مشكلة الاخلاق

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-07-2024, 11:09 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الرابع للعام 2008م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
10-27-2008, 01:54 PM

Shihab Karrar
<aShihab Karrar
تاريخ التسجيل: 12-27-2007
مجموع المشاركات: 965

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
مشكلة الاخلاق

    ينطوي الحديث عن الاخلاق في الفلسفة علي تعقيدات مهولة، حيث ان المشكلة الاخلاقية في الفلسفة لا تؤدي الي طرق تفكير مختلفة فحسب، بل تتداخل الحلول وتتشابك بحيث يصعب تصنيفها الي اراء متضادة او متشابهة او منطلقة من اساس تفكير واحد‘ ففي كثير من الاحيان يصعب تصنيف رأي في مشكلة الاخلاق علي انه مضاد لرأي اخر او مكمل له. وحتي التقسيم التقليدي للفلاسفة علي انهم اما ماديون او مثاليون لا يسعفنا هنا بالقدر المتوقع منه، فكثير من المذاهب المادية تتبني وجهات نظر في فلسفة الاخلاق لها جذور مثالية واضحة، والعكس بالعكس. في هذا المقال سأحاول إضافة مساهمة متواضعة للبناء الفكري الكبير الذي قام بوضع لبناته فلاسفة عظام لهم وزنهم في التاريخ الانساني، ولن يعدو مقالي هذا سوى حبة رمل في الصحراء المترامية الاطراف والتي تسمي فلسفة الاخلاق.

    من المعلوم ان فلسفة الاخلاق تناقش مشكلتين رئيسيتين، المشكلة الاولي هي مشكلة القيمة، او بتعبير اخر مشكلة الخير، وهي تعني بالسؤال الماهوي عن الخير، ماهو الخير؟ وكيف نصدر احكاما قيمية علي السلوك البشري، او بتعبير اخر ماهو المعيار الذي علي اساسه نصف فعلا بشريا ما بانه خيير او شرير؟ وكيف نستطيع اصدار حكم علي فعل ما بانه خير من فعل اخر، اما المشكلة الثانية فهي السؤال الكيفوي، اي كيف يسلك البشر لتحقيق هذا الخير، وما هو السلوك البشري الامثل الذي يمكننا من تحقيق الحياة الخييرة؟.
    رغم ان المشكلة الثانية تتسم بطابع عملي مما يجعلها تبدو اسهل في الاجابة عليها، الا ان الامور ليست دائما كما تبدو، فالمشكلة الثانية يمكننا تسميتها بمشكلة الإلزام، حيث يمكن اعادة طرحها كالاتي: إذا علمت ما هو الفعل الخيير، فما هو الشيء الذي يجعلني ملزما بالقيام به؟ وهي مشكلة لا اظن ان الاجابات العملية كافية لحلها.

    من المنطقي إن او سؤال يثار في موضوع فلسفة الاخلاق هو سؤال: ما هو مركز الخير في الكون؟ هل للخير وجود موضوعي مطلق؟ وهل يوجد خير بالمعني العام لكلمة خير؟ ام هو نسبي تبعا لرضا فرض معين من افراد الجنس البشري وتفضيله؟ هل هناك احكام تقويمية شاملة تسري علي الناس في كل زمان ومكان؟ وهل هناك شئ ينعقد اجماع الناس عليه بانه خير بغض النظر عن مكانهم او زمانهم او جنسهم او حضارتهم؟ أم ان لكل شخص نظاما فرديا من القيم؟ إن كل شخص – سواء ان كان بوعي منه او دون وعي – يحدد ما يعده ذا قيمة في هذا العالم، وهدفه النهائي في الحياة، فهل هناك معيار مطلق نستطيع من خلاله الحكم علي نظام اي شخص القيمي ام ان عبارته (( إنني افضل هذا)) تكون نهائية وحاسمة؟
    نستطيع أن نلاحظ إن الاجابة على اي سؤال من الاسئلة اعلاه تقودنا الي موقفين متعارضين، وهما الموقف المطلق او الموقف النسبي، وبين هذا وذاك توجد العديد من المناطق الوسطي، وعلي الرغم من ان الموقف المطلق قد يجد له رفيق في الفلسفة المثالية ، إلا ان الموقف النسبي ليس بالضرورة مادي، فلدينا العديد من الفلاسفة المثاليون الذين طرحوا موقفا يقول بالنسبية الاخلاقية.

