قراءة تحليلية في كتاب: الدولة الدينية الإسلامية في النظرية والتطبيق لمؤلف البروفسير موسى الباشا

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-07-2024, 12:29 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الرابع للعام 2008م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
10-27-2008, 04:37 PM

Ahmed Abushouk

تاريخ التسجيل: 12-08-2005
مجموع المشاركات: 344

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
قراءة تحليلية في كتاب: الدولة الدينية الإسلامية في النظرية والتطبيق لمؤلف البروفسير موسى الباشا

    قراءة في كتاب
    الدولة الدينية الإسلامية في النظرية والتطبيق
    لمؤلفه البروفسير موسى محمد الباشا

    د. أحمد إبراهيم أبوشوك


    أحدث إلغاء الخلافة العثمانية في استانبول عام 1924م جلبةً سياسيةً في حواضر العالم الإسلامي، حيث انقسم الناس بين مؤيد لذلك القرار ومعارض له، فقد عدَّه المعارضون ردَّة سياسية توجب المراجعة والتوبة، وثـمَّنه المؤيدون بأنه خطوة تجاه الإصلاح السياسي والتجديد، لأن الخلافة العثمانية في عُرفِهم قد فسدت وأفسدت. وفي ظل هذه الخصومة السياسية المحورية أصدر الشيخ علي عبد الرازق، قاضي محكمة المنصورة الابتدائية الشرعية آنذاك، كتاباً بعنوان: الإسلام وأصول الحكم، احتج فيه بأن الخلافة ليست أصلاً في الإسلام، وأنها قضية دنيوية سياسية، لم يرد بشأنها نص قرآني أو حديث نبوي، وأن تنميطها السياسي في أنساق وراثية كان "نكبة على الإسلام وعلى المسلمين". وبذلك نسف الشيخ علي عبد الرازق طموحات ملك مصر أحمد فؤاد بتولي الخلافة بعد إلغائها في استانبول، وشكك في صدقية القيم العالقة في أذهان السواد الأعظم من المسلمين عن شرعية الدولة الإسلامية، وتحدى سطوة علماء الأزهر بطعنته النجلاء في مرجعية الخلافة الدينية. ونتيجة لهذه التحديات الصريحة والقادحة في تراث علماء السلطان وأهل السياسة كان مصير الشيخ علي عبد الرازق الفصل من الهيئة القضائية، وسحب شهادته العالمية، وإسقاط اسمه من هيئة كبار العلماء في مصر، إلا أن مؤلفه الإسلام وأصول الحكم ظل ثورة على القديم الموروث، وتحدياً صارخاً لأدبيات الأحكام السلطانية السابقة له والمعاصرة. ومن زمرة العلماء الذين تصدوا للأستاذ علي عبد الرازق الشيخ محمد رشيد رضا، الذي وصف الكتاب: "بأنه هدم لحكم الإسلام وشرعه من أساسه، وتفريق لجماعته، وإباحة مطلقة لعصيان الله ورسوله في جميع الأحكام الشرعية الدنيوية من شخصية، وسياسية، ومدنية، وجنائية، وتجهيل للمسلمين كافة من الصحابة، والتابعين، والأئمة المجتهدين، والمحدثين، والمتكلمين، بالجملة هو إتباع لغير سبيل المؤمنين." وفي ضوء هذا الحكم المسبق نشر الشيخ محمد رشيد رضا عدداً من المقالات في مجلة المنار، ومن خلالها حاول أن يفند كل الحجج والبراهين التي استند إليها مؤلف الإسلام وأصول الحكم في دحض مرجعية الدولة الإسلامية من حيث الشكل والمضمون. وساند أيضاً موقف هيئة العلماء والدولة في إصدار إجراءات تأديبية بشأن المؤلف، إلا أن هذا الموقف المتشدد استنكره عدد من الكُتَّاب والمفكرين، وفي مقدمتهم الأستاذ عباس محمود العقاد، الذي نشر مقالاً في صحيفة البلاغ تحت عنوان: "روح الاستبداد في القوانين والآراء"، وجاء في أحد مقاطعه "نخشى أن تكون الروح الاستبدادية قد سرت إلى بعض جوانب الرأي العام فنسينا ما يجب لحرية الفكر من الحرمة، وما ينبغي للباحثين من الحقوق." وصب في الاتجاه ذاته موقف الدكتور محمد حسين هيكل، الذي قرظ كتاب "الإسلام وأصول الحكم" في صحيفة السياسة، وانتقد موقف رشيد رضا بقوله: "وكم نود لو أن خصوم الأستاذ في رأيه تقدموا لنا بمثل ما تقدم به من تحقيق علمي هادئ لا تغشى عليه الشهوات، ولا تتلاعب به المنافع، ولا تسقط حججه الاندفاعات الباطلة."
    والآن بعد مضي أكثر من ثمانية عقود على صدور كتاب الإسلام وأصول الحكم والضجَّة السياسية والفكرية التي أحدثها، ها نحن نطالع كتاباً آخر بعنوان "الدولة الدينية الإسلامية في النظرية والتطبيق"، لمؤلفه الأستاذ الدكتور موسى محمد الباشا، الذي انطلق من فرضيَّة مماثلة لفرضيَّة الشيخ علي عبد الرازق، عضدها بكم هائل من الشواهد الواردة في المصادر التراثية والمدونات الإسلامية التي تناولها بجرأة أكاديمية فائقة وانتقائية، ووطَّن لها في أوعية بحث علمية معاصرة، جمعت بين التنظير والتطبيق، والمقارنة والتحليل، واستقراء المصادر واستنباط النتائج التي توصل إليها من خلال قراءته للمدونات القديمة والأدبيات المعاصرة. ونود في هذه القراءة التحليلية-المقارنة أن نعرض مفردات كتاب الدولة الدينية الإسلامية في النظرية والتطبيق، ثم نقومها في إطار الفرضيَّة التي انطلق منها الدكتور موسى الباشا، وطبيعة الشواهد التراثية التي استند إليها، وإلى أي مدى أفلح في تقديم معطيات موضوعية قادته إلى النتائج التي توصل إليها.

