤرخون العرب عن صراع أهلهم مع الأفارقة ..وهكذا أتيت أنت يا ابن عمتى .." الخ(القصيدة ، الديوان ، ص 19)ولكن الشاعرين يعودان ، مع ذلك أيضاً ، ليتفقا على (الحل الاشتراكى الديموقراطى) للمشكلة ، يوم يكفُّ (إبن العمة) ، عند سِر أناى ، عن استعلائه البغيض الذى يجعله:"حين يسمعنى أغنى للحرية والعدالة والمساواة ،يغضب ،ويصرخ فى وجهى: وأنت يا عَبـِد ..تريد أيضاً أن تكون حُراً ومساوياً لى"؟!ويوم يعود لسيرته قبل الاستقلال ، عندما:"كان .. يبشر بالحرية والعدالة والمساواة للجميع ،لكل السودانيين ،بغض النظر عن العنصر ، أو القبيلة ، أو الدين" وعندما كان:"إبناً لكل الشعبوديمقراطياً حقيقياً كان ،يبذل نفسه لأجل خير الفقراء والمسحوقين" قبل أن تعصف بعقله خمرة السلطة:"فيؤمن بأن السلطة هى كل شئ"! وتصبح:"السلطة هى ماله ،والسلطة هى هناؤه ،والسلطة هى سعادته ،والسلطة هى أمنه"! ويصبح هكذا:"مسكيناً .. يعوِّل على السلطة وحدها لإخضاع الخصوم"! ويوم يكفُّ (ابن العمة) هذا عن تسخير ما حظى به من تعليم:"لتلبية غاياته الشخصية الأنانية ..فكلما تعالى صراخ الجوعىكان لديك من الذرة ما يكفى لإطعام أهل بيتك ، أطفالك متخمون ، ومع ذلك فأنت نذل بما يكفى لتزدرى المدقعين الذين بالكاد على وجبة واحدة فى اليوم يحصلونجالساً متبطلاً ، هكذا ، فى مكتبك الغاص بالسجاد وبالهواء المكيَّفلا تصدر غير تعليمات تسميها الأمر رقم كذا والأمر رقم كذاغافلاً عن كون التنمية الاقتصادية هى بنت الجباه التى تتفصد بعرق الكدح الشريفوعلى حين لا تحسن أنت حتى رسم الخطط ،أو اتخاذ القرارات المفيدة التى تمنع استغلال البشر ،لا تنفك تتضجر من أن المدن مزدحمة بالخلق الذين يتوجب إرجاعهم إلى قراهم النائيةكى ينكبوا هناك على إنتاج الغذاء لأنفسهمبأدواتهم البدائية ،ولا تنفك تردد أن قانون (الكشة) ينبغى تفعيله ،كون المتبطلين يشكلون تهديداً للحكومة ،ولكن الناس ، يا ابن عمتى ، لا يكفون عن الرجوع دائماً إلى المدن الكبيرة ،إنهم يريدون أن يكونوا قريبين من القصرحيث الطبقة الحاكمة لا تكف عن وضع الخططالتى تبقى على جهلهم وأميتهم"!(القصيدة ، الديوان ، ص 22 ـ 24)من جانبه ينطلق صلاح ليبشر بوطن ـ روضة:"أزهارها شتى ،أشم فيك عبق المستقبل الجميل ،حينما يلتقى الأبيض الحليم بأخيه الأزرق المثير ،أنظر يوم يقبلون عرباً ، وبجة ، ونوبة ، وفجلو ، وباريا ، وبرتة ، وبنقو ، وزغاوة ، وأمبررو ، وأنقسنا ، ودينكا ، وتبوسا ، وأشولى ، ونوير ، ومساليت، وأنواك ، ولاتوكا ، وغيرهم ، وغيرهم ، للبوش كل منهم يهدى ولكن ، باعتزاز ، شيئه الصغير ويوم أن يسود فى السودان صوت العقل ، صوت العدل ، صوت العلم ، واحترام الآخرين حقهم فى أن يكونوا (آخرين)، حقهم أن يبلغوا الرشد متى شاءوا ،وكالشمال ـ الريح ـ أحراراً فأمهاتهم ..