    كان الاعتقاد بأن القيم لها وجود موضوعي مستقل هو الرأي السائد في الفلسفة الكلاسيكية، ويبدأ انصار هذا الرأي في العادة برهانهم بالقول ان بعض القيم تبدو موجودة لجميع افراد النوع البشري في كل الازمنة والامكنة، والتنوع الهائل في نظام القيم لدي الشعوب المختلفة لا يعدو كونه جهلا بالقيمة الموضوعية للخير، او اختلاف نسبي في تعريف ليس له علاقة مباشرة بالقيمة، ولكي نفهم هذه المقولة بشكل افضل يمكنني اقتباس الفقرة التالية من كتاب سورلي Sorly (القيم الاخلاقية وفكرة الله Mural value and the idea of God) وذلك بتصرف: قناصة الرؤوس في جزيرة برونيو الاندونوسية يبدون خاضعين لنظام اخلاقي مناقض تماما للنظام الاخلاقي لجماعة تدعو للسلام العالمي، ولكن لو فكر الهمجي من جماعة قناصة الرؤوس في السبب الذي يجعله يري ان قتله لأعداءه هو فعل خيير، لكان من الامور شبه المحتومة ان يصل الي ان قيمة هذا الفعل ترتكز علي كونه يساعد في تقوية اواصر الوحدة القبلية، وهو شيء تقتضيه ظروف الحياة القبلية عادة، وهكذا يترجم هذا الفعل الي اسهام في مصلحة الجماعة، ونجد علي النقيض تماما ان الفرد كمن جماعة السلام العالمي - او اي شخص اخر مؤمن بالمجتمع الدولي – يحكم علي فعل البدائي بانه شر، ومن الواضح ان الاختلاف في الحكم ليس مصدره الاختلاف حول القيمة الاخلاقية – والتي هي مصلحة الجماعة عند كل من البدائي وداعية السلام العالمي- ولكن الخلاف هنا حول تعريف الجماعة، التي هي بالنسبة للبدائي قبيلته الصغيرة وبالنسبة لداعية السلام العالمي هي المجموع البشري ككل.

    يعتقد المؤمنون بموضوعية القيم الاخلاقية وإستقلالها عن ذات الانسان المفكرة ان التحليل العميق للسلوك البشري ككل سوف يثمر عن كشف هوية مماثلة للمبادئ الاخلاقية التي تكمن خلف كل الاختلافات المظهرية في السلوك، وقد توصل الفيلسوف الامريكي جوشيا رويس – أبرز مثالي ظهر في امريكا – الي ان القيمة العليا للخير تكمن في الولاء، حيث قال (ليكن ولاءنا للولاء) حتي ان فلسفته سميت بفلسفة الولاء philosophy of loyalty ، ومن الواضح ان هذا الرأي يمثل محاولة للكشف عن القيمة الاسمي للخير .

    يرتبط الرأي الموضوعي للقيمة إرتباطا وثيقا بفكرة الخير المطلق، ويعتبر هذا الارتباط مهما للغاية من وجهة النظر التاريخية، حيث انه يتصل اتصلا وثيقا بالنظرية القانونية والسياسية، ويمكننا الذهاب ابعد من هذا حيث يجوز لنا ان نقول ان النظرية القانونية والسياسية للفلسفات المثالية جاءت لتكمل الاتساق المنطقي للبناء الفلسفي القائم علي فكرة الخير الكوني المطلق، ويمكن التعبير عن هذا الموقف بإختصار بأنه لايري سوي معيار واحد للخير، او في حالة الاخلاق لايوجد سوي قانون اخلاقي واحد يستمد سلطته من وجود اسمي من موجود الكائنات المادية، هذا المعيار لا يسري علي نحو عالمي وشامل فحسب، بل انه مستقل تماما عن العصر وعن الموقع الجغرافي وعن التقاليد الاجتماعية والاعراف القانونية واي شيء اخر، وكون ان النظم الاخلاقية متفاوتة في المجتمعات المختلفة او الازمنة المختلفة، فهذا لايعني سوي شيء واحد، جهل الناس بالقانون الاخلاقي الاسمي.

