لا أحد يُسعف الخيل - شعر إلياس فتح الرّحمن: تأمل فى معنى القصيد

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-03-2024, 03:59 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الاول للعام 2009م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
01-10-2009, 07:48 PM

abdelmoniem ali

تاريخ التسجيل: 02-13-2007
مجموع المشاركات: 35

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
لا أحد يُسعف الخيل - شعر إلياس فتح الرّحمن: تأمل فى معنى القصيد

    قال الخيمائى للفتى قبل بدء رحلته بحثاً عن كنـزه:
    "غداً بع جملك واشتر جواداً ، لأنّ الجمال خائنة: فهى تسير آلاف الخطى، دون أن تُبدى أىَّ إشارة تدلّ على تعبها. ثمّ تقع، فجأة، على ركبتيها وتنفق. أمّا الجياد، فهى تتعب تدريجيّاً. وتعرف دائماً طاقتها، واللحظة التى تموت فيها". (من رواية الخيميائى لباولو كويلو).
    أهدانى الأستاذ الشّاعر إلياس فتح الرّحمن ديوانه "لا أحد يسعف الخيل" مُذيّلاً بعبارة:
    "أهديك تعبى، تعب التّعب لعلّك واجدٌ فيه ما يريحك". وأنا منذ وقتٍ طويل أصابتنى لعنة اجتناب الشّعر شعوريّاً، كأنّما قام بينى وبينه حجابٌ سميك يحجز عنّى متعته ودفؤه وناره، فلم أتوقّع عند قراءته غير أن يحاول العقل فكّ رموزه وينكفئ القلب على إنكاره واعتزاله. ولكن هيهات لفهمٍ دون انفعالٍ، فالشّعر الحقّ انتقل منذ عهد مدرسة الدّيوان فى بداية القرن السّابق، وعلى رأسها الشّاعر عبدالرحمن شكرى وزميليه العقّاد والمازنى، من شعر المناسبات لشعرٍ يعبر عمّا يعتمل فى نفس الشّاعر من فكرٍ وعاطفة ليسرّبها فى شرايين المتلقّى رغماً عنه ثمّ ترقّى درجة أخرى بتوظيف اللغة لتوحى بالمعانى بدلاً من التعبير عنها وبذا تغيّرت الصّورة الشّعريّة بفتح أبواب التخييل اللاّمحدود وتغيّر وتجدّد دورها معاصرة وأصالة.
    وبعد أن قلّبت صفحاته وقرأت قصيدة "بلدى لك الأسئلة"، وهى مُهداةٌ للرّاحل الشّاعر جيلى عبدالرحمن"، تبدّى لى سبب إحجامى عن نّار الشّعر المقدّسة، فقد فتّحت كلماته، التى انتقاها من جمر العقيق ونظمها كالصّائغ المبدع، وصوَرَهُ البديعة الصّادقة، كوّة العزاء فى قلبى، عندما وطأها القلب حافياً على غير حذر كما اعتاد، وللقلب النـزوق نزوات ، فغنمت الحريق وانطلق الألم من معقله ليحرّرنى من جليد تسربل به القلب.
    فأنا منذ رحيل أصدقائى الشّعراء أمل دنقل ومحمّد عبدالحى ونجيب سرور وعبدالله الشيخ البشير، لم أقم نواحاً فى داخلى أتخفّف به من ثياب الحزن ويعيننى على تقبّل الفقد، فأغلقت باب القلب ونأيت عن مفتاحه الشّعرى.

    ونار شعر إلياس فتح الرحمن تطهّر الفؤاد من أدرانه كما تُطهّر الذّهب من شوائبه.
    فعفى الله عن أخى الشّاعر إلياس فتح الرّحمن فأنا لا أدرى أراحة فى مناحة أقام سرادقها فى قلبى أراد؟ أم تعب لا يعقبه إلاّ تعبٌ بإشعال فتيل الشّعر فى جوفى؟. ولكن العمل الأدبى، وخاصّة الشّعر، إن لم يطهّرنا من الرّين ويحرّك آسن مائنا، ويشفنا ممّا بنا، ويفتح فينا كوّات الضياء والانبهار، هل يرقى لأن يكون شعراً؟

    فشعر إلياس فتح الرّحمن طغت عليه الشّاعريّة على الصّنعة، وهذا دليل على أن الخيال فيه مستمدٌّ من صدقٍ ومبنىٌّ على تجاربٍ حيّةٍ خرجت من القلب حتى كاد أن ينفجر بها، وعندما ضاق بالألم كاد أن يصرخ ويعلو طبله، فجاور منهج التّقرير ولكنّه تزمّل بصورٍ تفجع الفؤاد وتهزّه لتوقظه من سباته.
    فشعره مُركّزُ العصير إن دلقته فى بحيرات من الخيال ملأها نكهةً وطعماً دون أن يضعف أثره. وسأترك، عن عنيةٍ، التّحدّث عن بنية القصائد لمن هم أعلم منّى وأكثر حظّاً بمعرفة ارتياد دروبها المتشابكة والعصيّة وسأكتب عن المحتوى كما أراه وأحسّه متلمّساً دربى على حذرٍ حال المبتدىء ، لا أدّعى معرفةً ولا بصيرةً ولكنّها خطرات جالت فى الفؤاد وأنا أتقّلب على نار شعر إلياس فتح الرحمن لا طالنى بردٌ ولا سلام.

    وسأكتفى بالكتابة عن قصيدة "لا أحد يسعف الخيل" ذات الأربع مقاطع:
    "خروج، بلدى..لك الأسئلة، خطاب، وسجين" وهى تحمل فى جنباتها، فى رأيى، بلورةً لفلسفته وطريقته المتميّزة.
    فشعره رافضٌ متسائلٌ وثائرٌ غاضبٌ كالبركان ونصله حادٌّ كشفرة المدية يختطّ لنفسه لغةً سمتُها عجيبٌ، وطعمها غريبٌ، سهلةٌ ممتنعةٌ، لها إشاراتٌ ونبوآتٌ، تراها فتُنكرها ثمّ تقربها فتعرفها، وتهدى لك نفسها إن بادرتها بالمحبّة. وتجد فيها نَفَس القديم والمعاصر كشهيق وزفير جواد الفارس المنطلق يذكّرك بشعر أمل دنقل وصلاح أحمد إبراهيم وجيلى عبدالرحمن وعبدالرّحيم أبو ذكرى ومحمّد عبدالحى ومن قبلهم بودلير ولوركا وناظم حكمت وبابلو نيرودا، ولا غرو فقد أهدى جلّهم ديوانه، وفتح لهم قلبه ورئتيه، فعاشوا فيه واختلطت دقّات القلوب والأنفاس، وامتدّت حياتهم من خلاله حتى صاروا بعضاً منه، تندسّ روافدهم فى مجراه المتّسع والعميق، كما قال بابلو نيرودا:
    "كمثل نهر أيضا يشق طريقه بين القمم
    يجمعهم ويصهرهم ويعجنهم ويسري فيهم مؤسساً الشعوب"
    هذا وقد تميّز نسيج إلياس عن نسيجهم، فلم يعمد للإسهابِ، ولا تقلّصت موسيقاه، ولا حاكى بنيانه بنيانهم، ولم تغلب عليه الرّومانسيّة ولا الغنائيّة، ولم يكرّر ما قيل وإنّما هضمه وبنى عليه، فقد روّض الكلمة وجعل قيادها فى يده يفعل بها ما يشاء، وبنى صوره بكلماتٍ تجاوزت الوصف واكتسبت حياةً ذات عمقٍ ودلالاتٍ صارت مفاتيح خيالٍ يدسّ وراء أبوابه صور الدّهشة باحتمالاتها اللانهائيّة وآفاقها المتجدّدة الممتدّة.
