هنا يبوح د صلاح على محجوب ببعض من مشواره العطر في العمل العام

Quote: أوّلاً أودّ أن أشكر الأخ رمزي المصري ومن ورائه إدارة المنتدى على هذه الثقة التي جعلتهم يأتون بي كضيف للمنتدى وسط عمالقة العمل النوبي {كالأستاذة سعاد إبراهيم أحمد، حاضنة العمل النوبي} وعمالقة المنتديات ذوي الصولات والجولات كالأخ خليل عيسى. وأنا المُقلّ في الكتابة المُقلّ في العطاء. وآمل ألا أكون ضيفاً ثقيلاً على الأعضاء، وتحقيقاً لهذا سأحاول أن أجيب باختصار، فلقد قالت العرب على أيّ حال { يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق}. المولد: في القاهرة منذ زمان سحيق ترادفت سنينه وتصرّمت عقوده. الدراسة: الخلوة: بدأت الخلوة في تبج مع الشيخ الجليل يحيى محمود - طيّب الله ثراه، ثمّ انتقلت إلى خلوة سيدي إبراهيم في وادي حلفا. المدرسة الأوّليّة: لعلي أكثر الناس تنقلاً بين المدارس فلقد قضيت سنوات الدراسة الأربع { عندما كانت الدراسة أربع سنوات} متنقلاً من مدرسة حلفا الغربيّة الأوّليّة ( حيث كانت البداية} إلى مدرسة مروي الأوّليّة ( قبل بناء الخزان)، ثمّ مدرسة كريمة الأوّليّة، ثم مدرسة الضاحية الأوّليّة ببورتسودان ثمّ مدرسة الدامر الشماليّة الأوّليّة ومنها امتحنت للمدرسة الوسطى. المدرسة الوسطى: قضيت سنوات الدراسة في مدرسة الدامر الحكوميّة ( والدامر هي بلد فريد زمانه البروفسور عبد الله الطيّب} وفي تلك المدرسة تعرّفت على البروفسور عندما أتى إلينا محاضراً في حصّة اللغة العربيّة ليشرح لنا بطريقته الفذة قصيدة أبي العلاء المعرّي: يا ساهر البرق أيقظ راقد السّمُرِ * * * لعلّ بالجزعِ أعواناً على السهرِ وغيّرت تلك الحصّة توجهي إذ صرت أعشق الأدب العربيّ وصارت لعبد الله الطيّب مكانة خاصّة لدى لا تدانيها مكانة. المدرسة الثانويّة: قضيت سنوات االدراسة في مدرسة أتبرا( عطبرة) الثانويّة الحكوميّة وبالمناسبة أتبرا هو الاسم الصحيح والنهر هو (الأتبراوي) وكذا ينطقها حتى الآن أهل أتبرا ، أمّا التحريف الذي صارت بموجبه (عطبرة) سببه المصريون الذين كانوا يكتبون أسماء المحطّات عند بناء السكّة الحديد وكانوا يسألون الأهالي عن اسم البلد ويكتبون وفقاً للسمع ووفق ما تمليه لهجتهم هم. { وهذه المعلومة من كتاب حقيبة الذكريات لشيخي عبد الله الطيّب}. الجامعة: درست سنوات الجامعة في كليّة الزراعة بجامعة الخرطوم، وتخرّجت فيها متخصصاً في الكيمياء الحيويّة. العمل: بدأت حياتي العمليّة في اليوم التالي لإعلان نتائج الامتحانات النهائيّة { ذلك الزمن الجميل} في وظيفة مساعد باحث في مركز أبحاث الأغذية. بعد عام انتقلت إلى قسم الكيمياء الحيويّة بكليّة الزراعة في وظيفة مساعد تدريس وبقيت أقل من عامين. الدراسات العليا: ثمّ ذهبت إلى انجلترا لنيلِ درجة الماجستير في علوم الأغذية من جامعة ( ريدنق) بجوار مدينة لندن. وبعدها مباشرة انتقلت للتحضير لدرجة الدكتوراة في كيمياء الأغذية في نفس الجامعة وإن انتقلت لإجراء الأبحاث في معهد بحوث بمدينة لندن ( معهد بحوث الأغذية المداريّة}. قضيت في إنجلترا خمس سنوات ونصف وعدت إلى الخرطوم في فبراير 1982م. التدريس بالجامعات: بدأت تدريس الكيمياء الحيويّة وعلوم الأغذية في كليّة الزراعة جامعة الخرطوم وفي كليّة العلوم الأسريّة بجامعة الأحفاد للبنات دون انقطاع لفترة 12 عاماً انتهت في 1994م. في عام 1986م ذهبت لأربعة أشهر أستاذاً زائراً لجامعة كوينز ببلفاست (المملكة المتحدة). وفي عام 1990م ذهبت موفداً من جامعة الأمم المتحدة ( ومقرّها طوكيو باليابان) لأربعة أشهر لدراسة نقل التقنية من مستوى البحوث لمستوى التطبيق في المجال الغذائي وذلك في معهد بحوث الأغذية بمدينة {ميسور} الجميلة بالهند. - ذهبت للتدريس في كليّة العلوم ( قسم الكيمياء) بجامعة عمر المختار بالجبل الأخضر بليبيا ( مدينة البيضاء) لمدّ عامين حتى نهايات 1996م. عدت بعدها لجامعة الخرطوم لأشهر. ثمّ: الغربة الخليجيّة: انتقلت ( في ظروف خاصّة) إلى المملكة العربيّة السعوديّة. ومنذ 1997م وأنا بالمملكة وأعمل مديراً لإنتاج في شركة المنتجات الغذائيّة { وفرة} حيث أدير أربعة مصانع للأغذية. سأبعث بهذا القدر لأرى إن كان مقبولاً أو أنّه مثير للملل وبعدها أعاود إن شاء الله.

Quote: العمل العام: بدأت العمل العام في السنة الثاثة بمدرسة أتبرا الثانويّة عندما قمنا بتكوين رابطة أبناء سكوت بالمدرسة ( ولا بدّ هنا أن أذكر أنّ المبادرة كانت من زميل الدراسة وصديق العمر الدكتور جيلي مصطفى فرح ( صاي - موركة) و لابدّ لي أن أستطرد هنا قليلاً لأتحدّث عن جيلي رائد العمل النوبي المعاصر وأفضل من يمكنه قيادة عمل جماعي وصاحب الأفكار الصائبة والعزيمة التي لا يفلّها الحديد. جيلي كان المبادر وكان رئيساً للرابطة في أتبرا الثانويّة وانتقلنا للجامعة أيضأ ليكون على رأس تكوين رابطة طلاب سكوت بجامعة الخرطوم. افتقد العمل النوبي الجيلي زماناً طويلاً عندما انتقل للدراسة في بريطانيا ولم يعُد منها لارتباطه بالعمل بها والإقامة بلندن لأكثر من ربع قرن. وفي لندن استهواه العمل الحزبيّ السودانيّ العام ولكنّه يقوم بالكثير من أجل النوبة وقضاياها وهو في لندن. كان هذا الاستطراد ضروريّاً. وفي أتبرا كانت الرابطة تقيم الندوات في نادي اللقاء وهو نادي أبناء سكوت بالمدينة، وكنّا نصدر جريدة النادي الحائطيّة { اللقاء} وكانت لنا مناشط ثقافيّة عديدة. جيلي وأنا كنّا نُصدر بالمدرسة جريدة حائطيّة اسمها { الأتبراوي} كانت ذات بهاء لا يُضاهى على الأقل في شكلها إذ كان الخطاط الرائع عثمان محمّد عثمان سالم (دال) يكتب كلّ عناوينها وكان الفنان المبدع عبد الرحيم هاشم ( صاي - موركة) يزيّنها برسوم طبيعيّة غاية في الروعة. كنت أصدر في ( العنبر) جريدة صغيرة اسمها ( النيل) وكان جيلي يُصدر في العنبر المجاور جريدته (التقدّم ) وكنّا معاً ومعنا آخرون نُصدر جريدة الجمعيّة الأدبيّة بالمدرسة كما كنت أنا ومعي الصديق كمال أحمد الزبير ( الدامر) نُصدر المجلة الإنجليزيّة للمدرسة. هذا الاستطراد هام لأنّ هذا العمل الصحفي المدرسيّ هو الذي شكّل لديّ الرغبة في العمل العام. مرحلة الجامعة: بقيادة جيلي بدأنا العمل في الرابطة ومن أعضاء اللجنة الصديق الذي لا يُشق له غبار في العمل العام إبراهيم السيّد ( صواردة) والأخ د/ سمير جدو ( قبة سليم) والأخت العزيزة فوزيّة عبد القادر ( أرنتى) وبقيّة العقد الفريد، وإنجازات هذه المرحلة كثيرة ولكنّي سأختصرها في نقاط. 1- قدمنا دراسة عن تسويق التمور بغرض رفع العائد المادي لأهالي المنطقة. 2- قمنا بعمل ضخم للغاية بمساندة الكثيرين ( ومنهم طالبات سكوت ببربر الثانويّة) بعمل أوّل سوق خيري بمدينة عبري لفترة ثلاثة أيّام { ولكن الإعداد له استغرق عاماً دراسيّاً كاملاً}. وقمنا بتسليم العائد المادي من بيع الملابس والتحف وعائد الألعاب إلى لجنة إصلاح طريق حلفا/ عبري وقد استلم المبلغ وأشاد بنا رائد العمل النوبي بالمنطقة د/ حسن سيّد ( عمارة) طيّب الله ثراه. استضافت مدرسة عبري المتوسطة السوق الخيري بأريحيّة وبتشجيع كبير من مديرها الأستاذ الفاضل محمّد عبد المجيد عبد الرحمن ( تبج). 3- توحيد أبناء سكوت في نادي النهضة بالخرطوم. كان نادي النهضة بالخرطوم جنوب مقرّاً لأبناء شياخات شمال السكوت واقترحنا توسيع قاعدة النادي لتشمل جميع أبناء سكوت ولقد استجاب لنا أعمامنا كبار رجال سكوت وقمنا بتشكيل لجنة عشريّة ضمّت طيّب الذكر بروفسور أبو سليم وشيخ العمل النوبي محمّد كيلاني متعه الله بالصحة والعافية وبقيّة القادة وأفرزت اللجنة تقارباً كبيراً أدّى في نهاية الأمر على الاتفاق على قضايا مهمّة في مسيرة العمل السكوتي. 4 - تكوين جمعيّة سكوت الخيريّة : لعلّ الكثيرين لا يعلمون أنّ المبادرة لإنشاء جمعيّة سكوت الخيريّة كان من رابطة طلاب سكوت بجامعة الخرطوم. وهذه الجمعيّة من أكثر ما أفخر بإنجازه مع الآخرين رغم صِغر دوري فيها. ولهذا العمل سأفرد صفحة منفصلة تأتي لاحقاً. وأكتشف الآن أنّني أصبحت ثرثاراً فشكراً لرمزي المصري.