    لأول وهلة، يبدو هذا البناء الاخلاقي المطلق متماسك ومتسق منطقيا ويشبه البرهان الهندسي من حيث دقته، الا ان العين النقدية الفاحصة ستري انه لايقف علي ارضية صلبة كما يبدو، بل بالتدقيق اكثر سنري انه يحوي عبارات لا معني لها علي الاطلاق، فكيف سادت هذه النظرة للإخلاق طوال هذه العهود؟ لكي نجيب علي هذا السؤال لا بد ان ننقاش قليلا مصادر النزعة الاخلاقية المطلقة (سأعتمد في الفقرة التالية علي كتاب الفيلسوف الامريكي هنتر ميد an introduction to aesthetics )

    ليست هناك صعوبة كبيرة في ان نكتشف ان اهم مصادر النزعة الاخلاقية المطلقة هو المصدر التاريخي المرتبط بالفلسفة الالوهية التوحيدية، فالاساس التوحيدي للفلسفة الغربية المسيحية او الشرقية الاسلامية يعتمد بشكل كلي علي وجود إله مطلق قادر و مفكر ومتسق مع ذاته، فهذا الاله العاقل تظل اوامره ونواهيه متسقة مع ذاتها علي الدوام، وهذه الاوامر شاملة تنطبق علي الناس جميعا في كل مكان، ولما كان القانون الاخلاقي صادرا عن هذا الاله العاقل المتسق مع ذاته، فمن المنطقي ان يكون قانونا شاملا وثابتا، وعلي ذلك فإن تباين القوانين الاخلاقية التي يتبعها الناس في حياتهم ، لا يمكن ان يكون راجعا الا الي الجهل بهذا القانون الالهي الشامل.

    الفحص النقدي لهذا المصدر يبين لنا انه يعتمد علي وجود الاله كمسلمة نأخذ بها دون ان نناقشها، وفي حال وجود خلاف حول تلك المسلمة يصبح من العسير إلزام شخص ما بالقانون الاخلاقي الالهي، وحتي مفكر عميق مثل ايمانويل كانت لم ينج من الوقوع في هذا الفخ المنطقي‘ فكل الحجج التي اتي بها تبدأ بالتسليم بوجود هذا المعيار المطلق، فلو كان المصدر التاريخي يكفي في زمن ما لتبرير الموقف الاخلاقي المطلق ، فإنه لا يكفي في زمننا هذا ، فمسلمة وجود المعيار الاخلاقي المطلق لم تعد مسلمة بأي حال من الاحوال، حيث ان قضية وجود إله شخصاني – عاقل ومفكر ويهتم لمصير البشر – قضية خلافية لحد بعيد في يومنا هذا.

    المصدر الثاني من مصادر النزعة الاخلاقية المطلقة هو محاولة ايجاد اساس منطقي للقانون الاخلاقي المطلق، وللأسف الشديد هذا المصدر ليس واضحا بقدر وضوح المصدر الاول، وربما كان كانت هو اشهر العقليين في هذا المجال، حيث كان يقول ان خرق القوانين الاخلاقية دائما يكون خرقا لقوانين المنطق كذلك، وبما ان قوانين المنطق واضحة بذاتها، فاالقانون الاخلاقي لا بد ان يكون واضح بذاته، ولنقتبس اشهر امثلة كانت التي ضربها في هذا الصدد: فعندما نعطي وعدا لا يكون في نيتنا الوفاء به، فإن سلوكنا يكون شرا لانه ينطوي علي خرق قانون عدم التناقض الشهير في المنطق،وذلك لاننا نتصرف علي اساس مبدأين متناقضين في ان واحد اولهما ان الناس يجب ان تؤمن بالوعود و لكني اذا اخلفت وعدي فمعني ذلك ان لكل شخص الحق في ان يخلف وعده، ومادام القانون الخلاقي شاملا ولو اخلف كل شخص وعوده لما عاد احدا يؤمن بالوعد ، ولكان لدينا مبدأ مناقض للمبدأ الاول انه لا ينبغي لاحد ان يؤمن بالوعود.

