|
في الخرطوم .. خواطر وذكريات محزونة بقلم : معاوية محمد نور
|
الوقت ليل . والكون ساج نائم . فما تسمع نأمة ولا ترى حركة ، ولا تحس سوى الركود والإغفاء ، والسكون الشامل ، والظلام الصافي ، والهدأة الناعسة . ولقد تحس الحين بعد الحين حركة ضئيلة أو تسمع صوتا خافتا فيزداد إحساسك بذلك الصمت ويشتد تقديرك لذلك السكون ، ويأخذك ذلك السحر ، وتستولي على نفسك تلك الهدأة ويغمرك ذلك الصفاء . فتروح في عالم الأحلام والذكريات وتدلف إلى عوالم الفكر والعواطف المشجيات . وقد خيل إلي أن الحياة قد وقفت فجأة ، وأن الوجود قد أخلد إلى نومة هادئة ، ويعديني ذلك الشجو والسهوم فلا أستطيع أنا الآخر حركة أو قياما ، أظل أتبع حركة الماء الدافق أمامي حينا ، وحركة ما يجري في خواطري وأحاسيسي حينا آخر ، وأنا جالس على أحد المقاعد على ضفاف النيل الأزرق في مدينة الخرطوم . والنيل ينساب في مشيته هادئا كأنه صفحة المرآة المجلوة وعلى يميني في النهر بضع سفن بخارية وأمامي الخرطوم بحري وجزيرة توتي وعلى شمالي مدينة أمدرمان ، يخيم عليها الصمت ويكسوها ثوبا رقيقا ، ويخيل إلي أن ذلك الشجر الحاني بعضه على بعض والذي يظلل شارع الشاطئ ، وذلك النهر الهادئ بما فيه من قنطرة وأمامه من مدينة وجزيرة وما فوقه من سماء تحسبها لشدة زرقتها وانكفائها على حدود النيل أن السماء نيل وأن النيل سماء ، وأن الكل صورة يمكن أخذها ووضعها في إطار للتأمل فيها واستلهام الوحي منها ! .. وخطرت سفينة من تلك السفن المرصوصة ، فحسبت لأول وهلة أنها لاشك طامسة أثر ذلك الجمال ، عابثة بذلك الهدوء الصامت متلفة لتلك الصورة الرائعة ، ولكنها لم تصنع شيئا من ذلك بل أعطت الصورة لونا ، وزادتها حياة وبشرا ، وما يخيل للرائي أنها سفينة تعبر نهرا ، وإنما كأنها قلم يرسم خطا على صفحة أو كأنها شهاب يشق عنان السماء في إتئاد وسرعة ! عجبا لمنظر النيل ليلا ! .. ليس بعده جمالا ولا جلال ، وما يفوقه منظر مما رأيت سحرا وروعة ، وما تستجيش الخواطر ولا يصفو الذهن ولا يتألف الفكر ولا تكثر الذكريات وتغمر النفس فيضا وحنينا مثلما تفيض النفس في حضرة النيل ، ويحن القلب ، ويحلو في كل ذلك الشجو والحنين .
ظللت الساعات وأنا مأخوذ بسحر ذلك المنظر ، في شبه صلاة روحية ، وخشوع فكري ، وجلالة تغمر النفس ، وتخلع على الحياة شعرا ، وتحيطها بالأطياف والأرواح ، وتملأها بأسرار النفوس وخفاياها ! وبالقدرة منظر كمنظر النيل على ابتعاث روافدها وزخر جميع تياراتها من حنين إلى المجهول ، وشجو إلى الماضي ، وتطلع إلى المستقبل المنظور !
