كان الطبيب ( م.ج ) يعمل في أحدي المستشفيات الحكومية ، فقد وقع عليه الاختيار من أجل ادارة المستشفي ، بحكم أنه ينتمي لنفس المنطقة ، وبحكم علاقاته الواسعة مع المنظمات الانسانية ، ففي احدي المرات نجح في قيادة حملة التحصين ضد شلل الاطفال ، كما استطاع توفير المصل المضاد للسحائي ، فقد كان هناك نوعا من التواصل بينه وبين الاهالي ، وفي مرات كثيرة كانوا يفزعون اليه في أوقات متأخرة من الليل طلبا للنجدة والمساعدة ،وفي ليلة حالكة السواد من شتاء ذلك العام ، فقد بدأت أوراق الاشجار الصفراء في التساقط ، توقفت عربة قرب منزل الطبيب ، فقد تعرض سائق حاصدة القمح الي حادث ماساوي ، وهو يحاول اخراج حشائش القمح من حوض التغذية أنزلقت يده الي الداخل ، فانقطعت بعد أن مزجت دماؤه الذكية محصول القمح الطري ، صحا الطبيب علي صوت الجلبة ، فهرع الي المستشفي وهو في صحبة السائق ، فقد الجريح جزءا كبيرا من دمه ، وكان لا بد من احضار دم بديل وبسرعة ، من سوء الحظ لم تتواءم فصيلة دمه مع فصيلة الاهالي الذين حضروا معه ، فأكتشف الطبيب أنه يحمل نفس فصيلة دمالجريح ، فلم يتأخر ولم يتواني ، فتبرع بدمه ، في موقف انساني عظيم ، لا يزال يذكره اهل البلدة ، ولا يزال يذكره ابناء السائق الجريح . في يونيو 89 استقبل الاهالي عن طريق المذياع خبر انقلاب يونيو المشؤوم ، وسعدوا بسماع صوت البشير وهو يخاطبهم بلهجة واضحة النبرات : نحن أتينا من أجل رفاهية الشعب السوداني ومن أجل محاربة الفساد والرشوة والمحسوبية ، ولكن بعد أقل من عام أنكشفت سوءة الزعماء الجدد ، فعندما يحين وقت الحصاد يحضر رجال الامن من أجل مصادرة المحصول ، وما تبقي للزارع تخصم منه زكاة الحصاد والضريبة وأجرة طلمبة المياه ، عزف الناس عن مهنة الزراعة فبحثوا عن لقمة العيش في الهجرة والترحال . أما الطبيب الشهم فقد صمم علي البقاء ، وتحدي تأخر المرتبات وضعفها ، ولكنه لم يكن من طينة القوم الجدد ، ولذلك كان يخضع للمساءلة والاستجواب من قبل أجهزة الامن من بين فينة وأخري ، وفي أحدي المرات اصطحبوه الي سجن سري مكث فيه لعدة ايام ، وتعرض فيه لابشع أنواع التعذيب والتنكيل ، ولم يكن الفاعل غريبا عن أهل البلدة المسالمة ، وقد اطلعه ضابط شرطة المدينة أن القبو السري الذي قبع فيه هو مقر الاتحاد العام للطلاب السودانيين ، وان أعضاء هذا الجهاز هم نفس الاشخاص الذين عصبوا اعينه واشرفوا علي تعذيبه ، بعد ايام تمت احالة هذا الضابط الي الصالح العام، ويبدوا أنه فصل بسبب افشائه بسر هذا السجن . وفي احد الايام دخل هذا الطبيب الي المستشفي من أجل مباشرة عمله ، فالقي بالتحية علي زملاء العمل ولكنه شعر بأن هناك شيئا مريبا يجري في المستشفي ، وعندما دلف الي مكتبه عرف سر الوجوم الذي أحاط بوجوه زملائه ، فقد صدر قرار تنظيمي جديد تم فيه تنصيب رئيس اللجنة الشعبية بالحي مديرا طبيا للمستشفي ، و لم يصدق ذلك في بادي الامر ، ولكنه وجد شيخ اللجنة الشعبية يباشر عمله منذ أول يوم ، وقد جلس علي كرسي الطبيب وهو منتشيا بالمنصب الجديد، وتحيط به باقة