    لكي نري مثال كانت بشكل اوضح نضعه في سلسة من الخطوات المنطقية وفورا سنلاحظ ان هناك عدد من الفروض غير الملزمة الا لكانت وحده:
    1. انا اعطيت وعدا
    2. في نيتي ان اخلف هذا الوعد
    3. كل شخص يجب ان يكون مؤمن بالوعود
    4. إذا اخلفت وعدي فمن حق اي شخص اخر ان يخلف وعده
    5. إذا اخلف كل الناس وعدهم تكون الوعود غير ذات قيمة
    6. سيكفر الناس بالعود كون انها اصبحت غير ذات قيمة
    7. كل شخص سيكون كافر بالوعود
    الخطوة رقم سبعة تعطينا تناقض مع الخطوة رقم ثلاثة وهو امر محظور منطقيا، ولكن الخطوة رقم ثلالثة هي نفسها مجرد افتراض، فوجود شخص واحد فقط ضعيف الثقة في الناس لايؤمن بالوعود سيجعل نسق كانط كله في مهب الريح، وذلك لان كانط قدم قضية كلية ( او مسور كلي بلغة المنطق) وهذه القضية الكلية يكفي ذكر مثال واحد لإبطالها.

    نقطة الضعف الثانية في البناء المنطقي الكانطي موجودة في الخطوة رقم اربعة، فليس هناك لازمة منطقية تجعل الناس يخلفون وعودهم لمجرد ان شخص ما اخلف وعده، وكون ان القانون الاخلاقي شامل هو مسلمة غير ملزمة سوي لصاحب النسق ومن يفكر بنفس طريقته، وبالتالي انا اري ان محاولة منطقة القانون الاخلاقي المطلق هي محاولة فاشلة تماما.

    اما ثالث مصادر النظرة المطلقة للإخلاق فهو المصدر الكيفي، وهي احدث المحاولات لتبرير الموقف الاخلاقي المطلق، حيث تقول هذه النظرة ان للخير كيفية لاتعرف،ولا ترد الي غيرها، تتصف بها افعال او اشياء او مواقف معينة، وهي كيفية شبيهة بالكيفيات اللونية كالاخضر مثلا، وعلي الرغم ان العالم الفيزيائي يستطيع تعريف اللون علي انه ذبذبات كمية ، فإن اي لون يشكل بالنسبة لتجربتنا الذاتية الحسية كيفية بسيطة لا ترد الي غيرها، ولا يمكن ان يعرف بالتجربة، وكذلك القيمة الاخلاقية فهي صفة للاشياء والافعال والمواقف في ذاتها، ولا ترد الي غيرها.

    يمكننا ببساطة شديدة اثبات فساد تشبيه الخير باللون، وذلك حتي لو اننا سلمنا بأن اللون موضوعي كامن في الشئ نفسه – وهو امر لا يقول به سوي قلة قليلة من علماء النفس – فلن يكون هناك مقارنة بين كيفيتي الخير والاخضر مثلا، وذلك لان اي شخص ذو ابصار ستكون لديه نفس التجربة عندما ينظر الي شيء اخضر اللون، ولكن هذا الامر يتباين بشدة في المواقف والافعال، حيث انه يمكن لشخصين مختلفين اصدار حكمين اخلاقيين متضادين تجاه نفس الموقف وكل بمبرراته، ولكن لا احد ذو بصر طبيعي قادر علي تبرير رؤيته للون معين. وهناك حجة اخري ضد المصدر الكيفي ذكرها ستيس في كتابه مفهوم الاخلاق: ( إن كون شيء متصف بكيفية او صفة ، يفرض علي إلزاما عقليا او نظريا محضا بأن اعترف بأن لديه هذه الكيفية ، ولكن كيف يفرض علي اي التزام بأن اسلك سلوكا معينا تجاهه؟ لو قيل لي ان زهرة معينة صفراء، ورأيت هذا بعيني، فعند إذ يجب علي الاعتراف بحقيقة هذه القضية القائلة ان هذه زهرة صفراء، ولكنني لا استطيع ان افعل اكثر من هذا، فأنا مضطر لقبول هذه الحقيقة ولكن غير مضطر لفعل اي شيء حيالها، فإعترافي بحقيقية الزهرة الصفراء لا يجبرني علي إلتقاطها مثلا، إلا اذا كنت احب الازهار الصفراء، او لدي ميل اخر يدفعني الي إلتقاطها، وكذلك إذا قيل لي ان فعلا او شيئا يتصف بأنه خير في ذاته، وانا ادركت ذلك بوسيلة ما او بأخرى ، فإن ادراكي هذا لن يعدو كونه معرفة بكيفية ما لا يترتب عليه فعل ما الا إذا كنت انا نفسي ارغب في فعل هذا الخير، وفي هذه الحالة يكون ميلي هو الذي يدفعني لا الحقيقة النظرية التي اوضحت لي).