لم يظهر لي النيل في تلك الليلة كالشيئ السائل المائي ، وإنما هو بالتماسك أشبه وإلى مادة كالزئبق أقرب فما تشهد شيئا من العنف أو من الإندفاق الظاهر ، وإنما تشاهد العمق البعيد متشحا بثوب الهدوء والسطحية البارزة وتشاهد العدو السريع ولا تلمح شيئا من آثاره ومظاهره ، ولقد تسمع الوسوسة من حين لآخر بين نباتات المياه كأنما أشتدت بها الوحشة ، وكثر عليها الصمت والسكون ! ولكن العالم غاف ، وللعالم حرمة عندها ، فتنطلق في صوت خافت ، وتهمس بدلا من أن تفصح ويعود الماء إلى سكونه ووحشته الجميلة والعين لا تفتأ تنظر إليه ولا تتعب من ذلك ولا تحس إعياءً ولا فتورا . ولقد يقع حجر في النهر وسط ذلك السكون فيكون للصوت الذي يحدثه موسيقية لا تعثر عليها عند أعاظم أرباب الموسيقى والفنون ! وأسأل أحيانا ، من أين يا ترى تأتي هذه المياه وإلى أين هي ذاهبة ؟ أهي لا تفتر من هذه الحركة الدائمة والدائرة التي تنتهي لتبتديء وتبتديء لتنتهي . إلى أين أيتها المياه ومن أين ؟ ألا تفترين ؟ ألا تسخطين ؟ ألا تنتابك عوامل الضجر والسأم ؟ فألمحها تسخر بي وتشفق علي ، وعلى شفتيها إبتسام ، وفي نفسها مرارة وهي تهمس خوفا من أن تسمع (( هكذا ، هكذا ، لقد نفذ القضاء ، أليس من الحماقة والضيق التأفف مما لابد منه ولا محيد عنه ، ونحن أبناء الحياة ولا شيء هنالك غيرها ، أليس من الخير أن نتحملها ونكون عند ظنها ولا نفتر عنها ؟ بل نحياها في أناة ورضاء وابتسام وادع مرير ، ذلك أحجى وأحكم لو كنتم تعلمون )) . وكذلك تذهب المياه معززة حديثها بالإبتئاس والإصطخاب ، ونسيانها للشعور بالنفس ، وهزئها بشعور الملال والإعياء ! .. والماء في جريه ووسوسته الدائمة يتخطى المدن والبلدان راكضا وادعا ، يمثل فلسفة الحياة وكيف يجب أن يكون إحتمالها والتغلب على شعور الملال ودواعي الإعياء والسخط .
ويأتي النيل الأبيض من الناحية الأخرى وهو أكثر زبدا وصخبا من النيل الأزرق ، قد ترى موجه المزبد وآذيه المصطفق يتكسر في عنف وشدة على الشاطئ حتى إذا ألتقى بالنيل الأزرق عند الخرطوم شد من أزره وأخذ يساعده وتكاتف الإثنان معا في مرحلة الحياة التي ليس لها أول ولا آخر ، وهكذا يسيران وقد صارا نيلا واحدا وقلت وحشتهما وزاد أنسهما ، فتلمح نجواهما وشعورهما بالرضاء الوادع ، والحكمة الهادئة ، وهما يندلفان في سير سريع ما سار الزمن وبقيت الحياة .. !
وهذا الجمال ما شأنه ؟ هذا الجمال الساهي الوادع الذي تستمرئه النفس لأول نظرة ويفرح له اللب ، وتجزل الروح ، ماله يميل بذهني إلى خواطر محزونة ، وصور مشجية ؟
هذه السفن التي تنبسط أمامي أجلها في خوف ولعل السبب موت خال لي غريقا في سفينة بخارية في النيل الأزرق . و (( توتي)) منبسطة هي الأخرى أمامي ، مالها تثير في نفسي شجوا حزينا ، وما لشجوها الكئيب الذي لم يبق له إلا أن يدمع ، وما هذه الوحشية المخيفة ، وما لرمالها الناصعة تبعث في نفسي شعور الأسى والذكريات الأليمة ؟ وإنني لأذكر توتي وأذكر أياما لي بها ، وأذكر زرعها وأذكر مجدها ، و أذكر تلك الخضرة ملء العين والبصر نهارا ، وهي الجلال والأطياف والخوف ليلا . وأذكر - ويا لشدة ما أذكر - أذكر أبي وأذكر بيت أبي ، أذكر ذلك البيت القائم وسط الزرع وحيدا لا أخ له ، كالشارة الموسومة وسط ذلك الزرع الحافل ! . أين كل ذلك اليوم ؟ لقد مات أبي واضمحل الزرع وتهدم البيت وما بقي منه سوى الجدران والتراب ، وصار مأوى حيوانات ضارية ، تسكنه الهوام ويعمره الخراب الماثل للعيان .