Quote: أرى أنّني متأخر جدّاً في الردّ على السؤال الأوّل وها هو الأخ رمزي يدخل علينا بسؤال طويل عن زيارة السيّد وزير الدفاع للرياض. ولقد استغرقت الإجابة عليه ( عندما سألنا إيّاه أحمد البلال الطيّب) 6 ساعات سطّرها هو في 5 حلقات بصحيفة أخبار اليوم السودانيّة. ولكن لا بأس لعلّ الوقت يسعفنا لاحقاً عندما ننتهي من السرد. وإن رأيتم أن أوقفَ السردَ فعلتُ. استطراد: سألني أخ {عزيز} ( سؤالاً خارجيّاً) عن الذي دفعني لدراسة الكيمياء وهي على ما هي عليه من (البغض) الطلابيّ. وأقول أنّ السبب الأوّل هو أستاذي العظيم حسن علي عبيدي طيّب الله ثراه. إذ قام بتدريسي الكيمياء في أتبرا الثانويّة ( السنة الثالثة) وهو بحق - وليس في نظري فقط - خير من يدرّس الكيمياء والفيزياء. حبّب إلينا هذه العلوم بطريقته السهلة الممتنعة وصوته الخفيض وعلمه الغزير. كان الطلاب في حصّته يبقون وكأنّما هم في محراب وعلى رؤوسهم الطير. كنت أحرص على أن أرفع رأسه { بالأداء} لأنّه أستاذ يستحق ذاك أولاً ولأنّه قريبي ثانياً. ولا أنسى أنّي أجبت على أحد امتحاناته إجابة نموذجيّة فجاءت النتيجة 97 % وذهبت إليه في استحياء أسأله عن أين ذهبت الدرجات الثلاث فقال لي: { خصمتها حتى لا تغترّ فيجول في خاطرك أنّك قد ملكت ناصية العلم، لأنّك حينها ستبدأ رحلة الهبوط} . هو درسٌ لم يفارقني منذ ذاك الحين. وحبّ أستاذي انتقل لحبّ مادته { الكيمياء} أعود للحديث عن قيام جمعيّة سكوت الخيريّة لأنّها أدّت دوراً جدّ عظيم في حياة أهلنا بسكوت. استجاب لمبادرة الطلاب هبّ رموز سكوت وقاموا بدور عظيم بقيادة شيخ العمل النوبي محمّد كيلاني همّد { الذي أدعو من هذا الموقع لتكريمه على مسيرة 60 عاماً من العطاء لسكوت}، وكان من أعلام سكوت في ذلك العمل الدكتور الفذ عبد القادر شلبي ولعلّ د/ شلبي يحتاج لصفحة منفصلة، بل كتاب منفصل وهو أحد الذين رسموا لي خارطة الطريق في العمل العام وأهمّ ما يميّزه أفكاره الخلاقة ومقدرته الكبيرة على التمييز بين السمين والغث. وكان من أهمّ من قاموا في هذا السعي لإنجاح قيام التعاون مدير مصلحة التعاون آنئذٍ السيّد محمّد مختار ( أشمتو) ونائب مدير المصلحة علي خيري ( صاي) رحمه الله ونائب مدير المصلحة إدريس متولي ( أشمتو) رحمه الله. كما كان لوكيل الوزارة آنذاك ( محمّد أحمد داؤود - قبة سليم) دور إيجابيّ رسميّ كبير. وهناك مجموعة أخرى كبيرة أسهمت في هذا العمل منهم البروفسور عمر محمّد عثمان والأستاذ العظيم شبلي سعيد رحمهما الله والأساتذة الأجلاء محمّد عبد الحليم محجوب ومحمّد عبد الحليم محمّد والدكتورة نادية عبد القادر ( تبج) وبالطبع جيلي مصطفى فرح وفتحي فرغلي وكوكبة كبيرة أعطت لهذا العمل زخماً كبيراً. وكان بالطبع زينة المجالس عمنا المرحوم محمّد شريف شاطر { شاطر أفندي}. كان كلّ هؤلاء يسعون لأهلنا في الجمعيّات في العاصمة لإقناعهم بجدوى التعاون وضرورة شراء أسهم الجمعيّة. ونجحنا أيّما نجاح. استطراد: كان أوّل إيصال لأوّل مساهم في الجمعيّة باسم الخال محمّد سيّد خليل (تبج). استطراد: كان رئيس اللجنة بالطبع عمنا محمّد كيلاني ومقرّرها د/ شلبي وأمين مالها محمّد مختار وكنت أنا ( وأنا حينها طالب بالجامعة) سكرتيراً للجنة. وشعرت بحرجٍ شديد عندما صدار كتيّب عن اللجنة وتكوينها وظهر اسمي بهذه الصفة سابقاً لاسم أستاذنا بروفسور عمر محمّد عثمان ( مدير الجامعة التي كنت أنا طالباً فيهاً ). ولكنّ هؤلاء الناس كانوا كباراً بحقّ وحقيق. أخبرني الأستاذ كيلاني لاحقاً أنّهم كانوا يقصدون هذا الأمر لإعطائي وزملائي ثقة فيما يمكن أن يفعله الشباب. أختصر: قامت الجمعيّة التعاونيّة وكان أوّل رئيس لها بعبري رجلٌ ولا كلّ الرجال رجل التعليم الفذ الراحل عبد العزيز حسن علي ( أرودين - صاي) الذي تحمّل مسؤوليتها بعد أن تقاعد من سلك التعليم، وأعطى للجمعيّة مصداقيّة لازمتها حتى النهاية. لا بُدّ أن أنوّه هنا أنّ كثيراً من الأسماء لم أذكرها في هذه العجالة، ليس تقليلاً لدور أصحابها فإنّ إنجازاتهم باقية تخلد أدوارهم، ولكن لضيق المكان

Quote: العمل العام بعد التخرج: اتخطى مرحلة الدراسة لأدلف إلى العمل اللاحق. بالطبع لم أكن من المؤسسين لجمعيّة عبري/ تبج بالخرطوم والتي قامت على أكتاف رجال عظماء، هناك من هو أقدر مني على التأريخ لهم مّمن عاصروا الفترة. ولكنّي أقول أنّني صرت أحد أعضاء اللجنة التنفيذيّة بعد التخرج. وفي دورة 1975/76 م أصرّ شيخ الجمعيّة الرجل المتجرّد المتفرّغ لخدمة الآخرين مثلي الأعلى في العمل العام طيّب الذكر علي دياب، أصرّ أن أصير أنا رئيساً للجمعيّة وأن يكون عبده محمّد عبده بدر ( عبده سامي) سكرتيراً لها وأن يكون هو أميناً للمال. وبالطبع استنكرنا الأمر: أأكون أنا رئيساً وعبده سكرتيراً للجنة تضمّ علي دياب وتاج السر صابونة؟ كانت فكرته هي نفس الفكرة التي جعلت مدير الجامعة عمر محمّد عثمان يصرّ أن يكون طالب الجامعة سكرتيراً للجنة التعاون وهو مجرد عضو فيها. هو درس بيلغ وتربية. بالطبع لم يكن لنا من المزايا أو الخبرة ما يجعلنا ( عبده وأنا) الأفضل لقيادة الجمعيّة. استطراد: فشلتُ فشلاً ومعي أبناء جيلنا أن نقنع الشباب لحمل الراية عنّا إذ أنّني بعد 33 عاماً من ذلك الحدث أنا الآن رئيس لجمعيّة عبري/ تبج بالرياض. ما نجح فيه شيخي علي دياب فشلت فيه أنا مع رغبتي الصادقة في التنحّي للشباب. واصلت العمل في جمعيّة عبري/ تبج بعد عودتي من البعثة تحت مظلّة ورعاية رجل البرّ والإحسان طيّب الذكر الفقيد عبد المنعم جلال. ونجحنا جزئيّاً في بناء الجمعيّة على الأرض التي نجح المهندس صلاح جلال في تخصيصها للجمعيّة. وهذه مرحلة تحتاج لحديث منفصل ولا سيّما دور الفقيد الدكتور الهادي كدودة في تنفيذ البناء. في هذه المرحلة كان الصديق فاروق المصري هو رئيس الجمعيّة وبالطبع كان عبده سامي دوماً بلجنتها والأخوة الأعزاء صلاح عبده حاج ومحمود بدر وفقيد الشباب الهميم الذي كان فقده فاجعة للجميع ميرغني حسن داوود، وكوكبة أخرى من الشباب. استطراد: أقترح أن يؤرّخ الأخ فاروق المصري لهذه المرحلة. استراحة طلب مني بعض الأصدقاء أنّ أضمّن بعض الكتابات الخفيفة أثناء هذا السرد لتلطيف الأمر ومنعاً للملل. وها أنا أستجيب بنشر خطاب أرسلته لمدير عام مصلحة المواصلات السلكيّة أطلب تركيب هاتف لي في منزلي في يناير 1987م: السيّد/ مدير عام مصلحة المواصلات السلكيّة واللاسلكيّة - الخرطوم سلام من الله عليكم ورحمة منه وبركات، وبعد. فلقد كان الإنسان السوداني لأمدٍ طويل من الزمان يعيش في كنف نعمة البساطة، ولا يشغل فكره بهموم المدنيّة وتعقيداتها. وكان في الانتقال من مكان لآخر يستعمل ( الركوبة) التي يزرع (عليقتها) بيديْه ولا يأتي بها من المُنعمين المتفضلين من صانعي قرارات ( الأوبك). وكان الإنسان يستلقي في ( ضل الضحى) فيأتيه الهواء مبرّداً مبرّأ من كلّ سوء، بعد مروره على ( المترة) وما بها من ماء وخضرة، ولم يكن يعتمد على الحديد ذي البأس الشديد الذي ينفث مع هوائه المبرّد الرطوبة وآلام العظام. وكان إذا أراد محادثة أحد أو قضاء حاجة يصل إلى حيث حاجته ولا يعتمد على ( الهاتف) فيختلط عليه الكلام ويدخل بينه وبين محدّثه ثالث وهما في أمر من الأمور العظام. والآن يا سيّدي هل لنا خيار؟ أنستطيع أن نعود لزمان مضى ونبسّط الحياة ؟ كلا ، فعجلة الزمان لا تدور للوراء. وخطابي إليك اليوم في هذا الشأن، إذ أنّني أسكن في شمبات بعيداً عن معظم من أحتكّ بهم ولا أجد مندوحة عن استخدام الهاتف، وهو ليس عندي. ولعلي كنت أتمثل بقوْل ابن عبّاس ( لولا الوسواس ما باليت ألا أكلم الناس)، أو بقوْل لقمان الحكيم لابنه : ( أيُّ بُنيَّ لقد ندمتُ على الكلام وما ندمت على السُّكُوت). ولكن هل يمكن العيش بمعزلٍ عن النّاس؟ أخشى أن أكون قد أطلت عليك دون إدراك حاجتي: فأنا ألتمس التصديق لي بتركيب هاتف في داري الكائنة بشمبات مربع ( 13 ) منزل رقم ( 2) { حلة الحضراب}. وأخشى أن أكون مّمن عناهم الشاعر بقوله: لا تذهبنّ في الأمور فرطاً *** ولا تسألنّ إن سألت شططاً ولكم الشكر والتحيّة والإجلال د/ صلاح علي محجوب كليّة الزراعة - جامعة الخرطوم تمّ تركيب الهاتف بمنزلي بعد 10 أيّام في وقت كان فيه خطّ الهاتف عملة نادرة ولم تكن لي واسطة سوى هذا الخطاب

