المفكر نصر حامد أبو زيد لـ(الزمان): ثمة ظلاميون يتربصون بروح النص

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-22-2024, 02:29 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف العام (2003م)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
04-12-2003, 02:48 AM

zumrawi

تاريخ التسجيل: 08-31-2002
مجموع المشاركات: 0

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
المفكر نصر حامد أبو زيد لـ(الزمان): ثمة ظلاميون يتربصون بروح النص

    المفكر نصر حامد أبو زيد لـ(الزمان): ثمة ظلاميون يتربصون بروح النص - منذر الشوفي
    التحدي أو الصعوبة التي لا تقتلك تزيدك قوة بهذه العبارة بدأ المفكر العربي المصري نصر حامد أو زيد حديثه معنا، ويكاد يسرقنا الوقت ونحن نستمع إليه، وهو يكشف لنا حقولاً معرفية وفكرية شائكة تضعك أمام تحد كبير وتشعر بأنك أمام رجل بكل ما تحمل هذه الكلمة من معني.
    هل من الحملة الظلامية التي أضرمت ضده وكفرته، وحاولت تفريقه عن زوجته؟ أم من الطروحات والأفكار الفلسفية والفكرية المتنورة والمعاصرة التي يتناولها أبو زيد في مؤلفاته اعتقد بأنه الأمر صعب، لذلك يري أبو زيد أن قضية تحرير المرأة هي بوابة مهمة في تحرير المجتمع، وليس كما ينظر إليها البعض علي انها حامل للأطفال فقط. ويؤكد أبو زيد أن الحرية هي الضمانة الأساسية التي تضع حداً للذين يقومون بالتكفير..
    (الزمان) التقت الدكتور حامد أبو زيد واجرت معه هذا الحوار:
    û تعرضت منذ فترة من الوقت، الكل يعرف إلي مشكلة مع بعض التيارات الاصولية في مصر، وأخذت أصداء كبيرة في العالمين العربي والاسلامي، ماذا شكلت لك هذه الأزمة؟ وهل دفعتك إلي البحث والكتابة أم انها احبطت طموحات نصر حامد أبو زيد؟
    ــ الانسان يقول دائماً التحدي أو الصعوبة التي لا تقتلك تزيدك قوة ، وهذه المشكلة هي مشكلة سياسية ومشكلة عامة في الوقت نفسه، ولاشك بأنها لها نتائج سلبية، ومنها أهمها بأنني لا أعيش في وطني، ولكن يحاول الانسان أن يجد نتائج ايجابية بأن يعمل المزيد من الأعمال ويعمل المزيد من الاختبار في الأفكار وأن هذه الاعتراضات علي الأقل الجادة منها، التي كتبت ازاء كتاباتي أن يأخذها مأخذ التحدي، ويحاول أن يختبر مشروعية هذه الاعتراضات، وبالتالي يطور أفكاره بطريقة أكثر دقة، وهذا الجانب الايجابي أنا الذي حاولت أن استثمره.. وبالتالي المشكلة حملت في طياتها جوانب سلبية واخري ايجابية.
    وأنا حاولت أن اركز علي الجانبين، لأن ما حدث بكل المقاييس شيء تدميري بالنسبة لثقافتنا، وفكرنا ومستقبلنا، وكان يمكن أن يكون تدميرياً بالنسبة لي، لكن أنا وزوجتي نجحنا في أن نتفادي هذه القوي التدميرية الهائلة التي كان يمكن أن تسببها لنا هذه التيارات الاصولية، وبالتالي لم تحبط طموحاتي بل دفعتني إلي المواجهة والتصدي لهذه الهجمة والتيارات الظلامية.

    û عندما هوجم طه حسين، وقفت الجامعة إلي جانبه، والشارع المصري هو الذي وقف ضده، ولكن ما حدث معكم العكس تماماً، تري ما الذي تغير في تركيبة الشارع المصري خلال هذه المدة؟
    ــ هناك أشياء عدة تغيرت، في أيام طه حسين كان في مصر إلي حد كبير مناخ ديمقراطي، ويوجد أحزاب وقوي سياسية أخري يمكن أن تتصارع، والذي حمي طه حسين ليس الجامعة فقط كونها مؤسسة، وانما كمؤسسة ضمن سياق مؤسسات أخري سياسية واجتماعية، ولا اعتقد بان الشارع كله كان ضد طه حسين. وهذا القياس ليس صحيحاً، ومن وقف ضد طه حسين هي المؤسسات الدينية، الذي كان ينتمي إليها أصلاً، والذي حدث هو غياب الديمقراطية وغياب المؤسسات وسيادة التيار الاسلامي السياسي بمعناه السلفي والتقليدي حتي تحولت الجامعة نفسها إلي مؤسسة فقدت علمانيتها، وفقدت طابعها المدني الذي كان يميز جامعة القاهرة عن جامعة الأزهر، والاتهام جاء من الجامعة في سياق خوف وفزع والنظام السياسي كله كان خائفاً، وهناك مفاوضات مع مادة الارهاب في السجون، في مثل هذا السياق وقعت علي قرار أو بيان ادانة أو تكفير، ولكن أنا أري بأن القضية كلها قضية سياسية، صحيح هناك غياب للحريات ولكن هناك وعي لدي الجماهير.
    والمشكلة عند طه حسين كان يكفي أن يسحب الجملة من الكتاب التي أثارت الضجيج، لكن لا تغير سحب الجملة من الكتاب ولا من منهجية الكتاب، وبالنسبة لي حتي هذا الحل لم يكن ممكناً، لأن هذا يستدعي مني أن اسحب كتبي وأحرقها، لأنني اتعامل بشكل مباشر مع قضايا واسئلة من شأن الاجابات الصحيحة عنها أن تهده سلطة المؤسسة الدينية، والسلطة هنا بمعناها السياسي والاقتصادي.. أنا دون أن أقصد وضعت يدي علي منظومة مصالح اقتصادية تتخفي باسم الدين، وهذا في النهاية يمثل تهديد، وهذا الشيء يتطلب اسكات هذا الصوت، واستخدمت ضدي كل الوسائل والأدوات وهذه الأدوات والوسائل لم تكن شريفة، حتي بعد الحكم وبعد أن رفضت زوجتي تقبل هذا الحكم اتهمت بالزني، واصبحت أنا متهماً بالردة، وبكل ما يمثله هذا من انعدام للضمير الاخلاقي عند الذين يكتبون، وانعدام بأي حس اجتماعي حقيقي، وهذا يعني لنا بأن القاتل الذي يريد أن يقتل مجرماً من أي حساسية انسانية، وأنا أتكلم عن الخطاب وليس عن القانون.
    ومع ذلك فمشكلة طه حسين مرت مع الشعر الجاهلي ولكن أعداءه كثير خارج الجامعة وظلوا موجودين، ولكن معي، أولاً كان رئيس الجامعة ينتمي إلي السلطة السياسية وهو فاسد الذمة والضمير.. ومشكلة نصر حامد أبو زيد كانت في مجتمع فاسد بالمعني الديني والأخلاقي والسياسي.. والفساد يسند بعضه، وحتي هذه اللحظة ما زال الفساد قائماً، والدكتور عبد الصبور شاهين نجم تلفزيوني.

    û في رأيك إلي أي مدي تقع محاولة تفريقك عن زوجتك ضمن هذا الاطار؟
    ــ أنا اعقد أن الذين عملوا ذلك لم يكونوا علي ذكاء عالٍ ليدركوا ذلك وأنا إلي حد كبير أوافق علي هذه المقولة، لأن المرأة عامل مهم في المجتمع حتي لو حضرناها وقهرناها وألزمناها البيت، ولكنها في النهاية هي الحاضنة للأجيال الجديدة.
    ولكن الذين فعلوا ذلك لم يفهموا معني ذلك، فعاقبوا امرأة لان زوجها في نظرهم أخطأ، وبالتالي وقعوا في تناقض منطقي، واعتقد بأن التيارات الاسلامية بمصر غير ناضجة في استقطاب المرأة، واعتقد بأن هذا أحد المعوقات في هذه المسألة، لأن الاسرة المصرية والمرأة لا يمكن أن تقبل بذلك، وربما بعض الناس الذين وقفوا معنا ربما غير مقتنعين بأفكارنا، ولكن أن تدمر أسرة ويفرق زوج عن زوجها هذا أمر غير مقبول.
    والمرأة استخدمت وللأسف الشديد بأشكال مختلفة، علي انها مجرد حامل للأطفال، وقضية المرأة قضية مهمة جداً جداً في مجتمعنا، وتحريرها بوابة مهمة جداً في تحرير المجتمع.

    û قلتَ بأن الأفكار لها اجنحة، مستشهداً بافكار ابن رشد بأن أفكار ابن رشد لم تمت، انما انتقلت إلي اوروبا، إلي أي حد لاقت أفكار نصر حامد أبو زيد قبولاً في العالمين العربي والاسلامي والعالمي؟
    ــ دعك من العالم الغربي، لأنه يمكن أن يقبل أي نقد، ولكن لنتكلم عن العالمين العربي والاسلامي، ولنأخذ كتاب مفهوم النص مثلاً طبع لحد الآن عشرات المرات حتي الآن، وأنا غير موجود في العالم العربي، معني ذلك أن تزايد الاقبال وتزايد القراء، وهذه الكتب يعاد طبعها بشكل سنوي، وهذا يعني أن جيلاً من القراء وجيل من الشباب يقبل علي قراءة هذه الكتب، وهذه مؤشرات ايجابية، والمؤشر الثاني الايجابي ترجمة كتبي إلي كل اللغات السلافية إلي الفارسية إلي الانكليزية إلي اللغة الكردية والتركية، وهذا يعني أن الأفكار تلقي قبولاً ليس في العالم العربي فقط وانما في العالم الاسلامي بشكل أوسع.
    وحتي هذا الذي حدث معي خلق اهتماماً متزايداً مع هذه الأفكار، لأن حينما يتم منع فكرة أو تضطهد فكرة لا يدري بأن يخلق هذا اهتماماً متزايداً بهذه الأفكار، وربما يكون اهتمام غير صحي، لكن علي كل حال هذا الاهتمام المتزايد معناه أن هذه الأفكار لم تمت ولا يمكن لها أن تموت.
    ومسألة الأفكار لها أجنحة وأنها لا تموت، واذا تنبعث التاريخ منذ حرق الكتب إلي قتل الحلاج واحراق كتبه، حقاً الحلاج مات، لكن أفكاره لم تقتل، وهناك شواهد كثيرة علي ذلك، والانسان في طبيعته فان، لكن الأفكار الحقيقية لا يمكن أن تموت لأن حياتها في ما يسمي العقل الانساني.

    û لقد تعاطف المجتمع العربي معك خلال الازمة التي تعرضت لها، ولكن ألا تجد معي بأن التيارات الاصولية تكفر المبدعين العرب والاسلاميين، في رأيك كيف يمكن أن نضع حداً لهذه التيارات الاصولية، ونقلل من تأثيرها علي حركة الابداع؟
    ــ أنا أعتقد انه لا يحد من هذه إلا ضمانة الحرية للجميع، ولنكن واضحين التكفير هو أداة أو وسيلة أو تكتيك اسبق من الجماعات الاسلامية واسبق من التيارات الظلامية التي نتكلم عنها الآن، فالقوميون يكفرون غير القوميين، الشيوعيون يتهمون بعضهم بعضاً بالانحراف، والانحراف معناه عدم الايمان بالقضية، وعدم الايمان بالحقيقية، وبالتالي مجتمع عرقي طائفي ومتحزب وايديولوجي مجتمع لا يؤمن بالحرية، العلامة الوحيدة فيها للسيطرة هو التكفير، التكفير بمعناه السياسي والايديولوجي والديني، وأنا اعتقد بأن الحرية إذا تم زرعها في المجتمع في جميع مستويات الحياة الاجتماعية، فهي كفيلة بأن تنزع هذا السلاح وتقتل فعاليته، كيف يمكن أن نؤسس لبناء مجتمع مدني وهذه القضية يجب أن تأخذ أولوية، بما في ذلك حرية هؤلاء الجماعات الاسلامية بعدم استبدادهم سياسياً، لأن مناخ الحوار هو الذي يحد من سلطة هؤلاء الظلامين.
    وفي فترات القلق والتوتر يكون التكفير هو السلاح، وفي فترات الانفتاح لا يوجد تكفير، كل الخطابات متاحة، ومتميزة بالتفاعل في ما بينها، والتيارات الظلامية هذا التعبير لا أحبذ أن استعمله، لأنه سيرد في ما بعد ليقول لي بالتيارات المنحرفة عن العقيدة، يعني هناك تبادل تهم، السلطة هي تخلقه، وكذلك السلطة تكفر، ومشكلتنا في المجتمعات العربية لا نستمع إلي الرأي الآخر ولا نتسع له، وكل فرد في الجماعة يعتبر نفسه مالكاً للحقيقة وبالتالي نحن نختلف حول المعاني ولا نختلف حول الحقيقة، لا نختلف حول وجود الله وحتي لو اختلفنا حول وجود الله فهو اختلاف بالمعني، ان الاختلاف هو أمر طبيعي، وهو ليس جريمة، ان هذا قدرنا الانساني أن نختلف حول المعني.