    عرض الكتاب وتحليل مفرداته
    صدر كتاب الدولة الدينية الإسلامية في النظرية والتطبيق: المملكة العربية السعودية، [و] جمهورية إيران الإسلامية وجمهورية السودان نماذج دراسية، لمؤلفه الأستاذ الدكتور موسى محمد الباشا، الذي يعمل حالياً في إحدى الجامعات المكسيكية، في يونيو 2008م، ضمن قائمة إصدارات مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي بأمدرمان. ويتكون الكتاب من 288 صفحة من القطع المتوسط، استهلها المؤلف بمقدمة ضافية عن مُسوِّغات اختيار الموضوع، والمنهج الأكاديمي الذي اتبعه في الدراسة، والمصادر التي استأنس بها، ثم أعقب ذلك بخمسة فصول رئيسة، ذيلها بخاتمة النتائج التي توصل إليها من خلال بحثه وتنقيبه عن الدولة الدينية الإسلامية في إطارها النظري وتطبيقاته المصاحبة. ونبدأ عرض مفردات هذا الكتاب المثير للجدل بمُسوِّغات الاختيار التي ارتكن إليها الباحث، والتي يتمثل شقها الأول في تدابير احترازية ترتبط بطبيعة التحديات التي تواجهها الدول المسلمة المعاصرة نتيجة لطرح بعض قادتها السياسيين إلى نماذج من أنماط الدولة الدينية الإسلامية، ويتجلى شقها الثاني في دحض الفرضيات التي أسس عليها دعاة الأسلمة السياسية (أو الانبثاقيون كما يسميهم المؤلف) مرتكزاتهم النظرية للدولة الإسلامية المستنبطة من أدبيات الوحي، وسوالف التطبيق المنبثقة في تجارب السلف التاريخية. وفي إطار التدابير الاحترازية ينبِّه الدكتور الباشا الرأي العام العالمي إلى "خطورة إقامة كيان حكم كهنوتي يستتر تحت قناع ما يطلق عليه تخايلاً مسمى دولة الشريعة الإسلامية كبديل عن الدولة اللادينية القائمة"، لأنه يرى في ذلك تهديداً للوحدة الوطنية في البلدان التي يتشكل وجدانها العقدي من ديانات متعددة، وتميزاً لحقوق المواطنين وواجباتهم على أساس عقدي، وآخر نوعي يحرم المواطنة المسلمة "حق تقلد الوظائف الولائية الكبرى في الدولة بسبب جنسها لا لقصور في قدرتها العقلية والمعرفية"، ودعوةً للانغلاق السالب الذي يعقِّد عملية التواصل مع العالم الآخر، بصورة إيجابية "أساسها التسامح والتفاهم والندِّية
      ، وتبادل الخبرات والمعارف العلمية والتقنية" في مناخ ينعم بالثقة والحرية واحترام الخصوصيات الدينية، وفوق هذا وذاك يرى الدكتور الباشا أن أدبيات كيان الدولة الدينية الإسلامية المزعوم يفتقر إلى الإطار النظري المعاصر في مجال الاقتصاد، والاجتماع، والسياسة، وبقية القضايا الحياتية الأخرى. وأما من ناحية الفرضيات النظرية الانبثاقية لمفهوم الدولة الدينية الإسلامية فيرى المؤلف أن كيان الدولة الدينية الإسلامية لا يقوم على "نصوص قرآنية، وموثوق موروث الرسول الخاتم (ص)"، و"كيان الرعوية الديني" الذي أسسه في يثرب، بل ينطلق من "دعوة ناسوتية" تهدف إلى تحقيق أهداف سياسية زمنية، تُستغل فيها أيديولوجية الدين وتعاليمه كشعارات مضادة للأيديولوجيات العلمانية التي تروِّج لشعار الدولة اللآدينية، "باعتبارها الضامن والكافل الأوحد للمساواة في حقوق المواطنة بين أبناء الوطن الواحد، دونما تمييز بينهم إلا في ما يقتضيه تمايز القدرات والكفاءات ما استوجب القانون ذلك".

      جذور الفكر السياسي لتيارات الانبثاقيين المعاصرين
      تمثل المُسوِّغات المشار إليها أعلاه بشقيها الاحترازي والاعتراضي الخيط الناظم لكل فرضيات الدراسة موضوع التقويم، ومعطياتها، وصياغاتها التحليلية، والنتائج التي توصلت إليها. وفي إطارها أيضاً جاء الفصل الأول تحت عنوان "جذور الفكر السياسي لتيارات الانبثاقيين المعاصرين"، حيث تناول المؤلف فيه ثوابت الفكر السياسي الإسلامي التي تمثل المناهل الفكرية التراثية لتيارات الانبثاقيين المعاصرين بالجرح والتعديل من خلال ثلاثة محاور رئيسة. تطرق في المحور الأول، الذي أطلق عليه المحور التراثي، إلى الأدبيات السياسية التي سادت إبَّان الحقبة الممتدة من نهاية العقد الرابع من القرن الأول حتى نهاية القرن الثالث الهجريين. واستهل هذا الفصل بمناقشة المرجعيات اللغوية المرتبطة ببعض المصطلحات الوظيفية في الدولة الدينية الإسلامية، مثل الخلافة، والإمامة، والإمارة، وحللها في إطار المعاني اللفظية والدلالية للآيات القرآنية التي حملتها بين ثناياها، وتوصَّل إلي أن النصوص الدينية المرتبطة بالمصطلحات المختارة جاءت خلواً من أية إشارة مباشرة لأمر يتعلق بالحكم والسياسة، لأنها كانت تصب في معين التبليغ الرسالي وأدواته الدعوية. وعبر هذا المدخل اللغوي انتقل الدكتور الباشا إلى دحض كل النصوص القرآنية والأدبيات الحديثية التي عدَّها علماء الأحكام السلطانية أسانيد ومسوغات شرعية تدل على انبثاق السياسة عن الدين، وتحث المكلفين شرعاً على إقامة الدولة الدينية وتصريف شؤون الناس الحياتية. ويعتقد الدكتور الباشا أن عملية التنصيص جاءت لاحقاً، لأن النصوص القرآنية والحديثية التي احتج بها علماء الأحكام السلطانية لم يحتج بها السلف الصحابي في "صراعهم على سلطة الحاكمية السياسية في منتدى بني ساعدة، وإنما ساقوا حججاً عقلية، وعوّلوا على أسانيد ومُدَعِّمات اجتماعية لتبرير أحقيتهم وفضلهم على غيرهم في الاستئثار بالسلطة السياسية، إذ لم يكن الدين محوراً للصراع الصحابي."
      وعند هذا المنعطف يماثل موقف الباشا موقف الشيخ علي عبد الرازق، ويتفق جزئياً مع موقف المستشار عبد الجواد ياسين الذي يطعن في أهلية الفقه السلفي (أو الانبثاقي كما يسميه الباشا) ودوره في تقنين السلطة السياسية من حيث الشكل لا المضمون، ويصفه بأنه فقه شُكِّل في ظروف واقع تختلف عن ظروف الواقع الراهن، وأنه في مجمله عبارة عن أحكام صدرت بشأن وقائع أو فرضيات لا تخرج عن دائرة المسكوت عنه، ومعظمها جاء متأثراً بالهاجس السياسي أكثر من أن يكون ملتزماً بالمقاصد الشرعية الكامنة في النصوص القرآنية والحديثية. بيد أن المستشار ياسين يفرق بين "الهيكل الشكلي" للدولة الإسلامية و"المحتوى الموضوعي"، محتجاً بأن النصوص قد وضعت الإطار العام لتحديد مضمون الحكم ومنهاجه، وسكتت عن القضايا التي ترتبط بشكل الحكومة وتراتيبها الوظيفية، ويعني هذا السكوت من وجهة نظره أن النصوص قد أحالت الهيكل الشكلي للسلطة إلى دائرة المباح، التي أضحت عرضة لتيارات الفقه المتوالية والمتراكمة إبَّان عصر التدوين وما بعده، ونتج عن هذا التراكم خلط في فهم ماهية الهيكل الشكلي للسلطة ومحتواها الموضوعي، وألقى هذا الخلط بظلاله على تصور العقل المسلم المعاصر، ودفع الفكر العلماني المخاصم ليقدح في أدبيات التراث الإسلامي السياسية. واستشهد المستشار ياسين في هذا المضمار بقضية الخلافة، كما استشهد بها الباشا، واعتبرها من حيث المضمون فريضة لازمة حسب النصوص الشرعية، وأن نسقها الشكلي لا وجود له في النصوص الشرعية ولا في التاريخ، بل أن التاريخ أفرز "أنساقاً متعددة ومختلفة في الجملة والتفصيل". إلا أن النظرية السلفية المتأثرة بالواقع السياسي تحاول أن تسقط إلزامية المضمون على النسق الشكلي، وبذلك تنقلنا من فرضيَّة المنهاج (المضمون) إلى فرضيَّة النظام (الشكل) الذي تشكلت بنيته في فضاء التاريخ الواسع. ويبدو أن عدم تنصيص الشكل وكثرة أنساقه المتعددة التي أفرزتها الممارسة السياسية عبر التاريخ قد دفعا الدكتور الباشا لرفض الشكل والمضمون معاً، كما فعل سابقه الشيخ علي عبد الرازق. وشذ أيضاً الدكتور الباشا عن مدرسة التمييز النصي التي تفرق بين الآيات المكية والمدنية، بحجة أن الآيات المكية هي آيات الأصول التي تصلح لكل زمان ومكان، وأن الآيات المدنية هي آيات التشريع التي ترتبط بواقع الحال الذي عاصرته، وبموجبه فقدتْ أهليتها لوضع أحكام تُحدد مسارات المجتمع المعاصر وخياراته السياسية، إلا أنه اتفق معها في طرح خيار الدولة اللادينية كخيار أمثل للمجتمع المسلم المعاصر.
      وفي إطار دحضه لمرجعية تنصيص السلطة السياسية في القرآن والسنة شكك الدكتور الباشا أيضاً في شرعية انعقاد الإجماع الصحابي، وعلل ذلك بوقائع سقيفة بني ساعدة إبَّان تنصيب أبي بكر الصديق خليفة للمسلمين، مستأنساً في ذلك بالمدونات التاريخية، وجامعاً قوله بأن الإجماع لم يكن صادراً عن "كافة أصحاب الرسول الخاتم (ص) يومئذ في رواق منتدى بني ساعدة، وإنما كان اتفاق مَنْ حضر مِنْ أصحاب المعصوم (ص)، أي اتفاق بعضٍ من كلٍ حول ضرورة شغل منصب الريَّادة على المسلمين الذي شغر إثر رحيل الرسول الخاتم (ص)." ويرى أن الإقرار بأمر الإجماع الصحابي المزعوم هو "إقرار بيّن بأن أمر تنصيب والي على المسلمين في جوهره شأن ناسوتي لا لاهوتي." وبهذه الكيفية يتفق الدكتور الباشا مع الشيخ علي عبد الرزاق الذي لا يرى أي مسوغ لقبول الاتفاق السياسي الذي حدث حول خلافة أبي بكر الصديق بأنه إجماع صحابي، وبذلك ينقض الباشا العروة الثالثة التي استند إليها "الانبثاقون" في تنصيص قضية السلطة السياسية في الإسلام.