Quote: أنا أشكر كلّ من أدلوْا برأي أو سؤال وسأعود لهم جميعاً إن شاء الله ( ابتداء من السؤال الأوّل من سُهير - قريبتي) فقط بعد إكمال السرد أو حتى يوجهني المحرّر بخلاف ذلك. العمل العام في الخرطوم بعد العودة من لندن: أهمّ المحطات: 1- العمل في اتحاد سكوت 2- تكوين جمعيّة الدراسات النوبيّة. 3- تكوين ونشاط النادي النوبي. 4- الإشراف على العمل الطلابي النوبي. 5- تكريم نجم الدين محمّد شريف. 6-تأبين جمال محمّد أحمد. 7- تأبين محمّد صالح إبراهيم. بعد أن كتبت هذه القائمة رأيت أن أغيّر طريقتي فإنّ الحديث عن هذه المحطات بأيّ قدر من التفصيل سيجعل المهمّة تبدو وكأنّها مشروع كتاب. ولا إخال أنّ هذا ما يرمي إليه هذا {البوست}. إذن سأمرّ سريعاً جداً ( وأكبر همّي أن أستخلص العبر من العمل العام في الخرطوم وأوضح كم كان ذا فعاليّة ونتائج، مقارنةً بالعمل العام في الرياض، محاولاً أن أوضح كيف أنّ العمل في الرياض وراءه جهد مضني كبير ولكنّ نتائجه لا توازي ما يُبذلُ فيه. أين يضيع فرق الجهد هذا ما أودّ أن أدلي فيه برأي لاحقاً). اتحاد سكوت بالخرطوم: صرحٌ عظيم استمرّ سنوات عديدة وما زال ( تحت اسم مختلف). كان نبضاً لأهل سكوت، قريباً من قضاياهم. تكوّن من أهل الهمّة والعزم والمقدرة لم ينتخبهم أحد ولم يخرجوا من صُلب الجمعيّات، وأهم إنجازاتهم الجمعيّة التعاونيّة كما أسلفنا وإصلاح طريق حلفا/عبري أكثر من مرّة وقطع شوط بعيد في إنشاء مطار عبري، ومعوناتهم للخدمات الأساسيّة التعليم والصِّحّة وقرى اليونيسيف النموذجيّة، وغيرها كثير. { أهمّ ما في الأمر لم يطالبهم مُطالبٌ بالشرعيّة } وما وجدوا غير التقدير والاحترام. الذين قاموا على الاتحاد كثيرون لكنّ من خدموا لفترات طويلة هم بالطبع شيوخنا محمّد كيلاني ( وكان مكتبه في { إدارة الحراسة العامّة} ومن بعد في {مؤسسة تصدير الحبوب الزيتيّة} هي المقر الدائم للاتحاد واجتماعاته. وكذا عمّ شاطر واستضفاته لاجتماعات كثيرة في منزله العامر بالصافية على موائد التركين. ود/ عبد القادر شلبي وتوفيق نصر شريف ومحمّد عبد الحليم محمّد وشبلي سعيد ومحمّد مختار والرائع المُنجز د/ جلال عبد الله (عندما يكون بالخرطوم) ومن الشباب { حينها} إبراهيم السيّد ( سكرتير الاتحاد لفترات متعاقبة) و د. نور الدين يماني، ومحمّد سيّد علي همّد. وفي مراحل لاحقة عباس توفيق وسليمان عبد الرحيم وعثمان علي خليل وخالد فتحي وكثيرون آخرون اعتذر مجدّداً لعدم ذكر أسمائهم. كانت لأستاذي عوض داوود إسهاماته المقدّرة في نشاطات الاتحاد وكان يحرص على حضور اجتماعت الاتحاد بالخرطوم في إجازاته التي يحضر فيها من السعوديّة. وكان لتبرعات المغتربين بالسعوديّة لإصلاح الطريق أثر كبير في إنجاز ما تمّ فيه، وكذا إسهامهم في إنشاء الجمعيّة التعاونيّة. جمعيّة الدراسات النوبيّة: تمّت دعوة للمهتمّين بالدراسات النوبيّة لاجتماع كبير في القاعة ( 102) الشهيرة بكليّة الآداب جامعة الخرطوم. وحضر حشدٌ عظيم وتمّ اختيار لجنة ترأسها الدكتور علي عثمان محمّد صالح ( مشكيلة) وكان حينها رئيساً لقسم الآثار بكليّة الآداب. وكنّا معه في اللجنة ( الباحث/ سيد محمّد عبد الله (مُسُل) { نلوتى} ود/ نور الدين يماني ، ومحمّد سيّد علي همّد، والهادي حسن أحمد هاشم ( صيصاب)، وعبد الرحمن حسّان ( دنقلا) وعمر علي ( السير- أرقو) وآخرون. أهم الإنجازات: 1- أقامة مؤتمر عالمي بكلّ المقاييس عن { الإنسان والإبداع في بلاد النوبة} برعاية الأستاذ/ جمال محمّد أحمد والبروفسور نجم الدين محمّ شريف. 2- التخطيط لقيام مركز الدراسات النوبيّة ( تمّ وضع تصوّر كامل بما في ذلك تصميم للمباني والمسارح الملحقة به ( وكان هذا العمل الضخم هو مشروع التخرّج للطاب المعماريّ حينها هاني محمّد أحمد بدر في السنة النهائيّة بكليّة المعمار). رغم أنّ المشروع لم ينفذ في الخرطوم لكنّ تمّ تنفيذه في القاهرة كما تعلمون بنفس المسمّى والأهداف { مركز الدراسات النوبيّة والتوثيق} وهو الذي كان للأستاذة سعاد إبراهيم أحمد، وهميم النوبة الأوّل ( كمال إبراهيم أحمد) والدكتورة هنيّة مرسي دور عظيم في تمويله وإنشائه. 3- جمع مواد تراثيّة من المنطقة والخرطوم. 4- الإسهام بعملٍ بديع في تأبين جمال محمّد أحمد ( مناحة نوبيّة )، عمل فنيّ درامي بلغ الذروة تحت إخراج عثمان جمال الدين، ومشاركة الفنان جمال جبارة ونادية وآمال وحياة طلسم، وبعض الفنانات الشعبيّات ( الثاكلات). 5- الإسهام بالعمل الأكاديمي الرائع الذي صاحب تكريم نجم الدين محمّد شريف. استطراد واستراحة: أقامت جمعيّة الدراسات النوبيّة رحلة أسريّة عظيمة يوم 9 سبتمبر 1983م ( تذكروا هذا التاريخ). ركبنا باخرة مستأجرة من جوار القصر الجمهوريّ {رجالاً ونساءً وأطفالاً} وأخذنا جولة في النيل الأزرق لنحطّ في جزيرة توتي حيث موقع الرحلة. ولكن عند اقترابنا من الجزيرة تبيّن لنا أنّه لا يمكننا النزول، إذ أنّ النيل كان قد انحسر في الليلة السابقة وترك ( طيناً لِكة) لا تستطيع الباخرة أن تتخطاه للشاطئ ولا يستطيع الناس أن يعبروه مشياً. وأسقط في يدنا. فكرنا أن نعبر بالباخرة تحت كوبري النيل الأزرق و كوبري كوبر لنحاول أن نجد مكاناً مناسباً في سوبا أو أيّ مكان آخر. وكانت العقبة الثانيّة أنّ منسوب النيل رغم انحساره كان عالياً ولم يكن من الممكن للباخرة أن تمرّ من تحت كوبري النيل الآزرق دون أن تصطدم به لأنّها كانت باخرة عالية. كان معنا كلّ نجوم الفنّ النوبيّ: محمّد وردي، مكي علي إدريس، زكي عبد الكريم ومجموعة من الفنانين الشباب. وتضاءلت فرص الرحلة في الصمود. حينها خطر لي خاطر وذهبت ( للريّس) وسألته إن كان يستطيع أن يمرّ تحت كوبري شمبات ( من ناحية ارتفاع) وقال سيحاول وببطء شديد تقدّم ونفذ من تحت الكوبري. وعلى بعد 2 كيلومتر كان نادي أساتذة كليتي الزراعة والبيطرة بشمبات حيث ( أنخنا ) الباخرة وجمعنا امتعتنا ودخلنا النادي الظليل وقضينا أروع يوم. سألني سائل قبل النزول إن كان سيعترضنا دون النادي أحد لعدم أخذ إذن وأخبرته : {أنا رئيس لجنة النادي}. نعود للتاريخ أعلاه 9 سبتمبر 1983. هل تذكرونه؟ إنّه اليوم الذي أعلن فيه نميري تطبيق الشريعة ( قوانين سبتمبر) وتبع ذلك دلق الخمور في النيل الأزرق. كثيرون ممن كانوا في الرحلة لم يسمعوا بخبر ( قوانين سبتمبر إلا في اليوم التالي) لأسباب مفهومة. وصرّح أحد الظرفاء بعد الرحلة أنّ تلك الرحلة ( التي اعتبرها الكثيرون خمّ الرماد) ساهمت في تخليص البلاد من كميّات كبيرة من الشراب المُحرّم إن لم يكن عن طريق دلقها في النيل مباشرة فهي عن طريقٍ وصل في نهاية الأمر أيضاً إلى النيل. هذا ما كان من رحلة الدراسات النوبيّة الشهيرة.

Quote: الخلوة: بدأت الخلوة في تبج مع الشيخ الجليل يحيى محمود - طيّب الله ثراه، ثمّ انتقلت إلى خلوة سيدي إبراهيم في وادي حلفا. المدرسة الأوّليّة: لعلي أكثر الناس تنقلاً بين المدارس فلقد قضيت سنوات الدراسة الأربع { عندما كانت الدراسة أربع سنوات} متنقلاً من مدرسة حلفا الغربيّة الأوّليّة ( حيث كانت البداية}

(عدل بواسطة Ahmed El Gasim on 06-04-2008, 09:44 PM)

Quote: اسمحوا لي أن أقدّم موضوع تكريم البروفسور نجم الدين محمّد شريف ومن ثمّ نأتي للنادي النوبي. تكريم نجم الدين محمّد شريف من النشاطات التي أعتزّ بها كثيراً جدّاً. هو مثال لعمل متكامل قلّ أن يتكرّر. وعلى الصعيد الشخصي هو من الأعمال القليلة التي رضيت عن أدائي فيها. كانت وقائع التكريم بالنادي النوبي بالخرطوم في يناير 1989م في عهد الديمقراطيّة. اهتمّت بأمر التكريم مجموعات ذات ثقل. وفي اجتماع كبير تقرّر أن تتكوّن 4 لجان: اللجنة الأولى: لجنة الأصدقاء برئاسة الفقيد صاحب الجمرات الأستاذ محمّد توفيق أحمد، وضمّت اللجنة عدداً كبيراً من شيوخ النوبة الأفاضل الفريق عبد اللطيف دهب، الأستاذ / شبلي سعيد، الأستاذ محمّد عبد الحليم محمّد، الوزير الأسبق عوض عبد المجيد، أستاذي البروفسور / حسين سيّد عثمان ( دلقو)، البروفسور عمر محمّد عثمان، رحمه الله. و زعيم المحس إمام الكرماء: عبد العزيز حسن خليل رحمه الله، الأستاذ محمّد كيلاني، ووسط هؤلاء العمالقة كنت أنا مقرّراً للجنة. كانت مهمّة هذه اللجنة هي تأمين دارٍ مناسبة ينتقل إليها نجم الدين بعد التقاعد وبعد إخلائه لمنزل الحكومة. أشرفت اللجنة على بيع بعض ممتلكات نجم الدين القليلة. واستجاب وزير الماليّة الدكتور بشير عمر لنداء الواجب عندما طلب منه أستاذه السابق بكليّة الاقتصاد بروفسور عمر محمّد عثمان أن تتحمّل وزارة الماليّة المبلغ المتبقي والذي يلزم لشراء المنزل وهو أقل ما يُمكن أن تفعله الحكومة لرجلٍ في قامة نجم الدين، ولم يتردّد الوزير لحظة في الاستجابة - ولا غرابة. وتمّت المهمّة بنجاح وأعطيت لنجم الدين مفاتح الدار في الاحتفال. كنت سعيداً جدّاً بحضور اجتماعات تلك الكوكبة والاستماع لقفشات صاحب الجمرات. ولحديث أستاذي بروفسور حسين السيّد الذي كان يستخدم في الحديث لغتين فحسب الأولى الإنجليزيّة ( وهو من أفضل من سمعتهم يتحدّثون الإنجليزيّة) والثانية اللغة النوبيّة، ولم يكن يُعرّج على العربيّة لا صعوداً ولا هبوطاً، وهو ما يسمّيه الكيميائيّون ( sublimation) التي يترجمونها فيما أظن ( التسامي). اللجنة الثانية: اللجنة الأكاديميّة وكان يرأسها الدكتور علي عثمان محمّد صالح (قسم الآثار جامعة الخرطوم)، وكانت عضويتها من بعض الأكاديميّن بقسم الآثار ( من خارج المنظومة النوبيّة) وكنت أنا مقرّراً لها. تقرّر أن تكون ذروة التكريم في 12 يناير 1988م، ولم يكن هذا التوقيت عشوائيّاً بل تمّ تحديده تحديداً قاطعاً قبل شهور ليتواءم مع نهاية المؤتمر العالمي للآثار الذي كانت تنظمه جامعة الخرطوم، والذي حضره حوالي 18 من أكبر علماء الآثار في العالم في الفترة بين 9 - 11 يناير. ولقد شهد جميع أعضاء الوفود الاحتفال الختاميّ. كانت خطّة اللجنة الأكاديميّة أن تستكتب أكبر علماء الآثار في العالم كتاباً عن ( الآثار في السودان ) وأن يكون الكتاب على شرف تكريم نجم الدين شريف وأن يقدّم له ليلة التكريم. ولقد بذلت اللجنة جهداً عظيماً تولى أكثره د/ علي عثمان وأتت المشاركات من علماء يُجلّون نجم الدين أيّما إجلال، وقام د/ علي عثمان والمتخصّصون بتحرير الكتاب وتجليد نسخة منه، وقام بتسليم الكتاب للمحتفى به - في الحفل الختاميّ المهيب - السيّد الصادق المهدي رئيس الوزراء آنئذٍ. اللجنة الثالثة: هذه اللجنة كانت لوضع برنامج الحفل الختاميّ والإعداد له وكلّ الترتيبات المتعلقة بإعداد المكان بطريقة تتناسب وعظم الحدث. كنت أنا رئيساً للجنة وكان معي كوكبة من الشباب. رجل الآثار الذي لا يكل الأستاذ خليل بندي ( أرقين) وكان حينها نائباً للسكرتير الثقافي بالنادي النوبيّ وكان من الهميمين الداعمين لهذه اللجنة مجموعة الصحفيّين الناشئين القادمين حديثاً من مصر بعد إكمالهم الدراسة وهم محمّد عثمان يوسف ( وردي) { إقترى} وحسين حسن حسين ( عمارة) وزكريّا حامد ( تبج/حلفا) وياسر عبد الفتاح (حلفا). ولقد وضعت هذه اللجنة برنامجاً جميلاً استحسنه الجميع راعوا فيه ضيوف الحفل من ( الخواجات) وكان أداء فرقة الفنون الشعبيّة { القوميّة} في تلك الليلة يليق بالمناسبة العظيمة. السيرة النوبيّة ذروة الاحتفال: قبل الحفل المسائي أتى المحتفى به في موكبٍ مهيب أسر القلوب وجعلل الجميع بما فيهم الضيوف الأجانب يهيمون فوق السحاب. إذ أتى الموكب الذي كانت تتقدّمه سيارة واحدة هي سيارة المحتفى به أمّا الآخرون فلقد كانوا على أرجلهم يحملون الدفوف والطار والنساء يلبسن { الجرجار} ويحيطون بالسيارة من كلّ جانب والسيّارة تتقدّم بسرعة الماشين. كانت {سيرة} نوبيّة مهيبة اخترنا موقع البداية رمزاً ذا مدلول، إذ كانت البداية هي من أمام منزل الرمز النوبيّ العظيم { إبراهيم أحمد}، وسار الجميع حتى النادي النوبيّ. كنت أرقب نجم الدين وهو يستمع للغناء و{الزغاريد} في تلك السيرة ( ومنديله ) لا يُفارق عينيْه، كانت دموعه تهمَى ولم يكن قادراً على التماسك. كان موقفاً يهزّ كلّ ذي وجدان. وواصل الموكب المهيب طريقه للنادي النوبي ليجدّ الجميع هناك في الانتظار. ما كان لرئيس دولة أن يحظى بمثل تلك {لفخامة} الحقيقيّة النابعة من الوجدان. كان تعبير الجميع تلقائيّاً. كان تعبيراً عظيماً لرجلٍ رأوا فيه كلّ ملوك النوبة العظماء. على الصعيد الشخصيّ لم أشهد من قبلُ أو من بعد موكباً بتلك العظمة. اللجنة الرابعة: كانت اللجنة الرابعة لعمل مسرحيّة تجسّد شخصيّة نجم الدين محمّد شريف وقد كانت باسم( الرسالة) وهي تحكي عن زيارة الملك النوبي ( جورجي بن زكريّا ) لبغداد عام 836 م، وقد قام بتأليف المسرحيّة رجلٌ فذ جمع حبّ الأدب والتأريخ والهندسة هو الدكتور المهندس ( عبد العزيز سيد أحمد ) {دنقلا}. اللجنة التي كُلفت بهذا العمل كانت برئاسة المخرج المسرحي الدكتور عثمان جمال الدين ( دغيم) ، وكنت أنا المقرّر. استطراد: كما تلاحظون تمّ تكليفي بمهمّة المقرر لثلاث لجان وبرئاسة اللجنة الرابعة والسبب أن يمسك شخصٌ واحد على الأقل بزمام الأمور كلّها والتنسيق بين اللجان الأربعة وكنت أنا ذلك الشخص ورغم الجهد المضني كنت استمتع بكلّ ذلك العمل. المسرحيّة تمّ عملها في وقت لاحق ( يوم 6 فبراير} وكان عملاً غاية في الروعة وكان من الممثلين كبار المسرحيّين السودانيّين أوّلهم العملاق محمّد خيري أحمد وطارق البحر وموسى الأمير والممثلات حياة طلسم وآمال طلسم وآخرون. كانت المسرحيّة أيضاً في النادي النوبيّ وكان ضيف الحفل الدكتور بشير عمر وزير الماليّة آنذاك. { ستكون الاستراحة القادمة هي الخطاب الذي وجهته إليه ليرعى ذلك اليوم}. ليلة العرس: كانت ليلة ولا كلّ الليالي، كانت شديدة البرودة وكنّا قدأعددنا خيمة عظيمة بالنادي النوبيّ. كان المكان لا يسع الناس، لكنّ الجميع يستمعون في صمت مهيب وصاحب الجمرات يلقي خطابه. شيئ جعلني أفخر أيّما فخر حينها وهو أنّ الأستاذ محمّد توفيق طلب مني أن أكتب أنا الخطاب الافتتاحي الذي سيقرؤه هو أمام الحشد. في بداية الأمر ظننته يمزح. أأكتب أنا لمن ملك ناصية البيان شكلاً ومحتوىً؟ لكنّه أصرّ وقمت بالمهمّة وأنا أتهيّبها لكنّ الخطاب لاقى استحساناً من صاحب الجمرات ومن الضيوف، ولكنّه بالطبع زخرف الخطاب بقفشات بديعة ( خارج النصّ). تحدّث أحد علماء الآثار يومها عن نجم الدين وكان حديثاً صادقاً أوضح مكانة الرجل في المحافل العلميّة. ثمّ كان خطاب رئيس الوزراء الصادق المهدي. للحقيقة أوفى المهديّ نجم الدين حقه من المدح والتقريظ والاعتراف بفضله، وقال: ما كان لهذه الكوكبة من أكبر علماء الآثار في العالم أن تلتقي من أجل رجلٍ بخلاف نجم الدين، وكان الصادقُ صادقاً فيما قال. كان تكريم نجم الدين تكريماً للنوبيّين