    û في الوقت الذي وقفت الدولة إلي جانبك، كانت الدولة او الحكومات تفتح الجوامع، ما هو رأيك؟
    ــ هذا الأمر أنا ضده تماماً، ودور الحكومة هو تنظيم المجتمع، فاذا كانت الحكومة تضع حراسة كي تحمي نصر حامد أبو زيد لكي تمنع قتله، أنا اعتقد انها لو منعت كل خصوم نصر أبو زيد من الكلام، لكانت تقوم بدور قمعي، وأنا أري بان المجتمع المصري يحتوي علي بذور المجتمع المدني، لأن الناس يلجأون إلي القانون، ربما هناك فساد في القانون، لكن الكارثة الحقيقية أن تلجأ الدولة للدفاع عنا، وفي هذه الحالة نكون تابعين للدولة وخداماً لها، وبالتالي دور الدولة هو تنظيم المرور لضمان سلامة المواطنين، وهذا يتم من خلال وضع اشارات حمراء وأخري خضراء وهذا التعبير الرمزي يجب أن يكفل عدم طغيان سلطة علي سلطة أخري، وللأسف فالحكومات عندنا تمارس دور العسكر المرتشي.

    û هناك خطوط حمراء، ينبغي علي المفكر أو المثقف ألا يتجاوزها، وعمليه اختراقها تسبب مشكلة، في رأيك ما الحل؟
    ــ اذا تصورنا امكانية تنظيم المجتمع بهذا الشكل، فهناك خطوط حمراء، أو ما يسمي الحد الأدني من الاتفاق الاجتماعي، وهذه الخطوط ليست فاصلة، وانما هي خطوط مرنة لأنه باستمرار يجب تحديد الحد الأدني والأعلي والأسفل، ولا يوجد حد أدني ثابت في أي مجتمع مغمي عليه.
    والخطوط الحمراء توضع في مجتمع قمعي عن طريق سلطة سياسية أو سلطة دينية، وكلتاهما تسند الأخري، أو توحد السلطتين فتضع خطوط حمراء، المتمثلة بالحرام والحلال. وأنا اعتقد بان مهمة المبدع أو المثقف أن يخترق هذه الخطوط الحمراء، ويجب أن نلغيها، هناك خطوط مثل قضايا التحرر الوطني، قضية نضال ضد الاحتلال وهنا ليس خلاف، ولكن الخلاف يعود حول المعني، بمعني كيف نناضل ضد الاستعمار.
    المسألة حساسة جداً، ومسألة الخطوط الحمراء تمثل خطراً علي قضايا عدة، وأعيد وأكرر أن مهمة المثقف اختراقها وتجاوزها، وبالتالي هذا الاختراق يجب أن يكون مقبولاً، وفي اطار القبول والتكفير هناك خطوط غير مرئية تختلف من كاتب إلي آخر، وقد يصل إلي مرحلة الجنون جنون فني حتي هذا الجنون يجب أن نتقبله بالسماع. وينبغي أن نسمح بالجنون، لأن بالجنون أحياناً يتأسس العقل، وهذه المسألة صعبة جداً جداً، ولو تأملنا ما قاله المشركون عن محمد في آيات القرآن، نجد بأنهم تجاوزوا خطوطاً حمراء كثيرة..!

    û أنتَ اعتمدت علي تأويل الآيات القرآنية، وما أخذ عليك أن القرآن نص ميثولوجي وانه ليس نصاً أدبياً يماثل النصوص الشعرية باعتبار أن الشعر هو ديوان العرب، وانه أكثر من نص، نعم ان القرآن ينتمي إلي الكلام، ومن الخطأ الذي مارسه أبو زيد في تأكيد أن القرآن نص لغوي، وما ينطبق علي اللغة ينطبق علي القرآن؟
    ــ نعم.. قل لي القرآن أليس نصاً؟ وهل هو نص موسيقي؟ ام ماذا، واعتقد بان هناك امكانية للتأويل، وعندما نقول نصاً لغوياً، معني ذلك أن بنية اللغة في ثرائها وفي تعددها علي مستوياتها العديدة، والنص اللغوي لا يعني كلمة هكذا، ولكن القرآن تحت أي نوع من أنواع النصوص ينطوي؟ وهل يستطيع أحد أن يقول لي بأنه نص غير لغوي؟!
    أنا أقول بانه مكون من كلمات، وهذه الكلمات في ما بينها علاقات علاقات بالجمل وبالتالي فهو يرتل ويغني وينشد وله ايقاع وله بنية دلالية، وهذه هي اللغة..، وقد يقول قائل بانه نص إلهي.. نعم هذا صحيح نص لغوي إلهي، والكون كله نص إلهي، ولكن غير لغوي، وهذه اشياء بديهية، ولكن الناس ــ وللأسف الشديد ــ الذين يعترضون علي ذلك كثر، وأنا أقول بأن القرآن نص لغوي أدبي بامتياز.

    û يري الباحث والمفكر السوري أحمد برقاوي بأن الحضارة العربية الآن حضارة راكدة وهي غير قادرة علي التأثير والحوار في الحضارات الأخري، في رأيك هل هذا صحيح، وإلي أي حد توافق علي ذلك؟
    ــ هناك خلاف بيني وبين البرقاوي حول هذه الحضارة هي ثقافة، أم الحضارة مختلفة عن الثقافة، أنا أوافق علي هذا الكلام، ولكن استثني كلمة حضارة واضع مكانها كلمة ثقافة، وأنا بالنسبة لي كلمة الحضارة العربية ما زالت ملتبسة، والحضارات التي نشأت عندنا هل هي حضارة عربية؟ أم عربية اسلامية؟ أم اسلامية غربية؟ والحضارة التي نسميها عربية أو اسلامية لا تنتمي إلي العرب، وانما العرب ساهم في صنع بعضها، ونحن نعيش في ظل حضارة انسانية توجد فيها ثقافات مختلفة، والثقافة العربية ينطبق عليها ما يقوله الدكتور برقاوي، وليس هي عاجزة عن الحوار مع الآخر، وانما هي عاجزة علي الحوار مع نفسها، وهذا هو الشيء الأخطر، وبالتالي لا يمكن أن تقيم حواراً مع ثقافة اخري، وأنت عاجز عن الحوار مع نفسك، وجميع المحاولات التي يقوم بها المثقفون والمبدعون علي تفاوتهم محاولة منهم لإزالة هذا الجليد عن الثقافة العربية من أجل أن تنهض ويكون لها دور في الحضارة الانسانية.

    û الآن وبعد أن كثر الحديث عن حوار الحضارات وصدام الحضارات، هل هناك حوار أم صدام وكيف ينظر المفكر أبو زيد إلي ذلك؟
    ــ في الاثنين معاً، هناك حوار وصدام عسكري وسياسي، وفي صدام مصالح ولا نستطيع أن ننكر، فالصدام موجود، ولكن في وسط هذا الصدام ينشأ حوار، فالغرب يكتب عنا، ونحن نرد علي كتابات فوكوياما وهنتنغتون، وهذا ماذا يمسي؟! انه حوار والحوار اعتقد بانه يتم عن طريق الصدام، والحروب الصليبية أكبر نموذج للصراع واستمر قروناً، داخل هذا الصدام حدث حوار، وإذا نظرنا إلي نتائج الحروب الصليبية سنجد انتصاراً عربياً اسلامياً وهزيمة غربية، لكن نتائجها علي المستوي الحضاري نهضة غربية وركود اسلامي، واذا تأملنا القرون التاريخية نجد أن عبر الصدام كان هناك حوار وتعدد للحوارات.
    فنحن نضع المسألة في ثنائيات، وبالتالي نحن نعيش حالة صدام سياسي واجتماعي واقتصادي ولكن هذا يتم من خلال آليات حوار، وقد يأخذ أشكالاً متعددة أم علي شكل ردود أو بيانات أو مظاهرة.. والحوار بين الثقافات يتم من دون ارادة المشاركين فيه، واذا وضعنا الحوار في معني التفاعل فسيكون الصدام تفاعلاً، وبالتالي يتضمن معني الحوار.

    AZP09
    MNSO
                  

04-12-2003, 10:02 PM

أبنوسة
<aأبنوسة
تاريخ التسجيل: 03-15-2002
مجموع المشاركات: 977

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
ولقاء آخر مع المفكر نصر حامد أبو زيد (Re: zumrawi)

    القرآن نص تاريخي وثقافي
    مقابلة مع نصر حامد أبو زيد

    هذه المقابلة الدمشقية مع د. نصر حامد أبو زيد حملتُها بين أوراقي شهوراً عدة، وكنت أتمني أن تُنشَر في مصر التي يحملها أبو زيد في قلبه، رغم المنفى. أما الجولة الصغيرة في أحياء دمشق القديمة، وصولاً إلى مقبرة باب الصغير، حيث يرقد جثمان الشاعر نزار قباني، فآهٍ لو أنها كانت ممكنة في شوارع مدينة القاهرة! لكن مصر النهضة والثقافة والمؤسَّسة الجامعية باتت اليوم تضيق ليس فقط بفكر نصر حامد أبو زيد، بل بوجوده الجسدي على أرضها، وحتى بكتبه التي سُحِبَت من المكتبة العامة في الجامعة.
    قد يقول قائل إن الفكر الحرَّ والنقدي محكوم عليه أن يبقى أقلَّوياً، لكن المصيبة الكبرى أن عناصر التخلف والتقليد الأعمى واللاعقلانية صارت اليوم ثقافة تلفزيونية جامعة يروِّج لها في أوساط الملايين أشخاصٌ من أمثال الداعية عمرو خالد، ومن قبله الشيخ محمد متولي الشعراوي؛ هذا في الوقت الذي تُغلَق فيه أبواب المؤسَّسات الأكاديمية العربية، وعلى رأسها الجامعة المصرية، في وجه آخر ممثلي تيار النهضة العربية الذي بدأ بالشيخ محمد عبده وطه حسين، ويجب أن لا ينتهي مع نصر حامد أبو زيد. لكن هذا الأخير لم يُحرَم فقط من بلده وأهله ومنصبه الأكاديمي، لكنه حُرِمَ أيضاً من طلابه ومُنِعَ، زوراً وبهتاناً، من أن يزرع في عقول الأجيال الجديدة الفكر النقدي العقلاني الذي أخذه عمَّن سبقوه وطوَّره، والذي بدونه لا قيامة للعرب وللمسلمين من سباتهم الطويل.
    محنة نصر حامد أبو زيد هي محنة الثقافة العربية في عصرنا الراهن؛ وكرامة أستاذ الجامعة الجريحة هي كرامة البحث العلمي واستقلاليَّته المستباحة على مذبح الإيديولوجيا القروسطوية بمكوِّنيها الرئيسين: السلطة السياسية المستبدة، والسلطة الدينية المتحجِّرة. ورهان نصر حامد أبو زيد هو رهان المستقبل، والإسلام المنفتح، والتسامح الديني، والحرية المستعادة.
    يبقى رجاءٌ أخير عند قراءة هذه المقابلة: أن لا يستلَّ جندُ الظلمات والتكفير سيوفهم من أغمادها ويصرخون مجدداً: "وإسلاماه!" ولعلهم يقبلون – ولو لمرة! – أن يفتحوا عقولهم للتأمل والنقاش. فالقلم ينادي القلم، والفكر ينادي الفكر. وأين للسيوف الصدئة أن تنال من هذا الفكر المتألق!
    محمد علي الأتاسي
    ***
                  

04-12-2003, 10:07 PM

أبنوسة
<aأبنوسة
تاريخ التسجيل: 03-15-2002
مجموع المشاركات: 977

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: ولقاء آخر مع المفكر نصر حامد أبو زيد (Re: أبنوسة)