      كيان الرَّعَوِيَّة الرسولي في يثرب
      بعد تفنيد الأسس النظرية والمرتكزات الشرعية للدولة الدينية الإسلامية انتقل الدكتور الباشا إلى نموذج دولة المدينة الذي نعتَّه بـ "كيان الرَّعَوِيَّة الرسولي في يثرب"، وطرح حزمة من الأسئلة حول أساس مرجعية الحاكمية فيه، وتساءل إذا كان هذا الكيان الرَّعَوِي كياناً مماثلاً في جوهره وغايات لكيانات الرَّعَوِيَّة الرسوليَّة التي أقامها أنبياء ورسل سابقوه على الرسول الخاتم (ص) في التاريخ؟ وانطلق في هذا الشأن من فرضيَّة قوامها أن كيان الرَّعَوِيَّة الذي أسسه الرسول الخاتم (ص) في يثرب قد تميز في جوهره وغاياته عن "دول المُلك والكيانات السلطوية القبائلية التي عاصرته"، وعضد ذلك بحزمة من المعطيات التراثية التاريخية المنتقاة التي حاول من خلالها أن يدحض فرضيات "الانبثاقيين" المقابلة لفرضيته، والزاعمة "بأن الرسول الخاتم (ص) قد أقام دولة دينية إسلامية في يثرب إبَّان الحقبة الممتدة من حين هجرته في بداية العقد الأول حتى بداية العقد الرابع من الهجرة (1-32 هجرية)". وتجلَّت معطيات الدكتور الباشا التاريخية المنتقاة في قراءته النقدية المخالفة لطرح الذين يسميهم مجازاً بالانبثاقيين، حيث بدأ نقاشه بتحليل مفردات بيعتي العقبة الأولى والثانية، وخلص إلى أن متون هاتين البيعتين لا تتضمن أية "نصوص قانونية تتعلق بمؤسسات سلطة الحاكمية في الدولة، ولا تشتمل على "أية لوائح تنظيمية تبين اختصاصات وصلاحيات وسلطات الحاكم"، ولا تحتوي "أية موجهات تحدد حقوق وواجبات المحكومين مثلما هو متعارف عليه في حال الوثائق القانونية الأساسية التي تنشأ الدول كأشخاص اعتبارية بمقتضاها." ثم انتقل بعد ذلك إلى مناقشة صحيفة الموادعة التي يسميها الانبثاقيون بـ "دستور المدينة"، ووصفها بأن أكثر مماثلة "إلى الاتفاق الذي قام عليه حلف الفضول بين الملأ من زعامات العشائر القرشية [لتنظيم] المهام المتعلقة بالحياة العامة في مكة، كالسدانة، والسقاية، والرفادة،" وأقرب من الناحية القانونية إلى "إعلان مبادئ عامة لموثق (عهد) يمكن أن يُنظم على هدية علاقات المسلمين واليهود في يثرب"، علماً بأن ذلك الإعلان من وجهة نظره لم يشرع أية موجهات تتعلق بمقترحات إقامة دولة واحدة بديلة عن نظم الحكم القبائلية القائمة وقتئذ في يثرب، أو مبادئ تتعلق بتنظيم إدارة عامة، أو إشارات تتعلق باقتسام السلطة العامة في يثرب بين المسلمين واليهود"، وبناءً على ذلك يجمل الدكتور الباشا قوله في أن صحيفة الموادعة لا يمكن تصنيفها في إطار المصنفات العقدية القانونية والدستورية.
      وانسحاباً على هذا العرض القانوني الباخس لمرجعية دولية المدينة الدستورية حاول الباحث أن يحلل وضعية الرسول صلى الله عليه سلم من الناحية السياسية وفق أدبيات الجوار المتواضع عليها بين القبائل العربية، ثم يخلص إلى تشبيه واقعه السياسي بين قبائل المدينة بواقع اللاجئ الطريد الذي لا يمكن "أن يتبوأ مقام زعامة على السادات من شيوخ القبائل التي آوته وأجارته، وبذلك يؤكد أن "النبي اللاجئ ملفوظ قريش لم يكن إلا مجاراً أكرم مثواه مجيروه وأحسن إليه حماته، ورفعوا قدره وأجلوا مقامه لنبوته، إيماناً برسالته، اعتزازاً وتيمناً وتشرفاً باحتضانه في ربوع الأوس والخزرج من يثرب، وإن لم ينصبوه زعيماً عليهم، فقد ظلت لقيادات القبلتين الكلمة الفصل في تدبير خصوصيات قبيلتهما (طوال حقبة إقامة النبي (ص) بين ظهرانيه) مثلما عليه الحال في جاهليتهم."
      أما من الناحية الوظيفية فيشبه الدكتور الباشا وضع الرسول صلى الله عليه وسلم بوضع الأنبياء والرسل السابقين له، لأن علاقته السياسية مع الجماعة المسلمة في يثرب قد اتسمت "بسمة الرعوية الروحية باعتباره مبعوث العناية الإلهية وعَرَّاب إرادة السماء". وإن مقامه من الجماعة المسلمة "هو مقام المعلم والمرشد، وموضع الجماعة المسلمة منه (ص) موضع الحواري المتعلم، ومن ثم لم تكن العلاقة بينه وبين الجماعة المسلمة كعلاقة الحاكم بالمحكومين"، لأن "كيان الرعوية الديني الرسولي في يثرب لم يلغ وجود الكيانات القبائلية السلطوية، ولم يقلص من نفوذ الزعامات العشائرية" بل شمل تلك القبائل تحت مظلته العقائدية الروحية، وسمح لها بحرية الحركة في إطار قيمها السلطانية. وبذلك بلور الدكتور الباشا محصلات نقاشه في نتيجة مفادها أن الكيان الرعوي الذي أسسه الرسول الخاتم (ص) في يثرب لم يكن كياناً مغايراً من الناحية الوظيفية للكيانات الرعوية التي أنشأها الأنبياء والرسل السابقون له، لأن خطابه الرعوي يتمحور حول بيان رسالة التوحيد، وتنوير العباد بوجوب التقاسط والتناصف فيما بينهم، دون أن يملي عليهم أو على غيرهم من أهل الكتاب والأميين سلطاناً سياسياً آمراً، بل ظل يؤكد للراهبين منهم بأنه ليس "ملكاً"، بل "ابن امرأة من قريش تأكل القديد."
      الدعوة إلى فصل الملك عن الرسالة ليست بدعوة جديدة، فقد أثارها الشيخ علي عبد الرازق من قبل، ورد عليه ابن عاشور في هذا الشأن بوقائع من متون نصوص الوحي وأدبيات التراث الإسلامي، حيث استشهد بقضية الجمع بين الاثنين في شخص نبي الله سليمان بن داود الذي نقل القرآن على لسانه طلباً سلطانياً من المولى عز وجل: "وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي"، ويذكر ابن خلدون أن ملك سليمان ابن داود قد استقام ميسمه بين بني إسرائيل وهو ابن اثنتين وعشرين سنة، حيث "غالب الأمم، وضرب الجزية على جميع ملوك الشام
        ، وأصهر إليه الملوك من كل ناحية ببناتهم، وكان ممن تزوج بنت فرعون مصر،
          ، واستوزر يشوع بن شيداح لأربع سنين من ملكه." لكن يبدو، كما يرى ابن عاشور، أن مصطلح المُلك قد ارتبط في أذهان الناس ببعض الصفات الظالمة والقيم السالبة التي جعلت المسلمين يتحاشون إطلاقه على النبي صلى الله عليه وسلم. ونستشهد في ذلك بما وقع لأبي سفيان بن حرب مع العباس بن عبد المطلب يوم أسلم الأول قبيل فتح مكة، ثم وقف مع العباس يشاهد كتائب جيش الفتح تمر بين يديه، وهو يسأل العباس عن كل كتيبة، والعباس يعرِّفه بقبائلها، فلمَّا بهره بذلك المشهد، قال أبو سفيان للعباس: "قد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً"، فأنكر عليه العباس قوله، ورد إليه قائلاً: "ويحك إنها النبوة ." فالنبوة في عرفهم كانت "أعظم وأشمل من وصف رسخت له في نفوس الناس عوارض غير محمودة، صارت كاللوازم له." ومن ثم يجب أن نأخذ في الحسبان بوصف أبي سفيان، لأنه يعبر عن تقويم إنسان يتحدث بلغة ذلك العصر، دون أن يكون متأثراً بقيم معيارية معاصرة تنطلق من مفهوم الدولة الحديثة، كما فعل الدكتور الباشا، الذي نحسب أن تقويمه لمقام الرسول الوظيفي قد جانب الصواب، لأنه حاول أن يخرجه من واقع التاريخ الذي تشكل فيه.
          أما تقديره لمقام الرسول السياسي في يثرب في إطار أدبيات الجوار فهو أيضاً تقدير غير سليم، لأنه لم يصطحب معه مفردات الواقع التاريخي التي أحاطت بهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى يثرب. فبيعة العقبة الأولى وضعت معالم التحول العقدي لأهل يثرب الذين آثروا عقيدة التوحيد على قيم معتقداتهم الموروثة، ورضوا بنبوة محمد بن عبد الله، أما بيعة العقبة الثانية فقد وفرت احتياطات الأمان اللازمة، وأقرت مُؤازرة النبي الخاتم (ص) في المكره والمنشط. وفي منظومة هذا الواقع التاريخي الذي لا يفصل بين السياسة والماهية الوظيفية لصاحب الرسالة جاء استقبال الرسول (ص) على مشارف يثرب، مصحوباً بأراجيز الأنصار وتهاليلهم:
          طلع البدر علــــينا من ثنيات الـــوداع
          وجب الشكر علـــينا ما دعــــا لله داع
          أيها المبعوث فيــــنا جئت بالأمر المــطاع
          جئت شرَّفت المديـــنة مرحباً يا خــير داع