يسود صوت الحق ، صوت الخير ،ذاك الذى يمكن أن يجمله صديقنا(قرنق) بالديموقراطية الحقة ،ما نعرف أنه هناك ثابت كهيكل الفولاذ يمسك البناءفى سعادة القرقيز والتتار والبشكير *****فكر معى ملوال أى مجد سوف ننشيه معاً ، على ضفاف النيل ،أى مجد ، لو صفت نياتنا الاثنين ..فكر معى ملوال قبل أن تنتابنا قطيعة رعناء ، باسم عزة جوفاء ،أو باسم سداد دين ،يوغرها الأعداء بالذى مر به الآباء ، فلنقل براء نحن منها ،ننفض اليدينتفتحى يا أمنيات الشعبعن مستقبل نحن معانيه معاً ،وعن هناءة الشمال والجنوب ،عن نضارة الإخاء فى هذينيوم لا تقوم بيننا السدود والحدود ،يوم لا يعذب الجدودَ فى قبورهم حاضرنالا الدين ، لا الأصل ، لا سعاية الغريب ، لا جناية الغبى ،لا وشاية الواشى تدب كالصِلال فى القلبينفكر معى ملوال"!(القصيدة ، الديوان ، ص 47 ، 4 (6) ولئن امتلأت قصائده ، حتى فاضت ، بالغصص والمرارات ، جراء مخاشنات (ابن العمة) ، واستعلاءاته الجهيرة ، فإن سِر أناى قد بقى ، مع ذلك ، على يقينه التام ، عكس التيار الغالب وسط الاشتراكيين الجنوبيين ، من أن الوحدة هى قدر الجنوب والشمال معاً ، وله فى ذلك الحُجَّة السائغة والقول الأنيق. فقد كان يرى أن جوهر الدعوى ينبغى أن ينصب على إصلاح الخطأ الكامن "فى مكان ما من مملكة الدنمارك" ، بعبارة (شكسبير) الشهيرة على لسان هاملت! وفى حوار طويل دار بيننا حول سؤال الوحدة والتنوع والسلام (شارك فيه ، خلال فترات مختلفة ، كل من النور عثمان ونور الدين ساتى وأحمد الطيب زين العابدين وسِر أناى وشخصى ، واتصل من بداية الثمانينات إلى أواسطها ، وقد نشرت (الأيام) بعض وقائعه فى حينها ، ولما نستنفد ، بعدُ ، جُلَّ مطلوباته ودواعيه) حدثنا سِر أناى عن مفردة (جورشـول) التى تطلق ، فى كل اللغات الجنوبية ، على (الغريب) ، حتى لو جاء من يوغندا أو كينيا أو زائير ، بينما تستخدم كل هذه اللغات مفردة (مندوكورو) فى وصف (إنسان الشمال) ، فلا يُعدُّ فى شرعتها (غريباً) ، وإن فـَجـَرْ! كما حدثنا عن مواسم هجرات الجنوبىِّ (شمالاً) ، عندما تحاصره الحرب أو الفاقة ، وليس (جنوباً) إلا من استكره وقلبه مطمئن بالوطن! وأنه ، فى تجواله فى مدن الشمال ، لا يخامره أدنى إحساس بأنه (جورشول) ، حتف أنف لفظة (عَبـِد) البذيئة تصك مسامعه فى الأزقـة ، والمقاهى ، ومطاعم (البلدى) ، ومحطات القطارات! وقال لنا ، مرة ، بشاعرية جمة: "ما تعانيه أمتنا ليس آلام المرض ، وإنما أوجاع الولادة"! وشارك معنا بنشاط فى تأسيس اتحاد الكتاب السودانيين ، واقترح لمجلته التى كنا نزمع إصدارها إسم (كرامة) ، قال: "هذه الكلمة ، بنفس