Quote: لن أستأذن اليوم لأواصل الحديث عن نجم الدين لأنّي أعلم أنّ الحديث عنه يستهوي الجميع، وليته كان بيننا في زمن الفُرقة النوبيّة والشتات، إذن لكان بؤرة استقطاب ووحدة. أعود لما قبل التكريم. في ليلة حالكة في مايو 1981م ( أطنّها ليلة 19 مايو) تعرّض نجم الدين لحادث مروريّ مُريع بجوار بنك السودان/ وزارة الزراعة بالخرطوم، ولم يتمكّن من الخروج من السيارة إذ أنّه كان قد أصيب في عموده الفقري وحمله المارّة إلى مستشفى الخرطوم دون أن يدري أحد عن هويته، وكان هناك في قسم الحوادث مُلقىً على الأرض ( كالعادة)، حتى حضر من تعرّف عليه وجاء الجميع يُهرعون كان صامداً تلقى الصدمة بهدوئه المعروف وابتسامته الجميلة. تفاعل النميري: هي من حسنات الرئيس السابق جعفر نميري الذي علم بالنبأ بعد ساعات وقرّر علاجه على نفقة الدولة في انجلترا على أن يكون معه مرافقون، وذهب في صحبته زوجته و(عديله، ورفيق عمره: شبلي سعيد) كما صاحبه طبيب من الأسرة هو صديقنا الدكتور عثمان عبده عثمان ( كويكا). ووصلوا إلى إحدى مستشفيات لندن يوم 21 مايو وبقي بها ليومين أو ثلاثة يعالجونه من التهابات في الصدر ثم نقلوه لمستشفى خاص متخصّص في إصابات العمود الفقري ( هي الأفضل على مستوى انجلترا) على بعد ساعة بالقطار من لندن (بين لندن وبيرمنجهام). بقي نجم الدين في تلك المستشفى الريفيّ الأنيق لعام كامل وكوّن صداقات جميلة مع كلّ طاقم المستشفى. وحدث بعد أسبوعين من وصوله لتلك المستشفى أن عُقد مؤتمر دوليّ للآثار في مدينة بيرمجهام وعند انتهاء المؤتمر استقلّ المؤتمرون ( بكامل عددهم ) بصّاً واحداً وأتوا لزيارة نجم الدين في تلك المستشفى وكان يوماً تاريخيّاً إذ لم يحدث كما قال مدير المستشفى أن أتى لأيّ مريض في يوم من الأيّام مثل هذا الحشد من الناس، دعك من أن يكونوا من عليّة القوم . لقد كانوا من جميع بقاع العالم وكان من بينهم أحد اللوردات الإنجليز. انقلبت المستشفى ذلك اليوم رأساً على عقب وصار المريض هو عريس ذلك الحشد. كان نجم الدين خلال وجوده بالمستشفى الإنجليزي ، كعادته رجل النكتة الباسم دوماً المتغلب على الآلام بالصبر الجميل والمزحة والطرفة. كان رجلاً بسيطاً غاية في البساطة، عالماً متجرّداً ينساب العلم من فمه انسياباً دون أن يُشعرك أنّه يقدّم لك محاضرة وحديثه في جوانب كثيرة ما كان إلا محاضرات. بعد عام من الحادث ما تغيّر الوضع إذ لم يتمكّن من المشي حتى توفاه الله بعدها بسنوات، ولكنّه خلال بقائه بالمستشفى الإنجليزي تعلم أن يتعايش مع الوضع وأن يتغلب على الآثار الجانبيّة التي ترافق الرقاد الطويل. وكان يستخدم كرسيّاً متحرّكاً. وعاد للخرطوم مديراً لمصلحة الآثار كما كان دوماً - وعبّدوا له الطريق بين البيت والمصلحة فصار يصل في سهولة ويسر. وظلّ في عطائه على جميع المستويات حتى تقاعد عن العمل حينها قررّت تلك الجموع التي أشرت إليها أن تقوم بتكريمه بالطريقة التي تحدثنا عنها. استراحة: الخطاب المُرسل للدكتور بشير عمر وزير الماليّة لرعاية حفل المسرحيّة: 20 يناير 1989م الأستاذ الدكتور/ بشير عمر وزير الماليّة سلام الله عليكم ورحمته وبركاته. دعني استهلّ حديثي بما أورده الجاحظ من أنّ قيس بن عاصم دعا بنيه فقال: { يا بَنِيَّ احفظوا عنّي، فلا أجد أنصح لكم منّي، إذا متُّ فسوّدوا علماءكم ولا تسوّدوا جهّالكم فيسفه الناسُ كباركم وتهونوا عليهم}. ولكأنّما استمع الصادق المهدي لحديث ابن عاصم وعمِل به. فهنيئاً للوزارة بعلمائها. سيّدي: ما زال النادي النوبيّ في زُخرفٍ وبهرج، وما زالت ديمة الوفاء تهمىَ مدراراً، لأنّنا نكرّم نجم الدين، وسنظلّ نكرّم كلّ نجمٍ معطاءٍ كريم. نعرِضُ أمسية الاثنين 6 فبراير 1989م مسرحيّة تاريخيّة تجسّدُ الحوار الثقافي وتحكي عن زيارة الملك النوبيّ { جورجي بن زكريّا} لبغداد عام 836 م . أمسية يلتقي فيها التراث العريق بالمستقبل المأمول، فيستلهمَ الجميعُ العظات والعبر. إحدى لشخصيّات الرواية تجسّد شخصيّة نجم الدين وهو صامد بعد أن رماه وترُ قوْسه الذي رمى غير غرضه فأكثر فيه الحزّ وأخطأ المفصل..... تحكي الرواية عن نفسها. شرفٌ فاتنا من قبل: أن تكونوا بين ظهرانينا ليلة الوفاء الكبرى، نريد أن نتداركَ بعضه فنطلب من سيادتكم أن تكونوا ضيف الشرف لهذه الليلة حضوراً ورعاية، ولا شكّ أنّكم لن تألوا جهداً للاستجابة حتى تزدان الليلة جلالاً ومهابة. وتقبلوا الاحترام. صلاح علي محجوب سكرتير لجان التكريم * لم يكن الوزير حاضراً في اليوم الرئيسي للتكريم ولكنّه شرف هذه الليلة.

Quote: لعلي أعود يوماً إلى مواصلة الحديث عن نجم الدين محمّد شريف، ربّما في غير هذا { البوست} لأنّ الحديث عنه ذو شجون. والآن: النادي النوبيّ: الحديث عنه النادي النوبي ذو شقيْن: 1- مرحلة البناء 2- مرحلة التأسيس والتشغيل. الأرض التي أنشئ النادي النوبي عليها تكرّم بتخصيصها { بهذا المسمّى} عبد الله بيك خليل رئيس الوزراء الأسبق النوبيّ المطبوع، وذلك في الخمسينات من القرن الماضي. لا أدري الظروف التي تمّ فيها تسوير القطعة ولكنّها منذ عهد بعيد كان حولها سورٌ فقط. في بداية الثمانينات تكوّنت لجنة من المبادرين وجلهم أصدقاء، برئاسة رجل الأعمال طيّب الذكر ميرغني محجوب ( حلفا) ومعه كوكبة من رجالات النوبة: السادة :عوض عبد المجيد، محمّد توفيق، شبلي سعيد، عبد اللطيف دهب، محمّد عبد الحليم محمّد، عبد العزيز حسن خليل، عمر محمّد عثمان ومجموعة من كبارنا. صاروا يجمعون التبرّعات بادئين بأنفسهم { ولا بدّ هنا أن نشير أنّ المرحوم ميرغني محجوب أسهم بأموال كبيرة جدّاً إذ تحمّل مسؤوليته كرئيس للجنة وكان يسدّ كلّ نقص يطرأ أثناء البناء} كما كان لأعضاء اللجنة دورهم الكبير في استقطاب المال من خارج العضويّة من رجال الأعمال الكبار مثل عمر عثمان محمّد صالح وداوود عبد اللطيف وغيرهم. لم أكن جزءاً من هذا العمل - كما هو متوقع - إذ أنّها كانت حلبة رجال المال، وأنا منهم براء. لذا أقترح أن يقوم آخر بالتوثيق لهذه الفترة ( لعلّ صديقي شاذلي محمّد عبد المجيد كان مراقباً أفضل مني لهذه الفترة). أمّا دورنا فقد جاء عندما اكتمل البناء والزخرف. وتراجعت اللجنة الأم لتصير {مجلس الأمناء} واجتمع الحشد لاختيار لجنة تنفيذيّة في اجتماع تاريخيّ كبير. وتمّت مراعاة تمثيل المناطق المختلفة في اللجنة الجديدة ( حتى هذه المرحلة كان الأخوة الدناقلة خارج هذا العمل). تمّ اختيار اللجنة التنفيذيّة برئاسة الفريق عبد اللطيف دهب، وينوب عنه السفير كمال أحمد داوود وسكرتارية شاذلي محمّد عبد المجيد وكنت أنا السكرتير الثقافي ومعي الصديق حسن محمّد أحمد بندي { أرقين)، وكان أيضاً باللجنة بهاء الدين شريف ( فرّيق) وعبد الحفيظ جعفر ( دلقو) وبدأ عملٌ دؤوب لاستقطاب العضويّة وتنشيط النادي كمنتجع أسريّ آسر. وبمساعدة أهلنا { طباخي الجامعة} توصلت إلى من صار أهم شخصيّات النادي وخير من زاد عضويّة النادي . إنّه مكي الذي تسلم (البوفيه) بالنادي وجعل له سمعة ذهبيّة بل كان روّاد البوفيه من خارج النادي ومن خارج العضويّة أكبر من روّاده بالداخل { كان بوفتيك مكي ذا مذاق خاص}