          وفضلاً عن ذلك، فإن أيام العرب ومدوناتهم لم تؤرخ لأي لاجئ طريد مهيض الجناح تمَّ استقباله بالكيفية التي حدثت للرسول الله صلى الله عليه وسلم في يثرب، ويبدو من حيثيات الواقع التاريخي أن المقارنة التي عقدها الدكتور الباشا مجانبة للصواب، لأن الرسول الكريم منذ أن وطئت قدماه أرض يثرب تبوأ مقام القيادة العليا لمجتمع المدينة، وأقرَّته قبائلها التي كانت متناحرةً مع بعضها بعضاً بعد حرب بعاث، وبموجب هذا الإقرار استطاع النبي المهاجر أن يؤاخي بينها من طرف، وبينها وبين المهاجرين من أهل مكة من طرف ثانٍ، ثم يؤسس لعهد موادعة في يثرب بين القبائل القاطنة فيها، ويحدد علاقة تلك القبائل ببقية القبائل غير الموادعة في جزيرة العرب. وأذعن لسلطانه السياسي أمراء القبائل، التي دخلت في دين التوحيد، وعقدت معاهدات صلح مع الرسول صلي الله عليه وسلم، بدفع الزكاة، والزكاة في ذلك الواقع يجب أن لا ينظر إليها من منظور فقهي معاصر، بل ينظر إليها باعتبارها رمزاً للولاء السياسي، فضلاً عن معناها الديني الاجتماعي وبوصفها رمزاً لإقرار الولاء السياسي كان رجال القبائل يُعدونها إتاوة أو ضريبة، يجب أن تدفع للنبي شخصياً بوصفه رئيساً يدينون لسلطانه، ولذلك نجدهم قد رفضوا سدادها إلى أبي بكر الصديق، بحجة أنها كانت شارة من شارات العهد السياسي القائم بينهم وبين الرسول (ص)، وبعد وفاة الرسول (ص) لا يجوز دفعها إلى أبي بكر الصديق. وعند هذا المنعطف التاريخي تكمن قيمة الدمج بين الوضع السياسي للرسول والماهية الوظيفية لعطائه الرسالي المرتبط بتبليغ الدعوة في إطارها الديني، وتنتفي قيمة الفصل الصوري التي حاول أن يؤسسها مؤلف الدولة الدينية الإسلامية.