    في خلاصة عرضنا المختصر للموقف القائل بأن القيم الاخلاقية هي شيء مطلق موجود بشكل مستقل عن ذواتنا المفكرة، نستطيع ان نقول بكل ثقة ان هذا الموقف هو مجرد هراء، فمن المستحيل بوجه خاص تجاهل طبيعة النوع الانساني والإهتمامات الفريدة للبشرية والنظر اليها علي انها مجرد جهل بالقانون الاخلاقي الكوني الشامل، الذي يجب ان يسري علي كل المخلوقات العاقلة بما فيها اهل الكواكب الاخري إن وجدت.
    الذي نستطيع قوله انه طالما اننا اثبتنا عدم وجود قانون اخلاقي واحد شامل ينطبق علي الجميع وما علي الجميع سوي اكتشافه، فهل معني ذلك ان نعيش حياتنا من غير اخلاق؟ بالطبع ليست الاجابة بالضرورة هي نعم، فعدم وجود قانون اخلاقي واحد شامل ثابت لا يعني عدم وجود قوانين اخلاقية عديدة متغيرة ومتطورة ومتجهة نحو التكامل والاتساق.

    النظرة الموضوعية لمشكلة الاخلاق تحتم علينا عدم انتزاعها من محيطها المتعلق بالمعارف والعلوم الاخري المندرج تحت ستار قانون التطور العام للمجتمعات البشرية، بل ان التفكير في العميق في هذا الاتجاه سوف يقودنا بشكل سلس الي النظر الي المشكلة الاخلاقية ضمن السياق العام لتحولات المادة – الطاقة وليس المادة الحية فحسب، بل سنجد انها لا تخرج من سياق نظرية التطور البايولوجية والنظرية النسبية الانيشتاينية.

    حدثت في المئة وخمسين عام الاخيرة، ثورات عنيفة في مجمل اتجاهات التفكير البشري، وكان من الطبيعي ان يتأثر التفكير في مشكلة الاخلاق بالتطورات الحادثة في العلوم الانسانية بمختلف اتجاهتها، لعل ابرز ملامح تلك الثورة نظرية التطور لشارلز داروون والنظرية النسبية لاينشتاين، حيث وضعت نظرية التطور الانسان في مكانه الطبيعي وسط غيره من الكائنات الحية، يتميز عليها بإمتلاكه للعقل وتتميز عليه بأشياء اخري، كان لهذا الزلزال العنيف الذي اوضح بشكل جلي ان الانسان ليس سوي مجرد نوع اخر من انواع الكائنات الحية لا يملك اية ميزة تجعله مؤهلا لكي يكون فوق الكائنات الاخري اثره العميق علي التفكير الفلسفي الذي لا زالت امواجه التوسنامية تضرب سواحل انظمة التفكير المنغلق والتي تتعامل مع كم الحقائق العلمية الموجودة في نظرية التطور بعدائية اقرب الي الخوف من نتائجها.
    وهكذا اصبح الانسان موضوع من مواضيع الدراسة العلمية، وليس كائنا فوق العلم، وكنتيجة مباشرة لهذه النظرة الموضوعية للكائنات البشرية ومجتمعتها، ظهر علم الانثروبولوجي، وكذلك التاريخ الذي اصبح يرتكز علي اساس متين من البحث والدراسة وليس مجرد حكايات تروي، وقد ادي هذان المبحثان الي تراكم رائع لمجموعة من المعلومات حول موضوع تغيير العادات البشرية والمعايير الاخلاقية عبر الزمان، بحيث لا يجد المرء مفرا من الاعتراف بان هذه التغيرات مهمة في ذاتها، وتترافق مع التغيرات الاخري التي تحدث للكائنات البشرية المرتبطة بالظروف الحياتية الاخري مثل الظروف الاقتصادية والبيئية، مما يجعلنا علي درجة عالية من الثقة حين نقول ان التطور في الاخلاق يخضع لقانون الانتخاب الطبيعي مثله ومثل البايلوجيا تماما.