Quote: النادي النوبي: تكملة يسيرة: عند استلام اللجنة التنفيذيّة لمهامها ( في منتصف الثمانينيّات) كانت ميزانيّة النادي قد نفدت في إعداد الدار بل كان هناك عجز تحمّله أعضاء مجلس الأمناء في أريحيّة عظيمة كما أسلفنا. وكان التحدّي كيف نؤسس ونؤثث النادي، وجاءنا الحلّ أيضاً من الكبار إذ حصلنا على قرض من { البنك السوداني السعوديّ } لنشتري 150 كرسي جلوس ومناضد وكراسي صغيرة ( لحلقات لعب الورق) وكذلك مولد كهربائي ضخم يكفي كلّ متطلبات النادي. وكان رئيس اللجنة سعادة الفريق هو صاحب الاقتراح والمنفذ والضامن { وكان هو عضو مجلس إدارة البنك). فقط للدلالة على التضخم: ( كان مبلغ القرض 300 ألف جنيه، بالقديم طبعاً). نشاط النادي: صار النادي بؤرة نشاط، وصار جاذباً لجميع النوبيّن وانضمّ أهلنا في دنقلا للنادي فزاد ثراءً فكريّاً. وعقدنا عدداً من المحاضرات الحيّة التي جعلت اسم النادي يتردّد على كلّ لسان. من أهمّ المحاضرين : البروفسور عبد الله الطيّب، المهندس صغيرون الزين صغيرون ( وكانت محاضرته عن سدّ الحامداب)، البروفسور أسامة عبد الرحمن النور ( مدير مصلحة الآثار) الذي خلف نجم الدين في المصلحة، البروفسور أحمد علي حاكم ( قسم الآثار جامعة الخرطوم)، وغيرهم كثير. تمكّنا من سداد القرض من ريع إيجار النادي للحفلات. استراحة أولى: كنّا نفكر في توسعة النادي لإنشاء حوض سباحة وجناح للأطفال. وكانت هناك قطعة مجاورة من الجانب الشمالي للنادي وسعينا لضمّها للنادي، ولكن علمنا من مصلحة الأراضي أن تلك القطعة تمّ منحها لجمعيّة الصمّ والبكم. وفي الاجتماع اقترح أحد ظرفاء اللجنة أن نضع يدنا على القطعة وأن نضمّها للنادي وننشئ فيها ما ننشئ إذ قال { الجماعة ديل ما حيسمعوا}. استراحة ثانية: (مقدّمة تفسيريّة: تعلمون أنّ هناك عنصر تأمين في الدبّابات تسمّى الإبرة إن لم تكن موجودة لا يمكن استخدام الدبابة، ونسمع كثيراً أنّ إبر الدبّابات لم تكن موجودة عند المحاولات الانقلابيّة، إلى آخر هذه الثقافة العسكريّة). قبل أن نشتري المولد الكهربائي كانت مشاكل القطع في الكهرباء متواصلة كما تعلمون، وقبل أن نحصل على القرض كنّا نبحث عن حلّ. وتبرّع { حلال المشاكل} الفريق عبد اللطيف دهب بنقل المولد الخاص به من منزله إلى النادي. وتمّ نقل الموّلد في نفس اليوم الذي غادر فيه سعادة الفريق البلاد في رحلة خارجيّة قصيرة. ولكن باءت كلّ محاولات تشغيل ذلك الموّلد بالفشل وفي اجتماع اللجنة علق نائب رئيس اللجنة السفير كمال أحمد داوود { يبدو أنّ سعادة الفريق شال الإبرة معاه}. تأبين محمّد صالح إبراهيم: كانت وفاة محمّد صالح إبراهيم المفاجئة في بداية عام 1991م فاجعة لأهله وللنوبيّن بدرجة كبيرة. وكانت أحداث تأبينه علامة فارقة في مثل هذه المناسبات إذ قام النادي النوبيّ بالاحتفاء بالفقيد وكأنّه كان بين أظهرنا. تكوّنت لجنة قوميّة ضخمة للتأبين برئاسة الفريق عبد اللطيف دهب. كما تكوّنت لجنة عمل صغيرة لمباشرة العمل، وهم الأخ العزيز الاقتصاديّ الضليع إبراهيم محمّد إبراهيم بلال، والسفير صلاح محمّد أحمد وشخصي. وتمّ تكليف الفنان المبدع بابكر الصديق ( أصوات وأنامل) للإعداد لمعرض عن الفقيد. كان بابكر الصديق حينها في ود مدني. استطراد: الاسم المكتوب في محطة قطار ود مدني هو: { واد مدني} كما تعلمون. وهذا مثال آخر للطريقة التي كتب بها المصريّون هذه الأسماء (كما ينطقونها) في محطات السكة الحديد، كما أشرنا من قبل في الحديث عن تحريف اسم (أتبرا). عودة: كوّن بابكر صديق مجموعة عمل من الفنانين بود مدني وصمموا ونفذوا معرضاً عن الفقيد كان آية وتحفة. أمّا لجنتنا الثلاثيّة فلقد كان لها حريّة الحركة، وكنّا ثلاثتنا أصدقاء مقرّبين ونسكن في نفس المنطقة ( بين المغتربين - بحري والصافية شمال)، وكنّا نجتمع تقريباً بشكل يومي في منزلي حتى أنجزنا كلّ الترتيبات. كان البرنامج من يوميّن: اليوم الأوّل ندوة عن الحركة الوطنيّة التي قادت لاستقلال السودان: وتحدّث فيها أحد أعضاء الجمعيّة التأسيسيّة المستنيرين من أبناء الجنوب ( واعتذر أن نسيت اسمه، ولكن سأحاول) والآخر الأستاذ العظيم سيّد طه شريف، أحد سياسيّي المرحلة وأحد الحجج في تدريس اللغة العربيّة، وفجّرت نقاشاً عظيماً في تلك الأمسية. استطراد: كثيرون يعلمون هذه القصّة عن الأستاذ سيّد طه شريف ولكنّ الشباب قد لا يعلمونها، فلقد تمّ نقله إلى مدرسة {المدينة عرب} الوسطى في قلب الجزيرة، وحال وصوله بعث ببرقيته الشهيرة لإدارة التعليم { وجدنا العرب ولم نجد المدينة}. عودة: كانت الندوة قمّة من قمم العمل السياسيّ والثقافي. وكانت الليلة الثانية ليلة الخطب والقصائد وأتينا {ببدعة} جميلة فلقد كانت قمّة الليلة أن أرتقى المسرح الفنان المبدع مكّي علي إدريس ليس للحديث عن الفقيد ولكنّه أتى حاملاً {طنبوره} لينشد أغنية تخلد الفقيد هزّت وجدان من لا وجدان له. كانت هناك قصائد جميلة، وخروجاً عن المألوف كانت هناك طُرف وحديث ممتع عن الفقيد. وقد أورد أحدهم قصّة سيّد طه شريف الذي كان بعبري والذي أرسل {ساعته} لمحمّد صالح إبراهيم في الخرطوم لإصلاحها. ومرّ بعض الوقت، وكأنّ الأستاذ استبطأ محمّد صالح فبعث له ببرقية. وكان حينها الناس يختصرون عدد كلمات البرقيّة لأنّ الحساب كان بالكلمة. جاءت برقيّة سيّد طه : { يسألونك عن الساعة}، وجاء الردّ الفوريّ من محمّد صالح ببرقية أخرى: { آتيةٌ لا ريب فيها}. طوال أياّم التكريم وبعده كانت صالة النادي الكبرى مزيّنة بالمعرض البديع الذي صمّمه الفنان بابكر وزملاؤه. لا بدّ أن أشير أنّ جمعيّة صاي بالمملكة كانت قد بعثت بدعم ماليّ مقدّر للجنة التكريم ( كانت صاي حينها جمعيّة واحدة، ليت ذلك يعود. ليس فقط في صاي).

Quote: شكرا همد على اطلائكم لنا بمسيرة هذا الرجل الحافلة بالابداع والانجاز اكاديميا وفى العمل العام النوبى . التحية والقومة لدكتور صلاح على محجوب