          نظام حكم مخاتير قبيلة قريش المسلمين
          هكذا صدَّر الدكتور الباشا الفصل الثاني من كتابه، بعنوان ناقدٍ في اصطلاح "الخلافة الراشدة" الذي تواضعت عليه المدونات التاريخية وكتب السيرة ومؤلفات الأحكام السلطانية، واعتبر أن اصطلاح "مخاتير مهاجرة قريش" فيه تأكيد بأن نظام "الخلافة الراشدة" الذي ابتدعه أولئك "المخاتير" لم يكن امتداداً تاريخياً لكيان الرعوية الديني الذي أقامة الرسول (ص) في المدينة، وفيه أيضاً تمييز لذلك النظام الذي يُعدُّ بمثابة نواة للدولة العربية "عن حكم أقطاب العشائر القريشية الذي استهل بحكم سبط حَرْبِ بن أميَّة (معاوية بن أبي سفيان) عام 41هـ"، وتكامل بناؤه بحكم "سُللاء هشام بن عبد مناف (العباسيون والفاطميون)". وبدأ المؤلف نقاشه حول هذه القضية بعرض لوقائع اجتماع السقيفة الذي بموجبه تم اختيار أبي بكر الصديق خليفة للمسلمين، وبناءً على تلك الوقائع ردَّ الدكتور الباشا كل الحجج والمُسوِّغات التي اعتمدت تأسيس حاكمية الخلافة في إطار ديني منبثق من إجماع الصحابة، ونفي شرعية ذلك الإجماع، ورجح كفة الناموس العرفي، الذي اعتصمت به عُصبة مهاجرة قريش عندما احتجت بأحقيتها في الحكم خصماً على دعاوى الأنصار أصحاب الدار. ومن وجهة نظره إن هذه الإرادة القبلية نفسها قد أسست مرجعية سلطة الحاكمية التي مارسها عمر بن الخطاب (ر)، ومنشأ ذلك "إرادة أبي بكر المنفردة" التي عمدت إلى "اكتتاب عهد الاستخلاف لعمر من غير التزام بشورى أفذاذ المسلمين، ويستوثق المؤلف في هذا الشأن بصيغة الوصية العهد التي نقلها إلينا الطبري في تاريخ الرسل والملوك، والتي جاءت مفردات كما يلي: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد به أبوبكر خليفة رسول الله (ص) عند آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخرة
            إني استعملت عليكم عمر بن الخطاب، فإن برَّ وعدل فذلك علمي به ورأيي فيه، وإن جار وبدل فلا علم لي بالغيب، والخير أردت، ولكل امرئ ما كسب". ويمضي المؤلف في القول أن ثورة مظاليم الأمصار على حكم عثمان (ر) كانت بمثابة رفض صريح "للوصاية التي مارستها صفوة مهاجرة قريش على المسلمين من غير مسوغ عقلي، أو مبرر نقلي له سند من الوحي المسطور، أو دعامة من موثوق الموروث النبوي للرسول الخاتم (ص)، أو عقد مبرم، أو عرفي ناجم عن وكالة عامة ناشئة عن تفويض صادر عن إرادة شورى المسلمين." وإن بالبيعة الابتدائية أو الخاصة من وجهة نظره محل نظر، والبيعة العامة بالمسجد النبوي لا تعدو أن "تكون إجراءً طقوسياً مراسيمياً إعلامياً"، قوامه إظهار فروض الولاء والطاعة للخليفة الذي تسانده العُصبة القريشية. وبذلك يخلص المؤلف إلى أن مرجعية شرعية سلطة الحاكمية في الخلافة الراشدة كانت مرجعيةً متباينةً، ومنبثقةً من الواقع السياسي الذي حددت مساراته صفوة مهاجرة قريش لتكون صاحبة السلطة والسلطان في يثرب، وإن إضفاء صفة الرشاد على شاغلي منصب الخلافة، بالرغم من الانتقادات المثارة حول بعض أنشطتهم الوظيفية، ربما كان القصد منها إحاطة أولئك الخلفاء الأربعة "بهالة من الإجلال والوقار والهيبة لإدراك حقيقة أن المسلمين يجلون ويبجلون كل (ما) و (من) له صلة بسيرة الرسول الخاتم (ص)"، فضلاً عن تدثر أدائهم الوظيفي بشيء من القدسية والشرافة والهيبة، وبذلك يتمِّ تصنيف الخروج على سلطانهم السياسي-الزمني في دائرة الخروج عن طاعة الله ورسوله وأولى الأمر.
            أما من الناحية البنيوية الوظيفية فيرى الدكتور الباشا أن حكم "مخاتير مهاجرة قريش" في جوهره لم يكن حكماً دينياً محضاً، كما هو الحال فيما يسمى بالدولة الدينية التي يزعم عرابو الحوزات الكهنوتية أنها "منّة وهبة مشيئة العناية الإلهية، ومن ثم يُحْمَلُ العامة فيها على النظر الشرعي فقط"، ومن جهة أخرى لم يكن حكماً دنيوياً محضاً، كما الحال في دولة الملك السياسي التي يُحْمَلُ العامة فيها على مقتضى النظر العقلي فقط، وإنما كان في جوهره حكماً "دينياً-دنيوياً تمازج فيه الحيوي بالعقلي." وقد أفضى هذا الواقع الوظيفي المزدوج، حسب رؤية الدكتور الباشا، إلى قيام الخلفاء بأمر الدين دعاية وحراسة من جهة، وبتدبير أمور المسلمين الدنيوية وفق أحكام ناموس الشريعة الربانية القطعية الدلالة وتخريجات منطق النظر العقلي قياساً واستنباطاً فيما لم يرد فيه نص من جهة أخرى.

            الدولة الدينية الإسلامية: النظرية والتطبيق
            جاء الفصل الرابع تحت عنوان "نماذج معاصرة لمسمي الدولة الدينية الإسلامية"، حيث عرض الباحث فيه بعض النظريات والآراء السياسية لمنظري التيارات الانبثاقية التي اختزلها في تخريجات أبي الحسن الماوردي المضمنَّة في كتابه "الأحكام السلطانية والولايات الدينية"، ورؤى جمال الدين الأفغاني التي جسدها في أطروحة الجامعة الإسلامية، وأطروحات المودودي حول الحاكمية الإلهية التي عرض مفرداتها في بحثه الموسوم بـ "الحكومة الإسلامية"، ثم كتابات آية الله الخميني عن ولاية الفقيه حسبما جاء في كتابه "الحكومة الإسلامية". وفي ضوء نقاشه وتحليله لهذه الأطروحات الفكرية ومرجعياتها الشرعية، تطرَّق الدكتور الباشا إلى طبيعة البُنىَ المؤسسية للنماذج المعاصرة "للدولة الدينية الإسلامية"، وشخَّص الأنظمة السياسية القائمة في السعودية، وإيران، والسودان، وماهيات مضامينها الوظيفية في إطار الأنماط السياسية للدولة الدينية الإسلامية.
            وأخيراً أجمل الباحث وجهة نظر الانبثاقيين في أن "نمط الدولة الدينية الإسلامية ذات الحاكمية والمرجعية الربانية قد انتهى بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم"، وأن الأنماط اللاحقة لتجربة الرعوية الرسولية "تتجسد في أحكام ناموس الشريعة الإسلامية التي تمثل حضوراً قانونياً لمشيئة إرادة الديان في ملكوته الأرضي". فتطبيق الناموس الشرعي بين الناس حسب رؤية "الانبثاقيين السنيين" التي عرضها المؤلف هو حق للأمة باعتبارها حافظة عهد الاستخلاف الرباني في ملكوت الأرض، وبالنسبة للتيار الشيعي الأثني عشري هو حق خالص للفقيه العادل دون غيره من المسلمين، وذلك تقديراً "لعالميته بأصول علوم الدين، ولتنطسه في أحكام ناموس الشريعة." وبذلك تتجسد خصائص الدولة الدينية الإسلامية، حسب عرض المؤلف، في كيان ديني-سياسي يستمد مرجعيته من الله سبحانه وتعالى، وتتراوح أحقية التطبيق المستأنس بالمرجعية الإلهية فيه بين فقهاء المسلمين الذين يمارسونها من خلال مجلس شورى، وبين الفقيه العادل الذي ينوب عن المسلمين في ممارسة حقهم الشرعي، ثم يبين كيف تواضع الطرفان السني والشيعي على أهمية شرط الذكورة في تولي المناصب العليا في الدولة الدينية الإسلامية.
            وفى هذا الإطار الإجرائي النظري يحاول الباحث أن ينظر في الماهية الوظيفية للمملكة العربية السعودية، وجمهورية إيران الإسلامية، وجمهورية السودان، بحسبانها نماذج معاصرة تدعي الانتماء للدولة الدينية الإسلامية، ويلخص إلى أن مرجعية شرعية الحاكمية في هذه الدول تستند إلى القوة والغلبة، وأن نظمها السياسية تتراوح بين النظام الملكي الوراثي غير المقيد، والنظام الجمهوري المتدثر بلباس الدين، والنظام العسكري الذي يقوم سلطانه على جبروت القوة العسكرية وخداع المشروع الحضاري المتدثر بعباءة الإسلام. وحصيلة ذلك تصب في النتيجة التي توصل إليها المؤلف بأن كيانات الحكم المسماة بنظم الحاكمية الدينية الإسلامية في الدول المشار إليها هي في "حقيقة أمرها كيانات لا دينية، ملتحفة بأردية الدين، ومستصبغة بصبغته، ومن ثم هي أنظمة حكم سياسية زمنية، تُمضى أمور الحاكمية فيها وفق مقتضيات شرائع وضيعة ناسوتية المصدر، لا قدسية لها ولا عصمة."
            ويجب من وجهة نظرنا أن تُقرأ هذه الحاكمية اللادينية أيضاً من منظور توظيف الدين كمساحيق لتجميل عاهات تلك الأنظمة السياسية، لأن واقعها في هذا الشأن يقضي باستثمار النص الديني استثماراً سياسياً، دون أن يكون الجوهر متطابقاً مع المنهاج التشريعي الذي يحض على ضرورة تطبيق العدالة الإنسانية، وإشاعة قيم المساواة بين الناس، وإقرار حرية الرأي، واحترام حقوق الإنسان الذي كرمه الله سبحانه وتعالي، وتداول السلطة وفق قيم سياسية معاصرة قوامها الانتخاب، وشرعية التدافع السياسي.

            موانع قيام دولة دينية إسلامية
            إن المفارقة القائمة بين النظريات الثاوية في أدبيات من يسميهم الدكتور الباشا بالانبثاقيين والتطبيقات المعاصرة في السعودية وإيران والسودان قد دفعته إلى تكريس الفصل الخامس والأخير حول "موانع قيام دولة دينية إسلامية"، تحججاً بأن هناك بعض المعوقات النظرية والعملية الماثلة التي تحول دون إقامة "دولة دينية إسلامية"، قادرة على التكيف مع مقتضيات أحول الألفية الثالثة الميلادية. ويأتي في مقدمة هذه المعوقات غياب الإطار النظري الديني الذي تُحدد بموجبه "التوجهات السياسية والاقتصادية، وتبين المضامين الاجتماعية لمسمى الدولة الدينية الإسلامية"، وحسب وجهة نظره إن غياب هذا الإطار النظري جعل "نظم الحكم الكهنوتية المعاصرة المسماة بالدول الإسلامية نُسخاً مقلدةً للدولة اللادينية القائمة في بلدان المسلمين مخبراً ومظهراً." ومجمل ذلك أن السياسة لا تنبثق عن الدين، وأن العلاقة منبتة بين العقيدة الإسلامية والدولة ككيان سياسي زمني. وانسحاباً على ذلك يوصي الدكتور الباشا بضرورة الفصل بين الدين والسياسة، تعللاً بطبيعة استقلالية الدين عن الدولة. وبموجب هذا الفصل تتم عملية درء المخاطر والإشكاليات الناجمة عن الترويج لمسمى الدولة الدينية الإسلامية، وتعطى الأولوية لصون حقوق الإنسان السياسية والاجتماعية والثقافية، وذلك في إطار الدولة اللادينية التي تؤسس أبنيتها الهيكلية وماهياتها الوظيفية على هدي أدبيات الشرعية القانونية، ومفهوم تداول السلطة الديمقراطي، وتوظيف مؤسسات الدولة في خدمة المجتمع دون الاستئثار بمعيار عرقي، أو ديني، أو جهوي.

            ملاحظات عامة
            بناءً على الخيوط الناظمة لأفكار الدكتور موسى محمد الباشا حول إشكالية الدولة الدينية الإسلامية في النظرية والتطبيق، نضع بين يدي القارئ الكريم بعض الملاحظات العامة الآتية التي ربما تعين في فهم الفرضيات التي انطلق منها المؤلف، والمنهج الذي اتبعه في عرض مفردات بحثه، والمعطيات التي أسس عليها صرح أطروحته الناقد لمسمى الدولة الدينية الإسلامية من حيث النظرية والتطبيق، ودعوته الصريحة لقيام دولة لا دينية، ذات شرعية قانونية، وسلطة ديمقراطية متداولة بين القطاعات السياسية والاجتماعية، وتكون تلك السلطة خاضعة إلى نسق محاسبي من قبل المحكومين، تكمن غايته في تحقيق العدالة والمساواة بين الناس، وتقديم الخدمات الضرورية اللازمة لضمان سلامة الفرد والمجتمع، ومراعاة حقوقهما المدنية والسياسية.
            أولاً: إن زعم الدكتور الباشا بأن أطروحته تقوم على منهج محايد محل خلاف، لأنه لا يتصور أن يكون هناك منهج محايد عن الفلسفة التي انبثق عنها. وبقراءة متأنية لفصول هذا الكتاب المثير للجدل يصل القارئ إلى أن المؤلف متأثر بأدبيات النهضة الأوروبية وعصر التنوير، ويتجلى ذلك في طرحه لثنائية الدين والدولة التي لم تكن هماً شاغلاً في الفكر الإسلامي منذ ظهور الدولة الإسلامية وحتى أوائل القرن التاسع عشر الميلادي، وإنما طُرحت ابتداءً، كما يرى محمد عابدي الجابري، من منتصف القرن التاسع عشر "بمضمون لا ينتمي للتراث الإسلامي"، بل يستمد شرعيته من النموذج الحضاري الأوروبي الذي يريد أنصاره أن يوطِّنوه في البيئات المسلمة دون أدنى مراعاة للواقع التاريخي والسياسي والاجتماعي والثقافي الذي لم يكن مهيئاً لطرح قضية فصل الدين عن الدولة، علماً بأن المسيحية نشأت في كنف دولة قائمة على قيم ومؤسسات لا دينية، وفي المقابل أن مفهوم الدولة في المجتمعات المسلمة نشأ في كنف الدين الإسلامي الذي بشر به النبي الخاتم محمد (ص)، ووضع ثوابت صرحه الاجتماعي والسياسي في المدينة المنورة. إذاً طرح قضية فصل الدين عن الدولة في أوساط المجتمعات المسلمة يفسر تفسيراً سالباً، لأن الفصل لم يكن وارداً في مدونات المسلمين التراثية، ولا في مخيلة العقل المسلم. وبذلك تكون الدعوة لقيام دولة لا دينية في تلك البيئات الاجتماعية والسياسية المشبعة بذلك التراث دعوة غير واقعية، وتحمل في جوهرها جملة من التحديات التي يصعب تجاوزها، لأن أولويات الدولة اللادينية، كما يرى الدكتور الباشا، تقوم على مبدأ الديمقراطية، فكيف يكون الحلّ إذا جاءت المؤسسات الديمقراطية نفسها بمَنْ يمثلون تلك التيارات الإسلامية، كما هو الحال في تركيا؟ ومن ثم فإن الدعوة إلى تعميم النموذج الليبرالي القائمة على فصل الدين عن الدولة، وإفساح المجال لقيام دولة لا دينية فيها شيء من عدم الموضوعية، لأنها لم تمعن النظر في الأساس الفعلي الذي تقوم عليه البنية السياسية من ناحية، وارتباط تلك البنية بتطور الوعي السياسي من ناحية أخرى. فضلاً عن أن الدولة اللادينية القائمة الآن في بعض بلدان العالم العربي (مثل: تونس، وسوريا، وليبيا)، لا تمثل أكثر من امتداد لنموذج الدولة الاستعمارية، لأنها عجزت عن تطوير آليات العمل السياسي وفق القيم اللادينية التي يدعو إليها المؤلف، وأن طرحها السياسي يتسم بالشمولية والاستبداد، وأن عطاءها الوظيفي والمهني الباخس لأهمية العنصر البشري في عملية البناء والتطوير قد مهد الطريق لقبول الإطروحات الانبثاقية في أوساط التنظيمات القطاعية التي ترى في الإسلام حلاً دائماً لمشكلات شعوبها المسلمة.
            ثانياً: إن وصف الدولة التي نشأت في المجتمعات المسلمة بأنها دولة "دينية إسلامية" فيه كثير من الإشكالات التي لا تساعد في خلق جو من الخطاب الموضوعي، لأن إضفاء مصلح "دينية" على أنماط النظم السياسية التي إخطتها المسلمون عبر تاريخهم الطويل فيه كثير من المزالق الفكرية، علماً بأن المؤلف نفسه توصل إلى هذه النتيجة بقراءة فاحصة في المدونات التراثية، توَّجها بقوله أن النصوص القرآنية والأحاديث الصحيحة لم تلزم المسلمين بأي شكل من أشكال الحكم، ولم تنهاهم عن تأسيس شكلٍ معينٍ، ونضيف إلى ما ذهب إليها، لكنها أمرتهم بتطبيق العدل حسب ما جاء في أوامر الله سبحانه وتعالى. والنتيجة التي توصل إليها المؤلف نجدها مبثوثة في أدبيات التراث الإسلامي التي عالجت قضايا الأحكام السلطانية، فمثلاً القاضي أبوبكر الباقلاني قد أقرَّ عدم وجود نص قراني أو حديث بشأن شكل النظام السياسي في الإسلام (الإمامة) ، وعضد ذلك أيضاً الإمام أبو المعالي الجويني في كتابه غياث الأمم في التياث الظلم، بقوله: "ولا مطمع في وجدان نص من كتاب الله تعالى في تفاصيل الإمامة. والخبر المتواتر معوزاً أيضاً. فآل مآل الطلب في تصحيح المذهب إلى الإجماع." فالإجماع الذي يدعو إليه الإمام الجويني في هذا المقام هو إجماع الصحابة على اختيار الإمام، وبمعنى آخر أنه إجماع يقضى بقيام الإمامة، ولا يحدد كيفية انتخاب الإمام. ومن هذه الزاوية لا يمكن الاعتداد بذلك الإجماع جملةً وتفصيلاً في صياغة شكل نظام الحكم في الإسلام، لأنه، كما يرى لؤي صافي، قد تأثر بمفردات الواقع السياسي والاجتماعي التي تشكل فيها، فضلاً عن أنه لم يقدم نموذجاً جامعاً مانعاً لتحديد الهيكل الشكلي والماهية الوظيفية لمؤسسة الخلافة. ويصب في ذات الاتجاه موقف محمد سليم العوا الذي يرى "إن إثبات وجود نظام حكم محدد المعالم والتفاصيل في مصادر الإسلام الرئيسية: القرآن والسنة، أمر دونه خرط القتاد، فالقرآن والسنة لا يتضمنان نصاً عن كيفية اختيار الحكام، وكيفية محاسبتهم، وكيفيهم عزلهم، ولا عمن يعينهم من الناس على ولاياتهم بالرأي (الشورى) ولا بالعمل (الوظائف)." ويخلص العوا بذلك إلى "أن المسألة السياسية في كلها، أو جلها، مسألة اجتهادية ظنية، وهي بذلك تقتضي اجتهاد متجدداً في كل عصر تتحقق به مصالح أهله."
            ويبدو ليَّ أن المستشار عبد الجواد ياسين قد خطا خطوة متقدمة وجريئة في هذا الشأن، عندما حاول أن يفرق بين "الهيكل الشكلي" للسلطة و"المحتوى الموضوعي"، محتجاً بأن النصوص قد وضعت الإطار العام لتحديد مضمون الحكم ومنهاجه، وسكتت عن القضايا التي ترتبط بشكل الحكومة وتركيبها. ويعني هذا السكوت، من وجهة نظره، أن النصوص قد أحالت الهيكل الشكلي للسلطة إلى دائرة المباح، ومن هنا يجب تحليل التداخل العضوي المعقد بين النص والتاريخ في خصوص مسألة السلطة، وفي فهم جدلية علاقة التأثير والتأثر بين الشكل والمضمون، وفي كيفية تشكيل السلطة من خلال التاريخ، وفي استيعاب طبيعة الدور الذي لعبه تاريخ السلطة من خلال التنصيص السياسي في تشكل العقل المسلم، وفي مساهمته الجزئية في إنشاء النص وتكوينه الأيديولوجي. وحصيلة نقاش هذه القضايا ومثيلاتها قادت المستشار ياسين إلى القول بأن صياغة الشكل السياسي للسلطة، أو الدولة في المجتمعات المسلمة يحتاج إلى اجتهاد جديد، ينطلق من قيم مقاصدية عامة، ويوطِّن لنفسه في إطار دائرة المسكوت عنه، ويحرك سكونها في إطار المصالح المرسلة.
            ثالثاً: مصطلح الانبثاقيين فيه نوع من التعميم والتشويش، لأنه يصف الذين ينادون بقيام الدولة الإسلامية بكتلة صماء في الفكري السياسي، لا تمايز بينها، علماً بأن هناك أكثر من مدرسة فكرية داخل "التيار الانبثاقي"، إذ جارينا المؤلف في تعبيره. والدليل على ذلك أن إصلاحية الأفغاني وعبده قد شكلت قطيعة مع السياسة الشرعية السابقة لها، وأن سلفية محمد رشيد رضا قد أنجزت قطيعة أولية مع الأدبيات الإصلاحية، وأن إحيائية حسن البنا قد أكملت حلقات تلك القطيعة مع الإصلاحية والسلفية السياسية، وخطاب الحاكمية والتكفير شكل قطعية مع الخطاب الإخواني. أما ولاية الفقيه فقد كانت خطابا شيعياً منفصلاً مع خطاب الشرعية السياسية الذي أنتجه الفكر السني، لأن عمد إلى التنصيص وإسقاط شرعية الاختيار المرتبطة بتحديد شخصية شاغل المنصب الرئاسي في النظام السياسي للدولة الإسلامية.
            رابعاً: إن المنهج الذي اتبعه المؤلف في الاستئناس بأدبيات المدونات التراثية قد اتسم بنوع من الانتقائية، لأنه كان يعبر عن فرضيات سابقه اختارها المؤلف، ثم حاول أن يحشد النصوص التراثية التي تعينه في تبريرها، دون تحليل النصوص التي تعارض النتائج التي توصل إليها، أو أن يوطنها في أوعية تاريخية تعكس مضمون القيمة السياسية التي ارتكنت إليها علمية الحراك السياسي الذي أفرز "كيان الرعوية الرسولي" في يثرب وحكم "مخاتير مهاجرة قريش" في المدينة. ومن زاوية أخرى اتسم منهج الدكتور الباشا بالطابع الوظيفي دون اعتبار المقصد أو المقاصد التي يمكن أن تسهم في تحديد الفعل السياسي. ويتجلى ذلك في استخدامه لمفهوم الدولة الحديثة كأساس معياري لتحديد الماهية الوظيفية للكيان السياسي الذي أنشاه الرسول صلى الله عليه وسلم في يثرب، وكذلك الإطار الدستوري الحديث لمحاكمة صحيفة الموادعة، وإصدار حكم يقضي بتصنيفها ضمن أدبيات المعاهدات السابقة لها، دون أن يؤهلها ذلك التصنيف لتحديد معالم الدولة "المزعوم" تأسيسها في المدينة حسب قراءات الانبثاقيين كما ينعتهم المؤلف.
            خامساً: إن قول الدكتور الباشا بأن القراءة الوظيفية للنصوص القرآنية والمقولات الرسولية لم "تؤكد صراحة أو ضمناً على أنه من بين التكليفات الربانية للرسول محمد (ص) مهمة رسالية سياسية تتعلق بالسلطة والحكم وإقامة الدولة الدينية الإسلامية"، محل اختلاف، وذلك انطلاقاً من أن هذه القراءة الوظيفية لا تنسجم مع مقاصد آيات الأحكام السياسية-الاجتماعية التي تقضي بتحكيم شرع الله في كثير من جوانب الحياة المختلفة، وأن الفصل بين السياسي والديني لم يكن حاضراً في ممارسة الرسول صلى الله عليه سلم، أو في مخلية الشعوب التي آمنت برسالته، وآثرت الخضوع لسلطانه السياسي. فالشواهد النصيَّة في هذا المضمار قابلة الأخذ والرد، ومن ثم يحب أن يوطَّن التفسير الوظيفي في إطار التجربة التاريخية التي ترجح كفَّة الممارسة السياسية للرسول صلى عليه وسلم في يثرب، ولا تفصل بينها وبين ماهية عطائه الوظيفي، دون أن تخاطبه بلقب سلطوي كالملك أو السلطان. وموقف الدكتور الباشا عند هذه القضية يتنافى مع أدبيات التجربة السياسية التي وثقتها المدونات التاريخية في إطار الحرب، والصلح، والعهد، والقضاء، وسن القوانين، والعقوبات. فالقول بأن التفسير الوظيفي للآيات القرآنية لا يوضح شكل الدولة الإسلامية قول له وجاهته ولا نختلف معه، لكن ذلك القول يجب أن لا يرقى إلى درجة نفي شرعية آيات الأحكام التي يحتاج تنفيذها إلى سلطة تشريعية وإدارية وقضائية، وقضية التنفيذ كانت، كما يرى محمد عابد الجابري، "من جملة المهام التي أدت إلى تطور الدعوة الإسلامية إلى دولة منظمة ذات مؤسسات." ولا جدال أن هذا الواقع يجعل أطروحة الدكتور الباشا محل تساؤل، لكن إذا آثر المؤلف موقف مدرسة التمييز النصي التي تقضي بتقسيم القرآن إلى مكي ومدني، ربما يجد لنفسه مخرجاً منطقياً مناسباً، وإن كنا لا نتفق معه، لأن أطروحة مدرسة التمييز النصي تنادي الفصل بين التجربة التاريخية القائمة على مفهوم الدين والدولة عن الدعوة لقيام حكومة حديثة، لا دينية في شكلها ومضمونها، ولكنها في الوقت نفسه تقر العمل بآيات الأصول خارج نطاق التشريع العام ومتطلباته الحياتية المعاصرة.
            وفي خاتمة هذه الملاحظات نجمل القول أن كتاب الدكتور الباشا يُعدُّ إضافة جديدة للأدبيات المناهضة لقيام الإسلامية المستندة إلى قيم الدين، والطاعنة في شرعية مرجعيتها الدينية المنبثقة من نصوص الوحي، وأحاديث الرسول الخاتم، (ص) وإجماع الصحابة. ومن هذه الزاوية يُصنَّف كتاب الدولة الإسلامية في النظرية والتطبيق في خانة دراسات الأحكام السلطانية الغارقة في محيط الفرضيات التي طرحها الشيخ علي عبد الرازق، والأستاذ خالد محمد خالد قبل أن يتراجع عن موقفه الأول ويؤثر الانضمام إلى تيار الانبثاقيين. أما من حيث المنهج فقد أسس الكاتب مفردات أطروحته على منهج علمي واضح المعالم، وراسخ القدم إذا قُورن بمنهج الشيخ علي عبد الرازق، وسواءً اتفقنا معه أو لم نتفق، فالأطروحة في مجملها جدير بالقراءة، والمراجعة والمُدارسة الموضوعية من ذوي الشأن والاختصاص، إيماناً بأن الحوار هو المخرج الوحيد لتثقيف العطاء الفكري وتقويم الممارسة الإنسانية.


            نقلاً عن صحيفة الأحداث
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de