    إذا علي ضوء ما سبق، فكيف نتحصل علي المعايير الاخلاقية المختلفة في كل زمان؟ إن مصادر الحصول علي المعايير الاخلاقي ليست منفصلة تماما عن مصادر المعرفة، لان العملية في اساسها هي عملية معرفية، لذا سنجد ان المشكلة هنا تخلت عن طابعها الانطلوجي لتصبح مشكلة ابستمولوجية، كيف نعرف ان معيارا اخلاقيا هو اصح من معيار اخر؟ اولي وسائل التمييز هو السلطة، بحيث اننا نلجأ دائما الي سلطة ما – بمعناها الشامل – لتحديد معاييرنا الاخلاقية التي يجب ان تسود في زمان معين، ونلاحظ ان هذه السلطات المختلفة – من دينية الي سياسية الي اجتماعية الي علمية وخلافه – لها تأثيرات مختلفة تكون متضادة احيانا وتدعم بعضها في احيان اخري، وتملك السلطة نفسها معاييرها الخارجة عنها، والتي تكون العلاقة بينها وبين المعايير الاخري هي علاقة التأثير المتبادل، ان السلطة بوصفها المصدر النهائي للمعايير الاخلاقية تظل ناقصة، فالسلطة لوحدها تظل بدون قيمة في مشكلة الاخلاق، وتبدأ اسباب هذا الاستنتاج حين نتسائل عن قوام السلطة، وعن المعيار الذي ينبغي ان نمييز به بين سلطة وأخرى. وتلك الاسئلة لا يستطيع القائل بالسلطة كمصدر للأحكام الاخلاقية ان يتجنبها، لأن سؤال اي السلطات يجب ان نتبع هو سؤال عملي تماما لا يحتمل التجاهل،لانه لابد من موجود معيار نفاضل به بين سلطتين متنافستين، وهذا المعيار يجب ان يكون مستقلا عن السلطتين المتنافستين، فماهي تلك المعايير؟ وكيف نفاضل بينها؟.

    اول معايير السلطة هو القدم، وهو اكثر المعايير شيوعا في تمييز الاحكام الاخلاقية، حيث يقول هذا المعيار إن اقدم الاحكام الاخلاقية يكون إحتمال صحته اعلي من احدث الاحكام الاخلاقية، وهذا الموقف يعبر بالضرورة عن كم هائل من انظمة التفكير الماضوية – مثل الجماعة السلفية عندنا – هذا المعيار مبني علي مسلمتين، إحداهما يمكن إعتبارها صحيحة في ظروف معينة والثانية واضحة البطلان، فالمسلمة المقبولة تقول ان طالما كان النظام الاخلاقي قديم، فهذا يعني انه اجتاز اختبار الزمن بنجاح، ويمكن اعتبارها كوجه اخر لقاعدة البقاء للأصلح، وهذه المسلمة يمكن اعتبارها صحيحة فقط إذا تساوت جميع الظروف الاخري.

    أما المسلمة الثانية فهي تعبر تماما عن الموقف السلفي في التفكير، حيث تقول انه طالما ان السن الكبيرة احكم من الشباب فمن الواجب اتباع أراء أجدادنا، وهي مسلمة نستطيع بقليل من الجهد توضيح خطلها، حيث سنجد انها مجرد مغالطة ليس الا، لنري مالذي قاله ب مونتاجيو في كتابه طرق المعرفة ( لو كان أجدادنا احياء الان ، لكانوا مسنين جدا، ولكانت اراءهم جديرة بالتبجيل حقا لانها نتجت عن اجيال من الخبرة، ولكن في الوقت الذي صرح فيه أجدادنا بآرائهم والتي اصبحت الان موغلة في القدم، والتي يطلب منا تبجيلها، كانوا صغارا في السن مثلنا ، وكان العالم الذي يعيشون فيه اصغر بكثير من حيث خبرة النوع، فمهما يكن قدم اراءهم فإنها تعبر عن طفولة الجنس البشري لا عن نضجه. ومن هنا إن قدم الرأي او الاعتقاد هو في واقع الامر قرينة تنقص من حقيقته ولا تزيدها).