Quote: نعود: وما زالت في القلب غُصّة وفي المآقي دمعة على فقيدنا الغالي محمّد عبد القادر. رحمه الله وأنزله منازل الصدّيقين الشهداء. وتمشياً مع هذه الروح نواصل الحديث عن فعاليّات السودان الحزينة أيضاً: تأبين القامة الإفريقيّة السودانيّة النوبيّة ابن سرّة شرق جمال محمّد أحمد وخطاب دعوة الفعاليّات في إطار تكريم الفقيد محمّد صالح إبراهيم. أعود للسودان (دون البدء في الحديث عن الرياض، كما كان التخطيط ) استجابة لطلب أخوة أعزّاء، ولما ذكرته أعلاه. تأبين جمال محمّد أحمد عندما حُمِل جمال على نعش من ذلك المنزل المفعم بالثقافة والجمال والكتب التي ليس لها حد ولا يُحصيها عد، ذلك المنزل الذي لم يَكتبْ عليه اسمه بل كتب على لافتة صغيرة { سرّة شرق}، عندما انتقل لمثواه الأخير. فكّرت مجموعات مختلفة في تأبينه، وأخذ بزمام المبادرة اتحاد الكتّاب الذي كان جمال رئيساً له حتى وفاته وهو من أسّس هذا الاتحاد ولم يكن قد مضى وقت طويل منذ تأسيسه. استطراد: لعلّ أفضل من يؤرخ لنشأة ونشاط هذا الاتحاد هو صديقنا البروفسور علي عثمان محمّد صالح الذي لعب دوراً رئيساً في إنشائه وفي نشاطه، ولكن فقط أقول أنّ السيّد الصادق المهدي كان إبّان رئاسته لمجلس الوزراء في الديمقراطيّة الثالثة قد منح اتحاد الكتّاب أحد المنازل الحكوميّة في المقرن ليصبح للاتحاد داراً، وتمّ التأبين في تلك الدار، ولكن وبعد حين وبعد انتهاء العهد الديمقراطيّ تمّ استرداد الدار بواسطة الحكومة. كان إذن اتحاد الكتّاب رأس الرمح في التأبين وتمّت دعوة أقطاب من الديبلوماسيين والأكاديميّين، كما تمّت دعوة جمعيّة الدراسات النوبيّة للمشاركة في التأبين. وفي اجتماع مهيب في نادي الأساتذة بجامعة الخرطوم ترأس البروفسور عمر محمّد عثمان الاجتماع وتشكلت من الجهات الموجودة اللجنة القوميّة للتأبين. كنت أنا ممثلاً لجمعيّة الدراسات النوبيّة وكان د/ علي عثمان ممثلاً لاتحاد الكتّاب وكان هناك بروفسور محمّد عمر بشير وكمال الجزولي وكوكبة من الأكاديميّين. قدّمت جمعيّة الدراسات النوبيّة مقترحها بأن يكون إسهامها خروجاً على التقليد بعمل عرضٍ لمناحة نوبيّة. ولاقت الفكرة الاستحسان. وتمّ تكليفي بالمهمّة. وضعنا في الجمعيّة التصوّر وشرعنا في الإعداد. كانت الخطوة الأولى أن اتصلنا بأستاذ الإخراج في معهد الموسيقى والمسرح عثمان جمال الدين ( حلفا دغيم) وبالطبع الاتصال بزوجته حياة طلسم وآمال والمخضرمة نادية طلسم. وتمّ تكليفي بإحضار نائحات (للغناء المناحي) ( وهذه ترجمة للتعبير النوبي). استعنت بالأستاذة سعيدة حسن محجوب التي عَرَفَت (بالسؤال) عناوين بعضهن. وتطوّعت بأخذي بسيارتها في أزقّة السجانة ومنطقة سينما النيلين حتى تعرّفنا على اثنتيْن وأقنعناهما بعمل العرض. وسلّمناهما لعثمان جمال الدين. كانت ( البروفات سريّة) في صالة مغلقة في النادي النوبيّ. وفي يوم التأبين تمّ إعداد المسرح بطريقة فنيّة، وعندما جاءت فقرة المناحة بدا صوت الفنان جمال جبارة من خلف الكواليس يردّد ( بالطار) نواحاً حزيناً وعلى المسرح الفنّانات النائحات وتمرّ عليهن المعزّيات وأمام كلّ نائحة ( مايكرفون)، وبدأ الشعور العام بالحزن يتنامى لدى الحاضرين، حتى ارتقى المسرح الفنان جمال جبارة وفرقته وشرع في أداء لحن قويّ جداً لم أسمع شيئاً في قوّته وبصوته الطاغي شرع في أداء أغنية الهجرة الحزينة ( هذا الماء من خلفنا ومن أمامنا ومن فوقنا ومن تحتنا ) ثارت شجون لا توصف بين الحاضرين وارتقى بعضهم المسرح ينوحون وقد تراءت أمامهم صورة وادي حلفا في الزمن الصعب وهي تحت الماء. بشهادة كلّ من كان هناك لم تبقَ عيْنٌ لم تذرف الدمع حتى الناطقين بغيرها. وهؤلاء هم أكثر من أشاد بالعرض. بالطبع كانت هناك الخطب والأشعار من الديبلوماسييّن والشعراء والكتّاب. وكانت الذروة ( المناحة النوبيّة). وعودة لمحمّد صالح إبراهيم: خطاب يمهّد لبرنامج التأبين: غيّبت الأرض جسد رجلٍ فارع القد، باسط اليد، رجلٌ غلبَ حِلمُهُ طيشَه،وقهر صفحٌه بطشَه،، وكان أملك شئ له عقله، وأكبرَ رقيبٍ عليه فضله. أمِنَ زِلّة القدم ووقفة الندم، ولم يعدَمِ الذّكرَ الجميل والشكر الجزيل. ولكنّ الجسدَ هو كلّ الذي غاب في جوف الأرض، أمّا جلائل الأعمال وقلائد الأفضال فما زالت بيننا تنبئُ - وبالصوتِ الجهير- أنّ الذي بنى الإهرامات ما زالَ نسلُه فينا. شرع الفقيد في إنشاء داره، ولكنّه آثرَ الاشتغال بهموم أهله وأحبّائه فتركها وقرّر أن يُبيّضَ صحائف أعماله بدلاً عن (تبييض) جدرانها. وهذا شأن العظماء. لقد كان قبلة لذوي الحاجات ولقد قالت العرب { أحقّ من كانت الرغبة إليه صادرة من كانت الرغبة فيه صادقة وأوْلَى من كانت الثقة به واقعة من كانت الآمال إليه نازعة}. لا شكّ أنّكم قد علمتم بأنّ أصدقاء الفقيد محمّد صالح إبراهيم وأحبّاءه المنتشرين قد شمّروا عن سواعد جدّ لا تكلّ - ليس من أجل تخليد ذكراه - فقد خلّدت أعمالُه هوَ ذِكراه - ولكن عرفاناً بفضله وتحفيزاً لغيره، ولقد رأينا فيه المثل الأعلى، وآثرنا أن نُظهره علّه يُحتذى. وتكوّنت لجنة عليا للتكريم وتقاسمت الأعباء فمنهم من سعى في أمور البرامج الثقافيّة للتكريم ومنهم من أشرع فرشاةً وأصباغاً مُجنّداً للأعمال الفنيّة والمعارض، ومنهم من سعى في جمع المال اللازم للتكريم ومنهم .. ومنهم... وبهذا القدر من هذا البيان نكتفي.

Quote: الأخ رمزي والأخوة المشاركين في هذا البوست أوّلاً لا يسعُني إلا أن أنحني تواضعاً وخجلاً من صفات أطلقت عليّ وأنا منها بعيد. ثمّ أن أشكركم وأقولُ أنّ مردّ هذا ومنطلقه قد يكون من الحبّ الذي نتبادله جميعاً. ثانياً: أطلقتم ليَ الحبل على الغارب، فلا تلومُنَّ إلا أنفسكم، لأنّي - وقد أصبحتُ ثرثاراً بفضلِ رمزي المصري - لا أدري متى أعودُ إلى سجيّتي الأولى. أمّا رأيي يا أخ رمزي عن نقل الجزء الخاصّ بالرياض فسأنقله لك في رسالة. أعود: سمنار الإنسان والإبداع في بلاد النوبة ( جمعيّة الدراسات النوبيّة) كان هذا السمنار حدثاً ثقافيّاً تحدّثت عنه النخب السودانيّة - وليس فقط النوبيّة - زماناً. كنت قد أشرت إشارات خفيفة من قبل لهذا الحدث الذي عُقدَ فيما أظنّ في عام 1985م. استغرق الإعداد لهذا السمنار قرابة العام، لا أذكرُ الآن من صاحبُ الفكرة. إمّا أن يكون صديقنا عبد الرحمن حسان ( دنقلا) { الدكتور حسان الآن}، أو أنّه د/ علي عثمان، ويغلبُ على ظنّي أنّه حسّان { الموجودج الآن في الرياض}.، والذي بذل جهداً خارقاً في مرحلة الإعداد، يتحرّك في جميع اتجاهات العاصمة { أكثرها مشياً على الأقدام } وهو ( يدْرع شنطة في ظهره). استطراد: منذ بدأت الكتابة في هذا ( البوست) وأنا أعتمد فقط على الذاكرة، لذا قد تختلط عليّ بعض التواريخ وبعض الأسماء. ليست لديّ الآن أوراق من الماضي. هي موجودة هناك في الخرطوم في منزلي وكثيرٌ منها في دولاب مغلق ( منذ 14 سنة) في مكتبي بكليّة الزراعة، وأشكرُ كلّ الأساتذة الذين تعاقبوا على مكتبي ذاك { مستغنين عن دولابي ذاك}. سأعرض لأربعة من الأوراق التي قُدِّمت في ذلك السمنار الذي قلت من قبل أنّه كان برعاية اثنين من أساطين العمل الثقافي هما جمال محمّد أحمد ونجم الدين محمّد شريف -عليهما الرحمة - وأطلب من صديقي د/ حسّان أن يزيد وينقح كيف شاء. الورقة الأولى: كانت عن حوار الثقافات وقدّمها الدكتور علي عثمان محمّد صالح ولعلّ تلك الورقة هي التي أطلقت بعد ذاك الحديث الكثير المتصل عن تلاقح وتصادم الثقافات لدى النخب السودانيّة. انطلق د/ علي عثمان في ورقته من منطلق تاريخيّ كيف كان النوبيّون يتعايشون أو يتصادمون مع القادمين إليهم. وأشار لآثار تلاقي الثقافات وانعكاساتها على الحياة المعاصرة. كانت ورقة غاية في الروعة { ولعلي أقنع صديقي د/ علي عثمان بالكتابة عن هذا الموضوع الحيوييّ في هذا المنتدى من مقرّه الحالي في جامعة كيمبردج ( إنجلترا) التي ذهب إليها لإجراء بعض البحوث. ورحلته العلميّة لكيمبردج ومدّتها عام تموّلها بعض الصناديق العربيّة في إطار جائزة التفوّق الأكاديمي التي ترعاه من مقرّها بالكويت. الورقة الثانية: وهي على صِلة أيضاً كانت بعنوان التسامح الديني لدى النوبيّين. ولقد قدّمها الدكتور المهندس الأديب الفيلسوف عبد العزيز سيد أحمد ( دنقلا) وهو الذي قام بتأليف مسرحيّة الرسالة التي أشرتُ إليها من قبل والتي تمّ تقديمها في إطار تكريم نجم الدين محمّد شريف. مضمون الورقة أنّ النوبيّين بعد أن اقتنعوا بطرح إخناتون لتوحيد الالهة في إله واحد، صاروا موحِّدِين بطبعهم. لذا عندما جاءت إليهم الأديان السماويّة { ومحورها جميعاً الإله الواحد} لم يجدوا تناقضاً معها. تعاقبت عليهم ديانات الكتب السماويّة فصادفت إيمانًا مستكنّاً لديهم فلم يخالفوها. وكلمّا جاء دينٌ جديد { بالطبع على نفس الأسس} لا يجدوا فيه تناقضاً مع معتقدهم التوحيديّ الراسخ فيدخلوا فيه. وعلى هذه الخلفيّة يُفسّر كيف أنّ النوبيّين لا يتشنّجون في أمر الدين كثيراً بل يتساهلون في كثير من التفاصيل إن كان مبدأ التوحيد مُصاناً. استطراد: لا أدري إن كانت نظريّة عبد العزيز سيد أحمد ما زالت ساريّة أم بدأ لدى النوبيّين التشنّج الديني؟ الورقة الثالثة: كانت ورقة الفقيد محمّد إبراهيم أبو سليم عن { القلاع والحصون النوبيّة} وتطرّق لبنائها وأشكالها وأهدافها وما كانت تبنى من أجله. كانت ورقة علميّة توثيقيّة ذات قيمة أكاديميّة كبيرة. وأثارت مواقع هذه القلاع النقاش إذ أنّ القلاع النوبيّة في منطقة شمال السودان كان أكثرها مصمّماً للحماية من الآتي من الغرب وليس للآتي من الشمال. هل كانت هناك غارات من أهلنا في الغرب على الشمال، أم كانت هجرات مؤقتة في أزمان { المحل} حيث يأتي أهل الغرب للنيل ساعات الضيق؟ ولعلّ هذا مجال لبحث جديد في إطار الهجرات {السلميّة} الجديدة. الورقة الرابعة: كانت هذه آخر ورقة قدّمت في المؤتمر في جلسة خاصة في فناء معهد الدراسات الإفريقيّة والآسيويّة بجامعة الخرطوم، في حين أنّ الأوراق الأولى كانت كلّها في قاعة المؤتمرت بالمعهد نفسه. هي ورقة نجم الدين محمّد شريف التي أشرت إليها من قبل في حديثي عنه. وكانت كما قلت باسم ( السباق مع النيل). أوضح نجم الدين الجهود التي قامت بها البعثات الأثريّة لإنقاذ آثار النوبة قبل بناء السدّ العالي. وكيف أنّ نداء اليونسكو جعل كثيراً من البعثات الأثريّة تُهرعُ لإنقاذ آثار النوبة وكيف أنّ كثيراً منها لم يُسعف الوقت لإنقاذها أو أنّه تعذّر إنقاذها لطبيعة نحتها في الجبال أو لأسباب أخرى. تحدّث نجم الدين عن دوره في تلك الحملة وكيف أنّها اختزلت له خبرات ما كان ليلقاها في عشر سنوات من العمل الأثريّ العادي. أكرّر طلبي لحسّان لإلقاء مزيد من الضوء على هذا السمنار وحسّان الآن صحفيّ مرموق ويحرّر عدداً من المجلات وله موقع إليكترونيّ خاصّ به، لعلي أعطي اسمه لاحقاً. استراحة أولى: حضر مؤتمرنا أحد الباحثين الكويتيّن وهو باحث في الأدب الشعبي العربي. كُنيته ( أبو بدر) ونسيت اسمه. لعلّ صديقنا محمّد سيّد علي همّد يتذكره. ساهم محمّد سيّد في الإعداد لهذا السمنار بجهد كبير مع بقيّة أعضاء اللجنة ولكن كان له دورٌ آخر: كانت ميزانيّة المؤتمر محدودة اعتمدت على اشتراكات أعضاء الجمعيّة ( وكان وزير ماليتنا: د/ نورالدين يماني). لذلك عندما جاء ضيفنا العربيّ احترنا في ضيافته وهنا { دقّ محمّد سيّد صدره} وقال نستضيفه في {فندق أراك}، وكان محمّد حينها مدير مشتريات الفندق، ولم ندفع شيئاً في البداية على ضمانة {مدير مشترياتهم}. وانتهى المؤتمر واستمرأ { أبو بدر } الإقامة بالبلاد وكان قد أحضر معه بدراً ابنه. وعندما قرّر أن يعود لبلاده ذهب محمّد سيّد لإدارة الفندق والتزم بالسداد وسافر الرجل. ولكنّ المبلغ كان كبيراً وحاولنا أن نقوم بالسداد من { مدّخراتنا وأنعم بها من مدّخرات} دون جدوى. أطلب من الأخ محمّد سيّد أن يشرح لنا كيف (تخارج) من ذلك المأزق. استراحة ثانية: قرّرنا أيضاً أن ندعو ضيفنا الكويتي لعشاء ختاميّ قبل سفره وبما أنّه كان في فندق أراك فلقد رأينا أن تكون ( العزومة ) في فندق آخر { وعلي التعتّرنا} ذهبنا لفندق الهيلتون. ونسبة لضيق ذات اليد فلقد رأى الأخوة في الجمعية أن يرافقه اثنان منّا ووقع اختيارهم على د/ علي وشخصي لمرافقته في {العشاء الأخير}. كان صديقنا الكويتي قد تعرّف على بعض العرب في فندق الهيلتون عندما حضر باكراً وبأريحيّة عظيمة { عزمهم على العشاء}، وكعادة العرب { التي عرفناها لاحقاً} وافقوا مُمتنّين. كانت تلك أمسية الاثنين وعندما توجستُ خيفة من الزيادة المفاجئة في العدد ذهبتُ للمطعم لأختلس النظر في أسعار الطعام من كتيّب المطعم. فقال لي أحدهم إنّ العشاء أمسية الاثنين ( بوفيه مفتوح)، الله أكبر! بالطبع إنّ أسعار الطعام في البوفيه المفتوح مشتق من الاسم المفتوح، وخشيت أن ينتهي أساتذة الجامعة الاثنان إلى غسيل الأطباق في آخرِ المساء أو أن ينتهي بهم الحال { لحكّ الأنف في التراب} قبل إقلاع (البنطون) فيما يُقال عن سيّد تلول. ولكنّي كنت قد احتطتّ للأمر فقمت { بعزومة} الخال شبلي سعيد بحجّة أنّه يعرف العرب جيّداً وأنّه { سيونّس} ضيفنا الكويتيّ { بالطبع لم أكن أعلم أنّ ضيفنا مستأنس بضيوفنا الذين استضافهم إنابة عنّا}. المهمّ في الأمر أنّ المجموعة التي بلغ عدد أفرادها ( 9 ) متعشّين بدلاً من ( 4 ) نزلوا في الطعام يميناً وشمالاً ( ما بوفيه مفتوح عاد ) إلا أنا إذ لم ينزل الطعام من ( زوري) خوفاً من النتائج. وجاء ( الجرسونات)( لتربيزة رجال الأعمال العرب) يعرضون المضافات من التحليات والمشروبات الباردة والساخنة من تلك التي لا تدخلُ في الحساب العام بل تضاف إليه. كان شبلي يدير الحوار بلباقة وكياسة كعادته غير آبهٍ لمخاوفنا ، وأظنّ أنّ علي عثمان نفسه لم يكن يستقرئ المأساة. وجاءت اللحظة الحاسمة، وجاؤا إليّ بالحساب { وهذا ما يُخيفني من يوم الحساب} ونظرت في الورقة المثقلة بالتفاصيل والآخرون منشغلون وكان المبلغ 872 جنيه أو نحوها وفتحت ( جُزلاني) ولعلّ اسمه الأنسب في هذه الحالة هو ( خذلاني)، وكان بداخله 280 جنيه ( كنت أظنّ قبل العشاء أنها ستكفي وتفيض )، طلبت( خذلان) د/ علي وفهمني بعد لأيٍ وناولني إيّاه تحت المنضدة وقد كان يجلس قبالتي فإذا به 100 جنيه أو نحوها ( الله أكبر). لم يكن شبلي بعيداً عنّي إذ كان على يميني ولكنّه كان منشغلاً بالحديث، وتركته حتى توقف لإشعال سيجارة وطلبت (جزلانه) وكان هذا (جزلاناً) جزِلاً ، وخرجت منّي أهة ارتياح إذ كان الجزلان (المنفوخ) منفوخاً بالمال وليس بالورق وكروت العمل كما هو الحال لدى الكثيرين في بلاد الاغتراب. و(خمشت) من الجزلان وأعدته إليه وكان ما خمشته يقارب الألف جنيه سدّدنا منها فاتورتنا وعاد منها لجزلاننا ما جعله جَزِلاً أيضاً ( إذ لم يكن شبلي يعيد إلى جزلانه مبلغاً خرج منه) رحم الله شبلي رحمة واسعة فقد كان هو الكرمُ يمشي على رجليْن. حينها تذكرت قصّة الإعرابيّ الجواد الذي وصفه الحُطيئة والذي همّ بذبح ابنه لإطعام ضيوفه عندما لم يجد ما يطعمهم به حتى لاح أمامه قطيع من البقر الوحشيّ: فأمهلها حتى تروّت عطاشُها * * * وأرسل فيها من كنانته سهماً فخرّت جحوصٌ ذات جحشٍ سمينةٌ * * * قد اكتنزت لحماً وقد طُبّقت شحماً فيا بشره إذ جرّها نحو قومه * * * ويا بشرهم لمّا رأوا كلمها يدمى 1 فباتوا كراماً قد قضوا حقّ ضيفهم * * * وما غرموا غرماً وقد غنموا غُنماً 2 1- كلمها يدمَى : أيّ أنّ جُرحَها ينزفُ دماً كناية عن أنّها ليست جيفة 2- وما غرموا وقد غنموا: لم نفقد ما في الجزلان بل غنمنا من جزلان الخال.