    فالمشهد برغم بساطته الخادعة ، ولغته السّهلة الممتنعة يُخفى وراءه عمقاً وتصاعداً حيويّاً يفضى لقمّة ترى منها مشاهد عديدة كما لمّح شارل بودلير فى مذكّراته:
    "في بعض الحالات ما فوق الطبيعية للروح، فإن عمق الحياة يتبدى - بكامله - في المشهد، رغم عاديته الشديدة، والذي نراه تحت عيوننا. إنه يصبح رمزا لها".


    فأنا لم أقرأ عنواناً لعملٍ أدبىٍّ، مثلما وجدت فى عنوان ديوان شعر الأستاذ إلياس فتح الرّحمن، يلخّص فلسفة ورؤية العمل فى أربع كلمات، هنّ هزّة مرعبةٌ للوعى تورثك، إن كنت بلا تفاؤل، يأساً وحزناً يقيمان داخلك ويمتصّان الحياة منك قطرة قطرة، كما يفقد الجواد قواه بعد مسيرةٍ طويلة فى صحراء العدم لا يرى إلا سراباً أو عقاباً يتربّصه، وهو كلّما حلم بواحة وأدركها وجد ماءها إمّا مسموماً أو مسكونة بالاشرار.
    وإذا كانت الجياد لا تخون صاحبها، لأنّها تنبّهه على ضعفها وقلّة حيلتها حتى يُسعفها، ولا تجد من يسعفها، لقلّة حيلة صاحبها ويأسه ممّن ظنّهم رحماء بها، فإذا بهم من أسباب هلاكها يتنازعون ويمزّقون أطرافها فرحين بغيمتهم لاهين عن صرخاتها ودمها المسفوح، ماذا يتبقّى من أمل للخروج من دهليز الظلام وإكمال الرّحلة واكتشاف الكنـز؟
    والخيل رمزٌ عالمىٌّ للجمال والخير والنّصر حيث الفارس والجواد لا ينفصلان مصيراً وقد أقسم به المولى عزّ وجلّ حين قال:
    "والعاديات ضبحاً، فالموريات قدحاً، فالمغيرات صبحاً".
    ومن المدهش حقّاً أن خريطة الوطن كالجواد المسجّى على جنبه يلفظ أنفاسه يتحاوطه الطامعون وتسجنه الحدود بلا منفذ.
    ولكن هيهات الخروج من متاهة الظلام إلا للحريق والعدم؟ ولذلك لم تكن صدفة جعلت إلياس فتح الرّحمن يسمّى أوّل مقطعٍ من قصيدة "لا أحد يسعف الخيل" "خروج"، ولكنّه أىّ خروج:
    "أخرج الآن فقل لى يا طريقى
    أىّ قبرٍ يسـع الورد الذى مات على كفّ صديقى
    مدن الشّوق التى من نورها القادر جـمّعت بريقى
    تدفع الآن جريد الحرب كى يعلو حريقى".
    فهو خروج من أَلِفَ الرّحيل ليلاً وألفته الدّروب وحيداً رفيقه جواده، فنور المدن لا يبدو إلا فى ظلمةٍ وكأنّه صديقه الراحل فى الليل وحيداً عبدالرحيم أبو ذكرى، وكأنّ ورد العطاء السّابق واللاحق، لولا رحيله المفجع المبكّر، مات على كفّه لا يجد من يواريه إذ زهد فيه النّاس. وهى قصّة الغربة والفقد والتّضحية الأبديّة لورود الوطن. ورمز هذا الرحيل شيمة المبدع الثّائر فارس قومه يحارب بدمه وقلمه الذى تضيق به أسوار سجن وطنه فيضرب فى فيافى الأرض يبتغى مُتنفّساً وحريّةً وقد رحل من قبل محمّد عبدالحى وعاد لقبيلته ملئٌ الجراب بدرر الحكمة، ولكنّه عندما ضاقت به الأرض بما رحبت آثر أن يغيب فى الأفق على عجلٍ قبل الوداع على فرسه الأشهب تاركاً لنا إرثاً لم نتيقّن فهمه ولا حدّثنا بنعمته الخليقة وقد نبّأنا برحيله دون أن ندرك ما رمى إليه:
    "هنا أنا والموت جالسان
    فى حانة الزّمان
    وبيننا المائدة الخضراء
    والنّرد والخمرة والدّخان
    من مثلنا هذا المساء؟
    هو الموت يسعى إلينا بلا قدمٍ فى الدّجى والنّهار
    خلقنا له ناضجين
    استدرنا له فلماذا البكاء؟"
    وقد طرق المتنبّى رحيل الفارس من قبل حين قال:
    "الخيل والليل والبيداء تعرفنى والسّيف والرّمح والقرطاس والقلم"
    وها هو إلياس فتح الرحمن يعيد خروج لوركا يبحث عن قرطبته الخادعة، التى تغريه بنورها وتحرقه بنارها مغنّياً لسفره:
    "قرطبة
    نائية وحيدة
    مهر أسود ، قمر ضخم
    وفي خرج السرج الزيتون
    ورغم أني أعرف الطريق
    فلا سبيل أبلغ قرطبة
    عبر السهل ، عبر الريح
    سهر أسود ، قمر أحمر
    والردى إلىّ ناظر
    من على قلاع قرطبة

    آه ألا ما أطول الطريق
    آه ، أيا مهري الشجاع
    آه ، فذلك الموت ينتظر
    قبل بلوغ قرطبة"
    وهكذا المبدعون فى بحثهم الدّائم عن الحرّيّة والعدالة للجميع ، يقطعون فيافى الزّمان حتى يُوصلون راية وشعلة النضال لمن يحملها من بعدهم لتستمر ديمومة الثّورة تغذّى نهرها بدماء الثّوار الرّافضين للخنوع ، فيكملون دورات بعضهم البعض يتناولون الرّاية ممّن ترجّل عن مهره عندما يسلبه الحلم حياته.