    يعتبر الكثيرون أن الشيخ أمين الخولي هو رائد التجديد في الدراسات القرآنية، وأنه أول من حاول تطبيق المنهج الأدبي في مقاربة القرآن. ما طبيعة علاقتك بفكر أمين الخولي؟ وهل تعرفت إليه شخصياً؟
    لم أعرف الشيخ أمين الخولي شخصياً، لكنه كان أول من نشر لي في مجلة الأدب مقالة حول أزمة الأغنية المصرية، وكنت يومها لا أزال يافعاً. من هنا نشأت العلاقة الروحية مع هذا الأستاذ الكبير. بعد دخولي الجامعة وموت الخولي قرأت كتبه، وكذلك أبحاث محمد أحمد خلف الله؛ وكنت، تالياً، واعياً أزمة الدراسات الإسلامية في قسم اللغة العربية، وواعياً مشكلة الجامعة المصرية. أحد الأساتذة الذين درَّسوا لي وأثَّروا فيَّ تأثيراً عظيماً في الجامعة كان شكري عياد؛ وهو تلميذ أمين الخولي، وكان قد حصل على درجة الماجستير برسالة عن يوم الحساب في القرآن تحت إشراف الخولي، ولكنه اضطر إلى تغيير تخصُّصه من الدراسات الإسلامية إلى الدراسات النقدية عندما أُلغِيَت رسالة أخرى تحت إشراف الشيخ أمين الخولي، هي رسالة الدكتوراه لمحمد أحمد خلف الله.
    هذا الخط في الدراسات القرآنية بدأ مع الشيخ محمد عبده الذي تكلَّم على التمثيل في القرآن، واعتبر أن القصص القرآني تمثيلات، بما فيها قصة آدم وخروجه من الجنة. والتمثيل هنا مفهوم بلاغي. الشيخ محمد عبده، وان استخدم لغة تقليدية، فقد وضع الأساس لهذه التوجُّه. وجاء بعده طه حسين ودفع المنهج إلى الأمام، في كتبه كلها طبعاً، لكن في الأخص كتاب في الشعر الجاهلي، عندما أشار إلى أن القصة القرآنية عن إبراهيم وإسماعيل ليس من الضرورة اعتبارها واقعة تاريخية. وواصَلَ بعده أمين الخولي عندما اعتبر أن أدبية القرآن هي السمة الأساسية التي تسبق أي سمة أخرى، وأن التحليل الأدبي وفن القول يسبقان أي تحليل فلسفي أو فقهي. هذا المنهج طبَّقتْه عائشة عبد الرحمن في التفسير البياني، ومحمد أحمد خلف الله في رسالته الفن القصصي في القرآن، وشكري عياد في رسالة الماجستير. وأنا أعتبر نفسي تواصُلاً مع هذا الخط، في سياق تطور النظرية الأدبية وعلم النصوص. عندما كتبت مفهوم النص كان الشيخ أمين الخولي مرجعية بالنسبة إليَّ في ما يسمى أدبية القرآن.
    ما هو في رأيك سبب فشل هذا المنهج في تثبيت أقدامه داخل الجامعة وتحقيق نوع من استمرار المؤسَّسات؟ هل السبب سياسي من خارج الجامعة؟ أم أن هناك أزمة داخل هذا الفكر نفسه؟
    هناك أسباب معقدة. ويجب أن نبقى على بصيرة إلى أن أي اقتراب من القرآن هو في الضرورة مخاطرة. وهذا قائم منذ القرن الثالث الهجري، العصر الذي اضطلعت فيه السلطة السياسية بدور أساسي في حسم الجدل الفكري الذي نشأ حول فكرة خلق القرآن. فالخليفة المأمون تدخَّل في البداية، وحاول فرض فكرة "خلق القرآن" بقوة الدولة، واضطهد من لا يؤمنون بهذه العقيدة؛ ثم جاء المتوكل وقام بعكس ذلك واضطهد المعتزلة. ومنذ صدور الوثيقة المتوكِّلية في ذلك الزمن حول العقائد الصحيحة لأهل السنَّة، التي تتضمن أن القرآن أزلي قديم، تجمدت المشكلة وأوقِفَت الأسئلة لصالح مؤسَّسة لاهوتية هي، إلى حد كبير، أشعرية–حنبلية. وبقي الأمر على هذه الحال إلى عصر النهضة ومشروع محمد عبده الإصلاحي الذي حاول أن يقترب من هذا السؤال. لكن يبدو أن بعض المخاوف جعلتْه يتراجع.
    لكن بعد الشيخ محمد عبده جاء طه حسين والشيخ أمين الخولي وغيرهما كثيرون. لكنهم تراجعوا عن هذا الطريق ولم يطرحوا الأسئلة حتى نهاياتها. ما هي الأسباب في رأيك؟
    يجب أن لا ننظر هنا إلى كلمة "تراجُع" في معناها السلبي، وأن لا ننظر إلى الفكر باعتباره يدور في فراغه الخاص، بمعزل عن حركة المجتمع.
    أسباب عدة يمكن إيرادها في هذا السياق: أولها، أن الجامعة الأهلية، كمؤسَّسة مدنية، نشأت ضعيفة. فمشروع النهضة ومشروع تحديث المجتمع قاما على بنية مزدوجة: هناك تحديث، لكن ليس هناك حداثة. لقد تم استيراد مؤسَّسات، مثل الأوبرا والسكك الحديدية والجامعة والبرلمان، لكن الممارسات استمرت وفق المنطق القديم. المجتمع المدني، ومنه الجامعة، بقي مجاوراً للمجتمع التقليدي، ولم يتم تطوير المؤسَّسات التقليدية التي بقيت ممتنعة عن الحداثة، التي جاءت في سياق إشكالي جَعَلَها ملتبسة، كونها حداثة غربية. وهذا واضح في إشكاليات مشروع الإصلاح الديني، كونه ولد مشروعاً ملتبساً يريد أن يحدِّث الإسلام حتى يتقبل الحداثة الغربية. وكأن التراث هنا خادم للحداثة وفق عناصر منتقاة من التراث.
    في أعقاب حرب 1967 اختلفت الصيغة، وانقلبت المعادلة بين المتن والفرع؛ ولم تعد الحداثة مرجع تأويل التراث، بل صار التراث هو مرجع تأويل الحداثة، وأصبح التراث هو المتن الذي يؤوَّل عليه.
    إذاً مشروع محمد عبده، وبعده مشروع طه حسين، كان يحمل من داخله أزمة، هي أزمة ناتجة من أزمة النهضة نفسها ووقوعها في التباس الأنا والآخر. طه حسين، عندما حذف العبارات الملتهبة من كتابه في الشعر الجاهلي، لم يتنازل عن منهج الشك الديكارتي وخط البرهان الذي اتبعه، لكنه بقي مسكوناً بهاجس دفاعي في ظل هجوم استشراقي. والمجال الذي يمكن أن نقيس فيه هذا التوتر، نجده في ترجمة الموسوعة الإسلامية في الثلاثينات من القرن المنصرم (أمين الخولي كان أحد المشرفين على هذا المشروع). فالمنهجية الصارمة والدقيقة للمستشرقين حظيت بالاحترام والتقدير عند علماء ذلك الزمن، إلا إذا اقترب الأمر من قداسة القرآن ومن شخصية النبي محمد؛ إذ إن الأمر كان يُفهَم آنذاك على أنه عداء للإسلام ونبيِّه – هذا مع العلم أن المستشرق كان ينطلق من إطار مرجعي ناقد لكتابه المقدس ولشخصية المسيح وفق منهج النقد التاريخي.
    فإذا اقترب الأمر من النص القرآني تولِّد نقاطُ الاحتقان حساسيةً تتبع من تماهي القرآن مع الذات والأنا. ومشكلة الهوية هنا، في ارتباطها الميكانيكي بالدين، لا يمكن فهمها بمعزل عن الالتباس الحداثي وقضية الاستعمار.
                  

04-12-2003, 10:08 PM

أبنوسة
<aأبنوسة
تاريخ التسجيل: 03-15-2002
مجموع المشاركات: 977

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: ولقاء آخر مع المفكر نصر حامد أبو زيد (Re: أبنوسة)

    فلنبتعد قليلاً عن مشكلة الهوية في علاقتها بالنص القرآني، من أجل إعادة صياغة بعض الأسئلة التي يطرحها المستشرقون والتي لا تزال بعيدة عن النقاش والنقد لدى المختصين بالدراسات القرآنية داخل إطار الفكر العربي والإسلامي. كمثال: لماذا لم يأمر الرسول، خلال كل فترة الوحي وحتى مماته، بجمع آيات القرآن وحفظها داخل كتاب، بل تم ذلك في عهد الخليفة عثمان بن عفان؟ كيف تحوَّل القرآن من نص شفاهي تحفظه الألباب إلى نص موثَّق ومكتوب؟ ولماذا؟ وماذا يمكن القول عن حال اللغة العربية في ذلك الزمن وخلوِّها من التنقيط؟ وماذا عن منزلتها كلغة بشرية، لم تتوقف عن التطور والتبدل، وعلاقة ذلك بقدسية النص القرآني باعتباره كلام الله المنزَّل بلسان عربي؟ ما رأيك: ألا يجب على المفكرين الإسلاميين أن يخوضوا في هذه القضايا؟ أم يجب تركها حكراً على المستشرقين؟
    بالتأكيد تجب عودة الباحثين العرب إلى هذه القضايا، وتغطية تاريخ القرآن، وكيف تحوَّل من نص شفاهي إلى نص موثَّق ومكتوب، وليس فقط في عصر الخليفة عثمان، حيث لم يكن النص مقروءاً بسهولة، لكونه كان خالياً من التنقيط ومن علامات الحركات، وصولاً إلى النسخة التي هي اليوم في أيدينا، بنقطها وعلامات الحركات. لكن هذا كله لا يزال يدخل في إطار اللامفكَّر فيه. وأنا كنت واعياً لهذا تماماً عندما كتبت مفهوم النص؛ لكنني استبعدتُه مؤقتاً، لأنني كنت مشغولاً ببلورة مفهوم للنص وبالقيام من داخل علوم القرآن التقليدية بمحاولة قراءة حديثة لهذه العلوم. وقد ظهر لي مفهوم التاريخ، بمعنى أن القرآن نص تاريخي وثقافي. وهذا ولَّد لدى بعضهم أزمة لا تزال مستمرة. إذ فُهِمَ من "التاريخي" أنه زماني؛ ومن "الثقافي" فُهِمَ أن المقدس قد تَأنْسَن. ومع ذلك، هناك في كتاب مفهوم النص إشارات واضحة لاحتمالات دراسة أوسع في المستقبل. فهذه الأسئلة عن تاريخية النص ولغته وتوثيقه أقوم اليوم بدراستها من خلال منهج النقد التاريخي، بدون إحساس بالخوف أو بالخطر، لكن بمحاذير لا يمكن أن نقلل من شأنها.
    لقد انفتح أمامي أفقٌ يفكِّك الأسْطَرَة التي ربطت ربطاً عضوياً تاماً بين لغة القرآن ورسالة القرآن، متوهِّمة أن لغة القرآن هي نفسها مقدسة ومنزلة.
    نصل إلى نقطة أساسية، أشرتَ إليها في إحدى مقالاتك الأخيرة، من خلال إيراد رأي جلال الدين السيوطي بأن القرآن أوحي إلى سيدنا محمد بالمعنى فقط، وأنه هو الذي وضع صياغته باللغة العربية. هذا الرأي يفتح على آفاق واسعة ويُحيلنا على فكرة جوهرية تقول إن القرآن مكتوب بلغة بشرية. وهذه اللغة تتطور قبل القرآن وبعده، وهي بمثابة كائن حيٍّ يتبدل بالاحتكاك مع الواقع من خلال تبدل دلالات الألفاظ ومعانيها واستخداماتها. لكن رغم ذلك، تبدو اللغة العربية اليوم لبعضهم وكأنها اللغة الوحيدة في العالم التي تتمنَّع في قواعدها النحوية على التغيير؛ فكأنها شيء مقدس!
    هذا وهم وغير صحيح! فالتركيب العربي اختلف وتبدلت بنيتُه، وإن كان النحو المعياري قد بقي على حاله.
    أنا متفق معك تماماً! ويكفي أن نقارن لغة الصحافة والأدب اليوم بلغة النصوص القديمة لندرك الحجم الهائل للتبدل والتطور الذي عاشته، وتعيشه، اللغة العربية. وهذا خير دليل على كون اللغة كائناً حياً ومتغيراً. ولكنْ لنعد إلى السؤال الأساسي: فأنت، من خلال السيوطي، وضعت يدك على جوهر المشكلة. ومع ذلك، لديَّ إحساس بأنك لا تزال متردداً في الذهاب بالأسئلة إلى منتهاها. وهذا ما نلاحظه أيضاً عند مفكر آخر هو محمد أركون. وكأننا نطرق الأبواب، ولكننا لا نعبرها إلى صلب الأسئلة الحارقة التي، بدونها، لا مجال للخروج من النفق!
    لا أستطيع أن أنكر الذي تقوله. التردُّد موجود في داخلي؛ لكنه لا ينبع من خوف على شخصي، بل يأتي من كونك تعمل في إطار أنموذج paradigm ثقافي تحاول اختراقه. ومهمة اختراق النظام المعرفي السائد والمستقر تتطلب أن تؤسِّس لنظام معرفي جديد. هذه المهمة لا يقوم بها شخص بمفرده، بل تتأسَّس من خلال التراكم. ونحن، حتى هذه اللحظة، نعمل على النظام المعرفي الذي أسَّسه الشافعي في القرن الثالث الهجري. هذا النظام المعرفي قائم على أن النص مقدس لأنه لغة ورسالة ليسا من صنع البشر. ومحاولة اختراق هذا النظام معناها أن تبيِّن أنه إذا كانت الرسالة إلهية فإن اللغة ليست إلهية، بل هي بشرية. وهذا ليس شأن القرآن وحده، بل شأن الكتب المقدسة كلها. أما الوحي فهو مفهوم مرتبط تماماً بنظام من التواصل غير اللغوي؛ وتالياً، فوحي القرآن للنبي محمد لم يكن عبر النظام اللغوي. وعليه، فإن صياغة الرسالة إنسانية. الآن، من أجل تأسيس فهم كهذا لا يكفي أن نتناول لغة القرآن، ولكن يجب العودة إلى تأسيس القواعد اللاهوتية التي تسمح بذلك.
    لكن تأسيس قواعد لاهوتية كهذه، هل يدخل في إطار دور الباحث، أم هو منوط برجال الدين؟ ولماذا لا يزال منهج النقد التاريخي عاجزاً عن الدخول بأسئلته إلى داخل الفكر الديني؛ إذ نراه أحياناً أسير محرَّمات هذا الفكر؟
    بالنسبة إلى الشق الأول من السؤال، فإن تأسيس قواعد لاهوتية جديدة هو بالتأكيد من مهام الباحث. نحن نخرج هنا من دائرة الإصلاح الديني وندخل في دائرة النقد التاريخي. وهذا الفرق حصل منذ 1967. أما في ما يخص الشق الثاني من السؤال، فالصورة تبدو كذلك؛ لكنها صورة خاطئة. وسأعطيك نموذجين لفكر ديني تقليدي يعمل وفق آلياته الخاصة، لكنه متأثر بالتحدِّي الذي يطرحه منهج النقد التاريخي، وإنْ لم يعترف بذلك. المثال الأول هو فتاوى الشيخ يوسف القرضاوي في خصوص علاقة الرجل بالمرأة، وما يرتبط بحياة المسلم في أوروبا. فالقرضاوي، وإن كان لا يسلِّم بفكرة التاريخ لكونها خارج إطار وعيه، متأثر بالتحدي الذي تطرحه هذه الفكرة، وهي فاعلة، رغماً عنه، في نطاق الفتاوى التي يصدرها من خلال المجلس الأوروبي للفتاوى. وهذا ما دفعه إلى القول بأنه يجوز للمرأة غير المسلمة التي تحوَّلت إلى الإسلام أن تبقي زواجها من غير المسلم. وإذا كان القرضاوي لم يبنِ اجتهاده على قاعدة ثورية في اللاهوت، أو على قاعدة الحرية، بل على قاعدة الدعوة، ومن أجل تحبيب الناس بالإسلام، فإن داخل قاعدة الدعوة التي يعلنها، وداخل هذه الفتوى، توجد كل إجراءات النقد التاريخي.
    والمثال الثاني هو رد شيخ الأزهر الطنطاوي على مرشد "الإخوان المسلمين" مصطفى مشهور حول موضوع الأقباط والجزية. فالشيخ الطنطاوي قال إن الجزية كانت ممارسة تاريخية. وإذا أنتَ جلستَ مع الشيخ الطنطاوي وسألته: "ممارسة تاريخية إزاي؟ ده قرآن!"، بمعنى أن تسأله: "هل تقول بأن هذا النص القرآني أصبح غير صالح؟" فأنت تكشف له هنا أن مفهوم القرآن، كنص تاريخي، تسلَّل إلى لاوعيه. إن العلاقة التي تبدو ساكنة بين الخطاب الديني ومنهج النقد التاريخي في أفق الخطاب العام، مردُّها إلى أن هذا الخطاب في يده مؤسَّسات، وفي يده سلطة، وهو متماهٍ مع السلطة؟ مع ذلك، فالأسئلة التي تقول أنتَ بامتناعه عليها هي نافذة إليه. وعلينا هنا أن نرى قدرة الهامش على اختراق المركز وإحداث حِراك فيه. بعد 11 أيلول، أصبحت هناك حمَّى اسمها "تجديد الخطاب الديني". طبعاً داخل هذه الحمَّى، قد يكون هناك خطاب سِجالي أو دفاعي أو اعتذاري. لكن على الأقل هناك تسليم بأن الأمر لم يعد يحتمل هذا الجمود.
    إذا كان الأمر لم يعد يحتمل هذا الجمود فلماذا تردَّد الباحث الذي أشرت إليه قبل قليل؟
    السؤال الذي يطرحه بعضهم عليَّ باستمرار، في هذه اللحظة، هو: إن الناس تموت باسم الأسطورة؛ وعدوك يوظف أسطورته، في شكل أو في آخر. فكأنك تريد أن تفكك لنا أسطورتنا من أجل أن يهزمنا الآخر بأسطورته. ويقولون: إننا الآن في خطر لا يحتمل ترف الاشتغال على النص والتأويل.

