الرجل القبرصي - الي ابا وود البلد وحليم والي الكل

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-26-2024, 09:06 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة عبد المنعم عجب الفيا(agab Alfaya & عجب الفيا )
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
08-24-2003, 09:23 PM

Agab Alfaya
<aAgab Alfaya
تاريخ التسجيل: 02-11-2003
مجموع المشاركات: 5015

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الرجل القبرصي - الي ابا وود البلد وحليم والي الكل


    الرجل القبرصـي


    دنيا لا يملكها من يملكها
    أغنى أهليها سادتها الفقراء
    العاقل من يأخذ منها ما تعطيه على استحياء
    والغافل من ظن الأشياء هي الأشياء
    الفيتورى

    نيقوسيا في شهر يوليو كأن الخرطوم قامت مقام دمشق . الشوارع واسعة كما خططها الإنجليز ، والصحراء صحراء الخرطوم ، ولكن ذلك الصراع بين ريح الصبا وريح الدبور كما أذكره في دمشق .

    وهي إنجليزية من رأسها حتى أخمص قدميها رغم كل تلك الدماء . عجبت لأنني توقعت بلدا هيليني الطابع ، إلا أن الرجل لم يمهلني حتى أوصل الفكرة إلى نهايتها . جاء وجلس بجانبي على حافة حوض السباحة . وأومأ برأسه إيماءة خفيفة فأحضروا له فنجان قهوة . قال :-
    - سائح؟
    - نعم ..
    أحدث صوتا لم أتبين مغزاه ، كأنه يقول إن مثلي لا يستحق أن يكون سائحا في نيقوسيا ، أو أن نيقوسيا لا تستحق أن يكون مثلي سائحا فيها .

    انصرفت عنه بالتمعن في امرأة وجهها مثل ملائكة روفائيل ، وجسدها كنساء لوحات قوقان . هل هي الزوجة أم المرأة الأخرى ؟ أيضا قطع على حبل تفكيري :-
    - من أين ؟
    - من السودان ..
    - ماذا تعمل ؟
    - في الحكومة ..

    ضحكت لأنني في الحقيقة لا أعمل في الحكومة ، والحكومـات صـدرها
    واسع على أي حال :
    - أنا لا أعمل .. أملك مصنعا ..
    - صحيح ؟
    - لصنع أزياء النساء .
    - شئ جميل .
    - كونت ثروة كبيرة . اشتغلت مثل العبد . عملت ثروة . الآن لا أعمل . اقضي وقتي كله في الفراش .
    - تنام ؟
    - أنا أنت تمزح . ماذا يفعل الرجل في الفراش ؟
    - ألا تتعب ؟
    - أنت تمزح . أنظر إلى ، كم سني ؟
    - أحيانا خمسون ، وسبعون أحيانا ، لكنني لم أشأ أن أساعده ، قلت له :
    - سبعون .
    لم يؤلمه ذلك كما قدرت ، ولكن ضحك ضحكة مجلجلة وقال :-
    - خمسة وسبعون في الواقع ، ولكن ما من أحد يعطيني أكثر من خمسين ، قل الحق .
    - خمسون إذا شئت .
    - لماذا ؟
    - تتريض .
    - نعم ، في الفراش ، أطلع وأنزل . بيض وسود وحمر وصفر . كل الألوان . أوربيات وزنجيات وهنود وعرب ويهود ومسلمون ونصارى وبوذيون .
    جميع الأديان .
    - أنت رجل متحرر .
    - نعم في الفراش ..
    - وفي الخارج ؟
    - أكره اليهود .
    - لماذا تكره اليهود ؟
    - هكذا ، لوجه الله . ثم أنهم يلعبون بحذق .
    - ماذا ؟
    - لعبة الموت . مارسوها منذ قرون .
    - لماذا يغضبك هذا ؟
    - لأنني .. لأنني .. لا يهم .
    - ألا يغلبون ؟
    - كلهم يستسلمون في نهاية الأمر .
    - ونساؤهم ؟
    - ليس أحسن منهم في الفراش . كلما ازدادت كراهيتك لهم ازدادت متعتك مع نسائهم . أنهم شعبي المختار .
    - وزنوج أمريكا ؟
    - لم تصل علاقتي بهم إلى درجة الكراهية . يجب أن انتبه لهم أكثر .
    - والعرب ؟
    - يثيرون الضحك أو الرثاء ، ويستسلمون بسهولة ، في هذه الأيام على الأقل . اللعب معهم ليس ممتعا ، لأنه من طرف واحد ..
    فكرت ، لو أنهم قبلوا بقبرص ، لو أن بلفور وعدهم إياها .
    ضحك الرجل القبرصي ضحكته المجلجلة وقال :
    - المرأة تطيل العمر . يجب أن يبدو الرجل أصغر من سنة بعشرين سنة على الأقل ، هذه هي الشطارة .
    - هل تخدع الموت ؟
    - ما هو الموت ؟ شخص يلقاك صدفة ، يجلس معك . كما نجلس الآن ، ويتبسط معك في الحديث ، ربما عن الطقس أو النساء أو الأسهم في سوق المال . ثم يوصلك بأدب إلى الباب . يفتح الباب ويشير إليك أن تخرج . بعد ذلك لا تعلم .

    كأن غيمة رمادية ظللت برهة فوق هذا المـكان ، لكننـي فـي تـلك
    اللحظة لم أكن أعلم أن القداح تضرب وأن الرجل القبرصي يلعب معي لعبة خطرة .
    اتسعت موجة الضحك فشملتني . كانت عائلة عذبة أنست لها منذ جلست ، الأب طيب الوجه ، والأم صوتها الإنجليزي مثل لحن اليزابيثى من أوتار قيثارة عريقة . أربع بنات كبراهن لا تزيد عن الثانية عشرة . كن يدخلن حوض السباحة ويخرجن ، ويضحكن ، ويعابثن أبويهن ، ويضحكن . وكانوا يبتسمون لي ، ويوسعون دائرة سعادتهم حتى شملتني . وجاءت لحظة رأيت على وجه الأب أنه يوشك أن يدعوني أن أنضم إلى مجلسهم ، في تلك اللحظة دهمني الرجل القبرصـي . قامت البنت الكبرى وخطت برشاقة نحو حوض السباحة . قال الرجل القبرصي ، والبنت توقفت فجأة كأن قوة غامضة أوقفتها ، قال :
    - هذه أدفع فيها مائة جنيه إسترليني .
    قلت له مذعورا :
    - لماذا ؟
    أشار الرجل القبرصي بذراعه إشارة بشعة .

    في تلك اللحظة انكبت البنت على وجهها ، سقطت على الحجر ، وسال الدم من جبهتها . هبت العائلة الطيبة مثل طيور مذعورة واحاطوا بالبنت . فورا قمت من جنب الرجل ، وأنا اشعر نحوه بكراهية طاغية ، وجلست على مائدة بعيدا عنه . تذكرت بناتي وأمهن في بيروت وغضبت ، ورأيت أفراد العائلة الجميلة ينصرفون مبتئسين ، البنت يتشبثن بالأم ، والأم تتحامل على الأب ، فغضبت أكثر . ثم سكنت وسكنت الأشياء حولي . وانحسرت الضوضاء ، وجاء صديقي الطاهر " ود الرواسي " وجلس إلى جانبي ، على الكنبة ، أمام متجر سعيد . كان متهلل الوجه نشطا ممتلئا عافية ، قلت له :
    - صحيح ليش ما كبرت أو عجزت مع أنك أكبر منهم كلهم ؟
    قال :
    - من وعيت على الدنيا وأنا متحرك . ما أذكر أني وقفت من الحركة . اشتغل مثل الحصان وإذا كان مافي شغل ، اخلق أي حاجة اشغل نفسي بها . أنوم وقت ما أنوم ، بدري أو وخري ، شرط اصحي على المؤذن أول ما يقول " الله أكبر الله أكبر " لصلاة الفجر .
    - لكنك لا تصلى ؟
    - أتشهد واستغفر بعد ما المؤذن يخلص الآذان ، وقلبي يتطمن أن الدنيا ماشية زي ما كانت . آخذ غفوة مثل نص ساعة . العجيب غفوة ما بعد الآذان تسوى عندي نوم الليل كله . بعدما اصحي كأنه صحاني منبه . أعمل الشاي واصحي فاطمة . هي تصلى صلاة الصبح .. نشرب الشاي . أنا أنزل أقابل الشمس فوق صفحة النيل وأقول لصباح آه حبابك ومرحبابك . أغيب زي ما أغيب أرجع ألقى الفطور حاضر . نقعد أنا وفاطمة وأي إنسان من عباد الله تجئ به إلينا القسمة . أكثر من خمسين سنة على هذى الحالة .

    يوما ما سأسأل الطاهر ود الرواسي ، عـن قصـة زواجـه بفاطمـة
    بنت جبر الدار ، إحدى أخوات محجوب الأربعة . لم يكن ولادة لنفسه ، بل كان لمحجوب ، وكان يضحك على نفسه وعلى الدنيا . هل يصبح بطلا ؟ واضح أنه إذا وجد الجد فسوف يفدى محجوب بنفسه . هل أسأله الآن ؟ لكنه قال ، وحده ، جملة صغيرة مصنوعة من نسيج حياته كلها :

    " فاطمة بنت جبر الدار . هالله . الله " .
    - ومحجوب ؟
    ضحك الطاهر ود الرواسي ضحكة لها طعم تلك الأيام ، وذلك مدى حبه لمحجوب ، حتى ذكر اسمه يملؤه سعادة ، كأن وجود محجوب على وجه الأرض ، يجعلها أقل عدوانا ، وأكثر خيرا في نظر الطاهر ود الرواسي ضحك وقال وهو يضحك :

    - محجوب حاجة تانية . محجوب معمول من طينة غير . ثم سكت وكان واضحا لي أنه لا يريد وقتها أن يقول أكثر فـي ذلك الموضوع بالـذات . بعد مدة سألته :
    - عبد الحفيظ قال أنك ما دخلت الجامع في حياتك أبدا صحيح ؟
    - مرة واحدة بس دخلت الجامع .
    - ليش ؟ وعلشان ايش ؟
    - مرة واحدة فقط . كان شتاء من الشتوات . طوبة أو أمشير ، الله أعلـم .
    قلت له :
    - كان في أمشير ، بعد ما دفنتم مريم بالليل .
    - صحيح .. عرفت كيف ؟
    - كنت معاكم موجود .
    - وين ؟ ما شفتك داك الصباح ، مع أن البلد اجتمعت كلها يومداك في الجامع ؟
    - كنت عند الشباك اختفى وأبين لحد ما قلتم ولا الضالين آمين .
    - سبحان الله . محيميد المسكين كان يصرخ ويقول " الراجل الكان هنا راح وين ؟ "
    - وبعدين ؟

    فجأة طائر الأحلام طار . اختفى ود الرواسي ، واختفـت " ود حامـد "
    بكل تلك الاحتمالات . وحيث كان يجلس رأيت الرجل القبرصي ، سمعت صوته فأنقبض قلبي . سمعت الصراخ والضوضاء وارتطام الماء بجوانب المسبح ، وتشكلت الأشباح على هيئة نساء عاريات ورجال عراة وأطفال يتقافزون ويتصايحون . وكان الصوت يقول :

    " أدفع في هذه خمسين جنيها إسترلينيا فقط "

    ضغطت عيني لأصحو أكثر ، ونظرت إلى السلعة المعروضة في السوق . كانت تلك المرأة . كانت تشرب عصير برتقال ، في اللحظة التي قال فيها الرجل القبرصي ما قال ، شرقت ، واختنقت ، وهب إليها الرجل هبت المرأة ، وجاء الخدم والسعاة ، واجتمع الناس ، وحملوها مغشيا عليها . كأنما ساحر أشار بعصاه السحرية ، فإذا بالناس ، كما خيل لي ، قد اختفوا فجأة ، والظلام أيضا كأنه كان على مقربة ينتظر إشارة من أحد ، نزل دفعة واحدة . أنا والرجل القبرصي ، وحدنا ، والضوء يلعب ألاعيبه على صفحة الماء . قال لي ، بين النور والظلام :

    - بنتان أمريكيتان وصلتا هذا الصباح من نيويورك . جميلتان جدا وثريتان جدا . واحدة في الثامنة عشرة وهي لي ، والثانية في الخامسة والعشرين وهي لك . أختان ، تملكان فيلا في كايرينيا . عندي سيارة . لن تكلفك المغامرة شيئا . أسمع كلامي . لونك سيعجبهن جدا .
    كانت الظلمة والضوء يتصارعان حول المسبح وعلى سطح الماء ، وكان صوت الرجل القبرصي كأنما يزود جيوش الظلام بالسلاح ، لذلك أن أقول له فليكن ، ولكن صوتا آخر خرج من حلقي ، دون إرادتي ، قلت له ، وأنا أتابع الحرب الدائرة على صفحة الماء :
    - لا ، أشكرك . لم أحضر إلى نيقوسيا بحثا عن هذا . جئت لأتحدث إلى صديقي الطاهر ود الرواسي في هدوء ، لأنه رفض أن يزورني في لندن ، وأعياني لقاؤه في بيروت .

    ثم ألتفت إليه ويا هول ما رأيت . هل أنا واهم أو حالم أم مجنون ؟ جريـت ، جريت لائذا بالجمع في مشرب الفندق . طلبت شرابا ما ، وشربته ، لا أذكر مذاقه ، وشربته لا أعلم ماذا كان . هدأ روعي قليلا . ولكن الرجل القبرصي جاء وجلس معي . كان يقفز على عكازين . طلب كأسا من الويسكي ، دبل . قال أنه فقد ساقه اليمنى في الحرب . أية حرب ؟ حرب من الحروب ، ماذا يهم أية حرب ؟ تهشمت ساقه الخشبية هذا الصباح . صعد جبلا .. ينتظر ساقا جديدة من لندن . صوته إنجليزي أحيانا ، وتشوبه لكنة ألمانية أحيانا ، ويبدو لي فرنسيا أحيانا ، ويستعمل كلمات أمريكية :

    - هل أنت .. ؟
    - لا لست أنا .. بعض الناس يحسبونني إيطاليا وبعضهم يحسبونني روسيا ، وبعضهم ألمانيا .. أسبانيا .. ومرة سألني سائح أمريكي هل أنا من بسوتولاند . تصور . ماذا يهم من أين أنا ؟ وأنت يا صاحب السعادة ؟
    - لماذا تقول لي يا صاحب السعادة ؟
    - لأنك إنسان مهم جدا .
    - ما هي أهميتي ؟
    - أنك موجود اليوم ولن تكون موجودا غدا .. ولن تتكرر .
    - هذا يحدث لكل إنسان ما أهمية ذلك ؟
    - ليس كل إنسان مدركا . أنت يا صاحب السعادة تدرك موضعك في الزمان والمكان .
    - لا أعتقد ذلك .

    شرب الكأس دفعة واحدة ووقف على ساقين سليمتين ، إلا إذا كنت واهمـا
    أو حالما أو مجنونا ، وكان كأنه الرجل القبرصي . انحنى بأدب متصنع جدا، وكان وجهه كما رأيته على حافة البركة يجعلك تحس أن الحياة لا قيمة لها ، وقـال :

    - لا أقول وداعا ، ولكن إلى اللقاء يا صاحب السعادة .

    كانت الساعة العاشرة حين دخلت فراشي . تحايلت علـى النـوم بوسـائل
    شتى ، وكنت متعبا سبحت طوال اليوم . حاولت التحدث إلى الطاهر ود الرواسي .. سألته عن قصة زواجه من فاطمة بنت جبر الدار . سألته عن حضوره صلاة الفجر في ذلك اليوم المشهود . سألته عن ذلك الغناء الذي كان يعقد ما بين الضفتين بخيوط من حرير ، بينما كان محيميد المسكين يضرب في اليم ملاحقا طيف مريم ، لكنه لم يجب . لم تسعفني الموسيقى ، ولم تسعفني القراءة . وكان يمكن أن أخرج ، أذهب إلى ملهى ، أو أتمشي ، أو أجلس في مشرب الفندق . لا حيلة لي . ثم بدأ الألم . خدر خفيف في أطراف أصابع القدمين ، أخذ يزحف تدريجيا إلى أعلى حتى كأن مخالب رهيبة تنهش البطن والصدر والظهر والـرأس ، وكأن نيران الجحيم اشتعلت مرة واحدة .

    كنت أغيب عن الوعي ثم أدخل في دوامة رهيبة من الآلام والنيران ، والوجه المرعب يتراءى لي بين الغيبوبة وشبه الوعي ، ينط من مقعد إلى مقعد ، يختفي ويبين في أنحاء الغرفة . أصوات لا أفهمها تجئ من المجهول ، ووجوه لا أعرفها مكشرة ، قاتمة . ولم تكن لي حيلة . كنت واعيا بطريقة ما ، ولكن لم تكن لي حيلة أن أرفع سماعة التلفون أطلب طبيبا ، أو أنزل إلى الاستقبال في الفندق أو اصرخ مستغيثا . كانت حربا شرسة صامتة بيني وبين أقدار مجهولة . ولابد أنني انتصرت نوعا من الانتصار ، لأنني صحوت على دقات الساعة الرابعة صباحا ، والفندق والمدينة صامتين . اختفت الآلام إلا من إحساس بالإعياء واحساس بيأس شامل ، كأن الدنيا بخيرها وشرها لا تساوى جناح بعوضة . بعد ذلك نمت . في التاسعة صباحا ، حلقت الطائرة الذاهبة بي إلى بيروت فوق نيقوسيا فبدت لي مثل مقبرة قديمة .

    في مساء اليوم التالي في بيروت دق جرس الباب ، وإذا امرأة متشحة بالسواد تحمل طفلا . كانت تبكي وأول جملة قالتها :

    - أنا فلسطينية . ابنتي ماتت .
    وقفت برهة أنظر إليها لا أدرى ماذا أقول ، ولكنـها دخلـت وجلسـت
    وقالت :

    " هل تتركني أرتاح وأرضع الطفل ؟ " .

    بينما هي تحكى لي قصتها دق جرس الباب . أخذت البرقية وفتحتها ، وكانت المرأة الفلسطينية تحكى لي الفاجعة الكبرى ، وأنا مشغول عنها بفجيعتي . قطعت البحار والقفار ، وكنت أريد أن أعلم قبل أي شئ ، متى مات وكيف مات . أخبروني أنه عمل في الحديقة في حقله كعادته في الصباح ، وعمل الأشياء التي يعملها عادة في يومه . ولم يكن يشكو من شئ . دخل دور أقربائه ، وجلس مع أصدقائه هنا وهنا . أحضر بعض التمر في نصف نضجة وشرب به القهوة . ورد اسمي في حديثه عدة مرات ، وكان ينتظر قدومي بفارغ الصبر لأنني كتبت له أنني قادم . تعشى خفيفا كعادته ، وصلى صلاة العشاء ، ثم جاءته نذر الموت نحو الساعة العاشرة ، قبيل صلاة الفجر فاضت روحه ، وحين كانت الطائرة تحملني من نيقوسيا إلى بيروت ، كانوا قد فرقوا لتوهم من دفنه .

    وقفت على قبره وقت الضحى ، وكان الرجل القبرصي جالسا على طرف القبر ، في زيه الرسمي ، يستمع إلى وأنا أدعو وابتهل . قال لي بصوت كأنه ينبع من الأرض والسماء ، ويحيط بي من النواحي كافة :

    - لن تراني بعد على هذه الهيئة إلا في آخر لحظة ، حين أفتح لك الباب ، وأنحني لك بأدب ، وأقول لك " تفضل يا صاحب السعادة " . سوف تراني في أزياء أخرى مختلفة . قد تلقاني على هيئة فتاة جميلة ، تجيئـك ، وتقول لك أنها معجبة بأفكارك وآرائك ، وتحب أن تعمل معك مقابلة لصحيفة أو مجلة . أو على هيئة رئيس أو حاكم يعرض عليك وظيفة يخفق لها قلبك . أو على هيئة لعبة من ألاعيب الحياة تعطيك مالا كثيرا لم تبذل فيه جهدا . وربما على هيئة جمهور ضخم يصفق لك لسبب لا تعرفه . وربما تراني على هيئة بنت تصغرك بعشرين عاما ، تتشهاها ، تقول لك نذهب إلى كوخ منعزل في الجبل . أحترس . لن يكون أبوك موجودا في المرة القادمة ليفديك بروحه . أحترس . الأجل مسمى ، ولكننا نأخذ بعين الاعتبار المهارة في اللعب . أحترس فإنك الآن تصعد نحو قمة الجبل .

    الطيب صالح



    ---------------------
    *** نقلا عن مجلة الدوحة-يناير 1976








    (عدل بواسطة Agab Alfaya on 08-24-2003, 09:56 PM)

                  

08-24-2003, 09:51 PM

aba
<aaba
تاريخ التسجيل: 03-06-2002
مجموع المشاركات: 1993

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرجل القبرصي - الي ابا وود البلد وحليم والي الكل (Re: Agab Alfaya)

    العزيز
    استاذنا عجب الفيا
    تسلم يا أخي وتشكر علي العيدية الحلوة وربنا يخضر الضراع
    لنا عودة
                  

08-24-2003, 10:04 PM

Remo
<aRemo
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 269

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرجل القبرصي - الي ابا وود البلد وحليم والي الكل (Re: Agab Alfaya)

    أعجز عن كل شئ يا صديقى عبد المنعم
    سوى أن أجلس أما سيدنا الطيب صالح موفور الدهشة وبالغ المتعة
    كتبت شيئا أتشرف به عنه فيما يخص الطريفى ود بكري و سعيد عشا البايتات القوى و طه ود ابراهيم
    ليست كتابة جيدا
    لا تطالب بها
    قرأت رسالتك لى هناك
    ملحق الأربعاء بجريدة المدينة حول عملى ليلا يستمر إلا أذان الفجر
    أذكر أن هذه الأوقات كنت أصحى فيها لمطاردة الرغيف فى الدويم
    سيدي الطيب صالح رجل من أجزاء الدهشة و تفاصيل الإبداع
    تكتب عنه كأنك تكتب عن نفسك
    لماذا أحس دوما كأنه توأم أبي يا منعم؟
                  

08-24-2003, 10:04 PM

Remo
<aRemo
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 269

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرجل القبرصي - الي ابا وود البلد وحليم والي الكل (Re: Agab Alfaya)

    أعجز عن كل شئ يا صديقى عبد المنعم
    سوى أن أجلس أما سيدنا الطيب صالح موفور الدهشة وبالغ المتعة
    كتبت شيئا أتشرف به عنه فيما يخص الطريفى ود بكري و سعيد عشا البايتات القوى و طه ود ابراهيم
    ليست كتابة جيدا
    لا تطالب بها
    قرأت رسالتك لى هناك
    ملحق الأربعاء بجريدة المدينة حول عملى ليلا يستمر إلا أذان الفجر
    أذكر أن هذه الأوقات كنت أصحى فيها لمطاردة الرغيف فى الدويم
    سيدي الطيب صالح رجل من أجزاء الدهشة و تفاصيل الإبداع
    تكتب عنه كأنك تكتب عن نفسك
    لماذا أحس دوما كأنه توأم أبي يا منعم؟
                  

08-25-2003, 00:04 AM

aba
<aaba
تاريخ التسجيل: 03-06-2002
مجموع المشاركات: 1993

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرجل القبرصي - الي ابا وود البلد وحليم والي الكل (Re: Remo)

    أخي عجب
    هذا هو الطيب محمد صالح تشرئب روحه نحو مدارات بعيدة و تبقي جزوره ثابتة في تراب حبيب إليه,وقد قالها(نحن بمقاييس العالم الصناعي الأوروبي فلاحون فقرأ,ولكنني حين أعانق جدي أحس بالغني,كأننا نغمة من دقات قلب الكون نفسه,إنه ليس شجرة سنديان وارفة الفروع في ارض منت عليها الطبيعة بالماء والخصب,ولكنه كشجيرات السيال في صحاري السودان,سميكة اللحي,حادة الأشواك ,تقهر الموت لأنها لا تسرف في الحياة) وهو هنا مع هذا القبرصي ازهي ما يكون قرأتها ثم عدت وقرأتها,وفي كل مرة كنت كمن يتذوق فاكهة إستوائية, وقد صور فيها بصدق حال السودانين وهم ليس كبقية خلق الله يتغربون ولكن يوجد دائما ذلك الشئ الذي يجرهم الي الخلف,سمه ما شئت ,الحنين الي الوطن, المنبت,الجزور,اري الكثير من الجنسيات وهم ابناء عمومة لنا ينطلقون ويرفرفون بحرية,ينجحون ينخرطون في مجتمعات غريبة تسرقهم ويكونون وكأنهم جزء منها ,إلا نحن دائما ننظر للخلف,وها هو الطيب صالح يحلق عليا وتحن جزوره ابدا إلي ود حامد

    شكرا عجب الفيا مرة أخري ومد الله في أيام طيبنا الصالح
                  

08-25-2003, 05:05 AM

Agab Alfaya
<aAgab Alfaya
تاريخ التسجيل: 02-11-2003
مجموع المشاركات: 5015

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرجل القبرصي - الي ابا وود البلد وحليم والي الكل (Re: Agab Alfaya)

    العزيز ابا
    اتفق معك تماما في قراءتك للقصة
    ولي عودة
                  

08-25-2003, 07:55 AM

haleem

تاريخ التسجيل: 09-10-2002
مجموع المشاركات: 0

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرجل القبرصي - الي ابا وود البلد وحليم والي الكل (Re: Agab Alfaya)

    شكرا على الهدية القيمة يا عبدالمنعم
    وتحتاج لقراءة أخرى
                  

08-25-2003, 01:02 PM

Yasir Elsharif
<aYasir Elsharif
تاريخ التسجيل: 12-09-2002
مجموع المشاركات: 48736

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرجل القبرصي - الي ابا وود البلد وحليم والي الكل (Re: Agab Alfaya)

    شكرا يا عجب الفيا

    لقد تذكرت أنني قرأت هذه المادة في يوم من الأيام.. وهي كحال كتابات الطيب صالح، يمكن للواحد أن يقرأها عدة مرات ويبقى مندهشا..
                  

08-25-2003, 03:07 PM

haleem

تاريخ التسجيل: 09-10-2002
مجموع المشاركات: 0

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرجل القبرصي - الي ابا وود البلد وحليم والي الكل (Re: Agab Alfaya)

    الطاهر ودالرواسي في نيقوسيا..يا عبد المنعم كأن شخصيات الطيب صالح فتح عليها القمقم وأصبح لا سيطرة لأحد عليها
    تتكرر في نسق بنائي عجيب
    تتبع شخصية محجوب من عرس الزين حيث
    السطوة والنفوذ المادي
    الحل والعقد في موسم الهجرة للشمال الذي لا يرى في مصطفى سعيد سوى أنه يفترض أن يكون وزيراً

    المكر في شخصية الطريفي يبدأ من عرس الزين.." ولمع المكر في عيني الطريفي"

    وتتكرر الشخصيات في نسق دائري
    ودالريس هو مصطفى سعيد حيث المغامرات النسائية والنهاية الفاجعة لكل منهما..وأدرك مصطفى سعيد ذلك فكان أن رسم ودالريس في ثمان وجوه مختلفة
    الزين قلب كبير بلا عقل..فيقابل مصطفى سعيد..عقل كبير بلا قلب
    حسنة بت محمود هي جين مورس..نفس النهاية المأساوية مع وجود قاسم مشترك هو مصطفى سعيد
    حسنة بت محمود هي نعمة وهي فاطمة بت جبر الدار..النشأة بطريقة مختلفة واللعب مع الصبيان دون البنات

    وهكذا ..نظل نلهث إلى أن يصيبنا الدوار

    الطيب صالح يكتب رواية كبيرة تتعدد أجزاؤها
                  

08-25-2003, 09:52 PM

Abdel Aati
<aAbdel Aati
تاريخ التسجيل: 06-13-2002
مجموع المشاركات: 33072

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرجل القبرصي - الي ابا وود البلد وحليم والي الكل (Re: haleem)

    هل الرجل القبرصي
    هو الموت ؟

    ام هذا ما تراائي لي ؟

    عادل
                  

08-25-2003, 10:15 PM

aba
<aaba
تاريخ التسجيل: 03-06-2002
مجموع المشاركات: 1993

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرجل القبرصي - الي ابا وود البلد وحليم والي الكل (Re: Abdel Aati)

    أستاذنا عبد العاطي
    هو الموت نعم ويظهر ذلك جليا في قوله (إحترس فإنك تصعد الأن نحو قمة الجبل ) وما بعد الوصول لقمة الشئ إلا النزول , ولكنه قد يكون أيضا إشارة للتغرب وأنتزاع الإنسان من أصوله ومن لا جزور له ضمرت فروعه ومات
                  

08-26-2003, 03:32 AM

WadalBalad
<aWadalBalad
تاريخ التسجيل: 12-20-2002
مجموع المشاركات: 737

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرجل القبرصي - الي ابا وود البلد وحليم والي الكل (Re: Agab Alfaya)

    Wow

    أتارى الزفة بى هنا ونحنا ما دارين, آسف على التأخير فقد كنت خارج المدينة

    والشكر كل الشكر لك يا عجب العجب, والله عجبتنا ياخى بهذا المجهود الجبار

    لقد ظللت أبحث عن هذه التحفة منذ دهر وها هو الحلم تحول حقيقة

    و سبق لى أن قابلت الأستاذ الطيب صالح لأول مرة بواشنطن العاصمة قبل نحو أربعة سنوات تقريباً وإحتفلنا به حينها فى رحاب (طيب الذكر) منبر السودان الديمقراطى عبر أمسية حاشدة للجالية السودانية بالمنطقة, ثم تكرر اللقاء فى شهر رمضان قبل الماضى فى واشنطن أيضاً عقب محاضرة له بقسم الدراسات العربية والمشرقية بجامعة جورج تاون, وفى الحالتين, بل فى كل الحالات, كان متواضعاً ومنسجماً مع نفسه رغم تعلق العرب به (خاصة الشاميات!) والطلاب الأمريكان الذين أتاهم ليدرسهم كورساً كاملاً عن أدبه وفلسفته الكتابية بجانب كورس مشابه درسه حلال نفس الفترة بجامعة مدينة نيويورك

    هذه القصة تحتاج لقراءة هادئة وأكاد أوافق الأخ عادل عبدالعاطى أن الرجل القبرصى قد يكون هو الموت أمتداداً لروايات الأسطورة والتخيل الذى برع فيه أستاذنا حتى كاد أن يكون مدرسة قائمة بحالها فى هذا المجال

    الشكر مرة أخرى للأخ عجب ولكم جميعاً وكما قال لى البروفسير الشوش ذات مرة أن ما جمعنا معاً فى هذا الحياة هو حب الطيب صالح, لقد صدق
                  

08-26-2003, 03:39 AM

WadalBalad
<aWadalBalad
تاريخ التسجيل: 12-20-2002
مجموع المشاركات: 737

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرجل القبرصي - الي ابا وود البلد وحليم والي الكل (Re: Agab Alfaya)

    وهاكم دى

    هدية بسيطة



    عرس الزين

    رواية شعبية تكشف تفاصيل المجتمع السوداني

    ولد الروائي السوداني الطيب محمد صالح أحمد سنة 1929 في الدبّة محافظة مروي، المحافظة الشمالية للسودان، درس في وادي سيدنا قبل أن ينتقل إلى كلية العلوم بالخرطوم، كما نال شهادة الشئون الدولية من بريطانيا عمل مدرسا قبل أن يتنقل بين عدة وظائف منها عمله في الإذاعة البريطانية في لندن، ممثلا لليونسكو في دول الخليج ومقرها قطر لمدة خمس سنوات بين 1984- 1989، مديرا للإعلام في السودان.

    وكما اشتهر يحيى حقي في رواية «قنديل أم هاشم» وأهملت أعماله الأخرى مثل البوسطجي وغيرها حتى احتج على ذلك متسائلا: «هل هي بيضة الديك؟» فإن الطيب صالح قال:«أنا عُرفت برواية اسمها (موسم الهجرة إلى الشمال) لكن هذا ليس ذنبي!» وهي رواية امتازت بثنائية التقاليد. تلك الرواية التي أعجبت البعض إلى الدرجة التي دفعت بها لتدَّرس في الجامعات بينما منعها البعض الآخر لرؤيتهم أنها تتقاطع مع تعاليم الإسلام. ونفى الطيب أن تكون الرواية التي نشرت سنة 1971تعبر عن سيرته الذاتية أو أن شخصية مصطفى سعيد تمثله هو وعبرَّ عن ذلك قائلا: أنا لست موجودا بحيث يضع للقاريء يده على شخصية ويقول هذا هو الطيب صالح.

    والطيب صالح أديب موهوب طوع قلمه لخدمة التراث السوداني، قال مرة: حقيقة التراث أنه موجود في دمنا، وجزء من تكويننا، هو ميراثنا. وفي موضع آخر قال: إنني منذ صغري تشحذ خيالي حكايات الماضي، أذهب إلى جدي فيحدثني عن الحياة قبل أربعين عاما، قبل خمسين عاما، بل ثمانين عاما فيقوى إحساسي بالأمن. ولهذا نجد أعمال الطيب كلها تدور في محيط القرية. ومن أهم أعمال الطيب صالح الأخرى، مريود، نخلة على الجدول، دومة ود حامد، بندر شاه. وكاتبنا الذي نشر أول قصة له سنة 1957 حاز على عدة جوائز دولية منها جائزة زفزاف للرواية العربية. كما أنه حين سئل عن رأيه كونه مرشحا لجائزة نوبل في الأدب قال: هي كاليانصيب ولن تأتي في الغالب.. لو جاءتني سوف أفرح بها ولا أزعم أني فوق هذا، ولكن حقيقة لا أشغل نفسي بها.

    أما الرواية الأولى للطيب صالح «عرس الزين» موضوع بحثنا والمنشورة سنة 1962 فقد تحولت إلى فيلم سينمائي على يد المخرج الكويتي خالد الصديق، وتدور أحداثها في بلدة ما من السودان، حيث تسيطر الخرافة والإيمان بالمعجزات. فالزين الذي وصفه المؤلف أنه يشبه جلد المعزة الجاف أو العود اليابس هو الشخصية الأولى التي تدور في فلكها بقية الشخصيات. ويرى أهل القرية في شخصية الزين الكثير من التفكه، فهو عندما يضحك يستلقي على قفاه، يضرب الأرض بيديه ويرفع رجليه في الهواء ثم يضحك بصوت كنهيق الحمار. واشتهر الزين بنهمه في الأكل حتى أن الجميع يتحاشون الجلوس معه حين تأتي سفر الطعام في الأعراس والمناسبات. ويقال عن الزين انه حين ولد انفجر ضاحكا على عكس الأولاد الذين يولدون صارخين، كما يقال انه حين مرَّ على خرابة يشاع انها مسكونة سقطت جميع أسنانه عدا سنّين، في كل فك سن. وحين بلغ الزين مبلغ الرجال لم يكن له لحية أو شارب. ولأنه لهذه الصفات وغيرها يختلف عن الجميع فقد حيكت حوله حكايات كثيرة ويقبل منه الجميع بتصرفات لا يُسمح لغيره بفعلها، فهو مثلا يخالط نساء القرية عند البئر وسط البلد, يملأ أوعيتهن ويمازحن، يضاحكهن ويتمادى في مشاكستهن. أما حين يكون الزين في مجلس للرجال فإن المجلس يتحول إلى مجلس تفكه بوجوده.

    واستطاع الزين في أحد هذه المجالس أن يحصل على وعد من محجوب أن يزوجه ابنته علوية، وطلب من الحاضرين أن يكونوا شهودا على ذلك. أما الحاضرون فإنهم يعلمون أن الزين سيسأم هذه الحكاية بعد شهر أو شهرين ليبدأ قصة حب ثانية، ولكنه خلال هذه الفترة لا يسأم من الترديد وبأعلى صوته بين الحين والآخر:«أنا مكتول في حوش محجوب.» وحين ينتهي الزين من عمله في الحقل ويرجع إلى البيت مزهوا، يرجع وسط زفة كبيرة من الصبيان والفتيات الصغار وحينها لا يتردد في الصياح من جديد: «أرروك.. يا ناس الغريق.. يا أهل الحلة.. أنا مكتول في حوش محجوب.» هنا يضحك الشبان بينما يتبرم الشيوخ قائلين:«الولد المطرطش دا يرغي يقول شنو؟» .

    هكذا استمر الحال مع الزين الذي يختار أروع فتيات البلد جمالا وأحسنهن أدبا وأحلاهن كلاما، اللواتي تفتح جمالهن كما تنتعش النخلة الصبية حين يأتيها الماء بعد الظمأ. ولم يستغرب أهل البلد حين صاح الزين فجأة:«عوك يا أهل الحلة. يا ناس البلد. عزة بنت العمدة كاتلالها كتيل.. الزين مكتول في حوش العمدة.» غير أن العمدة، المهيب الوجه، ملأه الغضب لذلك، ولكنه حين رأى الناس ينظرون إلى الزين الواقف أمامهم كأنه جلد معزة جاف قبل أن ينفجروا في ضحك متصل، حينها قتل الغضب في صدره وخاطب الزين قائلا:«إن بقيت اشتغلت شديد الليلة نعرس لك عزة.» فتكرر ضحك الرجال مرة ثانية. واستغل العمدة ذلك بتكليف الزين بأعمال شاقة يعجز عنها الجن.

    هكذا يتكرر صياح الزين بين فترة وأخرى على فتاة من أهل البلد لتجد تلك الفتاة طريقها إلى الزواج بسرعة من شخص يناسبها. ووصلت شهرة الزين إلى البدو وما إن صاح في حق بدوية من عرب القوز قائلا: «أنا مكتول في فريق القوز.. واكتلتني يا ناس.» حتى جاء كثيرون من أثرياء البلد وشبانها المرموقين ووجهائها يخطبونها من أبيها وتزوجها آخر الأمر ابن القاضي. وفطنت الأمهات في البلد إلى أهمية الزين كبوق يدعين به لبناتهن في مجتمع محافظ، تحجب فيه البنات عن الفتيان حتى أصبح الزين رسولا للحب، فأخذن يخطبن وده ويدعنه إلى بيوتهن ويقدمن له أشهى الطعام والشراب، تسلم عليه البنات اللواتي يستلطفن عبثه، وكل واحدة منهن تتمنى أن تقع في قلبه موقعا، فالفتاة التي يخرج اسمها على لسانه تضمن عريسا خلال شهر أو شهرين.

    وروجت أم الزين لولدها أنه ولي من أولياء الله الصالحين، حتى أنها لا تبالي أين يقضي ليله أو نهاره، فحيثما يقام عرس تجد الزين هناك لا يحبسه برد ولا عاصفة ولا فيضان، يظهر فجأة صائحا:«عوك يا أهل العرس، يا ناس الرقيص، الزين جاكم.» وقوي ذلك الاعتقاد صداقة الزين مع الحنين، وهو رجل صالح منقطع للعبادة حيث يقضي شطرا طويلا من حياته ضاربا في الصحراء ويتناقل الناس قصصا غريبة عنه. كما كان للزين صداقات من ذلك النوع مع آخرين يعتبرهم أهل البلد من الشواذ مثل عشمانة الطرشاء، وموسى العبد الأعرج، وبخيت المشوه، يصادقهم الزين ويحنو عليهم. وكثرت الأقاويل بحق الزين حتى قال قائلهم:«لعله نبي الله الخضر.»

    فالزين رغم نحافته كأنه عود يابس تتدفق في جسمه قوة مريعة جبارة لا طاقة لأحد بها حتى أنه أمسك بقرني ثورجامح وألقاه أرضا، وفي مرة قلع شجرة سنط من جذورها، كما أنه أمسك بخناق سيف الدين بن البدوي وكاد أن يقتله، ولم يستطع جمع من الرجال تخليصه من بين يديه، لكن صوت الحنين الذي جاء فجأة وحده الذي أنقذه من بين يديه. وما إن تكبر صورة الزين في أعين الناس حتى تتحطم حين يهب صائحا:«يا أهل الغريق.. يا ناس الحلة..أنا مكتول..».

    كان كل ذلك يجري بينما هناك فتاة مليحة، غاضبة العينين، وقورة المحيّا, تراقب الزين في عبثه ومزاحه، وجدته يوما في مجموعة من النساء يضاحكهن كعادته فانتهرته قائلة:«ما تخلي الطرطشة والكلام الفارغ، تمشي تشوف أشغالك». كان لتلك الكلمات وقعها على الزين حتى أنه أطرق إلى الأرض ومضى خجلا. لقد كانت تلك الفتاة ابنة عمه نعمة بنت الحاج إبراهيم. ولم يمضِ وقت طويل حتى صاح الزين:«أرروك يا ناس الغريق، يا أهل البلد، الزين مكتول، كتلته نعمة بنت الحاج إبراهيم». وسرت شائعات كثيرة في البلد، منها أن الزين صادف نعمة فقال لها:«بنت عمي، تعرسيني؟» فقالت: نعم. وذهب إلى عمه وكلمه في الأمر فقبل الرجل.

    قام محجوب وجماعته الذين كانوا يتصرفون في أمور البلدة بإعداد مراسيم الزواج، وذكرهم الزين بوعد الحنين له قبل موته قائلا:« الحنين قال لي قدامكم كلكم (باكر تعرس أحسن بت في البلد).» فكان عرسا لم ترَ البلدة مثله، مئات الزغاريد كانت تنطلق مرة واحدة. قال الشيخ علي«عرس زي دا الله خلقني ما شفت زيه.» وقال الحاج عبد الصمد: «عليَّ بالطلاق الزين عرّس عرس صح مو كدب.» حتى إمام المسجد الذي عارض مثل هذا العرس قال للزين:«مبروك، ربنا يجعله بيت مال وعيال.» وحضر العرس عرب القوز وتجار البلد وموظفوها ووجهاؤها وأعيانها. ولكن الزين اختفى فجأة والناس في ذروة فرحهم بالعرس ليجدوه أخيرا عند قبر الحنين يبكي منتحبا.

    إعداد ـ كريم السماوي
    جريدة البيان
                  

08-27-2003, 06:03 AM

Agab Alfaya
<aAgab Alfaya
تاريخ التسجيل: 02-11-2003
مجموع المشاركات: 5015

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرجل القبرصي - الي ابا وود البلد وحليم والي الكل (Re: Agab Alfaya)

    الاخوان الافاضل
    ريمو
    حليم
    ياسر الشريف
    عادل عبدالعاطي
    وود البلد

    لكم الشكر جميعا
    ولي عودة لتحليل القصة اذا سمح الوقت
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de