    وها هو عبدالوهاب البيّاتى ينعى قبيل المبدعين منشداً فى بكائيّةٍ:
    "أهكذا تمضى السّنون؟
    ونحن من منفى إلى منفى ومن بابٍ لباب؟
    نذوى كما تذوى الزّنابق فى التّراب؟
    فقراء، يا قمرى، نموت
    وقطارنا أبداً يفوت؟"
    ولنا أن نتساءل هل كان هجرة ورحيل كلّ هؤلاء، منذ المتنبى وحتىّ عبدالرحيم أبو ذكرى، وموتهم فى غربة عن بلادٍ تغنّوا بها ووهبوها أرواحهم وحبّهم محض صدفةٍ أو أنّه عبثٌ لا طائل من ورائه؟
    فكلّ المبدعون غرباء فى حالة ترحالٍ دائمٍ ، خارجىٍّ وداخلىٍّ ، فبودلير وصف شيئاً مماثلاً فصار الصّديق صنو الرّحيل:
    " أنت لما عشقت الرحيل
    لم تجد موطنا
    يا حبيب الفضاء الذي لم تجسه قدم
    يا عشيق البحار وخدن القمم
    يا أسير الفؤاد الملول
    وغريب المنى
    يا صديقي أنا"
    ووصف هذا الرّحيل ناظم حكمت:
    " لذا عليّ أن أعود الى أماكن كثيرة قادمة
    كي ألتقي نفسي، أتفحصها دون توقف
    دون ما شاهدٍ الا القمر
    بعدها أصفّر فرحاً وأنا أطأ حجارة وترابا
    دون ما هم غير العيش
    ودون ما أسرَّة غير الطريق"
    وأىّ صديقٍ تبتغى غير جوادٍ يحملك بلا كللٍ أو مللٍ ، وعَرَق جلده كدموع أعينٍ باكيةٍ أو شموعٍ ذائبةٍ فى غيهب الليل تضئ الطريق لمدن الأحلام يجذبك بريقها، يشاركك المصير والألم والمناجاة، ويؤنسك فى السرى رفيقيكما الحلم والأمل ورحم الله المتنبّى حين قال:
    "وما الخيل الا كالصديق قليلة وإن كثرت فى عين من لا يجرّب"
    وعندما يتوه الدّرب فتطرق درباً آخر تخذّ السّير حتى تدرك مبتغاك، تجد أنّ الضّوء الذى جذبك لم يكن إلا من نار حريق الحرب الهوجاء، لا سبب ولا معنى له إلا العبث، ولا يعادله إلا حريق أحلامك فى داخلك، ولا يجد قبرك ما يضمّه، فقد انتثر رمادك وذرّاه الريح مثل ورود ذاوية، حملها ظهر أو كفّ صديق ورفيق رحلتك. فإذا أنت وجوادك توحّدٌ ووحدةٌ، بعد أن ترجّل رفاقك عن خيلهم واحداً بعد الآخر عند وقوعهم أسرى للعناء والشّقاء والإغراء.
    والشّاعر يسائل الطّريق، فهو أدرى بالأجوبة وقد شهد بداية الزّمان ويدرك المكان، بعد أن أكسبه حياةً أو تنبّه لها أو ينبّهنا لحياته الأزليّة:
    "فما بكت عليهم السّماء والأرض"
    يسأله عن مكانٍ يوارى فيه أجمل ما حمل صديقه وحاول إهداؤه لشعبه فتجاهلوه حتى ذوت وروده فى يده، وأشفق عليه وعليها الشّاعر وسعى لقبر يسعها ولم يجد غير قلبه مثوىً لها فقلب المؤمن وسع الله سبحانه وتعالى حين ضاقت به السّماوات والأرض.
    وقد طرق محمود على طه المعنى منشداً:
    "ضاع عمرى وما بلغت طريقى
    وشكى القلب من عذابٍ وضيقِ
    فخذى الرّوح حفنة من ترابٍ
    وخذى الرّوح شعلة من حريقِ".
    وهذا الحريق الذى يذكره إلياس فتح الرحمن من المدن، التى خدعه بريقها واكتشف حريقها، هو ليس حريقٌ عبثّىٌّ ولا نتج من سذاجةٍ وإنّما كما قال ناظم حكمت:
    "أصرخ، أصرخ، أصرخ
    كثير هو الحزن ولا من معين
    القلوب خرساء، ثقيل هو الهواء كالرصاص
    أقول له، لأحترق، وأتحول إلى رماد
    إن لم أحترق أنا، وتحترق أنت
    ونحترق جميعاً، فكيف تخرج
    الظلمات إلى النور"
    وغشى صلاح عبدالصبور ذات المعنى فى قصيدة أحلام الفارس القديم:
    " كنت أعيش في ربيع خالد، أي ربيع
    وكنت إن بكيت هزَّني البكاء
    وكنت عندما أحسُّ بالرثاء
    للبؤساء الضعفاء
    أود لو أطعمهم من قلبي الوجيع
    وكنت عندما أرى المحيرين الضائعين
    التائهين في الظلام
    أود لو يحرقني ضياعهم، أود لو أضيء
    وكنت إن ضحكت صافياً، كأنني غدير
    يفترّ عن ظل النجوم وجهه الوضيء
    ماذا جرى للفارس الهمام؟
    انخلع القلب ، وولى هارباً بلا زمام
    وانكسرت قوادم الأحلام".

    وهذا الهمّ الكونى ليس همّاً خاصّاً ولكنّه همّ المبدع الوجودى الذى يحمله ويحترق فى ناره نيابة عنّا لإصابته بلعنة رّؤيا وشفافية لم يطلبها وإنّما كُتبت عليه، ونحن بدلاً من أن نسعفه نهمله لانشغالنا بما نظنّ أنّه أهم أو نسخر منه لنبرّر بلادة حسِّنا، أو نقتله حين يهدّد أمننا. وقد لخّص إلياس فتح الرحمن موقف المبدع ودوره الوجودى كحاملٍ لراية وشعلة الوعى التى تحرقه قبل غيره لا يريد من قومه أجراً كما أنشد المتنبّى:
    "يـا من يعز عليــنا ان نفارقهم وجداننـا كل شيء بعدكم عـدم
    مــا كان أخلقـنا منكم بتكرمة لـو أن أمــركم من أمرنـا أمم
    إذا ترحّلت عن قـوم و قد قـدروا أن لا تفارقهم فالـراحلون هــم"
    ومن بعده قال بابلو نيرودا:
    "نحن فضة الأرض النقية
    معدن الإنسان الحق،
    نجسد حراك البحر الدائب،
    دعم كلّ الآمال"
    فيما أسهب صلاح أحمد إبراهيم حين قال:
    "فى غدٍ يعرف عنّا القادمون
    أىّ حبٍّ حملناه لهم
    فى غدٍ يحسب منهم حاسبون
    كم أيادٍ أسلفت منّا لهم
    فى غدٍ يحكون عن أنّاتنا
    وعن الآلام فى أبياتنا
    وعن الجرح الذى غنّى لهم
    كلّ جرحٍ فى حنايانا يهون
    حين يبدو رايةً تبدو لهم
    جرحنا دامٍ، ونحن الصّابرون
    حزننا داوٍ ونحن الصّامتون
    فابطشى ما شئت فينا يا منون
    كم فتىً فى مكّة يشبه حمزة"
    وإلياس فتح الرحمن، الذى أمل فى غدٍ أفضل، لا يزيده مسلك قومه إلا استغراباً فهم كمن يأكل جواده لأنّه جاع، لاهياً عن عاقبة أمره، ولا يزيده إلا أسئلةً لما يذهله من أمرهم ممّا يُغاير البديهة فيجئ المقطع الثّانى بعنوان: "بلدى...لك الأسئلة"
    وهى قصيدة مهداة لصديقه الرّاحل جيلى عبدالرّحمن، وما الرّمز بخافٍ على من يعرفونه وأيضاً يعرفون أمثاله من الشّعراء كمحمد المهدى المجذوب ومحمد عبدالحى، وصلاح أحمد إبراهيم، وعبدالرحيم أبو ذكرى وعلى المك ومحيىّ الدين فارس ، فهو عانى الإهمال والمرض من قومه، ولم ينل إلا الغدر، وهو قد حملهم فى قلبه وعفا عنهم بلا ضغينةٍ أو مرارة، وإن أصابه اليأس منهم، فسمّى أوّل ديوانٍ له: "الجواد والسيف المكسور".