    طبعاً جوابي أن هذا ليس بالترف، وأن الفشل الذي نحن فيه عائد، في جزء منه، إلى تجمُّد وعينا. وإذا كنا نريد أن نحارب بأسطورتنا، فأسطورتنا قائمة على أسطورة العدو، وهي، تالياً، أضعف لأنها قائمة على أسسه. فهو يحاربك بالأسطورة إيديولوجياً، لكنه يحاربك بالعلم والعقل والوعي فعلياً.
    إذاً أنا متفق معك أن طرح الأسئلة يجب ألا يتوقف، ويجب أن نذهب بالأسئلة إلى منتهاها. وإذا كنت أنا أحد المتردِّدين – وهذا ما لا أنكره – فلأني لست بالمدَّعي. ففي النهاية، أنت تعمل في مناخ ثقافي لا تسلِّم به كلية، لكنك لا تستطيع أن تتجاهل أنك تريد أن تنتج خطاباً يجد قبولاً، وينفذ، وإن كان لا يجد إعجاباً. وهذا ما يسمِّيه محمد أركون بـ"الترضيات الضمنية"، أي أن تنتج نقداً لفكر أنت تنتمي إليه بالضرورة؛ بمعنى أنك تنتج نقدك من داخله، وأنت محكوم بقواعد إنتاج المعرفة فيه، حتى لو كنتَ رافضاً القواعد. إذاً نحن هنا في مأزق! وما أسهل الذي يكتبه صادق جلال العظم، على أهميته، لأنه يأتي من الخارج، أي من خارج دائرة الإيمان.
    نحن نتكلم هنا عن مجتمع وثقافة ومؤسَّسات؛ وأنت تطلب من المفكِّر أن يخترق المؤسَّسات بكتاب أو بمحاضرة أو ببرنامج تلفزيوني يتكلم فيه خمس دقائق، يُحذَف منها نصف الذي قاله! ومع ذلك، فهو يقوم بهذا عملياً، ولكن بإمكانات هي أقل بكثير من إمكانات هذه المؤسَّسات. فلنقل إن أي كتاب لا يمكنه أن يُحدِث اختراقاً إذا لم يتحول إلى ثقافة عامة عن طريق وسائط نقل المعرفة، من مستواها إلى مستوى وعي الناس. وهذا غير متحقق لنا، بسبب غياب الديموقراطية، وغياب الحرية، وغياب مؤسَّسات وسيطة، حاملة وناقلة للمعرفة، وبسبب سيطرة السلطة، في أشكالها المختلفة، على وسائل الإعلام. طبعاً أنا هنا لا أضع معوِّقات لنفسي، ولكن أكشف لك حدود تأثير ما أكتبه.
                  

04-12-2003, 10:11 PM

أبنوسة
<aأبنوسة
تاريخ التسجيل: 03-15-2002
مجموع المشاركات: 977

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: ولقاء آخر مع المفكر نصر حامد أبو زيد (Re: أبنوسة)

    أعود لقولك بتاريخية النص القرآني، وبأنها لا تعني زمنيَّته، ولا تعني إنكاراً لألوهيته، بل تعني أن القرآن نزل في التاريخ، وهو يتفاعل معه تفاعلاً حراً، وسيستمر عمله في التاريخ، وأنه يحمل ملامح القرن السابع الميلادي، ويدل على ممارسات العرب في ذلك القرن، وعلى موقعهم في العالم القديم، ويعكس لنا حالة التاريخ قبل نزوله ولحظة هذا النزول. قولك هذا يدعو إلى التأسيس عليه، ويفتح أفقاً واسعاً للنقاش، ويُسقِط الكثير من الحواجز أمام العقل. فكيف لك بعد ذلك أن تطلب منا التروِّي في طرح الأسئلة؟
    إذا اتفقنا على أننا نشتغل من داخل دائرة الإيمان فإننا نخوض في مسلَّمات راسخة، يحتاج تحريكها إلى التحلِّي بالصبر، والى وقت طويل، وإلى عدد كبير من الباحثين. تاريخية النص – القرآن مثلاً – تعني أيضاً أن هناك أجزاء منه سقطت بحكم التاريخ، وصارت شاهداً تاريخياً؛ أي أنها تحولت من مجال الدلالة الحية المباشرة إلى مجال الشاهد التاريخي. مثال ذلك تحوُّل آيات الرق والأحكام المتعلقة بها إلى آيات للعبرة بعد زوال نظام الرق من حياتنا. هذه الخطوة لا يكفي أن تقولها وتمضي. إنها هنا عملية خلق للوعي، وعليك أن تعمِّق هذا الوعي في استمرار بأمثلة وشواهد، وأن تكرر في استمرار ما كتبتَه. إذاً تاريخية النص، وانتماؤه إلى الثقافة، وانفتاحه على التأويل في ثقافات مختلفة، هذه القضية كسبت أرضاً، ولكنها لم تصر مستقرة داخل الوعي العام. طبعاً أنا لا أقول إن عليَّ الانتظار. فأنا أتحرك! ولكني الآن أتحرك وحدي بعدما حُرِمْت تلامذتي وموقعي داخل الجامعة المصرية.
    في السياق نفسه، أنت من الذين يشددون على أن القرآن هو مجموعة من النصوص التي رُتِّبت ليس وفقاً لترتيب نزولها الزمني، ولكن وفقاً لتراتيب أخرى لم تُكتشَف بعد، وأن التساؤل: لماذا لم يُرتَّب القرآن بحسب تسلسل نزول آياته هو أمر مشروع في البحث العلمي لأنه لا يشكك في الحكمة الإلهية ولا في قدسية النص.
    الحقيقة التاريخية الأكيدة هي أن ترتيب القرآن الحالي ليس هو ترتيب النزول، وأن ترتيب القراءة الحالي أحدَثَ تغييباً للسياق؛ وتالياً، فإن أي مقاربة منهجية لتفسير القرآن عليها أن تستعيد هذا السياق. في تحليل القرآن، هناك مقاربتان: التعاقُب diachronicity، والتزامُن synchronicity؛ وجمع الاثنتين مهم جداً في أي مقاربة. فلو حلَّلتُ القرآن فقط وفق ترتيب النزول سأكون متعاملاً مع القرآن على أنه كتاب في التاريخ وحسب، وهو ليس كذلك. أما إذا رضيت فقط بترتيب القراءة، أكون قبلتُ بإهمال الجانب التاريخي في التعامل مع القرآن. في عبارة أخرى، إذا كنا نقول إن القرآن تاريخي (بشري) وإلهي، فإن بنيته نفسها توضح هذه الازدواجية، وينعكس فيها هذان البعدان. فترتيبه المجزأ والمنجَّم يعكس أنه جزء من التاريخ، وأن هناك تطوراً داخلياً؛ أما إعادة ترتيبه وفق قواعد مغيَّبة عن التاريخ، لم نكتشفها بعد، فتؤكد فكرة أنه رسالة مقدسة.
    إجراء أي مقارنة بين بنية القرآن التاريخية وبنيته اللاتاريخية يحتاج إلى دراسات واسعة ومعمَّقة وإلى فريق عمل جماعي يشترك فيه عدد كبير من الباحثين. هناك 114 سورة، بينها المكي والمدني، عمل عليها في السابق المستشرقون. لكن لا بدَّ من العمل على الآيات، والرجوع إلى المادة التاريخية، والعمل على نقد المرويَّات الخاصة بأسباب النزول؛ ولا بدَّ من الاشتغال على البنية الداخلية للآيات، لأن الكشف لا يكون من خلال الوثائق الخارجية وحدها، ولكن من خلال البنية الداخلية كذلك.
    وإذا كان طرح الأسئلة الجوهرية يمكن أن يتم بواسطة أفراد فإن إنتاج المعرفة في حاجة إلى بنية علمية مؤسَّساتية. ويجب عدم تناسي أن النقد التاريخي للكتاب المقدس تحقق بثورة من داخل مؤسَّسة الكنيسة؛ أما مؤسَّساتنا الإسلامية فلا تزال تنتج ملايين الكتب عن الإعجاز العلمي للقرآن والسنة النبوية! ثم، هل عندنا فعلاً في العالم العربي والإسلامي دراسات إسلامية في المعنى العلمي للكلمة؟ لا. ليس هناك مؤسَّسة واحدة تدرس القرآن في اعتباره موضوع دراسة، بل في اعتباره موضوع إيمان ووعظ. الأزهر، كمؤسُّسة، لا يدخل في نطاق مهمته أن يدرس القرآن تاريخياً ويحلِّله؛ مهمته أن يعلِّم القرآن ويفسِّره. لذا يجب علينا ألا نطلب من مفكرين فرادى أن يقوموا بالمعجزات.
    عوداً على أسباب النزول، نجد أن القرآن لم ينزل نصاً واحداً، بل نزل على الرسول خلال ما يزيد على العشرين سنة. وإذا كنت أنت تذهب إلى أن كل نص من القرآن يتعلق بواقعة وبسؤال نشأ من الواقع، فإن ما يزيد على 80 في المئة من الآيات لا توجد فيها أسباب نزول. فكيف يمكن الوصول إذن إلى هذه الوقائع التاريخية المرتبطة بسياق نزول الآيات؟
    دعنا في البداية نخرج من إطار المصطلحات الملتبسة. علينا التفريق بين أسباب النزول، كمصطلح مستقر في المعنى الفقهي الوارد في المرويَّات التراثية، وما يمكن أن أسمِّيه السياق التاريخي للوحي. هذا السياق لا يمكنه أن يتجاهل مفهوم أسباب النزول في المعنى الفقهي؛ لكنه يتعامل معه تعاملاً نقدياً، لأن بعض هذه الأسباب متناقض، وبعضها الآخر يأتي تبريراً لمعنى معيَّن يريد المفسِّر أن يفرضه. كما يجب عدم الاكتفاء بأسباب النزول، لأنها كما ذكرتَ قليلة.
    مثلاً عندما تبدأ سورة البقرة بالآية: "ألم، ذلك الكتاب لا ريب فيه"، فهذا جواب عن سؤال لا نجده في الآيات التي تتبعها مباشرة، بل نجده في ما بعد حين يتكلم عن سؤال اليهود للنبي محمد أن يأتي بكتاب كألواح موسى. إذاً فكرة الكتاب موجودة في النص القرآني، ولها سياق نزول، لكن يصعب ربطه بالآية في افتتاح السورة، لأن السؤال موجود في آية أخرى وُضِعت في مكان آخر، وتالياً، عملت تغييباً لسياق الآية الأولى.
    نقطة أخرى هي ضرورة التعامل مع النص القرآني ليس فقط من خلال أسباب النزول، ولكن من خلال سياقه التاريخي في معناه الأشمل، ومن خلال شخصية النبي محمد وعلاقته بالمجتمع والثقافة. وهذه كلها لا تزال في إطار المحرمات.
    كيف تفهم اليوم علاقتنا بالسنَّة النبوية، وميل البعض إلى تقديسها واعتبارها جزءاً من الوحي؟
    أظن أن هذا الكلام تم تحليله في أسبابه التاريخية في شكل كاف. فمنذ اللحظة التي اعتُبِر فيها القرآن غير كافٍ وحده، تم تدشين السنَّة، ليس كنص ثانٍ أو كنص شارح، بل كنص يتمتع بالقيمة المعرفية نفسها التي يتمتع بها القرآن؛ حتى إن بعضهم يذهب إلى حدِّ القول بأن القرآن أكثر حاجة إلى السنَّة من حاجة السنَّة إلى القرآن! أعتقد أن هناك جانباً مشروعاً في هذا، وجانباً تمت المبالغة فيه. فلو أنت اقتلعت السنَّة من تاريخ الفكر الإسلامي لما بقي هناك شيء!
                  