وهذا الشارع الجميل المنسق على ضفاف النيل الأزرق ماذا يترك في نفسي من إحساس ؟ لا تزال صورته التي رأيتها وأنا طفل بأمدرمان مرسومة أمام ناظري وهي صورة فيها من الحنين والشوق والقدم ما لا سبيل إلى وصفه . على أن ما يعني العالم بخواطر حالم مثلي ؟ وهؤلاء بعض الناس يتحدثون في شغب وقد خرجوا من دور السينما ، وربما كانت هنالك حفلة راقصة ! وفي البحر حيتان ، وفي الشجر أطيار نائمة ، وغير هؤلاء وأولئك من أعمال متباينة ، وحالات مختلفة . ماذا يعني كل هذا التناقض سوى طريق الحياة وشمولها وعدم معرفتها للسهولة ، بل هي الشدة وهي القوة الغازية ! تلك هي أمدرمان وادعة نائمة ، ومن يدري ما بداخلها من المتناقضات ومختلف مظاهر الحركة والسكون ، وشتى مظاهر العاطفة والشجون ! وإنني لأذكر النيل الأبيض وسفرتي فيه وأنا ما زلت صبيا حدثا ، كيف نسيت نفسي في مرح وبساطة وأنا على السفين ! كلها ذكريات قوية واضحة ، تتسلل إلى ذاكرتي من حيث لا أشعر أنني في حاجة إلى (بروست) آخر ليصف كل ما يجري في وعيي المستتر في تلك اللحظة من الزمان . إنها لتملأ مجلدا ضخما ولا تفنى ! وإنني لأذكر ليالي المدرسة ، وسماعي لذلك البوري الذي يهز كياني هزا ، ويلعج نفسي ويذكرها بمن مات من أهلي وأحبابي ! ولا أدري أي علاقة لذلك الصوت وتلك الذكريات المحزونة ، فلربما لأن خالي كان ضابطا ، وأن ذلك البوري يضرب لعشاء الضابط ، وخالي قد مات ! . وأنظر إلى يميني فأذكر ضواحي الخرطوم وأذكر بري بنوع خاص ، لا أذكر بري اليوم وإنما أذكر بري التي لم أرها بل سمعت عنها ، وأصغيت إلى أناشيد الفتيات وأغانيهن في مدحها ( بري الطراوة والزول حلاوة ) إن ذكر هذه الجملة ليمثل أمامي صورا من الماضي قوية ، حية كأشد ما تكون حياة وقوة ! يا لصور الماضي ويا لشجوه وحنينه ! أذكر شوقي إلى الماضي ، وأذكر حنيني إلى المجهول ، وأذكر شعور الإغتباط والجمال الفني الذي أشرف عليه عند مشاهدتي النيل في تلك الليلة ، فأقول يا للعجب ! أتراني أود أن أعيش الماضي والحاضر والمستقبل في ساعة واحدة ! يا لنهم الحياة ، وطبع الإنسان ، وعطش العواطف !