Quote: اعتذر اليوم أن لم أجد ما يكفي من وقت لمواصلة الذكريات خاصّة تلك التي أثار شجونها الصحفي اللامع ياسر عبد الفتاح. ولكن لنا عودة لجميع الذين تركوا أوسمة بفضلهم على صدري بكلماتهم الجميلة. ولا أظنّ أنني ساجد من الوقت بالمساء للتواصل لارتباطات متعاقبة. ولكن حتى لا يضيع اليوم سأنقل شيئاً مكتوباً كتبته قبل سنوات ( قص ولزق) وهو خارج الإطار النوبيّ وخارج إطار العمل العام. بل هو في إطار العمل الرسمي ( أكل العيش) في داخل المملكة، وهذا دخول إلى الرياض من الباب الخلفيّ. عندما التحقت بشركة المنتجات الغذائيّة بالرياض تمّ تكليفي بعد وقت قصير برئاسة ( لجنة الإتلافات). نحن في الشركة ننتج منتجات غذائيّة كثيرة جداً من خلال 4 مصانع ضخمة. وبعض هذه المنتجات تعود من العملاء كمرتجعات لأسباب مختلفة لانتهاء أمد الصلاحيّة أو لعيوبٍ تصنيعيّة أو تخزينيّة ولكنّ أكثرها لانقضاء أمد الصلاحيّة. و هذه المنتجات المرتجعة تقوم الشركة باتلافها من خلال لجنة ومحضر حتى يتم حذفها من المخزون. وصِرت أنا رئيساً للجنة الإتلافات ( وما زلت). وبعد عمليّة الإتلاف الأولى التي كنتُ شاهداً عليها كتبت مذكّرة داخليّة لنائب المدير العام ( صاحب التكليف)، وهو سعوديّ وله اهتمامات أدبيّة: وإليكم المذكرة: مذكرة داخليّة إلى السيّد / نائب المدير العام المحترم الموضوع: على هامش عمليّة الإتلاف حشاشة نفسٍ ودعت حين ودّعوا * * * فلم أدرِ أيّ الظاعنين أشيّعُ اسمحوا لي أن أستعير تعبير أبي الطيّب البليغ وهو يرى محبوبته ترحل وترحل معها حشاشة من نفسه. فلقد كان هذا شعور لجنة الإتلاف وهي ترى قطعاً من أنفسها تنتزع ، لا لتوضع على مائدة لتُقيمَ أوَدَ من يحمدُ الله أن هيّأ له مثلها ، ثمّ لتصيب الشركةَ بركاتُ حمدِه وثنائه، ولكن وآ أسفاه لتذهب إلى حيث توطأ بمنسم أو تُحرق فتُعدمِ. وأخشى أن يُصيبنا من إتلافها ما يكره المرء وهو يدوسُ على النعمة بأرجله وهناك من يتضوّرُ جوعاً دونها. درسٌ بليغ، وشعورٌ مريع، ليتنا هيّأنا مجلساً حول البضائع الهالكة، وأجلسنا كلّ أهل الشركة حولَ نارِها ليحُسّوا جميعاً أوارها ويشعروا بوخز الألم، لنجلس جميعاً بعدها ليعملَ كلّ منّا على ألا يحدث هذا بعد يومنا هذا. إعادة النظر في خططنا نحن جماعة الإنتاج، أو إعادة النظر في جهد البائعين، وعدد البائعين لا بُدّ أن تُحسّن الصورة. ولكن مهما كان الأمر: تمرّ هذه البضائع بكلّ مراحل القرب من النهاية المحتومة، بقيَ على الصلاحيّة ستّة أشهر .. بقيَ عليها خمسة أشهر ... بقى عليها شهران .. لم تبقَ سوى أيّام ... آه لقد نفدت صلاحيّتها. وفي جانب آخر ... هناك من عُمّالنا من يصومُ يومَهُ *، ويقوم ليلهُ ( فوق الماكينات}، وعند المغيب يُفطرُ على الأرز وحبيبات من الدال أو { البقول} التي لا تشبع البطون، وفي الجانب الأوّل نجد ( البيتزا، والنقانق، والبيرقر المجمّدة) في مستودعاتنا لا يسمحُ ما بقيَ من أيّامها لأن تخرج في سيارات البيع، لذا تقبع هناك في انتظار القدرِ المعلوم. اقتراح: إن زاوجنا بين الصورتين نجد ما يُحسّنهما معاً: لِمَ لا نبيع المنتجات التي فقدنا الأمل في بيعها ( قبل أن تنفذ صلاحيتها) بأسعار أكثر من رمزيّة لعمّالنا؟ ليس من أجل الربح، بل لتذهب نعمة الله إلى حيث تُحترم لا إلى حيثُ تُمتهن. وتقبلوا الاحترام صلاح محجوب الشاهد الأوّل على الإتلاف * كنا في رمضان ساعة كتابة المذكرة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــ نكتة حقيقيّة ذات صلة: حكى لنا الصديق د/ عبد الحميد قرناص ( دغيم) أنّ أحد أقربائه وجد بأحد أحياء الخرطوم من يبيع منتجات غذائيّة بأسعار رخيصة جدّاً فاشترى ( برطمانة) مربى. ودخل إلى منزل أقربائه ومعه ( الكنز) فوجدهم على مائدة الفطور، فقام بطلب صحن وأفرغ فيه المربّى قائلاً أنّ سعرها خرافي. وهنا انتابت الشكوك أحدهم فقال له: ( إنت بتضرب ساكت يمكن المربى دي منتهية الصلاحيّة) وبالفعل قلب البرطمان ( المفرّغ) وقال للجماعة فعلاً منتهية الصلاحيّة وكمان قبل 6 شهور. هنا قام صاحبنا المُحبط بإدخال أصبعه في الصحن وغاص في قلب المربّى ليخرج كميّة لا بأس بها وتذوّقها وقال: ( يعني كان أحلى من كدة).