    وقصيدة جيلى عبدالرحمن التى تحمل عنوان الدّيوان تتحدّث عن نفس اليأس والخديعة والتغيّر ، وتتّخذ من الخيل رمزاً تفقد كرامتها وكبرياءها وحريّتها فتموت معفّرةً بالتّراب ولا أحد يُسعفها:
    "ما عاد يا تاجوج قد صدئ الجراب
    والسيف أُغمد من زمان، والرقاب
    فكَّت لثام العين جسَّت قيدها، زيف القباب
    ما عاد يدعوها إلى عشق الحراب
    هدراً تموت على دماء الشمس، كالجرذان
    عفَّرها التراب"
    وجيلى عبدالرحمن وناظم حكمت بينهما تشابه غريبٌ فى طريقة حياتهما وعقيدتهما وموتهما فى غربة ولكنّه وبرغم مأساته طغت واقعيّته وأمله على يأسه:
    " كلنا سنموت لن نعيش إلى الأبد
    وذلك معروف وهو ليس بجديد
    لكننا نحيى ليبقى بعدنا أثر بيت أو شجرة أو كلمة أو ممر"
    وتنبّأ بموته وانتهى هو وجيلى عبدالرحمن فى مقبرتين فى قرىً فى بلاد حرموا دخولها راجلين لكنّها احتضنتهما ممدّدين:
    "يا رفاقي، إذا لم أتمكن
    من رؤية ذلك اليوم،
    أي إذا متّ قبل الخلاص،
    فأحملوني إلى الأناضول،
    وأدفنوني بمقبرة في إحدى القرى"
    ولم ينج إلياس فتح الرّحمن من اليأس، وقد أدركته المرارة والحزن حين أدرك الوعى وانفتحت أبواب الحقيقة أمامه يرى الباطل باطلاً والحقّ حقاً يقيناً، كما يراه الشّيوخ وقد تزمّلوا بحكمة التّجربة فأزالت حجابهم، أو مثل الاطفال ترى الأشياء بداهةً قبل أن تصيب أبصارهم غشاوة النّفاق كما رأى الطّفل الملك عارياً، وما الشّعراء إلاّ أطفالٌ لم يئدوا أطفالهم بداخلهم، فهو يقول:
    "على الخنجرين..الهوى والخديعة
    تموتين فى هذيان الشيوخ
    وفى شغف الطّفل
    فى الطّرقات وفى الحجرات
    وفى حدقات الجياد الضّليعة"
    فوصفه للجياد بالضليعة يحمل معنيين أن تكون الجياد ضليعة أى قويّةً بعلمها بسرّ الحياة وحكمتها، فهى مكشوفة الغطاء، أو تكون ظاهرة الضلوع من جهدها ولكن ليس هنالك من يسعفها.
    وقد تحوى المعنيين، ولكنّ موت البلاد فى حدقاتها، كمثل شمعة ذوى ضوؤها وتناوشتها الرّياح، والشّاعر يرى ويسمع ويعى وليس فى يده ما يفعله سوى التّساؤل والتّعجّب ممّا وعمّا أصابنا، كأنّنا قوم آخرون، وهو يختنق بعجزه وغضبه من تبلّد إحساس أهل بلده، وفى هذا هروب من واقعٍ قاسٍ يأبى قبوله وهو أنّنا تغيّرنا وبان عجزنا حتى تعذّر التّعرّف علينا، ممّا يقوّى يأسه ولكنّه قبل أن يذعن له ينفجر صديد غضبه:
    "فهل نحن نحن؟!!
    وهل هذه اليد تلك اليد المستطيعة؟!!
    وقد اختلف أهل العلم فى طبيعة صفات الشعوب وتساءلوا هل هى أصيلة باقية لا تغيّرها الأحوال والأهوال أم هى زائلة بزوال الأسباب وتغيّر السّياق؟ وانتهى جلّهم إلى الخلاصة الأخيرة ولكن الشعراء والحالمون تأسرهم ذكريات الليالى الوضيئة فى زمنٍ ذهبىٍّ ذهب قبل أن تروّض الجنود خيلها البرّىّ بشكله بالقيود كما قال أمل دنقل:
    " كانت الخيلُ - فى البدءِ – كالنّاس
    برِّيَّةً تتراكضُ عبر السهول
    كانت الخيلُ كالناس فى البدءِ
    تمتلكُ الشمس والعشب
    والملكوتِ الظليل
    ظهرها... لم يوطأ لكى يركب القادة الفاتحون
    ولم يلنِ الجسدُ الحُرُّ تحت سياطِ المروِّض
    والفمُ لم يمتثل للجام
    ولم يكن ... الزاد بالكاد
    لم تكن الساق مشكولة
    والحوافر لم يك يثقلها السنبك المعدنى الصقيل"
    ولكن وبرغم ما أصابها فلا يغادرهم الأمل فى الانعتاق من الأغلال، كأنّما الظّروف قيود لا تلبث أن تنكسر وتكون كقول شيخى محمّد المكّى إبراهيم:
    "والقيود انسدلت جدلة عرسٍ فى الأيادى"
    وهو وصفٌ بذّ به ببلاغة تصويريّةٍ عميقةٍ، صيحة الشّابى:
    "لابد للقيد أن ينكسر"،
    إذ ضفر من شِقّى شَعْرِ الحريّة والفرح جدلة واحدة.
    ويمضى إلياس فتح الرّحمن متسائلاً عن غياب صوت الحقّ، كأنّما ضلّ الطّريق أو أصابه ضلال الضمير، ممّن كان ثائراً ومشتغلاً بنشر الوعى وتعرية الحقيقة، بعدما أُتخم من ملح الأرض، فأُغرى بالوعود والرّياش فشُدّ لسانهم باللجام، مثلما روّضت الخيل، ليلعقوا صحون سادتهم الجدد ينظّفونها من أدرانها بالخديعة ليُعجب بها السّابلة الغافلة.
    فكأنّهم عند انقطاعهم عن الضّعفاء والمنبوذين، الذين أمدّوهم بالملح النّقى فى سالف أيّامهم فصنعوا لهم مجدهم، لم يجدوا بدّاً من ملح وضيعٍ يلعقونه كالكلاب المرّوضة المطيعة الوديعة وهم كانوا أسوداً يرتجف من زمجرتها الخونة:
    "أم القول ضلّ فبارك للمتخمين وشدَّ اللسان ليلعق ملح الصّحون الوضيعة؟"
    فصوت المبدع المناضل يجب أن يكون كما قال بابلونيرودا:
    " فأنا شعوب، شعوب كثيرة،
    وأملك في صوتي القوة النقية لكي أعبر صمتكم وأنزرع في العتمات".