    وقد عبر فرانسيس بيكون عن الموقف نفسه بطريقة اخري ربما تكون اوضح من الطريقة الاولي، حيث قال ( إن الرأي الذي يرفع به الناس من قيمة القديم هو رأي باطل تماما، ولا ينطبق علي لفظ القديم مطلقا، وذلك لان شيخوخة العالم وعمره هو الذي يعد في واقع الامر قديما، وهذه هي الصفة المميزة لزماننا هذا، لا للعمر المبكر للعالم في زمن القدماء ، لان هؤلاء بالنسبة لنا قدماء سابقون، لكنهم بالنسبة للعالم صغار محدثون، ولما كنا نتوقع من الشخص المتقدم في العمر معرفة اوسع بإمور البشر، وحكما انضج من الشباب ومعرفته، فإن لنا الحق في ان ننتظر من عصرنا هذا، أمورا اعظم مما ننتظره من العصور القديمة ، ما دام العالم يزداد كل يوم قدما، وتتضاعف ذخيرته المعرفية وخبرته المتراكمة بفضل عدد لانهاية له من التجارب والملاحظات).
    إن اسلوب التفكير السلفي يتبين لنا تهافته إذا سألنا عن احكام اخلاقية معينة كمثال، فالرق مثلا يعتبر عمل لا اخلاقي في زمننا هذا، ولكن ان سألت اي سلفي فأنه لن يستطيع ان يقول لك انه عمل لا اخلاقي لان هذا سيوقعه في تناقض كبير، حيث إن اراء السلف لم تقل ان الرق لا اخلاقي وهي بالنسبة له اكثر كمالا وإتساقا من اراءنا الاخلاقية.


    المعيار الثاني من معايير السلطة هو العدد وسناقشه في الجزء التالي من المقال
                  

10-27-2008, 04:14 PM

emad altaib
<aemad altaib
تاريخ التسجيل: 12-27-2007
مجموع المشاركات: 5300

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مشكلة الاخلاق (Re: Shihab Karrar)

    ــــــ
    Quote: مشكلة الاخلاق

    إزيك يا شهاب كرار....

    بجيك راجع
                  

10-27-2008, 04:18 PM

Yassir Bainwi

تاريخ التسجيل: 09-13-2008
مجموع المشاركات: 0

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مشكلة الاخلاق (Re: Shihab Karrar)

    شهاب مشتاقين والله
    يا زول وين ماظاهر

    نضمك الفوق جميل خالص و دايرلو قعدة


    بيناوي
                  

10-28-2008, 04:36 AM

Shihab Karrar
<aShihab Karrar
تاريخ التسجيل: 12-27-2007
مجموع المشاركات: 965

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مشكلة الاخلاق (Re: Shihab Karrar)

    الاخوة عماد الطيب وياسر بيناوي

    تحياتي لكما وشكرا علي المرور و في انتظار العودة
                  

10-28-2008, 05:34 AM

أسامة الفضل
<aأسامة الفضل
تاريخ التسجيل: 06-13-2008
مجموع المشاركات: 1231

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مشكلة الاخلاق (Re: Shihab Karrar)

    الأخ شهاب
    تحية ود
    أعتقد يا عزيزي أن وجود القيم الأخلاقية - و أعني بذلك ما يندرج تحت مسميات مثل حلال وحرام..عيب ..خطأ و صواب..مستحب و مكروه و مقبول وما إلى ذلك - وجود أزلي صاحب ظهور أول إنسان وقبل أن تطأ قدماه الأرض و إلا كيف عرف آدم عليه السلام أنه عصى ربه و كيف عرف قابيل أنه ارتكب منكرا بقتله أخاه بعد نزول الأنسان إلى الأرض ? لذا أعتقد أن الأمر ومن بساطته أعقد من نظريات الفلسفة وهو ببساطة مثل اللغة - اتفاق الناس في مجتمع ما على أن هذا الأصوات تدل على هذه المعاني- و أعني أن القيم الإجتماعية عبارة عن مقاييس تم الإتفاق عليها من قبل أفراد المجتمع لأسباب مختلفة - دينية - إقتصادية أو غيرها وهي مثل اللغة أيضا تحتلف من مجتمع لآخر ويمكن إيجاد مقابل لها في قيم المجتمعات الأخري إلا فيما ندر وغالبا ما يكون ذلك لأسباب دينية حيث تصدم محاولات التوفيق بالنصوص المقدسة أما فيما يخص القيم الفردية فمثل ما يحدث بيننا الآن فكلانا يتحدث اللغة العربية وكل منا أسلوبه و اختياره لمفرداته ولكن ذلك لا يخرجنا من مظلة اللغة المشتركة
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de