Quote: في مطلع النصف الثاني من ستينات القرن الماضي التحق صلاح بعطبرة الثانوية الحكومية حيث كنت انا وبن خالته محمدالفاتح قد سبقناه بسنتين.. صداقتي حينئذ للفاتح ومن قبل لصديقي المرحوم عصفور ومصطفي عرفتني بافراد اسرة صلاح الممتدة في الدامر والخرطوم واستمرت حتي بعد ان التحقت انا والفاتح بالجامعة في 1967 ثم قررنا سويا الخروج من السودان فنال الفاتح بعثة حكومية الي بولند وللصدف نلت انا اخري بواسطة اتحاد الشباب العالمي واتحاد طلاب جامعة الخرطوم الي بولندا كذلك الا انني لم اذهب واستمر مشواري في جامعة الخرطوم وسافر الفاتح الي بولندا وكنت انا في وداعه في المطار ومعي بن خالته وصديقي منذ المدرسة الاولية في كوستي صفوت .. لم نلتقي والفاتح الا في مطلع الثمانينات مغتربيين في دولة الامارات ولحق بنا صفوت وما زلنا الا ان الدنيا غلابة وصار اللقاء في حيز جغرافي واحد صعبا ...صلاح كان قليل الجسم نابها شديد التهذيب ورغم ذلك زاولنا انا والفاتح عليه بعض من السنيرة Seniority بحكم اننا الاكبر والاعلم بدروب عطبرة رغم ان اسرة صلاح كانت فركة كعب من المدرسة في الدامر ...والتحقنا بالجامعة وسافر الفاتح واتي صلاح فيما بعد والتحق بكلية الزراعة وكنت انا في المعمار فانشغلنا بما نحن فيه وباعدت المسافات بيننا وقد كنت قد تركت البلاد في النصف الثاني من السبعينات فلذا لم التقي به من ذلك الزمن الا انني كنت اتابع اخباره عند كل سانحة.. ولم التقي به الا اسفيريا في ما يجمعنا كنوبيين من عمل عام قبل اعوام قليلة ... صلاح انسان خلوق غزير المعرفة كما عرفت متفاني في العمل العام يستحق منا كل اشادة وشكر مودتيابوبكر سيداحمد

Quote: شكرا على المشاركة واستأذنك في نقلها الي منتدى عبري تبج

Quote: نعود لنجم الدين محمّد شريف في بدايات أعمال لجنة الأصدقاء طلبوا مني كتابة مقال في الصحف للتنويه عن قيام لجنة لتكريمه. وقمت بكتابة المقال أدناه وسلمته للأستاذ محمّد توفيق بحكم ارتباطه ودالته على الصحف، وبالفعل تمّ نشره سريعاً في صحيفة الأيّام في ديسمبر 1987م. وبعد نشره ذهبت لزيارة نجم الدين في بيته، وعلق على الأمر بهذه العبارة: ( جريدة الأيّام اللي فيها موضوعك أنا حفظتها في الخزنة) وكنت أعلم أنّ خزنة نجم الدين التي لم تكن بالطبع( لحفظ المال)، كانت لمستنداته التي يخاف عليها. وسرّني هذا التقدير لما كتبت. وقبلها كان بروفسور حسين السيّد قد أثنى على المقال في أوّل اجتماع للجنة، وهذا ما لم أكن أتوقعه إذ أنّ أستاذي ( كان عجبه قاسي). وإليكم المقال نجم الدين محمّد شريف: العطاء والتكريم قليلون هم، جدُّ قليلين .. من كانوا على شاكلته أو كانوا في قامته ..إنّه نسجٌ فريد ما له ضريب .. تصرّمتْ أيّامٌ كانت تحبلُ بمثله لتنجبَ أقراناً له ولُمّة. ولِدَ في قرية هناك في الشمال.. كثيرون منكم لم يطرق آذانهم جرسُ اسمها من قبل، ولعلّ أكثركم لن يستطيع نطقها صحيحةً إن رآها منسوخة.. { كويكّا}.. ألم أقل لكم لن تفلحوا وإن استفرغتم الوسع... لا بأس فإنّه قد ولِد بها وتشرّب بحبّ النهر وبتقديس الأرض فيها .. حُبُّه للأرض لم يكن هوىً عابراً، ولكنّه صار ولعاً بها وبما في باطنها... شيئٌ وهب له السنين المضيئة من عمره، وجاد في محرابه بكلّ ما يملك وبكلّ ما اؤتمن عليه .. جاد بشبابه وبعصارة لبّه، بعافيته وغزير علمه، بالشعيرات المتبقية في رأسه وباللحم الكاسي لعظمه. اختار التنقيب عن الأصول والجذور في باطن الأرض مهنة. وتخيّرَ التملّي في مخلفات القصور والقبور هوىً وصِنعة. بعد أن نهل من العلم في جامعة الخرطوم وعلَّ منه في جامعات بريطانيا التحقَ بمصلحة الآثار، وعمل بيديه وهو في ميعة الشباب يحتذي ما خفّ من النعال، ويتّقي حرَّ الشمسِ اللافحِ بقبّعة الفِرِنجة. ويقفز في ( الحفريّة) ويميطُ عن القطع الأثريّة الغبار والتراب بيديْه، ويحنو على القطع الصغيرة من الآثار كما يحنو على بنيه، ويُعجبُ بالكبيرة منها إعجابه بمثله الأعلى........ عاش – بعقلٍ متفتحٍ متطلّعٍ للمستقبل- في الساحق من العصور، ينقلُ إلينا حضاراتٍ جنى عليها الزمان فما عَفت، وتوالت عليها الدهور فما امّحت، ليس فقط بما بذله الأولون لحفظها وتدوينها، ولكن بنعمة الله علينا إذ جعل بيننا أمثال نجم الدين يغوصون في باطن الأرض لتتفتح عن أكمام لها زهورٌ ضاربة بجذورها في ساحق العصور. وجاء التحدّي الأكبر: ( الإعلان عن بناء السدّ العالي).. سيموتُ الأوائلُ مرّتيْن: مرّة حين توفّاهم الله في عهدهم الأوّل، وحيناً آخر عندما تغمرُ المياه بلاد النوبة العظيمة. أمّا الأحياء من النوبيّين فلقد جُبلوا على التضحية الكبيرة فذهبَ بهم القطار ( وهذا حديثٌ ذو شجون له مواقع أُخر)، ولكن ما الذي سيفعله آباؤهم صانعوا التاريخ؟ لو كانوا على سطح البسيطة وليس في باطنها لذهب بهم قطار التهجير مع بنيهم وذويهم، ولكنّهم ثاوون تحت الثرى منذ آلاف السنين، وقد ذهبت السنون بمقدرتهم على الذهاب أو الإياب. لا بأس سنبقى.. هكذا قالوا وكان هذا هو التحدّي الأكبر: تصدّى نجم الدين فيمن تصدّى، وتوجّهت أنظار العالم وتوجّه علماؤه وتدفّقت أمواله نحو آثار النوبة .. وفي (سباق مع النيل ) تمّ إنقاذ ما تيسّر إنقاذه من آثار النوبة ، لترحل هي الأخرى نحو الجنوب فلقد بدأ عهد الهجرة إلى الجنوب. كان نجم الدين بطلاً من أبطال الإنقاذ ( أعني إنقاذ الآثار)، كان يحنو على القطع الصغيرة كما يحنو على بنيه ، ويُعجبُ بالقطع الكبيرة إعجابه بمثله الأعلى إعجابه بمن صنعوا التاريخ وما انفكّوا يفعلون... رأى العظمة في الأهرام النوبيّة وفي كنيسة دنقلا القديمة وفي آثار صاي وصلب والبجراويّة وسوبا والنقعة والمصورات والسبلوقة، ولأوّل مرّة كشفَ عن آثار وعظمة الجنوب. كما رأى العظمة في حِكَمِ ِ سيّد تلول، وفي تَدلُّهِ الفنان دهب خليل ، وفي النكتة يُطلقها حسين بابّة دون أن يعني، وبعفويّة وحضور بديهة ( عبده خديجة) في حديثه عن عظمة ( الحمير)... لم يَقِل هؤلاء في نظره عمّن صنعوا التاريخ وخلّفوا الآثار لأنّهم من نفسِ اللبِنة، فصار يؤرّخ لهم كما فعل لآبائهم. كان وما انفكَّ يبحث عن العظماء ليُزِيحَ كُلَّ جُنّة حجبت إشعاعاً مستتر، وما فتئ يستنطق الصخرَ حتى أفصحَ الّصخرُ لمن يُقدِّر. طفق ذات مرّة يشرحُ لإمبراطور أثيوبيا المهيب هيلاسلاسي عن الممالك المسيحيّة في السودان وارتباطها بما حولها من ممالك أخر حتى قال له الإمبراطور – وكان ذلك في أخريات أيّامه - { يا بُنيّ وأنا في مثل هذه السن لأتمنّى لو كان لي نصف ما لديك من علم}. فوق هذا وذاك فإنّ لنجمنا حديثاً عذباً يستهويك ويفتنك ويشدُّك إليه الساعات الطوال لا تحسّ لوقعها إيقاعاً. وله في قلوب الجميع إيثارٌ وحبٌّ عظيم، يجدُ لديه السلوى: الكبيرُ الدالف والسقيم المُدنف، كأنّ ابن الخطاب كان يعنيه حين قال: ( إنّ الله إذا أحبَّ عبداً حبّبهُ إلى خلقه). نجم الدين والدنيا قد بلغ الآن سنّ التقاعد، وعمّا قليل يتنحّى عن إدارة مصلحة الآثار لكفءٍ آخر . إنّنا لا نريدُ لنجمنا الزاهي أن يصيرَ على ما صار إليه عظماء التاريخ يبقَوْنّ هناك قابعين في انتظار من ينفضُ عنهم الغبار.. هذا لن يكون إذ سيظلّ نجمُنا أبداً وهّاجاً بما فعل وبما أبقى ( ولا تخرجُ الأقمار عن هالاتها). لقد تحرّك أصدقاؤه وتلاميذه وذووه خارج البلاد وداخلها متخذين من بلوغه سنّ التقاعد فرصة ذهبيّة لتكريمه إيفاءً لِدَيْنٍ كبيرٍ الله وحده أعلمُ إن كانوا يستطيعون إيفاءه. رأت هذه النّخبة تكريمَه وهم يعلمون أنّ في تكريم نجم الدين تكريماً لمُكَرّميه. لقد وضعوا خطّة جامعة لهذه المناسبة سنسمع عنها قريباً من القائمين بأمرها ... ولقد انطلقوا ومن يسدّ طريق العارِض الهطِلِ، قترقّبوا مُزنة تلو ديمة. استراحة: بعد أن استقرّ أستاذنا نجم الدين في تلك المستشفى الإنجليزيّة عاد شبلي سعيد للسودان، وفي زيارته التالية لإنجلترا( بعد شهرين أو نحوها) اصطحب معه ابنة نجم الدين الصغيرة (هند) لعلها كانت في الخامسة أو السادسة من عمرها، وذلك دون أن يخطر أباها بالأمر أو أمّها. ولكم أن تتخيّلوا مقدار الدهشة والسعادة التي سببها ظهور الصغيرة في المستشفى لأبويها. كانت هند غايه في الجمال واللطف وأحبّها جميع من بالمستشفى حتّى أنّ الممرضات كنّ يحجزنها لتذهب معهم لبيوتهن في عطلة نهاية الأسبوع ولا يعودوا بها لأهلها إلا مساء الأحد أو صباح الاثنين. وبقيت الصغيرة شهوراً على هذه الحال حتى تمكّنت من اللغة الإنجليزيّة فصارت تتحدثها بطلاقة. ثمّ صارت المترجم الرسميّ للمستشفى إذ أنّ أغلب المرضى كانوا من دول الخليج ( بالطبع كلهم حوادث سيارات). القصّة التي سأرويها كان نجم الدين قد حكاها لي فور وصولي لزيارته في نهاية الأسبوع وهو مستغرق في الضحك. ومن يعرف نجم الدين يتذكّر أنّه عندما يضحك كانت تدمع عيناه فيمسحهما وهو يواصل الحديث. والرواية كالتالي: في أحد أيّام ذلك الأسبوع كان أحد المرضى السعوديين ( وهو على كرسي متحرّك) يحاول الحديث مع إحدى الممرضات دون أن تسعفه اللغة. وعندما ظهرت هند استبشر الرجل ( الذي ما زلت أذكر اسمه: سالم) وناداها: تعالي يا هند قولي للممرضة أنا عايز أنام معاها. وببراءة شديد ترجمت هند الطلب إلى الممرضة التي استشاطت غضباً وهي تقول لهند (TELL HIM NO ) { قولي له لا} ، وكأنّ هند لم تفهم سرّ الغضب أو سرّ الرفض نفسه لطلب في ظنّها يسير، وقبل أن تترجم له الرفض ( الذي كان سالم بالطبع قد فهمه) حاولت ببراءتها أيضاً أن تتوسّط فقالت للمرضة (WHY NOT ) ( ولِم لا).

Quote: اخوي علي سيد مسكاقمي شقيقي الدكتور صلاح محجوب مبدع ويملك ناصية الكلم منجم معلومات رغم ابداع ومحاولة اخينا الاستاذ رمزي المصري اخراج المعلومات من محاوره ولكن وبصفتي مجالس لهذا النوبي الهميم اشعر بان الحوار اتى بجزء يسير فصلاح محجوب كلما تجالسه وتحادثه يغمرك بفيض من المعلومات والنظرة المستقبلية للنوبة وارض النوبة وقضايا وهموم النوبة . لله درك اخي صلاح محجوب وكتر الله من امثالك .

Quote: لما أفاض بنا الحنين غدونا نسأل أين وأين الحبيب صلاح على محجوب,فجئنا إليك وخطانا تتسابق الخطي من الجنوب والشمال