دلالاتها الثقافية الطيبة فى الشمال ، مستخدمة فى كل لغات الجنوب"! كان حفياً بكل ما من شأنه أن يدعم الوحدة ، شديد الثقة فى أن السودان سوف يجتاز، عما قريب ، أزمته ، فينهض باذخ القامة فى وحدته ، كثيف الجمال فى تنوعه. ولكنه لم يكن يكفُّ ، لحظة ، عن التحذير من (مكامن الخطر) هنا وهناك ، والانذار بخبيئات (العواصف الآتية) من هنا أو من هناك! (7) علمت أنه التحق بعد الثلاثين من يونيو 1989م بالحركة الشعبية ، ثم انشق عنها ، فى وقت لاحق ، ضمن فصيل السيد رياك مشار ، أحد الفصائل الرئيسة التى تمثل تيار الانفصال فى الحركة السياسية والعسكرية الجنوبية ، والتى أبرمت معها الحكومة ، فيما بعد ، ميثاق الخرطوم السياسى (10 أبريل 1996م) ، واتفاقية السلام السودانية (21 أبريل 1997م) والاتفاقية الأخرى لقطاع جبال النوبا التى اقترنت بها ، ثم اتفاقية فشودة مع مجموعة د. لام أكول (سبتمبر 1997م) ، فأسلمنى ما علمت إلى الأسى العميق بأكثر مما أسلمنى إلى الدهشة أو الحيرة! فالتشريعان الأساسيان اللذان ترتبا على تلك المواثيق والاتفاقيات (المرسوم الدستورى الرابع عشر ـ تنفيذ اتفاقية السلام ـ لسنة 1997م ، وقانون السلام والتدابير الانتقالية للولايات الجنوبية لسنة 1997م بالمذكرة التفسيرية المرفقة معه) قد صدرا ، فى مجملهما وجوهرهما ، بغرض الاحاطة ، فحسب ، بالترتيبات التى تكفى لاسترضاء هذه الفصائل ، وتقنعها ، على نحو ما ، بأن ثمة وسيلة أخرى قد أتيحت لها ، غير وسيلة البندقية ، لتحقيق رؤيتها (الخاصة) لشكاوى وظلامات الجنوب ، من حيث هى رؤية (إنفصالية) فى المبتدأ والمنتهى ، وذلك بالتواثق معها على إجراء الاستفتاء حول (تقرير المصير) بعد سنوات الفترة الانتقالية الأربع التى تبدأ من تاريخ تشكيل مجلس تنسيق الولايات الجنوبية وفق المرسوم الرابع عشر. وما من عاقل لا يستطيع ، بالطبع ، أن يلمح ، وبكل يسر ، حتمية اقتران (الانفصال) ، ضربة لازب ، بخيار (تقرير المصير) ، حالة كونه يجرى وفق ترتيبات كهذه ، وفى ظروف الحرب الدائرة ، وبمعزل عن مشاركة الفصائل الشمالية المعارضة ، مما يجعل من إقصاء (خيار الوحدة) مزاجاً عاماً راجحاً. ولعل هذا هو أخطر وجوه المسألة ، مما ظل سِر أناى نفسه يحذر منه ، وينذر به! بل هذا هو بالضبط ما عبر عنه د. لام اكول فى (الحياة) اللندنية ، وأعادت نشره بعض الصحف المحلية أوائل عام 1998م ، حيث قال بالحرف: ".. معروف فى الأدب السياسى أن الدعوة الى حق تقرير المصير يحمل لواءها من يرغب فى تحقيق الانفصال ، فما من حركة وحدوية تتحدث عن حق تقرير المصير. ونحن فى الحركة الشعبية المتحدة لتحرير السودان أول من طالب بحق تقرير المصير بهدف تحقيق انفصال الجنوب. هذه حقيقة نقولها جهاراً ، ومن دون أى مواربة"! فتأمل أية حالة من اليأس أوصلنا إليها شاعراً ومفكراً وسياسياً وحدوياً مثل سِر أناى ، وكيف دفعنا به دفعاً على طريق المشوار المأساوىِّ المريع من أول التشبث بـ (الوحدة) إلى آخر اللواذ بـ (الانفصال)! ( لم تمهل المنية سِر أناى طويلاً ، فتوفى ، عليه رحمة الله ، فى لندن شتاء عام 1999م. وهكذا أعفانا ، مرة وللأبد ، من مشـقة النظر إلى عينيه الحزينتين ، وهو يتلو علينا (حيثياته) الختامية ، مثلما أعفى نفسه ، هو أيضاً ، مرة وللأبد ، من نظرة استفهام أخيرة تطل من عينى حبيبته ، وزوجته ، وأم عياله السيدة رجبية عبد الله مانجوك مابوك التى لطالما كابدت معه شظف العيش ، إنتظاراً لزمن جميل لا يأتى أبداً ، ثم ها هى قد كتب عليها ، بعد موته ، أن تكدح وراء رزقها ورزق أيتامه ببيع الشاى لطلاب جامعة الخرطوم ، بينما لا يزال يتردد فى مسامعها ، ولا بد ، شئ من صدى قصيدته (ثقب فى سقف البيت) التى زيَّنها بإهداء رقيق لها فى ديوانه ، وكم كان يهدهدها بدفئها فى ليالى الجوع والبرد الموحشة:"آهٍ ، لكم تبدين حائرة يا حبيبتى ،كأنك لم تفهمى ، بعدُ ، تماماً ، لماذا نبدو وكأننا لن نبلغ أى مكان!دعينى أقولها لك صريحة إذن: إن ما نكابد الآن من شقاءهو ، حتماً ، ما سيشكل القيمة الساميةلكل الذى سوف نجنيهفى نهاية المطاف ،ولذا فلا تغرَّنك لغة النجاح والفشلإن الثقب الذى يرشح فى سقف بيتناقد يكون ، بالحق ، هو سبب زكامنا المستديم ،ولكن ، أوَليسَ من المحتمل أيضاً أنه موجود هناك لكى يحثنا على مواصلة النضال الرفاقى ،كتفاً إلى كتف مع الكتل الفقيرة ؟ "(القصيدة ، الديوان ، ص 59). (إنتهى)الهوامش:* قدِّمَت فى ندوة مركز الدراسات السودانية بالخرطوم "30 ـ 31 أكتوبر 2002م" ، بعنوان "التنوع الثقافى وبناء الدولة الوطنية فى السودان" ، بمناسبة اكتمال ترجمة ونشر أعمال د. فرانسيس دينق باللغة العربية.** رواية السيد مصطفى أحمد الشيخ لى هاتفياً مساء الجمعة 20/7/2001م.*** محادثة هاتفية معه عصر السبت 21/7/2001م.****الثلاثة الأوائل ممن تم اعتقالهم من أعضاء لجنة القضاة السرية التى قادت إضراب القضائية الشهير ، وقتها ، ثم الاعتصام بدار نقابة المحامين احتجاجاً على إهانة النميرى للقضاة فى خطاب جماهيرى بمدينة الأبيض ، ثم فصله لعدد منهم بعد ذلك ، والباقون من قيادات المحامين الذين اعتقلوا لتضامنهم مع القضاة. ***** من القوميات الآسيوية فى الاتحاد السوفيتى سابقاً. وواضح أن صلاحاً كان منبهراً ، مثل معظم الشيوعيين ، بما اعتقد فيه الحل الناجع لمشكلة القوميات فى إطار النموذج الستالينى للدولة الاشتراكية وقتها.
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de