|
الكلمة الشاذة
|
الكلمة الشاذة أغمض المساء أجفانه عليّ, وعلى ظهري حقيبة لففت داخلها صورة محراث قديم, العصاري في الغربة تلقيحة، وأعضاء من الذكريات.. الدرس الأول في الغربة غالباً ما يكون بعنوان (تمرق من بيتك حزين.. تلاقي الفرح وين)؟.. والقاهرة مدينة لهلوبة, تحكمها رموش الراقصات.. تبدو متحجبة الآن بما يذاع في مسجد التحرير عن عذابات يوم القيامة.. صليت معهم جمعة واحدة.. كرهت إجهاشهم بالبكاء.. أنا لن أزور هذا المسجد مرة أخرى.. أكره توبيخاتهم كلها.. إنهم يجعلون مني الحائط القصير دائماً.. ولكن الآذان هنا, حين ينبعث من كل المآذن يغسل ما ران من قلبي مما صنعت يداي.. دخلت القاهرة بعشرة قروش!.. التأمت مع جمع الذين ينتظرون التحويلات.. أراهم الآن أجساداً ترهلت بالبقوليات، وأنا استطعم النيكوتين منذ ثلاث ليال.. أبحث عن ياقوت العرش, فلا أجد غير كافور الإخشيدي, استحضر روح ذا النون, المصري, فأستوحش برمسيس يطل من كل الشوارع.. وجدت سودانياً في العتبة, يقف مثل الكلمة الشاذة في وسط البلد.. اشتم رائحته فأعرف ما إذا كان إنساناً أم موالياً للنظام. عند مدخل فندق ابو الهول نزع مني موظف الاستقبال جواز سفري كما ينزع الجزار كبد ماعز.. لن أسافر من هنا إلا إذا استرضيته, فالجواز مثل الوضوء.. لا يصح السفر والتجوال إلا به.. أنهم لا يأبهون بي، وأنا أترنم أو أبرطم.. أنا هنا عبد أسود يصلح لرفع الأثقال، ولم يخلق إلا ليحتمل الشتائم التي صفع بها المتنبيء وجه كافور في الزمان الخلي.. وبرغم ذلك أنا أحب المتنبيء .. مع أنه يعنيني كثيراً بالكلام.. مثلي.. في هذا المقام, يؤتي به من بلاد بعيدة ليضحك ربات الحجول البواكيا. التقيته, كان مظهره مضللاً.. وجدته كامل التعاسة مثلي.. أنا أيضاً ينبيء مظهري بأشياء اندثرت قديماً من الذاكرة.. وأنا أيضاً نسيت!! قال لنا نادل المطعم: وأنت تأكل الحواوشي, فإنك بسندوتش واحد تكون قد تناولت كل البروتين المعترف به دولياً.. وخرجت إلى صقيع القاهرة وقد أليل الليل!.. ولا بد من متكأ. التسكع في شوارع القاهرة موهبة يتعاطاها أبو سمرة!! إنّها موهبة أتحاشى بها طقطقة صاحب الميكروباص.. وجدناهم في النزع الأخير من الليل يزهقون ما تبقى من أعناب طمرها الإغريق قبل مائة سنة!.. أينعت في رؤوسهم كصدر نشرة إخبارية.. أنا لن أتعاطى المنكر طامعاً في السرمد وحده, أنا لا أتعاطاها لأظل ساهراً على غربتي. دخلت القاهرة بأحلام النزق كلها.. وهناك ألمت بي عدوى التصوف في كل شيء!.. حتى ما تكتبه القاهرة في الليل والنهار.. لا أختار منه إلا ما يبدد كدر الروح.. أقف طويلاً أمام قبور القاهرة، وأقرأ الآيات بأحكامها التجويدية.. خرجت من القاهرة نقياً جداً.. ومفعماً بالتلاوة وبابن الفارض.. تركت رفيقي هناك.. دق وتداً لا حيلة له بالفكاك منه، تزوج أنثى بكامل شعرها وبدانتها التي تذكرني بمجلدات الاشتراكية العربية التي قرأتها عن ظهر قلب وكفرت بها. بعد دورة الزمان.. عدت.. وجدتهم هنا كحالهم الآن.. يهدفون إلى إنقاذ الوطن من القطايع والفلايت التي كان سببها الأحزاب.. أتسَقّط أخبار صديقي.. لقد هجر أنثاه.. وسافر إلى الخليج.. كان يدخن أكثر من محمد الماغوط, ولم أره يوماً يكتب شعراً أو نثراً.. ذهب باحثاً عن الريال.. ولم أكن طيلة أيام غربتي أعرف للجنيه سبيلاً.. سمعت أنّه مات وهو جالس على إحدى كراسي النزوح.. وتسمّرت أنا على عنقريب في ناحية ما من أرض شمال السودان أتسمّع صدى أصوات إذاعة التجمع الوطني الديمقراطي الذي سيحكم السودان غداً.. بعد (الزوال)..!! ما أعجب الأقدار وما أقسى نفسي عليّ.. تؤمن في الغربة.. وتتعرى عن إيمانها حين تعود!!.. (أهذا هو الحال الذي يحنن الكافر؟). --
|
|
|
|
|
|