04-12-2003, 10:11 PM

أبنوسة
<aأبنوسة
تاريخ التسجيل: 03-15-2002
مجموع المشاركات: 977

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: ولقاء آخر مع المفكر نصر حامد أبو زيد (Re: أبنوسة)

    مع ذلك، لا يعتبر أهل السنَّة أن الأحاديث النبوية هي وحي، لأنها ليست كلام الله.
    لا، هذا غير صحيح! فهي تُعتبَر بمثابة الوحي الذي صاغه النبي محمد؛ أي أنها كلام الله بلغة محمد. فالإمام الشافعي يعتبر أن السنَّة هي الحكمة المذكورة في القرآن. والفرق بين القرآن والسنَّة، المتجسدة أصلاً في الحديث، أن السنَّة هي كلام الله الموحى إلى محمد، لكنها ليست لغة الله، بل لغة محمد. أي أن الفرق لدى الشافعي هو أن القرآن متعبد في قراءته لأن اللغة من عند الله؛ أما السنَّة فهي قرآن لا يتعبد في قراءته لأن الصياغة هي صياغة محمد. والسؤال هنا: هل كان القرآن، قبل ظهور هذا التمييز، كلام الله ولغته في الوقت نفسه، أم لا؟ لذلك فإن طرح السؤال عن لغة القرآن مرتبط بطرح السؤال عن السنَّة، ومتى تكوَّنت المفاهيم الأساسية داخلها؛ وهذا في رأي سابق على الشافعي، الذي صاغها بشكلها النهائي.
    إذاً الباحث في تعامله مع نصوص السنَّة هو أيضاً أمام مشكلة قداسة، كحاله مع القرآن؟
    طبعاً! فالمشكلتان مرتبطتان الواحدة بالأخرى، كونهما وحياً. وهذا يتطلب منا أن نستعيد أيضاً مفهوم الوحي، وهل الوحي، وفق المفهوم الديني، أُغلِق بقوله تعالى: "خاتم النبيِّين" [الأحزاب 40]؟ ولماذا يؤمن المتصوفة بغير ذلك، ويقولون إن الختم هو ختم وحي التشريع، وليس وحي الفهم؟ حتى إن ابن العربي، في تناوله حديث الرسول "لا نبي بعدي"، يقول: "ليس أشد على أهل الله من هذا الحديث." لكنهم ذهبوا إلى أن لا نبي يشرِّع من بعد النبي محمد. الحال مشابهة لذلك عند الشيعة الذي يعتبرون أن توارث العلم عند الأئمة معناه استمرار انكشاف معنى الوحي في التاريخ.

    مفهوم الوحي له مكانه أيضاً داخل الفلسفة الإسلامية؛ وهو قائم على مفهوم الخيال الذي يشترك فيه النبي مع الفيلسوف. فالفيلسوف يتصل مع العقل الفعال أو العقل الأول مثلما يتصل النبي مع الوحي. والفرق بين النبي والفيلسوف ليس في الوحي، ولكن في تعبيرات الوحي، أي اللغة التي تعبِّر عنه من خلالها. حي بن يقظان وصل إلى كل المعرفة التي وصل إليها الوحي الذي آمن به سلامان، لكن اللغة التي يعبِّر فيها عن الحقيقة مختلفة. وهذا يحيلنا على ابن رشد. كل هذا يبين لنا أن المسلمين كانوا مشغولين بالأسئلة نفسها، وحاولوا أن يجدوا حلولاً لها.
    في عودتنا إلى جذور المشكلة لا نتبنى هذه الحلول، ولكن نتعامل مع المشكلة في سياقها التاريخي، ونربط هذه المفاهيم بتاريخها الثقافي، المقموع والمهمَّش. ونحن اليوم، عندما نجد حلولاً، لا نكون بدورنا خارج إطار الثقافة.
    لكنك في بعض كتاباتك تستدعي المعتزلة بحثاً عن مشروعية تاريخية، وتتبنى أحياناً الحلول التي يطرحونها، كفكرة أن ألوهية القرآن لا تعني أزليته، لأنه لا يمكن أن يقال إن القرآن أزلي بجانب الله، قديم مثل الله. فهذه الفكرة معتزلية بامتياز.
    لا. هنا يجب أن تقرأ أعمالي في شكل تاريخي. ففي كتابي الأول كان هذا صحيحاً؛ لكني لا أعتقد ذلك الآن. أنا اليوم أستشهد بهم فقط على قرائن ومواقف تاريخية، أكثر مما أستشهد بهم بحثاً عن مشروعية لفكرة أريد أن أطرحها. أما فكرة أزلية القرآن فأنا لا أتبناها في صيغتها الدينية، وغالباً ما أستخدمها في السياق السِجالي، كما في كتاب التفكير في زمن التكفير، لأن الذي يحاججك يضرب بقوة التراث، وأنت في ردِّك تحاول أن تبيِّن تناقضه، كونه يرتكز على تراث واحد. لذلك لا أعتقد أن العودة إلى خلق القرآن وقِدَم القرآن في الإطار المعرفي للمعتزلة يمكن أن يحل لنا أي مشكلة، لأننا اليوم داخلون في قضية لغة القرآن نفسها التي لم يتطرق إليها المعتزلة أبداً.