فأنا الآن أذكر كل هذا ، أذكر الليلة القمراء بأمدرمان وأنا صبي ألعب ، وأذكر مكاني من الخرطوم وجمالها الساهي ، وصفائها الصامت ، ورونقها وأحلامها وصمتها وما يحيط بها من ضوضاء ، وما يتصل بأسمها من أسماء تاريخية ، وهالات وحروب ، وأذكر الحيتان في قعر النيل ، وأذكر الشجر في وقفته الكئيبة ، ووحشته الدامعة ، وأذكر عوالم أخرها شهدتها أو قرأت عنها .. وأذكر أبي وأذكر أختي التي فارقت هذه الحياة ، وأذكر هؤلاء الراقصين القاصفين ، وأذكر الجمال الماثل لعيني ، وأذكر غير هؤلاء أشياء كثيرة لا صلة بينها ولا قرابة عندها .. ! فأسأل نفسي ماذا تعني كل هذه الأشياء ؟ وليس من مجيب .. سوى أننا في هذه الحياة وسنظل فيها إلى أبد الآبدين ، لا نعرف عنها شيئا يرتاح إليه الضمير ، ويسكن عنده الخاطر . وإذا أنا في هذه الخواطر المسائية أشعر برعشة في جسمي ، وأحس بدمعة في عيني .. فما أدري أهذه الدمعة شعور بجذل الحياة ، أم هي بكاء عليها ؟ غير أنني أعرف أنني أذهب وأعمل بعد ذلك كما يذهب أناس كل يوم ويعملون .
المصدر : السياسة الإسبوعية - العدد 246 - 22 نوفمبر سنة 1930 م
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: في الخرطوم .. خواطر وذكريات محزونة بقلم : معاوية محمد نور (Re: مدثر محمد عمر)
|
أم درمان مدينة السراب والحنين
جريدة مصر العدد 1030 - 17 أكتوبر 1931م
يدخلها الإنسان عن طريق القنطرة الجديدة، المقامة على النيل الأبيض، بعد أن ينهب الترام سهول الخرطوم الخضراء الواسعة، فيلقي نظرة على ملتقى النيلين في شبه حلم، ويعجب لهذا الالتقاء الهادي الطبيعي، وذلك التصافح العجيب من غير إثارة ضجة ولا صوت، فكأنما النيلان افترقا في البدء على علم منهما، وهنا يلتقيان كما يتلاقى الحبيبان ويندمجان نيلاً واحداً،، فما ندري أنهما كانا نيلين من قبل ولا ترى في موضع الالتقاء ما يشير إلى شئ من المزاحمة أو عدم الاستقرار مما يلاحظ عادة في إلتقاء ما بين جهتنين مختلفتين، وإنما هناك عناق هادئ لين، وإنبساط ساكن حزين، فإذا فرغ المشاهد من هذا المنظر الذي لابد أنه آخذ بنظره، مرغمه على التأمل، انتقل إلى الضفة الأخرى من النيل الأبيض فرأى البيوت الصغيرة مثبته على الصحراء، ورأى السراب يلمع ويتماوج بعيداً، ورأى بعض العربان وراء جمالهم المحملة حطباً تمشئ في ائتاد وفتور، ومن ورائها سراب ومن أمامها سراب، فكأنما هي تخوض في ماء شفاف، ورأى شماله بعض ثكنات الجنود السودانيين، مثبتة هي الأخرى في أماكن متقاربة، ثم سمع صوت (البوري)، يرن حزيناً، شجياً، وسط ذلك السكون الصامت وفي أجواز ذلك الفضاء اللامع وتلك الشمس المحرقة، فيحس بشئ من الحنين البعيد والحزن الفاتر المنبسط ويعجب لذلك المكان ما شأنه وشأن الترام الكهربائي والقنطرة والاتومبيل الذي يخطف كبالبرق بين كل آونة وأخرى في ذلك الفضاء السحيق (.....) وإذا سار به الترام قليلا في إتجا النيل رآ أو المدينة المعروف (بالموردة)، ورأى السفن البخارية الآتية من أعالى النيل واقفة على الشاطئ محملة ببضائع تلك الأماكن الجنوبية كما رأي بائعي الذرة أمام حبوبهم المرصوصة في شكل أهرامات صغيرة وهم يبيعون للمشترين وينطقون العدد في نغمة إيقاعية موسيقية فيها شئ من الملال والترديد الحزين، وفي مثل ذلك المكان كانت تباع الجوارى ويباع العبيد في أسواق علنية مفتوحة في عهود مضت، وكان البائعون يتفننون في عرض تلك الجواري بما يبلسونهن من الحلى والزينات.
فإذا سار الترام قليلاً وجد المشاهد نفسه أمام "قبة المهدي" ورأى تلك القبة مهدمة مهدودة كما رأى الجاع الواسع الكبير الذي بناه الخليفة عبد الله لكي يصلى فيه المصلون أيام الجمع والأعياد فوقف هنيهة يذكر عهداً مضى بخيره وشره، وخالجة شئ من إحساس (الزمان) الذي لا يبقي على شئ إلا مسخه، وتركه باهتاً شائخاً بعد أن كان كله رونق وشباب.. وهنا يذكر الإنسان قصة ويذكر تاريخاً ويذكر حروباً أقامت عهد المهدية وتخللته وقضت عليه أخيراً....
وربما يرى في الشارع القائم بين ذلك الجامع وبين طريق الترام صبياً واضعاً رجل على رجل في حماره القصير وهو يمشي في طريق معاكس للترام ساهم النظر، مفتوح الفم، ينظر إلى بعيد من الآفاق ويغمغم بنغمة حزينة ملؤها الشجو والفتور ناسياً نفسه ناظراً في حوله نظرة الحالم الناسي.
ذلك مشهد لن تخطئة قط في شوارع أم درمان، حركة خفيفة ساهية، وغناء كئيب حزين، كأنما يستعيد قصة مضت، ويحكي رواية مجد وبطولة عفى عليها الزمان، ودالت عليها الحوادث كما تدول على كل عزيز على النفس حبيب إلى الفؤاد ولم تبق على شئ سوى الغناء والسهوم الكئيب.
وفي ذلك المنظر يتجسم تاريخ أمة، ونفسية شعب، رمت به الطبيعة وسط ذلك الجو المحرق، وتركت له صفات الصدق والبساطة في عالم لا بساطة فيه ولا صدق، هو شعب من بقية أمم مجيدة طيبة الأرومة، إضطره الكسب والمعاش أن يهاجر إلى تلك البلاد ذات السهول الواسعة والصحراء المحرقة، فكان تاريخه مأساة تتبع مأساة، وماضية كله الجرم والإثم، وهؤلاء المهاجرون من أذاقوا السكان الأصليين الألم وساموهم الخسف والعذاب، كرت عليهم النوبة من أمم أخرى فكان نصيبهم التعب والخوف، وإذا كل السكان سواسية أمام عوامل الجو ودواعي الملل والسأم، ومغريات الشعر والذكر وويلات الفقر، وإذا بكل تلك العوامل المختلفة تترك طابعاً خاصة في نفوسهم وسمات خلقهم، وسحنات وجوههم لا يخطئها الناظر العارف، ولا تقل الدلالة والشاعرية والحزن الكظيم على تلك الخصائص التي يراها الإنسان على وجه الرجل الروسى الحزين.
وأبلغ ما يدل على تلك النفسية وذلك الخلق الأغاني الشعبية التي يرددها الكل، من أكبر كبير إلى الأطفال في الطرقات والشوارع، بل أنني لا أعرف شعباً فتن بأغانيه وأعجب بها فتنة السوداني وإعجابه بها، فأنت تجد الموظف في مكتبه ، والتاجر في حانوته، والطالب في مدرسته والشحاذ والحمار والعامل والمزارع والطفل الذي لم يتجاوز الثالثة ومن إليهم كلهم يغنونها، ويرددونها في كل ساعة وكل مكان، ويأخذون من نغمها وإيقاعها معينا لهم يعينهم على العمل ويلهب إحساسهم بدواعي النشاط والتيقظ الشاعر، بل بلغ إفتتانهم بها أن الرجل ربما يشتري "الاسطوانة"، الغنائية بعشرين قرشا وهو لا يملك قوت يومه، وقل أن يمر الإنسان بأي شارع من شوارع ام درمان ألا ويعثر على إنسان أو جماعة تدمدم بتلك الأغاني في شبه غيبوبة حالمة، وصوت باك حزين..
والأغاني لا يمكن أن تذيع في أمة مثل هذا الذيوع وتحظى بمثل هذا الإنتشار إذا هي لم تعبر عن نفسية الأمة أتم تعبير...
وأغرب من ذلك وأدعى للدهشة أنهم يرقصون على تلك الأغاني الحزينة الكئيبة ولا يرون فيها حزنا، ولا كآبة، لاعتيادهم سماعها وإرتباطها الوثيق بحياتهم، فإذا غنى المغني قائلا (يا حبيبي خائف تجفاني)، وكان هذا المقطع الأخير الذي يرددونه مثل الكورس، المسرحي وغناها المغني بصوت عالي وترديد شجي ناعم، طرب الكل، واشتد الرقص، واشتعل النظارة حماساً، ونسى كل نفسه، في موجه طرب راقص، فيعرف المشاهد أن هذا الشعب قد وطد نفسه على قبول الحياة، كما هي في غير مأثورة وكان له في آلامه الدفينة البعيد القرار نعم السلوى، عن الحاضر، ونعم العزاء، عن الآلام والمتاعب، وتلك هي نعمة الاستسلام والحنين، ومظهر الاستهتار بألم طال، وتأصل فأنقلب فرحا ونعيماً!!.
ونفوس السودانيين، واضحة، واسعة، وضوح الصحراء، وسعتها، وخلقهم لين صاف، لين ماء النيل، وصفاءه، وفيهم رجولة تكاد تقرب من درجة الوحشية، وهم في ساعات الذكرى والعاطفة يجيش الشعور على نبرات كلماتهم، وسيماء وجوههم، حتى تحسبهم النساء والأطفال، وتلك ميزات لا مكان لها في حساب العصر الحاضر، وإن كان لها أكبر الحساب في نفوس الأفراد الشاعرين وفي تقدير الفن والشعر والحضارة...
معاوية محمد نور جريدة مصر العدد 1030 - 17 أكتوبر 1931م
| |
|
|
|
|
|
|
Re: في الخرطوم .. خواطر وذكريات محزونة بقلم : معاوية محمد نور (Re: Murtada Gafar)
|
الأخ عبد الغني....
هل من مزيد؟؟ حقيقة الغرض الاساسي من هذا البوست ان اجمع اكبر قدر من كتاباته وهو غرض شخصي!! أليس جميلاً ان اعترف؟؟ تمنيت ان امتلك المقدرة علي ان اوثق له اكثر لكني غير كفؤ لذلك لضعف في مقدرتي الفنية وعدم امتلاك المصادر...
شكرا لانك مررت من هنا وكلنا ينتظر المزيد!!
الأخ مرتضي جعفر...
أثلجني ان ما كنت أعتقده في شخص معاويةوكتاباته وانا في المتوسطة وافق ما يعتقده عنه احد اعلامنا الكبار, الاستاذ محمود محمد طه.. أو كما كان يقول والدي الشيوعي عند ذكره بحب "راجل مفكر ياخي".. ننتظر المزيد من الجميع... فانا ايضاً اتوق لذلك
| |
|
|
|
|
|
|
Re: في الخرطوم .. خواطر وذكريات محزونة بقلم : معاوية محمد نور (Re: مدثر محمد عمر)
|
معاوية محمد نور (1) تجربته في ضوء تجربة إدوارد عطية أحمد محمد البدوي- العدد رقم: 5299 2008-03-20
حين عمل إدوارد عطية مدرسا بكلية غردون, كانت صورة معاوية محمد نور في مرآة أستاذه: أنه فتى " أنيق المظهر وامض العيون," في الثامنة عشر من عمره, استرعى انتباهه من أول يوم , حين سمع معاوية يستدل بنصوص من برنارد شو وأناتول فرانس حفظها عن ظهر قلب, فظنه يافعا مدعيا يتباهى باستعراض معلومات قليلة استعراض الغر السطحي, ولكن ما أثار دهشة إدوارد أنه حين عجم عود معاوية, وجد معرفة عميقة, يكمن وراءها عقل ناقد ومتين, ولهذا عده من بين كل طلابه الواعدين أكثرهم تالقا. ويتحدث عن أثر ذلك على نفسه في كتابه: عربي يروي قصته: "... شعرت نحوه بتعاطف عميق...