    ويأتى التّساؤل المُنكر والمندهش بعد التّساؤل عن التغيّر الذى أصابنا:
    "أم الأرض ما عادت الأرض؟
    والأفق أدبر؟
    والقلب للقلب أنكر؟
    والبرّ فى النّاس زمجر؟
    والبحر قد أيبسته الفجيعة؟"
    فالأسلئة هى إثبات انقطاع ما كان من أصل حالنا فانتقلنا منه إلى منفى العدم، كأنّما السّاعة قامت كقوله سبحانه وتعالى:
    "يوم تُبدّل الأرض غير الأرض والسّماوات"
    وحين تكون الفجيعة أكبر من الاحتمال فإنّها تجفّف بحار الدّموع والشّعر والإحساس.
    ويخطر للذهن بداهةً أنّ المعنى يستقيم أكثر إذا قال إلياس فتح الرّحمن:
    "والبرّ فى النّاس أقفر بدلاً من زمجر"
    فالسياق كلّه عن العدم ، فالأرض لم تعد الأرض ، والأفق أدبر ، والقلب أنكر ، ويبس البحر.
    ولكنّ إلياس فتح الرحمن لا يختار الكلمات جزافاً خبط عشواء فقد شبّه البرّ بالأسد الحبيس، الذى اعتاد الحريّة من قبل، فزمجر فى صدورهم لمّا أغلقوا قفصه.
    وفى هذا بعض الأمل أنّ البرّ لا يزال حيّاً، وقد يبدو ذلك تناقضٌ فى ظاهره بين إحساسه باليأس الشّامل وتلميحه بالأمل، ولكن هذه مفارقة وليس تناقضاً، إذ أنّ فى رحم كلّ نقيض نقيضه وغاية اليأس تحمل غاية الأمل كما قال محمود درويش رحمه الله وأحسن إليه:
    "إن في و سع القصيدة العظيمة أن تنهض من الخراب, إذا كان يحركها أمل عظيم , أو يأس عظيم".
    ونبّه إليها ناظم حكمت بقوله:
    "من أماني العيش الرغيد
    وأصوات الخطر
    وبقايا الأمل
    وذكرى الوطن الممدد تحت خيمة الفجيعة
    أبدأ حياتي مترنحا بين الحزن والأمل
    تحاورني كلمة الحريّة
    لاشيء سوى الحرية"
    أو أنّ إلياس عنى أنّ الفجيعة قد أقامت سدّاً فى نفوس النّاس حبس وراءه تلاطم موج البرّ المزمجر فيبس مجرى البحر ، أو لربّما عنى أنّ البرّ كفارسٍ زمجر فى قومه لمّا رأى تقاعسهم عن نجدة الوطن وضنّهم عليه بحياتهم ودمائهم ، ويظلّ المعنى ، كما يقال مهما اجتهدنا ، فى بطن الشّاعر ولكن ما يجب أن نلاحظه هو أن اختيار كلمة بداهةٍ "كأقفر" تسدّ أبواب الاحتمالات الأخرى بينما كلمة "زمجر" تفتح كنوز الدّهشة وتَغنينا من جواهرها.
    ويمضى الشّاعر متسائلاً حينما أصابتنا الغفلة بانعدام إحساسنا الخارجى والدّاخلى:
    "أم الأنف والقلب صارا عجوزين؟"
    وينبّهنا لغفلتنا حين لم يغفل الغيب، وهو انهمك فى نسج كفن الشّاعر الرّاحل، كأنّه جلباب يكسو عريه بعد أن ضنّ عليه قومه بلباس الشّرف والرّفعة، فيا له من هديّةٍ تستر حاله وتُنهى ألمه وترحاله:
    "والغيب منهمكٌ فى النّسيج ليهديك جلباب تلك السّنين الرّفيعة؟"
    ولكنّ القصيدة هديّة أخرى من محبٍّ انشغل بمحبّة صديقه الرّاحل ينسج منها رايةً تظلّ أبد الدّهر ترفرف عنوان وفاءٍ وعشقٍ وتذكرةٍ حتى لا ننسى ، فيتمّ استلاب أغلى ما نملك وهو حلمنا بوطنٍ يسع الجميع ويحنو عليهم ويرفقون به.

    وفى الجزء الثّالث بعنوان "خطاب"، لا يخفى قرف إلياس فتح الرّحمن من صديقٍ سقط وبادره الصديق يبرّر سقوطه ويفلسفه.
    وقد علت فيه نبرة خطابةٍ غير مبتذلة ولا فطيرةٍ لم تُضعِف الصّورة الشّعرية، وإنّما خدمتها بنقل استياء الشّاعر وإحباطه ونفاذ صبره من الذين يسقطون فى منتصف الدّرب ثمّ يملؤون الدّنيا ضجيجاً لتبرير مواقفهم، كأنّما الدّنيا لا شاغل لها غيرهم، وكان كلّ ما عليهم فعله ببساطةٍ أن يعترفوا بخطئهم وينضمّوا للرّكب ثانيةً، فالإنسان تتملّكه لحظات ضعفٍ عندما يستعجل النّتائج، أو يرى فى فعله حكمة مُعمّاةً على رفقته، أو تلفّه ظروف الحاجة، وهو فى أغلب الأمر سوء تقدير يدفع ثمنه وحده لاحقاً، وليس بالضّرورة تنكّرٌ للمبدأ أو تبدّلٌ فى الضّمير، والانسان بطبعه خطّاءٌ ولكن خير الخطّائين التّوابين.
    والشّاعر لا يسمع بأذنه ولكنّه يؤمن ويرى بقلبه، وما يراه القلب لا يصدّق صديقه ويُنكر حديثه، ولذا يعود إلياس فتح الرحمن لنفس السّياق عن تغيّر النّاس والأشياء، واكتشاف غربته وسط عالمٍ غريبٍ ببلده وأهله، كأنّه نوحٌ فى قومه.
    ونلاحظ أنّه يدعو رفيقه بأخى وليس بصديقى، فكأنّما ينبّهنا أنّه برغم اختلافه معه فسيظلّ أخوة الإنسانيّة دائمة. وهو أيضاً لا يحرمه حبّه ولا حقّه فى التّسربل بثوب جديدٍ، وإن غضب منه واختلف معه، وهذا ينبّئ عن سعة نفس الشّاعر وحبّه للإنسان واحترامه لحقوقه، ومحو الذّاتيّة فى سبيل الوطن كما قال صلاح أحمد إبراهيم منبّهاً لمبدأ الأخوة وليس الصداقة:
    "عيشوا إخوة برغم كلّ شىءٍ إخوةً
    وعمّروا بالحبّ هذا البيت..هذا الوطن الكبير"
    ولربّما كانت القصيدة محاولة للفت انتباه الصّديق وتجلية بصره بنصيحته وتذكيره وهو أقلّ الواجب:
    "صوتك الآن غريبٌ يا أخى صوتك الآن غريبٌ
    فارحم الأذن ودعنى ثمّ هبنى من لدنك الشّفقة"
    فحال الغريب لا يجاريه حال، كما قال صلاح أحمد إبراهيم:
    "هل يوماً ذقت الجوع مع الغربة؟"
    فالجوع جوعٌ للعدل والحريّة والمساواة والسّلام ودفء العشيرة ورحم الوطن.
    وصلاح أحمد إبراهيم وإلياس فتح الرحمن كلاهما ذاق من الجوع والغربة ومن غدر الرّفاق أصنافاً عبّر عنها صلاح أحمد إبراهيم:
    "وتكذب
    ثمّ تهنّئ نفسك بأنّك أبرع من يكذب
    خلاعك جاز
    ومكرك فاز
    وتحسب أن خلا الملعب؟
    ولم يبق فينا من يغضب؟
    ولم يبق فينا الذى يضرب؟
    سمعت بأنّك صرت بلا ذاكرة
    هنيئاً!!
    ولكنّهم يتذكّرون
    وأنت والحمد لله لا تسمع"
    ويستحقّ إلياس الشّفقة ولكنّ الشّفقة التى يطلبها هى الشّفقة به من طنطنة وإزعاج الصّوت المُبرّر لموقفه الجديد وقد نبّه أخاه بتوضيح موقفه الحاد منه ومن اختياره للدّرب الجديد:
    "إنّ هذا السلّم الذّهبى أغرى قدميك
    وأغرى أنفك النّاسى طقوس الشمّ
    أغرى صوتك العالى وأغرى تربة ينهار ثابتها
    إذا ما غازَلَتْها-فى الزّمان القحط- أصوات الرّعود الشّبقة"
    والمفارقة الجميلة هنا هى سقوط من أراد الرفعة بصعوده على سلّم كالصعود إلى الهاوية
    وهذا تذكير بقول المولى عزّ وجلّ:
    "أفمن أسّس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خيراً ممن أسّس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به فى نار جهنّم"
    ولأحمد عبدالمعطى حجازى قصيدة يستخدم فيها الذّهب كسببٍ رمزىٍّ لخيانة الكلمة من أستاذه فانتضى سيف فارس الكلمة مدافعاً عنها ومشنّعاً به:
    "لم اعرف بعد مصاحبة الأمراء
    لم أتعلّم خُلق النّدماء
    لم أبع الكلمة بالذّهب واللألآء
    ما جرّدت السّيف على أصحابى فرسان الكلمة
    لم أخلع لقب الفارس يوماً فوق أميرٍ أبكم"
    فالمبدع لا يبيع سوى كلمته التى اكتسبت قيمتها من ثوريّته ، والسلّم لا يبدو مغرياً إلاّ لمن لا يتعدّى منظر الذّهب إلى مصدره، ألا وهو قوت المسحوقين، ولا يطؤه إلا من زكم أنفه عن رائحة العفن الذى بُنى عليه السلّم والصّادرة من قذارة مصدره ونتانة قروح السّجناء والمحرومين وهذا يتّضح فى قوله لاحقاً:
    "إنّ هذا السلّم الذّهبىّ طاف بحارة الفقراء مرّاتٍ ومرّاتٍ ومرّاتٍ ما أجاد السّرقة"
    فهو لم يفلح فى سرقة أبصار الفقراء أو سرقة ثباتهم على المبادئ ببريقه ولا غيّرهم برغم فقرهم وبرغم إغرائه لهم مراراً وتكراراً. والمعروف أنّ تكرار الأمر يورث العادات ويضعف الهمم، ولكن ما إن رآه أخاه مرّةً واحدةً حتى سقط صريعه ولما انكشف موقفه علا صوته يبرّر موقفه والشّاعر يطلب منه العذر:
    "فاعذرنى من الإنشاء والإملاء والإصغاء والإرضاء
    واعذرنى فهذا الحمل أعتى من ظهور الحاملين العبء فى البرِّ زماناً
    ثمّ من جوف المياه اللّبقة"
    فها هو يطلب الشّفقة به، فحمل الزّيف أثقل من أىّ حمل آخر، ولا يتحمّله حتى من تحمّل الويلات زماناً طويلاً، ويطلب منه الشّاعر أن يعذره إن هو لم يجد طعم المياه، التى تجىء من جوف الرّياء مدثّرة باللباقة، عذباً مستساغاً، برغم إتقان عرضها فى قوارير وإغراء منظرها، فإنّ الشّقاق وقع، وفصلت بينهما ما أقامته الطّبقة، وهنا يجىء رمز الخيل مرّةً أخرى فهى أوّل من قسمت النّاس لطبقتين كما قال أمل دنقل:
    "والخيولُ جدارٌ به انقسم
    الناس صنفين:
    صاروا مشاةً وركبان"
    ومعهما انقسمت الامتيازات، والشّاعر يحدّد مكانه مع فقراء النّبقة وليس التّفّاح النّتن. وهو موقف الصّوفىّ القانع باقتسام النّبقة الطّيّبة مع أصحابه بدلاً من تفّاح الشّهرة والمال المسموم والمدموغ بخيانة الأمانة منذ بدء الخليقة ، وقد لخّص صلاح أحمد إبراهيم علاقة المحروم بطبقة التّفاح حين قال:
    "أنا من أفريقيا جوعانٌ كطفل صغير
    أنا أهفو لتفاحة حمراء من يقربها يصبح مذنب"
    واختيار إلياس لرمز التُفّاح والنّبقة عميق الدّلالة تندسّ فى رحمه توائم المعانى التى تتوالد فتنجب قبيل المعانى، وهو ما يُعرف "بمعنى المعنى"، فتصير الصّورة مفردة فى القصيدة كما الكلمة مفردة فى بيت القصيدة، وهو مجازٌ بإيجازٍ وإعجازٌ وخصبٌ مغموسٌ فى إكسير الغرابة والجرأة ثؤثّر على نفوسنا وتطلق خيلها من قيدها لتخبّ الفلاة وبها إحساسٌ خفىٌّ ملئٌ بالقوّة والمغامرة.
    وهو أيضاً رمزٌ كلّىٌّ موزونٌ بين التّلميح والتّصريح، فيه إيحاءٌ يُقرِّب المعنى ويولّد منه معنىً آخر ليعكسه فى مرآة الخيال حتى يصل لعامّة النّاس ولا يختصّ الخاصّة منهم، فالرّسالة، فى رأيى، يجب أن تصل لمن يهمّهم الأمر، ولو أنّهم فقط فهموا ظاهرها، بدلاً من الرّمز المُعمّى الذى يدلّ فى أغلب الأحيان على عمى البصيرة، أو ضعف الصّنعة والموهبة ، لكفى.
    فالتّفاح يرد لبلدنا من بلادٍ غريبة لا تتّفق خصائصه مع مناخها ولا ذائقة أهله، سريع العطب ومتلاف لجيرته، بريقه أخّاذٌ، ولحمه هشٌّ، وطعمه لا يسكن خلايا الفم طويلاً، بينما النّبقة معطاءةٌ فى لينها ويباسها، وتُدَّخَر للأيّام المقفرة، وتَدَّخِر طعمها ما بقيت، سهلة التّواجد، كثيرة التّوالد، تصادق الطّقس والنّاس، وهّابة ظلاً وثمراً وقُدسيّةً تذكّرهم بسدرة المُنتهى ونبقها الملائكى كالكواكب المضيئة.
    والصّعود له ثمن ، ألا وهو شراء الصّوت. ولكنّما لكى يبرّر صديقه مكانه الجديد لا بد له من أن يعلو صوت فمه ليُسكت صوت ضميره أو يطغى على أصوات الحق بقرع الطّبول.
    ولكن سلّماً كهذا، وإن بدا متيناً ثابتاً، تربته مهتزّةٌ تخور بصاحبها مدوّياً صوت وقوعه عند علوِّ أصوات الرّعود الشّبقة فترسل السّيول ، بعد قحط الخلق ، لتطهير الأرض من دنسها ، والمعنى قريبٌ من الآية فى قوله سبحانه وتعالى:
    "ومثل كلمةٍ خبيثة كشجرةٍ خبيثةٍ اجتثّت من فوق الأرض ما لها من قرار، يثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثّابت فى الحياة الدّنيا وفى الآخرة"
    وأيضاً:
    "وأمّا الزّبد فيذهب جُفاءً وأمّا ما ينفع النّاس فيمكث فى الأرض".
    ويختم إلياس قصيدته بطلبه أن يستبدل الصّديق دفتر ذكرياتهم القديم، الحافل بالصّدق والمبادىء، ليكون بينهما جسراً يتكآن عليه إن تقابلا هنيهةً من الزّمن، فيسترجعان ما جمّعهما من شعورٍ صادقٍ وأحلامٍ كبيرةٍ، على أن يهبه بدلاً عنها شفقته عليه من حاله وعلى حاله، فهو قد مات فى نظر خياله، وصار جثّةً تحملها أقذار المراحيض التى تغافل عنها حينما اعتلى سلّم السّقوط.
    وعمق إلياس، مقارنةً بصلاح أحمد إبراهيم الذى اعتقد بأن صديقه أضحى بلا ذاكرةٍ، يدلّ على نضوجٍ عاطفىٍّ، فالذاكرة مشتركة بينهما وفقدها مستحيل، وإن ادّعى الصّديق نسيانها أو قلّل من قيمتها ليخلق مساحةً يصالح فيها نفسه الجديدة، لأنّ جمر الحقيقة لا يخمد.
    وإلياس كلّ ما يطلبه من أخيه أن يعهد إليه بدفتر الذّكرى ليصونه نيابةً عنهما ففى ضياعه ضياعٌ لنصف حياته هو ، وهذا إدراك نفسىٌ عميق يدافع عن حقّ البقاء مدفوعاً بغريزته.
    وإلياس هنا يثبت مبداً هامّاً وهو عدم غمط النّاس حقّهم، إن كانوا قد قدّموا لأمّتهم خيراً فى ماضيهم ، ويدعو للبعد عن المواقف البدائيّة التى ترى فى الإنسان إمّا ملاكاً أو شيطاناً.
    أمّا مقطع "سجين" فيبدأ بحلمٍ يتسلّل فيه صوت أمّه ، عنوان الفرح والأمان والسّلوى والعزاء ، يهدهد روحه ، كما كان يهدهده صغيراً، حتى يأنس لطائف الأحلام الذى يسرقه من واقعه المُرِّ. ونحن عندما نمرض أو تضيق علينا منافذ الدّنيا نتخلّى عن ثوب النّضوج عن طيب خاطرٍ ونرتدّ أطفالاً ننشد اللّمسة الحانية من أمّهاتنا وللكلمة المداوية ، لجوءاً لحضنهنّ، كأنّنا نلوذ بأرحامهنّ دفئاً وحمايةً حتى تقوى الرّوح وتعاود النّضال. ولكن حتى وإن سرقنا السجّان حقنا فى الواقع فلن يستطيع أن يحرمنا الحلم ، حيث الحرّيّة ، فنجرى كالجياد البرّيّة فى مروج الأحلام ، طلقين فرحين لا قيدٌ ولا لجامٌ كما قال أمل دنقل فى قصيدته الخيول:
    "كانت الخيلُ برِّيَّة
    تتنفس بحرية
    مثلما يتنفسها الناس
    فى ذلك الزّمن الذّهبى النّبيل"
    وقد كتب الخال عبدالرحمن الأبنودى أفضل أعماله ملحمة (أحمد سماعين) وهو فى السجن ويقول عن ظرف كتابتها أنّه أسند ظهره للجدار واكتشف حينها أن ليس بعد السجن تحديد للحريّة يمكن أن يفرضها عليه سجّانه لقاء ما قال فأدرك مدى الحريةّ التى أعطيت له ليقول ما يشاء وهذه المفارقة التى تحدّثنا عنها من قبل كيف أنّ فى قلب اليأس ينبض الأمل.
    فاستمع لصوت إلياس فتح الرحمن يصف صوت أمّه فى ظلمة الليل ، كالضّوء يثقب حائط الظلمة ، ويزحم المكان بالحياة المحتفلة بالغناء الجميل الهادئ كأهزوجة الطّفل:
    "صوت أمّى ثقب الحائط فى الليل وغنّى فى المكان
    هدهد الرُّوح وغزّى جسدى فى خريف الحلم والسّلوى ونشدان الأمان"
    وهى صورةٌ شعريّةٌ مكثّفةً تصف حال من حالت بينه وبين أمّه، رمز الحنان والأمان والفرح ، حوائطٌ لا يمكن إلا أن تكون لسجنٍ ، لأنّها حدّت حرّيّته بسمكها وظلمتها فتركته قلق الرّوح ، ضعيف الجسد ينشد السّلوى والأمان.
    فكأنّ صوت أمّه رمحٌ من الضّوء لا تصمد أمامه ظلمةٌ فيثقب قلبها ويرديها قتيلة ومعه تزحف جيوش الضّياء والاحتفال بالحرّيّة والنّصر.
    وأشمل وأبلغ من وصف محمود درويش رحمه الله وأحسن إليه:
    "زنزانتى لا تضىء سوى داخلى..
    وسلامٌ علىَّ، سلامٌ على حائط الصوتِ.
    ألّفت عشر قصائد فى مدح حرّيتى ههنا أو هناك
    أحبّ فُتات السّماء التى تسلّل من كوّة السجن متراً من الضوء تسبح فيه الخيول،
    وأشياء أمّى الصغيرة.."
    إلى أن يقول:
    "حُريّتى: أن أكون كما لا يريدون لى أن أكون.
    وحُريّتى: أن أوسّع زنزانتى: أن أواصل أغنية الباب:
    بابٌ هو البابُ: لا باب للبابِ
    لكنّنى أستطيع الخروج إلى داخلى"
    فبينما يترك محمود درويش رحمه الله وأحسن إليه باباً مفتوحاً للأمل فى داخله بمقاومته وأحتفاظه بحريّته بأن يكون كما يريد، متمسّكاً بحلمٍ واهمٍ ؛ يصادر إلياس كلّ أوهام الانعتاق من الكابوس المستمر ، فكلّ حلمٍ تعقبه اليقظة ويهزمه الوعى ، فالشعر الصادق يخنقك وقت اليأس ولا يُرخى قبضته حتى تكاد أن تزهق روحك ليبعث فيك روح الثورة والمقاومة بدون وهمٍ لمعجزة تُنجيك.
    فالشعر إن لم يصف راهن الحال فهو يتنبّأ بالمآل وقد كان شعر محمود درويش رحمه الله وأحسن إليه أوفق حين قال:
    " ولنا بلاد لا حدود لها كفكرتنا عن المجهول
    ضيقة وواسعة.. بلاد حين نمشي في خريطتها
    تضيق بنا
    وتأخذنا إلى نفق رمادي فنصرخ
    في متاهتها أما زلنا نحبك؟"
    وإلياس نستشفّ من شعره سؤال محبّة الوطن دون تصريح وإنّما يعمّدنا بنار الفاجعة ويتركنا نستنتج أجوبتنا:
    "غير أنّ الطّامّة الكبرى وما هزّ الكيان
    أنّنى لمّا أفقت وافر الضّحكة مفكوك العنان
    قد وجدتّ الحائط النّازف جُثمان الكمان"
    ويرجع إلياس فتح الرحمن لرمز الخيل الحرّة السّعيدة مفكوكة العنان بعد أن حرّره الحلم من واقعه وانغلاق دروب الهروب، ليجد أنّ ذلك الحائط المُجندل برمح صوت أمّه، والذى لا يزال دمه حارّاً دفّاقاً ، لم يكن إلا جثمانه النّازف.
    فهو قيثارة الشّعب أصابها اليأس وتغلغل فى جنبات روحها فقضى عليها ، لأنّ آخر أملٍ فى النّجاة ، حتّى من ثقب الحلم ، ضاع بعد أن اكتشف العسكر منفذ الحرّيّة ولم يكتفوا بحبس الجّسد ولكنّهم أرادوا الرّوح أيضاً، وترقّبوها حتى كسروا مقاومتها. وفى هذا لعمرى مبلغ اليأس ولا يترك للأمل باباً إلا سدّه ، وهو لا يتعدّى سياق القصائد الأربعة ، كأنّه سيمفونيّةٌ تبدأ بصوت منكسرٍ ثمّ يعلو وينخفض ، كالخيل تقطع الفيافى يرفعها تلّ ويخفضها وادٍ ، وتنتهى بقمّة اليأس فى خاتمةٍ مأساويّةٍ ، تُنبى عن حال الشّاعر المكتئبة السّوداويّة الوجوديّة ، قبل أن تلقى بنفسها فى الهاوية كما قال أمل دنقل:
    "صارت الخيلُ ناساً تسيرُ إلى هوَّةِ الصمت
    بينما الناسُ خيلٌ تسيرُ إلى هوَّةِ الموت".
    فقد نمّى إلياس فتح الرحمن لغة الصّورة الشّعريّة بابتكاراته وبتركيباته الموسيقيّة ، منتهجاً جُرساً يزاحم العقل والمنطق ويطلق عقال العاطفة وإن كان لا ينفى التّفاعل بينهم فكرةً ومنطقاً مُخالفاً ، ليوحى بمعانٍ ، ما كانت الكلمات وحدها تقدر على حملها وجلائها.
    وفعل ذلك بمقدرةٍ تمتلك ناصية البلاغة المُعاصرة لترجمة وجدان الشّاعر بكلماتٍ حيّةٍ موحية غير مسرفةً، وبلا زوائد، متماسكة البنيان يشدّ بعضها بعضاً، ذات نضرة ودلالة تُفجّر خيالنا، وثقب جدار إحساسنا المتبلّد من كثرة الاحباط، وتُعدِيه بحالته النّفسيّة، رضينا أم أبينا، حتى يلتهمنا اليأس والعجز فنثور على الشّاعر وهو يثور على نفسه، وبذا يؤدّى الشّاعر دوره إذ يجعلنا نواجه يأسنا بدل الهروب منه ، فتلد المواجهة الثّورة كما يخرج زغب الصّقر الحىّ من حجر البيضة الميّت.
    فالنّقيض يساوى نقيضه وينقضه فى ذات الوقت ، فليس التّعبير عن هذا اليأس والقنوط بسلبيّة ولا استسلامٌ ولا ذاتيّة منكفئةٌ على نفسها تندب حظّها ، فالشّعر يقاس بصدقه وليس بتبنّى إيجابيّةٍ وهميّةٍ أو هروب من هزيمتنا ، وإنّما يقطع إلياس فتح الرحمن بشفرة سكّينه الحاد نياط قلوبنا ليوقظنا من وهمنا ويعطينا الأمل ببعث الألم بدلاً من الخدر. فإحساس الضّياع والغربة إحساسٌ وجودىٌّ يحمل همّه نيابة عنا المبدعون ، ولا نلاقيه إلا عندما تتقاطع دروبنا ، وما نلبث أن نتركه حيث وجدناه أو نذرف دمعةً أو دمعتين نطهّر بهما ضميرنا ثمّ نواصل المسير كأنّ شيئاً لم يكن بينما تنوء ظهورهم بهمّنا وألمنا وفشلنا أبد الدّهر.
    فإلياس فتح الرحمن يؤكّد بديوانه "لا أحد يسعف الخيل" أنّ روح الشّعر الحقّ البركانيّة لم تمت بعد وأنّه لم يزل هناك من يحمل قنديلها ويدكّ أركان سلبيّتنا ، وإن كان إقلاله لا يُغتفر، فانظر إليه يسحق أملنا كما يسحقُ فيلُ دودةً:
    "قال لى جارى السّجين
    لامفر
    إنّ شيخ الجند فى القصر تولّى أمرنا
    بعد كشف الثّقب فى المبنى وشنق الدّيدبان".
    وكلمة الديدبان قديمة مشتقّة ، على ما أظن، من دبّ يدبّ دباً وهى بمعنى الحارس الرّقيب الذى يتخفّى بحيث لا يلحظه المحروس والمحروس منه وقديماً قال الشّاعر:
    "أقامواالديدبان على يفاعٍ
    وقالوا لا تنم .. للديدبان
    فإن آنست شخصا من بعيد
    فصفق بالبنان على البنان"
    والدّيدبان من عامّة النّاس يمثّل الطّبقة الفقيرة ، وهومتنازع الولاء بين سيّده وأهله وعبدٌ لحاجته، فقلبه مع السّجين المظلوم وأمره فى يد الحاكم، ولذا فقد يتغابى عن بعض الأشياء تبرئة لضميره ، وهو جرمٌ لا يغتفر فى عين الحاكم الظّالم فيصير أوّل الضحايا. فهو ضحيّة الظلم الاجتماعى وظلم الطّغاة ولذا فى وقت الثّورات ينضمّ الديدبان للشّعب.
    ورمز شنق الديدبان فى هذه القصيدة إنّما ينبى عن تنبيه الشّاعر إلى عزلة الطّاغية فى قصره فهو قد ضرب على نفسه سياج سجنٍ بمحض إرادته يقلّ عذاباً من سجن الشّاعر الذى لا يخشى أحداً. أو كما قال محجوب شريف:
    "نغنّى ونحن فى أسرك
    وترجف وانت فى قصرك"
    وربما أنّ شنق الديدبان رمزٌ لضيق فسحة الحريّة مع كلّ حكمٍ عسكريٍّ خنق البلاد حتى انتهى بفقدان الثّقة فى حارسه وصار ديدباناً عليه فقتله ، وخنق أحلام السّجناء ، والذى هو موتٌ نفسىٌّ وعذابٌ لا نهائى خير منه الموت الجسدى ، إذ لا حياة بلا حلمٍ أو أملٍ ، ولكن الأمل يدركه الشّاعر جيّداً بتجربته مع شعبٍ قوّض جدران سجنه من قبل أكثر من مرّةٍ.
    عبدالمنعم عبدالباقى على
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de