    في إطار موضوع اللغة ومدلولاتها، هناك بعض النظريات البراغماتية في الفلسفة الأنغلوساكسونية، وفي مقدمتها الأبحاث المتأخرة لفِتكنشتاين. وأنت تحاول أن تبرهن أن الكلمات والتراكيب اللغوية لا تجد معناها الأول والحقيقي داخل بنية النص نفسه، ولكن في إطار الاستخدامات العملية التي يصنعها بها البشر داخل سيرورة واقعهم الاجتماعي.
    اللغة، في مجال تداولها، هي بمثابة عملة متداولة. لكن النص يتم تداوله أيضاً كدالٍّ وكعلامة؛ ومجالات تداوُله تختلف، وهذا يعدِّد المعاني فيه. وإذا كان أصحاب نظرية النص الخام يتصورون أنهم يستطيعون العودة إلى النص في مجال تداوُله الأصلي، فإن هذا مستحيل لأن اللغة، كعملة تداول، لا تصاب بالتلف كالأوراق المالية! وتالياً فهي تقوم بتحولات في المعنى وتتجدد. مثال: في التداول الأوَّلي للنص القرآني لم يكن هناك تناقض بين "لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد" [الإخلاص 4] وبين "يد الله فوق أيديهم" [الفتح 10]. أي لم يكن هناك تناقض داخل الأنموذج الثقافي لدى الجيل الأول بين إله منزَّه تماماً، "ليس كمثله شيء" [الشورى 11]، وبين إله له عين ويد، يحب ويكره ويبغض. عندما تغيَّر هذا الأنموذج، لأسباب كثيرة جداً، وتغيَّر معه مجال التداول (العلاقة مع غير العرب، وترجمة الفلسفة، والاحتكاك مع الفكر اللاهوتي المسيحي، إلخ) انكشف التناقض. الفكرة هنا أنك يجب أن تكون مسلحاً بنظرية في اللغة، وبنظرية في النص، وبنظرية في علم العلامات، لأن النص يتحول، ككتلة، إلى علامات. مثلاً: كلمة "السماء" داخل العبارة القرآنية "السموات والأرض"، في تداولها الأصلي، تعني أي شيء علا؛ أما كلمة "السماء"، في تداولها اللاحق، فباتت تحيل على عالم غني بالملائكة والجن والعرش إلخ؛ أي تحولت المفردة اللغوية، من خلال مجال التداول، إلى مفردة علاماتية.
    إذاً النصوص الدينية هي في عملية تداول مستمرة؛ وهي قادرة على إعادة إنتاج معناها، ليس في معنى التكرار، ولكن في معنى التجدد والتطور. والأكيد أنها لا تقوم بذلك بنفسها، ولكن من خلال ما يصنعه المؤمنون بها من خلال التداول.
    استخدامك لمصطلح "الأنموذج" paradigm يحيلني على علاقتك الأكاديمية ببعض النظريات الغربية، وببعض المفكرين الغربيين. فنادراً ما نراك تستشهد بهم، أو تدخل في حوار مع بعض أطروحاتهم، رغم الانطباع المتولد لديَّ بحضورهم الخفي في أعمالك.
    إذا كنت أستفيد في أبحاثي من بعض النظريات، في نصوصها الأصلية أو في ترجماتها، فأنا في الحقيقة حريص أن أتمثل هذه المفاهيم الغربية في سياق الثقافة العربية. وأنا أكتبها باللغة العربية، فلا يشعر القارئ بالرطانة التي تحيل على لغة أكاديمية عالية. وما أسهل أن أقوم باستشهادات من فوكو ودرِّيدا، مثلاً؛ لكن هذا يصبح قصاً ولصقاً!
    لكن مصطلح paradigm الذي استخدمتَه يحيل على أبحاث توماس كون T. S. Kuhn عن القطائع العلمية داخل فضاء الفكر الغربي [راجع كتاب كون بنية الثورات العلمية]؛ وأنت تسحبه من سياقه إلى سياق آخر. والسؤال هنا: هل أنت تستخدمه بمعنى القطيعة العلمية لدى كون؟ ولماذا لا تحيل قارئ كتبك على مراجعك النظرية؟
    لا، ليس في الضرورة أن أكون استخدمت paradigm في المعنى نفسه، ولكن في معنى التغايُر في الأسس المعرفية على الأقل. أي أن paradigm، بالنسبة إليَّ، هو الانتقالة الأساسية في مجال الثقافة والمعرفة. ولا يهمني كثيراً بعد ذلك مسائل تاريخ استخدام المفهوم النظري داخل الثقافة الغربية. أنا لا أشتغل بتاريخ الفكر الغربي، أو بتاريخ الفلسفة، فأدخل في نقاش حول المفاهيم والأطروحات. وإذا استخدمت بعض هذه المفاهيم فأنا لا أستخدمها قبل أن تصبح واضحة.
    أما في موضوع المرجع، فأنا في الحقيقة لا أملك مرجعاً محدداً، لأنها قراءة تحولت إلى جزء مني. والقارئ الواعي بالمصطلح يعرف مراجعه، وخصوصاً أنني لا أستخدم أي مصطلح وهو لا يزال في حال التباس داخل مجال اللغة العربية. وأنت هنا تُلزِمُني، في شكل أو في آخر، أن أنخرط في هذه القضايا النظرية. محمد أركون مشغول بهذه القضايا؛ ويجب أن أقول لك أني مدين له كثيراً في موضوع المنهج. لكن انشغال أركون بهذا الموضوع لا يسمح له بالاشتغال كثيراً بما وراء ذلك. أنت يمكن أن تبذل عمرك كله في الكلام عن الوصفة والمقادير. أنا أحب أن أدخل المطبخ وأجرِّب!
    هذا يحيلنا على وجودك منذ سنوات خارج العالم العربي، كأستاذ زائر في جامعة ليدن، يدرِّس طلابه باللغة الإنكليزية. رغم ذلك، معظم كتاباتك لا تزال تصدر باللغة العربية، وتندرج في فضاء مسائل الثقافة العربية – وكأنك، روحاً وفكراً، لم تغادر قط العالم العربي!
    لا أرغب أن أُبعَد عن المجال الثقافي العربي؛ وخوفي الرهيب هو أن أبقى في الغربة فأنتمي إلى المجال الثقافي الغربي. عمري كله أمضيته في القضايا الساخنة داخل الثقافة العربية؛ وأنا حريص جداً أن تبقى معظم كتاباتي باللغة العربية، وأن لا أكتب إلا القليل باللغة الإنكليزية. فرغم أني على اطلاع على القضايا الساخنة في الفضاء الفكري الغربي، لكني لست طرفاً فيها، ولست جزءاً من حلِّ مسائلها.
    غالباً ما تستغل بعض الأوساط الثقافية والإعلامية في الغرب قضية التعاطف مع المثقفين المسلمين المضطهدين في بلادهم، بسبب آرائهم النقدية من الفكر الديني، كغطاء من أجل شنِّ حملات عنصرية ضد الإسلام كدين. ألم تتوجَّس حال وصولك إلى أوروبا من أن تُستخدَم قضيتُك في هذا الاتجاه؟
    هذه نقطة مهمة جداً. لكن دعني أقول إن السياق الذي سافرت فيه إلى هولندا خلق عندي تخوفاً شديداً من أن يحتفي بي الغرب باعتباري ناقداً للإسلام كدين. هناك إغراء حقيقي بالنسبة إلى أي إنسان مضطهَد ومظلوم تحت خيمة الحماية أن يستطيب حكاية الاضطهاد والظلم هذه. وأنا كنت واعياً، وحذراً جداً، حيال هذه النقطة، إلى درجة أنني رحت أبدأ محاضراتي هناك وأنهيها بطقوس الخطاب الإسلامي، الأمر الذي لم أكن أفعله في العالم الإسلامي! وهذا ليس تظاهراً، بل عائد إلى أني كنت متخوفاً حقيقة في البداية أن يحتفي بي الناس ويقدِّروني لأنهم يرون أني أنقض الإسلام من خارجه؛ في حين كنت حريصاً أن أؤكد لهم أني ناقد للفكر الإسلامي من داخل الإسلام، وأني مسلم، وأن القضية ليست قضية دينية، ولكنها قضية سياسية في الجوهر.
    ثمة جانب آخر يتعلق ببعض الباحثين. فبمجرد أن يكون الواحد منهم في الغرب يصبح لديه ميل إلى أن تعترف به المؤسَّسات الأكاديمية الغربية وتحتفي به وكأنه واحد منها. فتراه لا هو ينتمي تماماً إلى المجال الثقافي الغربي، ولا هو قادر على المحافظة على انتمائه إلى مجاله الثقافي الأصلي (إذا استثنينا طبعاً إدوارد سعيد). أما بالنسبة إليَّ، فأنا هنا "أستاذ زائر"؛ وهي صفة تجعلك جزءاً من المؤسَّسة الأكاديمية، ولكنك، في الوقت نفسه، تنتمي إلى فضائك الثقافي الخاص. وإذا كنت أنا نفسي ضد فكرة أن أعيش بإحساس الضحية فإن سعادتي كانت كبيرة لأن الجسم الأكاديمي في جامعة ليدن لم يتعامل معي كأستاذ ينشد الحماية، بل كأستاذ زائر له شرفه الخاص، كمفكر وكإنسان، ولا يرضى أن يتاجر بقضيته.
    في كتابك الأخير دوائر الخوف في خطاب المرأة نلاحظ تداخل الهمِّ الذاتي مع الهم الجماعي. ترى هل أثَّرت الأزمة التي أصابت زوجتك ابتهال يونس وأصابتك في مسارك الفكري؟
    الهمُّ الذاتي كان دائماً موجوداً في أبحاثي؛ لكنه في هذا الكتاب أصبح مفصَحاً عنه في شكل أوضح، وخصوصاً أنه كتاب عن المرأة. الأزمة التي تعرَّضنا لها، زوجتي وأنا، لا تزال تسمَّى قضية نصر حامد أبو زيد. حتى القوى الثقافية والوطنية، التي تعتبر نفسها تقدمية في مصر، تناولت القضية على أنها قضية رجل تعرَّض للاضطهاد؛ مع أنها، في الأساس والجوهر، ظلم فادح ارتُكِبَ في حقِّ امرأة. نحن هنا أمام شرف امرأة امتُهِنَ. وهي لم تؤلف أي كتاب عن الإسلام؛ ومع ذلك لا تزال القضية تُطرَح في الخطاب العام على أنها قضية نصر حامد أبو زيد وحده. وهذا دليل على أننا نعيش داخل ثقافة ذكورية. السؤال هو: لماذا لم ينفُذوا في حربهم ضد أبحاثي إلا عبر الحلقة الضعيفة التي هي قانون الأحوال الشخصية والطلاق؟ ولنفترض، جزافاً، أن ذلك المدعو نصر حامد أبو زيد يجب أن يعاقَب لأنه، حسب ما يقولون، اقترف مُنكَر الردَّة. طيب، فليعاقَب! لكنهم، كما قالت ابتهال، يتعاملون مع المرأة على أنها دمية الرجل! وأفضل عقاب له هو حرمانه دميته، مستغلين وجود جناح ضعيف في المجتمع والمؤسَّسات والقوانين. رغم ذلك كله، لا أريد أن أتعامل مع هذه القضية على أنها قضية شخصية. فأنا لو عشتها على هذا الشكل، وعشت آلامها فردياً، لكنت انتهيت من زمان.
    بالتوازي مع قضية الطلاق والتفريق، هناك قضيتك كأستاذ جامعي ومكانتك داخل الجامعة. فكأن معركتك الأساسية هي أيضاً دور الجامعة المصرية ومكانة الأستاذ الجامعي وحريته داخل هذه المؤسَّسة المدنية؟
    [صارخاً] طبعاً! هذه قضيتنا كلنا. وقد كتبت في مقدمة التفكير في زمن التكفير عن دور الجامعة، وعن الأسباب التاريخية التي أدت بهذه المؤسَّسة، المفترَض أنها مدنية وعلمانية، إلى أن تصبح ضعيفة وهشة، وأن تستسلم، منذ بدايتها، أمام أي هجوم تشنه عليها المؤسَّسة التقليدية.
    وعلى الرغم من عدم وجود عائق قانوني يحول دون عودتي إلى مصر، فأنا لم أعد حتى الآن، وقلت في شكل صريح أني لن أعود ثانية إلى مصر إلا كعضو في لجنة مناقشة رسالة ماجستير أو دكتوراه في الجامعة المصرية. لكن الواضح أن الجامعة وصلت إلى درك باتت لا تتحمل فيه حتى هذا الطلب لأستاذ لا يزال مسجلاً كعضو في طاقمها التدريسي. وفي المناسبة، حتى جامعة دمشق لا تتحمل ذلك. فقد حاول د. صادق جلال العظم أن يدعوني كعضو في لجنة مناقشة رسالة ماجستير، أو حتى للمشاركة في أسبوعها الثقافي، وفشل في ذلك!
    يقول بعضهم إنه لو كان لبيروت دورها الثقافي والجامعي الذي اضطلعت به في مرحلة الستينات لاستضافت الدكتور نصر حامد أبو زيد في جامعاتها، بدل أن يذهب إلى هولندا. ما رأيك بهذا الكلام؟ وهل أنت مستعد للعودة إلى العالم العربي إذا عرض عليك التدريس في إحدى جامعاته؟
    أنا في انتظار دعوة من الجامعة المصرية أولاً؛ ولكن أيضاً من أي جامعة عربية. ولو عُرِضَ عليَّ منصب أستاذ في أي جامعة عربية فسأترك هولندا في اليوم الثاني، لأني سأكون مع ناسي وأهلي. لكن إذا تحقق هذا فمعناه أن الجامعة مختلفة والمكان مختلف، لأنهم لن يدعوني لأصمت، ولكن لأعبِّر بحرية عن خطابي وتفكيري.
    هل تعتقد أن هناك أملاً في أن تربح معركتك داخل الجامعة المصرية؟
    يعني إيه "أربحها"؟! أنا اليوم داخل على الستين؛ وسأحال قريباً على التقاعد، بحسب قوانين الجامعة المصرية. يعني خلاص مافيش معركة، وعلى الأجيال الجديدة أن تخوض معركتها. الجامعة المصرية خُرِّبَت بفعل عوامل الفساد المنتشرة في المجتمع ككل – والفساد يسند بعضه بعضاً. أنا لا أتوقع أن تقوم قائمة للجامعة المصرية في المستقبل القريب، ولا حتى للجامعات العربية؛ فالوضع ليس أحسن حالاً هنا في دمشق. والمفارقة أنني هنا في سوريا؛ بمعنى أن المجتمع قبل بي. وحتى السلطة السياسية ليست ضدي؛ والدليل أنها سمحت بقدومي. بما يعني أن الجامعة أكثر تخلفاً من السلطة السياسية المستبدة، والاثنان أكثر تخلفاً من المجتمع! هذه ظاهرة خطيرة. فالمفروض أن تكون الجامعة هي رأس رمح التقدم في أي مجتمع؛ الأمر صار عندنا مختلفاً. في السابق لم يُكفَّر طه حسين داخل الجامعة. أنا كُفِّرت في الجامعة وحوكمت خارج الجامعة!

    كُفِّرتُ في الجامعة وحوكمت خارج الجامعة!
    هذا يقودنا إلى سؤال عن الواقع الثقافي المتردِّي في مصر. فأين نحن اليوم من ذلك البلد الذي شهد ولادة فكر النهضة وحَضَنَ كبار كتابها؟
    دعنا من الكلام بمنطق الحنين! الواقع أن إنهاك مصر لم يكن فقط لأسباب اقتصادية أو عسكرية؛ إنما حصل استنزاف للعقول خلال الحقبة النفطية نتيجة التحالف المصري–السعودي–الأمريكي والهيمنة السعودية على المؤسَّسات الدينية؛ فتحولت المؤسَّسة الدينية في مصر إلى مؤسَّسة وهابية بعدما كانت أشعرية. حدثت هجرة للمصريين بأعداد كبيرة جداً إلى دول النفط؛ فعادوا بعقول تم غسلها بمنطق إيماني مختلط بالثراء. وإذا كان مفهوم النفط نفسه، كبنية اقتصادية، معناه أن تتحقق الثروة من دون عمل؛ أي أن الثروة موجودة تحت الأرض، ولا يحتاج استخراجها سوى إلى الحفر، فإن هذا ساهم في ترسيخ بنية معرفية تعتقد أن المعرفة موجودة في الماضي، وهي لا تحتاج إلى إعمال العقل للوصول إليها، بل تحتاج فقط إلى نبش الماضي بحثاً عن حلول للحاضر. سيطرةُ هذه البنية المعرفية المنبثقة من ثقافة البترول جعلت العمل والتفكير بلا قيمة. حركة المدِّ التي كانت تخرج من مراكز الحضارة إلى مراكز البداوة انقلبت، بفعل البترول وأزمات الحروب، وأصبحت البداوة وقيمها وفقهها تزحف على الحضارة. وهذا، في رأيي، ساهم في التفكك الثقافي الذي نشهده اليوم، ليس في مصر وحدها، بل في الكثير من البلدان العربية، كسوريا مثلاً.
    من يتحدث معك يشعر أن لديك قلقاً أن لا تعود إلى مصر.
    آ... طبعاً! ليس القلق بل الحزن. كنت أتصور أنني تجاوزت هذا الموضوع؛ لكني صرت أفكر فيه كثيراً. هو ليس الحنين إلى مصر، أو القاهرة، أو حتى إلى الجامعة، ولكن رغبتي أن أزور قريتي وألتقي إخوتي الذين لم تُتَح لي الفرصة حتى لوداعهم. عايز أروح أسلِّم عليهم وأمشي. لكن لن تكون هناك زيارة للقاهرة في برنامج الرحلة. أروح القاهرة أعمل إيه؟ لو كانت الجامعة دعتني، كنت نزلت القاهرة برايتي كأستاذ جامعة. الوطن انحصر في مكان الميلاد؛ أما الوطن الواسع فلا أحد يستطيع أن يحرمني منه! غير أنني بتُّ أحمله داخلي.
    في الحفلة الغنائية التي قدَّمها الفنان محمد منير في دمشق، ضمن مهرجان دار المدى الثقافي، كنتَ جالساً في الصف الأول، ولاحظ الجميع أن دموعك انهمرت فجأة. ما السبب؟
    أريد أن أقول لك شيئاً، لكن لا أعرف كيف أقوله! أنا شخص عاطفي، ولا أخجل من ذلك. عندما شاهدت فيلم المصير، وسمعت لأول مرة أغنية "علِّي صوتك بالغُنى"، وجدتُها طريفة وضحكت. لكن عندما غنَّاها محمد منير هنا في دمشق ولحظة قال: "لسَّه الأغاني ممكنة"، انتفضت ولم أعد أستطيع أن أتحكم بدموعي، ورحت أسأل نفسي: أفعلاً هي ممكنة؟
    مرة دعتني جمعية أهلية اسمها "فضاءات ثقافية" إلى مدينة طنجة في المغرب. وفي ليلة الوداع أقيم عشاء، وراح بعض الأصدقاء يغنِّي للشيخ إمام، فانهمرت دموعي، فتوقفوا عن الغناء وأخذوا يعتذرون، متخيِّلين أنهم جرحوني. فقلت لهم: لماذا تتصورون أنه الألم؟ استمروا في غنائكم، ودعوني في دموعي؛ هي بمثابة غسيل لي!
    ما سبب إصرارك على زيارة قبر الشاعر نزار قباني في مقبرة باب الصغير بدمشق؟
    إن موت شاعر كبير كنزار قباني في إنكلترا، بعيداً عن وطنه، وعودته في نعش ليدفن فيه، وما حدث في لندن، عندما رفض بعض المتطرفين إدخال جثمانه للصلاة عليه في الجامع، كان له أثر في نفسي؛ فحدث نوع من التماهي، تخيلت فيه أن الأمر نفسه يحدث مع زوجتي إن هي قررت أخذ جثماني إلى مصر. طبعاً، هناك أيضاً الألم لفقدان شاعر كبير أغنى وعينا بشعره الإنساني العميق جداً والبسيط جداً. شاعر عظيم عاش في الغربة؛ وعندما مات، باتت السلطة مهتمة بالجثمان، وعرضت طائرة عسكرية من أجل نقله إلى وطنه! هذه الحادثة أيضاً مسَّت ألماً في داخلي.

    أمام ضريح الشاعر نزار قباني
    زرتُ أيضاً قبر ابن العربي وقبر صلاح الدين في دمشق، ولم أستطع أن أتوقف عن مقارنة تواضع قبر صلاح الدين بأبَّهة الأضرحة لبعض القادة العرب. لا أنكر أني، في الآونة الأخيرة، رحت أتأمل في مسألة الموت ومعنى القبر وقيمته. وكما قلت سابقاً، تمنيت على زوجتي أن تدفنني حيث أموت، ولا تتجشم عناء نقل جثماني إلى مصر. الأرض كلها أرض الله، ولا أريد لزوجتي، إلى جانب الحزن الذي ستعيشه، أن يقول أحدهم كلمة أو يكتب مقالاً يجرحها ويزيد عناءها. وحتى إذا عدتُ إلى مصر ميتاً، واحتُفِي بجثماني، فما معنى ذلك، إذا كنت سأموت وحيداً وبعيداً عن وطني؟!
    هل أنت مجروح من وطنك؟
    نعم، بمعنى الغضب، ولا أخجل من ذلك. فمن حقي أن أكون غضبان. أعتقد أن غضبي أحياناً يحميني؛ وهو لم يقل منذ لحظة مغادرتي قبل سبع سنوات. أحب مصر إلى درجة أني لا أريدها أن تكون مقبرة لي. مصر وطن حُرِمْت العيش داخله؛ فلماذا أُدفَن فيه؟! إذا كان وطنك لا يريدك حياً، يجب أن تحرمَه منك ميتاً.
    أنا أميِّز بين مصر الناس ومصر المؤسَّسات. لكن، مع ذلك، هي علاقة غريبة جداً. أحياناً أفكر بمصر وكأنها أمي؛ لكنها أمي التي رفضتني ونبذتني. هذا آلمني جداً إلى درجة أني – وكنت لم أغادر مصر بعد – قلت لها: يا مصر أنا عاوز أفتح للضوء كوة وأنتِ مش عايزة. فبخاطرك يا مصر!

    بخاطرك يا مصر!
    أنا بعيد عن المكان، وليس عن الناس. أحمل حبي للمصريين وغضبي من مصر... الجامعة... الجامعة جرحي.
    أجرى اللقاء محمد علي الأتاسي
                  

04-13-2003, 12:20 PM

Dr.Elnour Hamad
<aDr.Elnour Hamad
تاريخ التسجيل: 03-19-2003
مجموع المشاركات: 634

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: ولقاء آخر مع المفكر نصر حامد أبو زيد (Re: أبنوسة)

    الأعزاء زمراوي وأبنوسة
    استمتعت بقراءة ما ورد على لسان الدكتور نصر حامد أبو زيد، وأحب أن أسهم معكما في هذه المائدة العامرة حول طبقات النص، وكيفية مقاربته، وخاصة النص المقدس، وذلك بإيراد بعض مما خطه قلم الأستاذ محمود محمد طه، في هذا الصدد، في كتابه ـ القرآن ومصطفى محمود والفهم العصري ـ الذي صدر في بداية السبعينات من القرن الماضي
    النور حمد

    كتب الأستاذ محمود ما يلي
    التفسير والتأويل:

    للقرآن تفسير، وله تأويل
    وبين التفسير والتأويل إختلاف مقدار، لا اختلاف نوع.. فالتفسير قاعدة هرم المعاني، والتأويل قمته.. وتتفاوت المعاني، بين القاعدة والقمة، من صور الكثافة إلى صور اللطافة.. فلكأن التأويل هو الطرف اللطيف من التفسير..
    وقمة هرم المعاني عند الله، حيث لا عند، وفي ذلك قال تعالى: [عن القرآن بين القمة والقاعدة] (حم * والكتاب المبين * إنا جعلناه قرآنا عربيا، لعلكم تعقلون * وإنه، في أم الكتاب، لدينا، لعليّ حكيم) فإن كلمة (لدينا) هنا، ليست ظرف مكان، وإنما هي للتناهي، حيث ينتهي الزمان، والمكان، وذلك لدى عتبة الذات، التي لا يحويها الزمان، ولا المكان.. وبهذا المستوى فإن تأويل القرآن لا يعرفه، عند التناهي، إلا الله، وهذا معنى قوله تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب، منه آيات محكمات ، هن أم الكتاب، وأخر متشابهات، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه، ابتغاء الفتنه، وابتغاء تأويله، وما يعلم تأوله إلا الله.. والراسخون في العلم يقولون: آمنا به، كل من عند ربنا.. وما يذكر إلا أولو الألباب)
    ولقد أخطأ قوم فظنوا أن التأويل، من حيث هو، لا يعرفه إلا الله.. وذلك لا يستقيم، لأن تنزلات القرآن، من لدن الذات، عديدة، وللعارفين فيها مواضع، ولا ينقطع حظهم من المعرفة إلا عند حضرة الذات.. فإنه، في حضرة الذات، مبلغ العلم الحيرة.. وفي الحيرة خير كثير.. لأن بها يعرف العقل قدر نفسه.. و (من عرف نفسه فقد عرف ربه) كما قال المعصوم.. وقد إعتصمت الذات العلية عن أن يعرفها أحد معرفة استقصاء، وإحاطة، لأنها قد تفردت بالوحدة المطلقة، فليست ذات تشابهها، فتعرفها، ولذلك فقد قيللا يعرف الله إلا الله).. وإنما، من ههنا، جاء قوله تبارك، وتعالى: (قل لا يعلم، من في السموات والأرض، الغيب إلا الله، وما يشعرون أيان يبعثون * بل ادارك علمهم في الآخرة، بل هم في شك منها، بل هم منها عمون).. فالغيب هنا، هو الله، في إطلاق ذاته، فإنه لا يعلمه أهل السموات من الملائكة المقربين، ولا أهل الأرض من علماء الجن والإنس.. بل استغرق علم هؤلاء علم الآخرة.. بل، حتى هذه، لم يستقصوها علما، ولم يحصوها يقينا.. قال تعالى: (بل ادارك علمهم في الآخرة) يعني اجتمع، ونفد، فلم يستقص، ولم يحط.. (بل هم في شك منها) لقصور علمهم بها.. (بل هم منها عمون).. فتلك ثلاث درجات من العلم، كلها انحصرت في حضرات التنزلات، وانحسرت عن حضرة الذات.. وحضرات التنزلات كثيرة، لا تحصى، ولكنها جميعا تنضوي تحت ثلاث، فإن الذات العلية، تنزلت من إطلاقها، وصرافتها، إلى مرتبة الاسم – العلم – ثم إلى مرتبة الصفة – الإرادة – ثم إلى مرتبة الفعل – القدرة – .. ومن هذه الثلاث جاء خلق المخلوقات، فحضرة العلم أحاطت بالمخلوقات، وحضرة الإرادة خصصت الصورة الأولى، وحضرة القدرة أبرزتها إلى الوجود الأول، وفق تخصيص الإرادة، وإحاطة العلم، ثم باشرت إبراز تعاقب الصور في نسق حكيم، وتسلسل دقيق، تضبط منازله الإرادة الرشيدة، ويوجه خطوه العلم المحيط إلى سدة الذات العلية في علاها.. والسير إلى سدة الذات العلية، في علاها، إنما هو تطور من الكثافة، إلى اللطافة، أو قل من الجهل، إلى المعرفة.. وذلك هو مقصود الله حين قال، تعالى من قائل: (كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب، وبما كنتم تدرسون) وهو مقصود المعصوم حين قال: (تخلقوا بأخلاق الله.. إن ربي على سراط مستقيم)..
    وفي هذا التطور يقول تعالى: (يأيها الإنسان!! إنك كادح إلى ربك كدحا، فملاقيه) ولا تكون ملاقاة الإنسان ربه بقطع المسافات، وإنما هي بتقريب الصفات من الصفات – بتقريب صفات العبد، من صفات الرب – وذلك هو معنى الأمر بالتخلق بأخلاق الله..

    أخلاق الله

    وأخلاق الله هي القرآن.. وهذا هو معنى قولنا (أن القرآن هو كلام الله).. هذا مجمل الأمر.. ولكن أخلاق الله، لكي تفهم، ولكي تقلد، لا بد في أمرها من التفصيل، وكذلك كان التفصيل في القرآن.. فالله في ذاته الساذج لا يعرف، ولا يسمى، ولا يوصف، ولكنه بمحض فضله تنزل من صرافة ذاته، إلى منازل أسمائه، وصفاته، وأفعاله.. ثم أنزل القرآن ليحكي هذه التنزلات، لكي يعرفه عباده، فيسيروا إلى عتبة ذاته.. والتنزلات في جملتها سبع، تتكرر بغير حساب.. وهذه السبع سميت بالصفات النفسية، وهي: الحياة، والعلم، والإرادة، والقدرة، والسمع، والبصر، والكلام.. هذه صفاته، تبارك، وتعالى، وهي، في نفس الوقت، صفات عباده.. فإنه قد خلقهم على صورته.. بيد أن صفاته، تبارك، وتعالى، في مطلق الكمال، وصفات عباده في طرف النقص.. ثم هو أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وأوجب الواجبات، ليسير عباده إليه ليلاقوه.. ولقد أسلفنا القول بأن السير إلى الله ليس بقطع المسافات وإنما بتقريب الصفات من الصفات – تقريب صفات العبد التي هي في طرف النقص، إلى صفات الرب، التي هي في مطلق الكمال – وإنما جاء القرآن ليعرف بهذه الصفات الإلهية حتى تدركها العقول، وليختط السير الذي به يتم تأديب العقول، حتى تزيد إدراكا، كل حين، لأفعال الله، وصفاته، وأسمائه، وحتى تقوى على السير في محاكاتها، كل حين.. وإلى ذلك الإشارة بقوله: (وقل رب زدني علما)..
    وعن تنزلات القرآن هذه قال تعالى: (وقرآنا فرقناه، لتقرأه على الناس على مكث، ونزلناه تنزيلا).. فالقرآن في مقام الجمع، والفرقان في مقام الفرق.. وقوله (فرقناه) تعني: فرقناه من بعد جمعية، فعددنا وجوهه.. وتعني أنزلناه منجما، ومفرقا.. وقوله: (ونزلناه تنزيلا).. يعني تنزيلا من بعد تنزيل، في مراتب التنزلات السبع، التي سلفت الإشارة إليها..
    وهذه التنزلات إنما هي تنزلات الذات، من صرافتها إلى مراتب الصفات.. وهذه الصفات أعلاها صفة الحياة، وأدناها صفة الكلام، وهي مرتبة على هذا النحو: الله حي، وعالم، ومريد، وقادر، وسميع، وبصير، ومتكلم.. وهو في ذلك حي بذاته، وعالم بذاته، ومريد بذاته، وقادر بذاته، وسميع بذاته، وبصير بذاته، ومتكلم بذاته، لا يقع منه شئ من هذه الصفات بجارحة على نحو ما يقع منا نحن.. فهو تعالى، لا يتكلم بلسان، ولا يبصر بعين، ولا يسمع بأذن، وإنما يتكلم بذاته، ويبصر بذاته، ويسمع بذاته.. قال تعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله، ثم أبلغه مأمنه.. ذلك بأنهم قوم لا يعلمون)
    ولكن يجب أن يكون واضحا فإن هذا القرآن العربي ليس له معنى واحد، هو ما تعطيه اللفظة العربية، وإنما معانيه لا تحصى، ولا تستنفد.. ولكل حرف منه معنى، من حيث صفة الحياة، ومن حيث صفة العلم، ومن حيث صفة الإرادة، ومن حيث صفة القدرة، ومن حيث صفة السمع، ومن حيث صفة البصر، ومن حيث صفة الكلام.. كل أولئك في آن معا.. وهذا معنى القول بأن الله لا يتكلم بجارحة، وإنما يتكلم بذاته.. والذات موصوفة بجميع هذه الصفات، وفي آن معا.. والصفة قديمة قدم الذات، وكل صفة، إنما هي قائمة بالذات، وهي، عند التناهي، ليست شيئا غير الذات.. والتناهي المقصود هنا، ليس تناهي المكان، ولا تناهي الزمان وإنما تناهي العقول في العرفان..
    والذات إنما تنزلت لنفهم عنها، وهذه العلة في التنزل هي نفسها العلة في كلام الله باللغة العربية.. وفي جعل القرآن عربيا.. قال تعالى في ذلك: (حم * والكتاب المبين * إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون * وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم).. فعلة جعله قرآنا عربيا إذن هي: (لعلكم تعقلون).. وأما حقيقته، فإنما هي فوق اللغة العربية: (وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم).. و(لدينا) هنا، كما أسلفنا، ليست ظرف زمان، ولا ظرف مكان، وإنما هي للتناهي، حيث ينعدم الزمان، والمكان، وذلك حيث الذات بلا كيفية نعلمها – حيث لا حيث – وللقرآن، في كل منزلة، من منازل الذات السبع، معنى يختلف اختلاف مقدار عن سابقه.. ونحن لا نعرف إلا طرفا حتى مما يعطيه ظاهر اللفظ.. وهذا هو ظاهر القرآن، وهو منطقة الشريعة الظاهرة.. ثم تدق معاني القرآن صعدا، من مستوى ما يحوي اللفظ من معان، إلى مستوى ما يعطي اللفظ من إشارة.. (الإشارة التي هي في صور الكلمات)، إلى مستوى ما تعطي الإشارة، (الإشارة التي هي في صور الحروف)، إلى مستوى ما تنقطع العبارة، والإشارة.. وهذا هو السر في أن القرآن افتتح تسعا وعشرين سورة من سوره بأحرف الهجاء.. وما من مفسر للقرآن يحق له، كمفسر، أن يتحدث عن تفسير الحروف، لسبب واحد بسيط هو أن معانيها، خارجة عن مستوى التفسير، وداخلة في منطقة التأويل.. هي قمة هرم المعاني، في حين تكون الكلمات هي قاعدة هذا الهرم.. ولذلك فإن المفسرين لم يسعهم، عند الكلام عن الحروف، إلا أن يقولوا: (الله أعلم بمراده).. يعني (ولا يعلم تأويله إلا الله).. ومن خاض في تفسيره، في معنى الحروف، من المفسرين، لم يأت بشئ يحسن السكوت عليه.. ولولا أن المقام هنا لا يتسع لتحدثنا عن الحروف حديثا مفصلا، ولكننا إنما قصدنا بالحديث في هذا الكتاب عن التأويل أن نفي بوعدنا الذي قطعناه لقرائنا، حين قلنا في مجلة الأضواء: إن الإنسانية اليوم لا تحتاج إلى تفسير القرآن، وإنما تحتاج إلى تأويله.. وفي النية إخراج كتيب عن القرآن بين التفسير والتأويل، وستكون الفرصة يومئذ مواتية للحديث المفصل في ذلك، إن شاء الله..