من سماسرة الوضع الجديد بعد أن تحلقوا حول صينية الشاي ، فالمدير الطبي الجديد كان يعمل في السابق حارسا ليليا في أحدي المنظمات الانسانية . فرض المدير الطبي الجديد لوائحه الجديد ، ففرض علي الممرضات الزي الاسلامي ، كما دعا الي اقامة اذان الصلاة داخل المستشفي ، خارقا بذلك كل الاعراف الطبية والتي تدعو الي المحافظة علي الهدوء داخل أروقة المستشفيات ، وأمر بكتابة الاية (( فاذا مرضت فهو يشفيني )) في كل مداخل المستشفي ، وفرض ايضا رسوم اضافية علي زوار المرضي ، ففي كل يوم كان يطالع كشف الحضور والانصراف ، وفي أحايين كثيرة كان يفرض العقوبات علي العاملين في المستشفي من دون التشاور مع أحد، حتي اوامر الفصل والتعيين كانت تصدر من مكتبه ، وكان يكرر علي الدوام بأنه يحتفظ بورقة من الحكومة منحته صلاحيات مطلقة ، بما فيها حد التعزير علي من يتقاعسون عن اداء الصلاة في وقتها المحدد ، وذلك بخصم جزء من الراتب . لم يعجب صاحبنا الطبيب الوضع الجديد ، وبدأ في التذمر ، وشرع في الاحتكاك مع شيخ المستشفي الجديد ، أما قاصمة الظهر فقد وقعت عندما تبرع شيخ المستشفي بأدوية وأمصال منحتها منظمة الصحة العالمية للمستشفي الي منظمة الدفاع الشعبي ، أمتعض الطبيب من ذلك وأعتبر أن هذا التصرف فيه خرق للاتفاقيات الانسانية الموقعة مع المنظمة . في ذلك الصباح تسلم طبيب القرية قرار الاحالة الي الصالح العام ، وأنطوت صفحة طويلة وناطعة البياض من ماضيه الانساني ، ولا زال الناس يفتقدونه ويذكرونه بالخير في معظم الاوقات ، فهاجر مضطرا الي السعودية، ويعمل فيها الي الان ، وعند مجيئه للسودان في الاجازات السنوية يحمل مع أمتعته مختلف أنواع الادوية المنقذة للحياة ويوزعها بالمجان علي ذوي الحاجات من مرضاه القدامي ، أما المستشفي فقد أغلق بعد أن نضبت منه الموارد وزهد فيه المرضي ، والذين أطلقوا عليه لقب مستشفي الموت السريع من هول حالة التردي والاهمال . أما شيخ المستشفي فقد استمر في عمله لعدة سنوات ، وقد تعارك مع كل الاطباء الذين وفدوا علي هذا المستشفي و تسبب في فصلهم ، وفي الاخير قرر انهاء خدماته علي طريقته الخاصة ، فاستقال من منصبه ليترشح لعضوية البرلمان ، مستغلا ارتباطاته العشائرية فقد تمكن من الفوز من غير صعوبة ، أنتقل الي السكن بمدينة الخرطوم ، وكثيرا ما كنت اشاهده في التلفاز وهو يجلس في مقعده بنفس الطريقة التي كان يجلس بها في المستشفي ، ورقم كرسيه في البرلمان يقع بين 240 الي 250 ، وسمعت انه تتطاول في البنيان واصبح من أصحاب الملايين .
ارجو معذرتي لأنني أكتب بالماوس لكن موضوع الإحالة للصالح العام ده موضوع مهم جدا دفعنا ثمنه في الماضي ولا زلنا ندفع ثمنه في الوقت الحاضر وهذا في رأي قمة الهمجية لأن غالبية الأسباب للأسف سياسية. يجب أن يكون هنالك قانون واضح ومعلوم يحمي الإنسان من ظلم أخيه الإنسان وطبعا كما هو معروف ظلم ذوي القربى أشد مضاضة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
Mohammed Haroun
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست