|
ملك المبادرات الفاشلة !.......د. الوليد آدم مادبو
|
ملك المبادرات الفاشلة !
د. الوليد آدم مادبو [email protected] في الوقت الذي كانت فيه المدفعية الألمانية تقصف العاصمة البريطانية (لندن) قبل خمسين عام،كان المثقفون الأوربيون يخططون تحت الأرض للوحدة الأوربية التي نراها اليوم . فنحن سعداء من حيث أننا رأينا أحلام الشعوب الأخري تتحقق وأشقياء من حيث أننا لا نملك الإستفادة من مثل هذه التجارب الإنسانية الفذة، إنما مجرد الإحتفال بها . قبل يومين إحتفت الحركة الشعبية بالرئيس أوباما علي إعتباره ظاهرة عالمية وليست مجرد معجزة أمريكية فأين الحركة الشعبية من نظرة أوباما الأنسانوية للمجتمع الأمريكي وذاك الدولي ؟ هل إستثمر أوباما التناقضات الموجودة في مجتمعه أم عول علي القواسم المشتركة؟ هل ظل أوباما نخبوياً أم ترجم حلمه إلي حركة جماهيرية تخطت كل الحواجز النفسية فإجتمعت اليه الأفئدة في ساحة الأمل الغنَّاء ؟سأفرد مقالاً لهذا الموضوع بعنوان أوباما : معجزة أمريكية أم ظاهرة عالمية؟ ولنرجع من ذاك الفضاء المتسع المفعم بالأريحية إلي مضيق المبادرات الفاشلة التي تعطي صبغة القومية لا لشئ إلا لأنها تقع مباشرة تحت إشراف النخبة النيلية المتنفسة .
لقد كان الملتقي الأخير( الذي عقد بكنانة) تفله في وجه الشعب الدارفوري لأنه أولاً تخطي القضايا الأصل ، وثانياً لاأنها إستعاضت عن السياسيين المخضرمين ، الناشطين المدنيين والأكاديميين المتميزين بمجموعة من المهرجين الذين مافتئوا يروجوا للسلطة سيادتها حتي إستحالت كافة الشعوب السودانوية إلي قطيع من الرعايا والمهمشين . "أنهم" يريدون حلاً علي طريقتهم ، وإذ ذاك هو الحال فلن يكون حلاً إنما هو فرض وصاية . من دون أن يكون هنالك تغيير نوعي في الطريقة التي يتم التعاطي بها مع المآزق (Quagmire) فإنا لا نبحث عن حلاً مرضياً إنما نتنافس طوعياً علي الذي يكون ملكاً للمبادرات الفاشلةً . لقد وفر لنا معهد أبحاث السلم بجامعة الخرطوم ، نحن معشر المتخصصين ، فرصة التفاكر المستفيض في شأن القضية الدارفوريية التي ما برحت تتردى حتى إستحالت إلى كارثة إنسانية كادت تقصف بالكينونة بعد الكيان.
لقد كانت هذه اللقاءات تتسم بالموضوعية التي تغلب الإستراتيجي علي الأني في إستشرافها لرؤا مستقبلية لدارفور وللقطر أجمع . ما إن ظهرت مبادرات أهل السودان حتي إستحال المثقف إلي أكاديمي وذاك الأكاديمي إلي أفندي يستحث الخطي حتي يضع مسودته مهما بلغت ضحالتها في سوق المزايده المكتظ بالمبادرات الفاشلة التي ربما تفتقر فقط إلي دمغة أكاديمية! لا أود أن أورد إنطباعي إنما أيضاً أقصد إستبانت معالماً للطريق الذي يمكن أن يكون مخرجاً لدارفور وللسودان أجمع من هذه الورطة الأنتولوجية التي تهيئ للسياسة توجيه الثقافة وليست العكس.
لا شك أن المعطيات السياسية التي تداعت من جراء المواجهات العسكرية "المضنية" بين الحركات والحكومة (اللاتي تتضمن في أحشائهن عناصر بشرية دارفورية) وما صحبها من زخم إعلامي وإهتمام دولي لم يوظف حتى الآن لصالح المواطن الذي لم يتحمل ما تحمل إلاَ بهدف الوصول إلى موقع تفاوضي يؤهله لمراجعة البنية الإجتماعية والسياسية التي تقنن التفاوت الإقتصادي بشقيه المرئي والمحسوس. إن عدم تملك المواطنين للمعلومة مع إستثراء الحيل التي تعيق التواصل فيما بين المواطنين قد عزلهم رأسياً من شأن هم أصحابه في الأصل وأدواته في الفصل. علماً بأن دارفور تملك من الإرث والحكمة الشعبية ما أهلها للإحتفاظ بفاعلية إدارية لم تغب في أحلك ساعات المحنة، الأدهى أنها وبرغم الإستهداف قد وظفت التقاطعات الإثنية العرقية، الثقافية والفكرية بل حولتها إلى سمفونية حضارية هيئت فرصة التماسك الوجداني للشعب السوداني فترة القرون الماضية. إن تشاطر الأزمة، أي تداولها بين فريقين لا يعنى البتة تقاسما ً لمقومات الهوية، إنما إستحواذاً لساحة تتسع لآمال الجميع وتنحسر عن نرجسيتهم، خستهم، تخاذلهم، سلبيتهم، وضعف إرادتهم، "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له ومالهم من دونه من وال".
إن شعب دارفور الذي تحمل قادته الهم الوطني (قبل أن تكون هنالك قوات نظامية) فكانوا على هامته (في دارجيل، دروتي، جبل الطينة، فرقو، أم وريقات، مناوشي، برنجية)1 قد بات يعاني محنة أنتولوجية، عوص نفسي وأزمة هوياتية لا تكاد تعصف فقط بتماسكة، إنما تماسك الوطن أجمع. ولذا فإنني أهيب بالكل التزحزح عن مواقع الجدب الأخلاقي والفكري للإلتقاء (كل من موقعه) ومن ثم التعاضد لتخفيف وطأة الحيف المعنوي والمادي الذي لحق بشعب دارفور "من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مقيتا". ربما تكون هذه الفرصة الأخيرة للدارفوريين الذين يحتلون مواقع دستورية وتنفيذية أن يبرأوا من الجرائم التي ترتكب في حق أهلنا البرآء من جرم لم يرتكبوه في المتمة. بل ما الذي يمنع حتى الإنقاذيين من الرجوع إلى الله عزَ وجل؟ إن المرء ما دام حياً فهو في فسحة من أمره إذا لم يحبسه حابس الفيل لحد قوله تعالى: (إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق). هنا يلزم ألاَ تتخذ الحكومة الإنتخابات مدخلاً لساحة دارفور لأن ذلك يمثل كسباً آنيا دنيوياً، لكن يسعها أن تسلك مسلكاً أخلاقياً إجتماعياً عله يخرجها من الحرجين – الدنيوي والأخروي. وإذ أن تجيير الإرادة الشعبية قد بات غير ممكناً إذا لم نقل مستحيلاً، فإن تزويير ذات الإرادة بحجة الوصول إلى مكاسب أكبر، لا زال يطعن في صدقية بعض قادة الحركات الذين ربما يفضلون هذا الوضع المأساوي لأنه يهيء لهم فرصة التكلم بإسم الشعب الدارفوري دونما أدنى إحتياج إلى تقنين هذه الشرعية ديمقراطياً. على الصعيد أخر، فإن المعارضة السودانية يجب أن لا تكتفي بإستصدار بيانات إنما مؤازرة شعب دارفور في محنته من خلال التواجد الفعلي والإتصال اليومي بالقاعدة.
إن شعب دارفور يملك من الثروات ما يؤهله لإستشراف مستقبل إقتصادي أرحب إذا توفرت له البنية التحتية، النوافذ التجارية، الضوابط الإدارية والمالية، لا سيما الأمنية الحازمة والإجراءات الشورية الملزمة. أما وقد إختلت كل هذه التدابير فإن مجرد الإقتصاد التقليدي الذي كان ولا زال يعمل بوسائل قروسطية قد تردى من جراء المواجهات الميدانية التي أعاقت سبل التواصل بين كآفة الوحدات الإدارية مما فاقم محنة المواطن الذي لم يجد ما يصرفه على النفقات الصحية والتعليمية المتزايدة. إن الإتاوات التي يدفعها سائقي السيارات لقاطعي الطريق الذين إتخذوا من القصاصات والرقعات إعلاماً قد ضاعفت سعر السكر كما زادت أسعار جميع البضائع التموينية بنسبة 40% متأثرة بتكلفة الترحيل التي إرتفعت إلى 1715 مليون من (تكلفة الترحيل من الخرطوم إلى كبكابية عبر الجنوب). من أين للمزارع هذه الإمكانية وقد بار المحصول في يده لغياب المشتري وزهد الدولة في التمويل؟
لا غرو أن الجماهير قد تملكها اليأس من جراء التشظي شبه اليومي الذي أصاب مواقع الحركات، التعنت والتملص الذي إتسمت به الدولة وأخيراً التلكؤ والتخبط الذي أصبح صفة ملازمة للمجتمع الدولي. إن المخرج من هذا المأزق (حسب تقييمي) يتمثل في ضرورة إتخاذ الخطوات الأتية:
1- تشجيع الجماهير صاحبة الشأن على المساهمة الإيجابية.
2- تفعيلها (أي الأغلبية الصامتة) من خلال تمليكها الحقائق مبسطة، مجردة وخالية من التكهنات.
3- تكوين حلف قاعدي وتمكينه من خلال توسيعه أفقياً ليشمل كآفة الحادبين من ناشطين، باحثين، نازحين، نساء، طلبة، إدارات أهلية، قيادات شعبية ...إلى آخره.
4- التواصل رأسياً مع الجهات الرسمية وغير الرسمية (دونما مفاضلة) إنما مفاصلة توقف محاولات الإستنزاف الإقتصادي (المتزايدة) والإبتزاز السياسي (المتلاحقة).
5- إنتداب هيئة إستشارية عليا من أبناء الوطن يسند إليها مهمة إستصدار نشرات علمية عن القضايا العالقة في شأن الأزمة الدارفورية، وتفويض جهة تهدف للعمل من خلال القنوات الأممية المتوفرة للمرافعة عن الحقوق الثقافية، الإجتماعية، الإقتصادية والفكرية لشعب دارفور.
6- الإستعانة بالعون الذاتي لدعم الحوار الدارفوري-الدارفوري.
7- التحالف الإستراتيجي مع كافة قوي الريف السوداني حتي يستحيل المثلث إلي دائرة.
لقد نجحت الدولة (من خلال تعاملها الإستخباراتي مع دولة قطبية كبرى) في إبتزاز بعض أبناء دارفور الذين تعاملوا معها في فترات مختلفة وبدرجات متفاوتة حتى لا يروا منفذاً إلا التمادي في الجرم. ونحن في هذا المقال نود تمهيد السبيل المعنوي لهم حتى يرجعوا إلى أهاليهم إذ أن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل. هذا لا يعني حتماً إختزال الجريمة في مستوييها الكبيرين (التخطيط للإبادة الجماعية والترويج لها) إنما إستلهام الأبعاد الثقافية/ الإجتماعية، الإقتصادية/ السياسية والجيوستراتيجية للجريمة في بعدها الثالث.
مما لاشك فيه إن بعض المجموعات العرقية في فترة الثلاثة عقود الأخيرة من القرن قد إستقوت بنظامي الخرطوم وتشاد كما توهمت أن بإمكانها دحض التواجد العربي في دارفور. إن إنقلاب ميزان القوة في الخرطوم قد هيأ لبعض المجموعات التي كانت مضطهدة آنذاك التسلح والإنقضاض بطريقة شابها الإسراف ليست فقط على المعتدي إنما على جميع من شابه في اللون والعرق، إذا لم يكن في الأصل. إن محاولات التوازن العسكري قد أحدثت شروخاً في التركيبة الإجتماعية لا يمكن تداركها إلا بتتبع خطوات السلم، أي إتخاذ خطوتين إلى الخلف يكتمل فيها الصف ويتحد القلب لإستهداف عدوو شيمته الغدر. إن هاتين الخطوتين تتمثلا في الإقرار(ولو ضمناً) بأن كل من ولغ في دماء المسلمين الدارفوريين قد تم إستغفاله لصالح أجندة إمبريالية تهدف إلى إضعاف الوحدة الدارفورية وتسعى لتطويق الغرب الإجتماعي من الزحف نحو مراكز القرار ولو بطريقة مؤسسية (غير إنتهازية) وبذات الروح القومية (التي ترفض أن تستحيل المفوضيات الإقليمية إلى كانتونات قبلية أو حتى خشم بيتية).. إن من يخطو هذه الخطوة (الشجاعة في نظري) يجب أن ينتظر العفو من الشعب الدارفوري وليست من المحكمة الدولية أو مناديبها في الدوائر الحكومية. إن ثمة تنسيق إذا لم نقل تلاعب يتم بشأن الإعلان عن لائحة الـ51، وإلا كيف نفهم تجاوز الجريمة في المستوى الأول والإعلان عن أشخاص يعوذهم السند القبلي في المستوى الثاني. لقد آن لشعب دارفور أن يعي أنه سيظل ضحية إستقطابات إقليمية ودولية ما لم يتدارك الأمر ويأخذ بزمام المبادرة الشعبية التي ترفض الثنائيات جميعها: إثنية (زرقة وعرب)، قبلية (زغاوة ورزيقات)، عسكرية (جانجويد وتورا بورا)، إقتصادية (جلابة وغرابة)، سياسية (حكومة وتمرد)، لاننسى المنبرين اللذين أضحيا جزءاً من الأزمة وليست الحل. إن المخرج يتمثل في التعويل على الخصائص الثقافية لشعب دارفور الذي يمثل العمق الوجداني لشعب السودان. ثانياً، إنه ليست لأحد الحق، قلماً حمل أو بندقية أن يستغل هذه المحنة لينوب عن شعب دارفور، إنما إيصاله الموقع الذي يتخذ فيه القرار أصالة عن نفسه وإعزازاً لذاته. أخيراً، إن التمثيل الجهوي المتوازن في تشاد من شأنه أن يدعم ويدفع نحو تماسك الجبهة الداخلية بدارفور. بغير ذلك ستستحيل دارفور إلى جحيم تصلاه نار الآلية العسكرية الأفريقية (سودانية كانت أو تشادية) ويا لها من فرصة ذهبية للمستعمر الذي طال إنتظاره لهذه اللحظة التي يعيد فيه الترتيبات غير اللائقة التي إتخذها في مؤتمر 1885 ببرلين!
ختاماً ، فإنني لا أؤمن بجدوي تدخل جامعة الخرطوم في الشأن السياسي بالطريقة الإسفافية هذه ، إنما بالطريقة الإبداعية التي تتخذ من التدابير الفكرية والفلسفية مامن شأنه أن يغلب السياسي لصالح الثقافي ( أي تكون الثقافة موجه للسياسة) وليست العكس.إذا كانت الجامعات تفتقر إلي مثقفين (فليست كل مختص مثقف بالضرورة) فيمكن إنتداب النجباء والنجيبات من أبناء هذا الشعب من كافة الجهات وحثهم للعمل وفق الموجهات القومية . لقد تعلمنا عن طريق إسالة الدماء وليست فقط المداد إنه لا يمكن إستخدام القومية كحيلة لهضم الأقليات حقها ( وإلاَّ فإننا سنفقد إثنان ونصف مليون نسمة أخرين من جراء التناحر والتقاتل) إنما إعطاء الكل حقه لإستيعاب تجربته في إطارها القومي،الإقليمي والدولي.
|
|
 
|
|
|
|
|
|
Re: ملك المبادرات الفاشلة !.......د. الوليد آدم مادبو (Re: munswor almophtah)
|
Quote: 7- التحالف الإستراتيجي مع كافة قوي الريف السوداني حتي يستحيل المثلث إلي دائرة. |
سئل كاتب ما هو الهدف من مقالاتك هذه ؟ رد قائلا هي أصلا مجموعة أفكار أحاول توصيلها للقارئ الكريم سئل مرة ثانية وبسخرية من هو هذا القارئ الكريم ؟ فرد قائلا هم ثلاثة الذى يتلقى الفكرة مباشرة ويتفاعل معها والذى يأول فيما أرمي إليه فينتقل إلى فكرة أخرى وآخر هاوى إطلاع لا مع هذا ولا مع ذاك . آمل أن أكون مثل الأول يعنى مش أوف بوينت عليه بالنسبة للسؤال 007 المقصود بالمثلث المذكور مثلث ( حمدى ) وتحالف قوى الريف ربما يقصد بها ( المهمشين ) فى كلا الحالتين ومهما يكن يجب أن تقف هذه الحرب اللعينة في دارفور وتنتهى تلك المآسي !!
| |

|
|
|
|
|
|
Re: ملك المبادرات الفاشلة !.......د. الوليد آدم مادبو (Re: munswor almophtah)
|
أربَد : المحنة الوجودية للكيانات العربية في دارفور
د. الوليد آدم مادبو [email protected] لعل من أجلَّ إسهامات الأستاذ/ عبد الهادي الصديق كتابه ( الحزام السوداني ) الذي نبه فيه إلي أن دارفور لا تمثل فقط العمق الوجداني للشعب السوداني إنما أيضاً للشعوب السودانوية قاطبة. ففي هذه النقطة بالذات إلتقتا الحضارة المغاربية بالحضارة المشرقية ، الحضارة العربية بالحضارة الأفريقية فإنبثق عن هذا التدامج الثقافي والإجتماعي كيان إتسم بأعلي درجات المرونة لولا إن النخبة وفي ظروف سياسية معلومة جعلت منه كيان راديكالي مندفع ( معصوب العينين) نحو الهاوية . إذا كانت الدولة في وقت من الأوقات قد حرمت الفور والمساليت حق الدفاع الحسي عن أنفسهم فإنها قد سلبت العرب سلاحهم الأخلاقي الذي كان دوماً أداتهم في التواصل وسلمهم الذي إرتقوا به سلم المجد . ليست أدل من أحمد المعقور الذي إعتمد علي حكمته في إستدفاع العرب للتفاعل بكل طاقاتهم مع هذا الكيان الأفريقي النابغ والذي توفرت له شروط النهضة الأقتصادية والسياسية.
لقد ظلت هذه الشعلة متقده حتي برزت معالم الدولة السودانية (الحديثة) والتي إعتمدت في إدارتها علي الأنصهار وليست التدامج الحضاري فكانت الغلبة للتيار العروبي ( العروبة بمعناها العرقي وليست الثقافي) الإسلاموي ( الإسلام بمعناه الإيدولوجي وليست الإنسيابي) . وإذ ظل مشروع الدولة مفتقراً إلي فاعل إجتماعي ، فقد تجاوزت الحكمة الشعبية هذه الطوباوية التي عشعشت في أذهان الساسة دون أن تنعكس في سلوكهم. فالنميري يلتقي الشيخ زايــد مرتدياً العباءة ويتنقل في الجنوب متوشحاً العاج دون أن يحس بتعارض في سلوكه أو تضاديه في معتقده .
ومن قبل عام (1960م ) تخرج دارفور ( كل دارفور) للإحتفاء بالرئيس الراحل جمال عبد الناصر في بحيرة سبدو ( صرة الرزيقات) دونما أدني إنتباه لوجهته الإيدولوجية. فقد كان أبو خالد زعيماً للإشتراكية التي كانت وستظل حلم الشعوب الأفريقية. أنظر إلي دهاء القادة ونَمِرةَ الشعوب.
ماذا حدث بعد ذلك ؟ لقد أهملت الأوهام لصالح الواقع الميداني الذي إقتضي تفعيل التناقضات حتي لا تبق مودة بين أخوين ، فالحرب بين القبائل العربية تكاد تفوق من ناحية إحصائية عدد المنازعات بينها وبين القبائل الأخري. وكلما ماتت جذوتها وجدت من يزكيها خشية أن يتكرر نموذج المهدية فيؤؤل الحكم إلي " الأقلية" ، ومن هنا نفهم إستهداف المؤتمر الوطني أيضاً لمناطق النيل الأبيض الذي قابلته الحركة الشعبية بالتركيز علي المناطق الثلاث : جبال النوبة ، الأنقسنا ، والجنوب ( التغلب علي نظرية الهلال والنجمة بنظرية الأنجم الثلاث) . لقد دخلت الدولة في " أم كبك " لانها بتفتيت الكيانات العربية قد هيئت لبعض المجموعات الإنتهازية الإستحواذ علي منصة المشهد السياسي دونما أدني أهلية ، إنما السلاح إستحوذوه كقطاع طريق ورخصوه "كقادة تحرير" . إن الدولة لا تستطيع أن تجهز علي هذه المجموعة بالذات قبل أن تحاصرها أخلاقياً وفكرياً من خلال التفعيل الحقيقي المضني للتحالفات الإستراتيجية التي حكمت دارفور خمسمائة عام ( كيف إذن لا نتبني فكرة الدفاع عن الإقليم الواحد ؟ ) . وإذا ذاك هو الحال فإن الدولة لا تستطيع أن تستعين بعنصر الفناء لمشروع البناء . لابد لها من عناصر بشرية جديده تتمتع بأهلية ، شعبية والأهم من ذلك رؤا مستقبلية.
إن التحديات التي تنتظر الطاقم الجديد هي كالأتي :
إبراز حجم الضرر الإقتصادي الذي أصاب البوادي العربية من جراء الإستبعاد الطوعي ( عدم وجود الحافز الذي يحثها للإندماج ) وذاك القسري لها من قبل المنظمات الإقليمية والدولية ( تجاوزها في مراحل التخطيط ، التنفيذ والتقييم).
إتخاذ التدابير التربوية ( دينية وعلمانية/عقلانية) لمقاومة جيوش التردي الأخلاقي والإجتماعي ( وإلا صدق علينا قول الشيخ ود بدر : وأأسفي علي الأبالة ، الدنيا عدوها جوالة والأخرة فاتتهم بحالة) . يمكن أن يتضمن هذا المشروع وضع خطة آنية ( ندوات ومحاضرات) وأخري طويلة المدي تبعث في الشباب الأمل وتستحثه علي مزوالة مسؤليته في الشأن العام وتولي زمام الأمور .
إنفاذ خطة إعلامية تهدف إلي إبراز الدور الإيجابي الذي لعبته القبائل العربية بقيادة الناظر سعيد مادبو وآخرين في مرواغة النظام حتي أيس من أدراجهم وحل الكراهية كما حرمهم أشواك النرجسية ، الملق، والتردي المعنوي.لو رفعنا أيادينا البيضاء لغارت تلكم الحمراء.
إن هذا الأمر ليست بالسهل لأنه لم يعد للعرب صليح ( صدق النبي "صلي" حين قال : ويل للعرب من شرٍ قد إقترب ) . فالامبرالية لا تدخر جهداً لوسم العرب بتهمة الإرهاب ، ليست هذا فقط إنما أيضاً إدراجهم تحت طائلة الإنحراف . لقد قالت إمراة عجوز للسيد جون ماكين بأنها تتوجس من التصويت لأوباما لأنه عربي ، فرد عليها قائلاً: "لا لا ،إنه رجل أسرة محترم!" لا ننسي إن الأبواق الصهيونية قد ركزت جهدها علي مسألة دارفور حتي ترفع العبء عن كيانها بالإشارة إلي " عربي" جلاد في القارة الأفريقية وقد كثرت شكوته من كونه " الضحية" تحت سلطتها ولسان حالها يقول أن التراتبيه العرقية ( أي العنصرية) التي تأنفون منها والإستيطان الذي ترفضونه هو ماثل أمامكم وقد شهد شاهد من أهله . علي الصعيد المحلي فإن القيادات العربية النابهة والملتزمة تستحي من مجرد التفاكر في هذا شأن خشية أن توصف بالعنصرية أو تنعت بالضحالة الفكرية التي إتسمت بها المجموعة المجموعه العروبية ( وليست العربية) في الثمانينات. ومن عجب أن هذه المجموعة لم تزل تروج لمشروع الهلال والنجمة ( الهلال هو قبائل عطية وحيماد والنجمة هي قبائل الجعليين) وتبشر الناس بالتحالف الذي من شأنه أن يضمن الإذدهار لكافة القبائل العربية في السودان ! إن مجرد الإطلاع علي حظ الأقاليم من القروض التي أُخذت بإسم كافة السودانيين والتي ستدفعها الأجيال القادمة يدحض هذه الفرية فحظ إنسان الوسط من هذه القروض 390 دولار ، إنسان دارفور والجنوب 39 دولاراً فقط . إنني أعجب من إقتصاد يدار من مواقع النجوم ومدار الفلك ، وبشر يساسون من منطلقات البغض لا من واقع القواسم المشتركة. إننا يجب أن نقاوم – ما إستطعنا إلي ذلك سبيل- محاولات الإستقطاب الأثني التي يقوم بها قادة مفلسون إستطاعوا أن يختطفوا منصة المؤتمر الوطني والحركة الشعبية ، فإن هم إستمرئوا هذا الأمر فسيعبثوا بمقدرات حضارية جلّ أن تتوفر لأحدي الأمم. إننا، كمثقفين عضويين، يجب أن نتخذ ما من شأنه أن يخرج الفرد من أزمته ( النفسية) ، المجتمع من ورطته ( المعيشية) والدولة من إفلاسها الأخلاقي وورطتها القانونية . لقد سأل أحد الباحثين إحدي النازحات عن موضوع التعويضات فقالت له وبالحرف المنتصب واليقين الباهر " أنا ما تعبانه تعبان الشال المال! " كيف بالساسة ، بالله عليك ، يستثمرون محنة أهاليهم ؟ وقد وعي الكل ( من بعد إستكمال الحرب دورتها وإستبانت الجنجويد لدورهم ككلب صيد ينتهر بقولهم ( إربَد) حتي يخلوا " الراعي" بصيدته ، ومن عجب أن الصياد قد أصبح صيدة في عدل الميزان الغائر.
ليست عيباً أن يسعي المرء للترقي بأهله يستدفعه في ذلك الهم القومي ، إنما العيب ( كل العيب) أن يعول المرء علي تخلف أهله تستحثه في ذلك المصلحة الذاتية . إن قادة الكيان العربي أفقدوا كيانهم هيبته ومن بعد حين سيفقدون مواقعهم بتولي جيل جديد للمسؤلية . لقد قال أحد قادة المؤتمر الوطني المتكلمين " إن عربكم ديل ، عرب دارفور ، ماعندهم دين بقرش" . لعلها الصدفة ( صدفة التواطؤ علي الباطل ) التي هيئت له فرصة التعرف علي كل المنافقين .
عليه فإنني أقترح الآتي:
إنتداب مجموعة من النابهين من أبناء القبائل العربية بدارفور للتفاكر في شأن التسامح والتواصل الحضاري ( تقييم التجربة في إطارها القومي، الإقليمي والدولي).
إستصدار ورقة مفاهيمية تضع المقترح في إطاره التداولي وتهيئ لورشة عمل يحضرها المختصون في شأن الحكم ، الإستراتيجية ، الإعلام ، إلي آخره . لا مانع من إستضافة علماء من النيجر ، مالي ، موريتانيا، إلي أخره.
عرض نتائج المباحثات علي كافة القوي السياسية والمدنية .
إدماج هذه المجموعة مع داسف ( قوي تحالف المجتمع المدني الدارفوري) .
الإلتزام بخارطة الطريق التي توازن بين الهم الأني ( مخاطبة القواعد) وذاك الإستراتيجي ( تغيير الصورة النمطية للكيان العربي في دارفور وإلحاقه بالمجموعات التي تعمل مدنياً علي تحقيق السلام) .
*هذا المقال هي نتيجة حوار مستفيض مع بعض من قادة الرأي الدارفوري، غير أنني أتحمل مايرد فيها من أفكار.
| |
 
|
|
|
|
|
|
|