    التأويل

    قلنا في صدر حديثنا هذا : ( للقرآن تفسير، وله تأويل.. وبين التفسير والتأويل اختلاف مقدار لا اختلاف نوع.. فالتفسير قاعدة هرم المعاني، والتأويل قمته.. وتتفاوت المعاني، بين القاعدة والقمة، من صور الكثافة، إلى صور اللطافة.. فلكأن التأويل هو الطرف اللطيف من التفسير).. هذا ما قلناه في صدر هذا الحديث، ونقول الآن بعد أن عددنا مراتب تنزلات الذات، وهي عينها تنزلات القرآن أن التفسير يتناول القرآن فيما تعطي ظواهر الكلمات العربية.. وهذا حظ مشترك، أو يكاد يكون مشتركا بين العارفين.. ثم تتفاوت حظوظ العارفين من القرآن في التنزلات، من منزلة صفة الكلام، إلى منزلة صفة الحياة.. والصورة العامة لهذا التفاوت ما حكته الآية: (وفوق كل ذي علم عليم)، إلى أن ينتهي العلم إلى (علام الغيوب) في معنى الآية: (قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب، إلا الله).. والتفاوت بين حظوظ العارفين من القرآن، إنما مجاله التأويل، وليس مجاله التفسير، على الإطلاق.. وكلما تسامت المعاني نحو القمة، كلما قل عدد العارفين، وكلما قصر تطاول المتطاولين.. ثم يسيرون في الندرة حتى ينقطعوا.. فإن المجال مجال سير، وترق غير متناه.. والغاية عند الله، حيث لا عند.. وذلك مضمار السير السرمدي، والترقي السرمدي، في الآن، وفي الأبد، وفيما بعد الأبد، من السرمد الذي يخرج عن الزمان، أو يكاد إلى من لا يحويه الزمان، ولا المكان..
    وعندما يتناهى القرآن إلى الذات، لا يعرفه عارف، ولن يعرفه.. وما يعرفه ههنا غير الله، لأنه (لا يعرف الله إلا الله) أو ، على غرار الآية السالفة،: (قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب، إلا الله) وهذا هو مستوى التأويل، الذي لا يعلمه إلا الله، ويؤمن به الراسخون في العلم.. ولقد أشرنا إلى خطأ أصحاب التفسير، حين ظنوا أن التأويل، من حيث هو، لا يعلمه إلا الله، وما ينبغي أن يخوض فيه العارفون.. ومثل هذا الخطأ، قد أنى له أن يصحح، لينفتح باب التأويل أمام العباد المجودين، فإن فيه حقائق القرآن.. والتأويل ليس هواجس نفس كثيرة الخطرات، وإنما هو واردات عقل تأدب بأدب الشريعة، ثم بأدب الحقيقة، حتى باشر حق اليقين.. والتفسير مشمول في التأويل، بمعنى أن كل تأويل يجب ألا يتجافى مع ظاهر النص، وكل ما هناك أن الكلمات تنتقل إلى دقيق المعاني، ولطيفها، بدل غليظها، وكثيفها..
    وإنما مضمار التأويل، وفي أدنى منازله من التفسير، تجيء معرفة الحكمة، وراء النصوص، لأن النصوص، إنما هي وسيلة إلى غاية، وليست هي غاية في ذاتها.. وعلى النصوص تقوم قوانين التعامل، وتقوم قواعد الأخلاق.. والدين كله أخلاق، حتى لقد قال المعصوم: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).. وقال: (حسن الخلق خلق الله الأعظم).. وما القرآن إلا كتاب أخلاق.. والكلمة: (لا إله إلا الله) التي هي خير ما جاء به القرآن، إنما هي مطالبة بالتخلق بتوحيد القوى المودعة في البنية البشرية – العقل، والقلب، والجسد – ولقد قلنا مرارا أن التوحيد صفة الموحد [بكسر الحاء]، وليس هو صفة الموحد، وسيجيء ذكر ذلك عند الحديث في هذا الكتاب عن (لا إله إلا الله).
    والقانون والأخلاق شيء واحد فليس الاختلاف بين القانون والأخلاق اختلاف نوع، وإنما هو اختلاف مقدار.. فالقانون قاعدة الأخلاق.. والقانون يتطور من قاعدة كثيفة نحو قمة لطيفة، هذه القمة هي الأخلاق.. وكل قانون لا يتطور فهو ميت.. وكل قانون ، حين يتطور، إنما يتطور باستلهام قضايا كانت قبلا في منطقة الأخلاق ليجعلها ضمن قواعده هو، وهذا العمل لا يتم إلا حين نعرف نحن دقائق معاني النصوص، ونعرف تأويل الظاهر.. وأصل التأويل هو تفسير ما يؤول إليه الشيء، أي ما يرجع إليه الشيء.. وقول الله تعالى: (وأوفوا الكيل، إذا كلتم، وزنوا بالقسطاس المستقيم، ذلك خير، وأحسن تأويلا) يعني أحسن عاقبة، ومآلا، ومرجعا.. ولما كانت عاقبة الأمور جميعها إلى الله، أصبح التأويل هو معرفة الله في تنزلاته في مراتب القرب من العباد ليعرفوه، حتى إذا انتهى الأمر في عروجه إلى الذات انبهمت السبل، وظهر العجز، ووقعت الحيرة، وجاء معنى قوله تعالى: (ولا يعلم تأويله إلا الله)..
    وبمعرفتنا للتأويل نطور القاعدة، وهي الشريعة، ونطور القمة، وهي الأخلاق، ويرتقي بذلك مستوى الجماعة، ويرتقي مستوى الأفراد.. والسير إنما هو سير من المحدود إلى الإطلاق.. وليس في مثل هذا السير مجال للتوقف عن الترقي في الأطوار.. والقاعدة المثلى هي قوله، تبارك، وتعالى، عن نفسه (كل يوم هو في شأن).. وهذه في حق العبد أن يكون في كل لحظة جديدة، جديدا في فكره، جديدا في شعوره..

    الأصول والفروع

    ومن معرفة التأويل تجيء معرفة أصول القرآن، وفروعه، من الآيات المكية، والآيات المدنية، وكيف أن آيات الأصول هي المقصودة بالأصالة، وآيات الفروع هي المقصودة بالحوالة.. ومعنى هذا أن الناس، لما لم يستطيعوا التكليف في مستوى الأصول نزل بهم إلى مستوى ما يستطيعون، فكانت آيات الفروع.. وآيات الأصول هي الآيات المكية، وآيات الفروع هي الآيات المدنية.. ولقد اعتبرت آيات الأصول يومئذ منسوخة.. واعتبرت آيات الفروع صاحبة الوقت.. وما نسخ آيات الأصول، يومئذ، إلا إرجاء لها ليوم يجيء فيه وقتها، وذلك حين تستعد البشرية لتطبيقها.. ولقد تحدثنا عن كل أولئك بتفصيل واف في كتابنا (الرسالة الثانية من الإسلام).. فليراجع في موضعه.. فإن فيه يظهر ما أردنا، حين قلنا في مجلة الأضواء في الرد على سؤالها عن مؤهلات الدكتور مصطفى محمود، إن البشرية اليوم لا تحتاج إلى تفسير جديد للقرآن، وإنما تحتاج إلى التأويل.. هذا ولنا إلى (القرآن بين التفسير والتأويل) عودة إن شاء الله، كما وعدنا آنفا..
                  

04-14-2003, 06:12 AM

zumrawi

تاريخ التسجيل: 08-31-2002
مجموع المشاركات: 0

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المفكر نصر حامد أبو زيد لـ(الزمان): ثمة ظلاميون يتربصون بروح النص (Re: zumrawi)

    شكرا ابنوسة على اللقاء
    شكرا د.النور حمد على مقال الاستاذ محمود محمد طه الرجل
    رفد الفكر السودانى بفضاءات واسعة
                  

04-14-2003, 03:31 PM

THE RAIN
<aTHE RAIN
تاريخ التسجيل: 06-20-2002
مجموع المشاركات: 2761

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المفكر نصر حامد أبو زيد لـ(الزمان): ثمة ظلاميون يتربصون بروح النص (Re: zumrawi)

    الأعزاء

    زمراوى

    أبنوسة

    د. النور

    التحية لكم بكل ما فيها من سلام ومودة، وأنتم تتأبطون مشاعل القول، وما أحوج فسحات العقول الآن تحديدا، للتنوير

    الشكر لكم على مدنا بهذا القبس المضيئ
                  

04-14-2003, 04:20 PM

doma
<adoma
تاريخ التسجيل: 02-04-2002
مجموع المشاركات: 15970

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المفكر نصر حامد أبو زيد لـ(الزمان): ثمة ظلاميون يتربصون بروح النص (Re: THE RAIN)

    الابن زمراوي ,الحبيبه ابنوسه,والمحترم دكتور النور تحيه وموده مع خالص الشكر
                  

05-10-2003, 02:18 AM

هدهد

تاريخ التسجيل: 02-19-2003
مجموع المشاركات: 0

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المفكر نصر حامد أبو زيد لـ(الزمان): ثمة ظلاميون يتربصون بروح النص (Re: doma)



    بالامس كنا جلوسا نفتح هم النقد والكتابة وكان الحديث عن نصر حامد ابوزيد وجاءت المقارنه الصعبة والعميقة بين استاذنا محمود محمدطه ونصر حامد ابوزيد ونبت السؤال من اين جاء دكتور نصر حامد ابوزيد بكل هذا العمل الجميل وهل حقيقة انه كان استاذاَ في جامعة القاهرة الفرع في وقت من الاوقات وهل كل ماتحدث عنه نصر حامد ابوزيد هو حقا حق فكري للاستاذ الجليل محمود محمد طه ارجو ان نوسع الحوار ونعمق شكل المقارنه
                  

05-10-2003, 02:28 AM

هدهد

تاريخ التسجيل: 02-19-2003
مجموع المشاركات: 0

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المفكر نصر حامد أبو زيد لـ(الزمان): ثمة ظلاميون يتربصون بروح النص (Re: هدهد)

    هذا هو حديث ابن النخيل في البوست الاخر
    نصر حامد ابو زيد عن بن لادن:

    العزيز هدهد

    التحية لك و انت تلفت الانتباه الى هذا المفكر الذى اقام الدنيا ولم يقعدها
    فهل قرأت خليل عبدالكريم فهو الرائد وهل قرأت القمنى فثلاثتهم رواد مدرسة واحدة

    الدكتور نصر هو رائد مدرسة فهم النص القرآنى فى صياغه التاريخى و الاجتماعى الشامل لان غير ذلك يكون الامر ليس فهم دلالات القرآن وانما فرض دلالات على القرآن

    و قد قال ان فهم النبى للنص يمثل اولى مراحل حركة النص فى تفاعله بالعقل البشرى وبذلك تحول من كونه نصا الهيا وصار فهما نصا انسانيا لانه بذلك تحول من التنزيل الى التأويل


    و قد قال اهدار الواقع لحساب نص جامد ثابت المعنى و المبنى و الدلالة يحول كليهما الى اسطورة

    الخلق هو أفتتاح التاريخ و بداية المعرفة

    من كتبه الامام الشافعى و تاسيس الايدلوجيا الوسطية و نقد الخطاب الدينى

    ولى عودة

    و دمت

    أبن النخيل
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de