هو وأنا التقينا في ذلك الموطن العظيم: الأدب الإنجليزي.. آتيين من مكانين مختلفين من الدنيا, أنا أقمت هناك منذ أمد, وهووافد جديد." والحديث عن الفروق مستمد من أن عائلة إدوارد انتقلت من المذهب الأرثوذكسي العريق, إلى الالتزام بالمذهب البروتستانتي, فصارت تدين بالمسيحية على النهج الذي تسير عليه إنجلترا.ووالد إدوارد هو سليم عطية: طبيب يعمل في السودان منذ أيام كتشنر, مما يؤكد أنه ذو صلة وثيقة بالإنجليزية لغة وأدبا وحضارة, بحكم الإرث العائلي والتربية, والجو والصلات والعمل, ومنحى الحياة, في حين أن معاوية ينتمي إلى ظروف عربية إسلامية سودانية مباينة ومتميزة. سوداني آخر لا يقل نبوغا عن معاوية, هو عبد الله عشري الصديق, زميل معاوية في السكن بحي الموردة, وفي الدراسة بكلية غردون, والجامعة الأمريكية ببيروت, كتب ذات مرة في مجلة الإذاعة السودانية عن معاوية, فقال: " كنا نتعشق القراءة إلى درجة الجنون, فما كان مجلسنا ليخلو من الكلام في الأدب, بل الكلام في كل ما هو جديد في عالم الفكر, وكثيرا ما يحتدم الجدل فيصل إلى درجة الغليان وربما المقاطعة لبضعة أيام, تعود بعدها المياه إلى مجاريها.. وفي الكلية ربط بيني وبينه إعجاب المستر إدوارد عطية.. وهو أستاذ التاريخ يومذاك, حتى أنه كان يتمنى لو كنا نتلقى العلم في بلاد الإنجليز, وأعتقد أن إعجابه بمعاوية كان يعود إلى تفوق معاوية في كتابة الإنشاء الإنجليزي, وبعض المقالات التي كان يطلعه عليها" ولكن معاوية دخل كلية الطب( مدرسة كتشنر) استجابة وإذعانا لموقف العائلة والأساتذة, وقضى فيها عاما كاملا, وفي السنة الثانية تمرد بل بلغ تمرده مرحلة الغليان, برفض مواصلة الدراسة, مما يعزوه عبدالله عشري إلى اشمئزاز معاوية من منظر الجثث الآدمية التي أخضعت للتشريح. ولكن السبب الحقيقي يبدو أشد تعقيدا, وبلغ التمرد مداه بهروب معاوية إلى مصر, وتلك كبيرة مزعجة للسلطة الإنجليزية في السودان. بين أيدينا رواية إدوارد عطية: "بلغني أن معاوية ترك مدرسة كتشنر الطبية وفر إلى مصر, مما صدم عائلته وأقلقها للغاية,.. ومصر يومئذ تصنف سياسيا من قبل الحكومة على أساس أنها تابو محرم. الطالب الهارب بحثا عن فرص التعليم العالي, يمكن أن يوصم, عن طريق الخطأ, بأنه غير موال للحكومة, علاوة على أن تخلي معاوية عن الدراسة في مدرسة كتشنر الطبية, وبحثه عن فرص دراسة في الخارج, يترتب عليه فقدانه فرصته في مطالبة حكومة السودان بضمان وظيفة له. ولهذا ذهب خاله إلى مقابلة مدير التعليم مستنكرا حماقة ابن أخته وجحوده, وملتزما بالذهاب إلى القاهرة, وإعادة الأحمق الصغير. ..في القاهرة التمس خاله من وزارة الداخلية أن تساعده. ..فظفر بمساندة الحكومة المصرية, وجرى اعتقال معاوية: الآبق القاصر, وقضى ليلة في حراسة الشرطة, وفي اليوم التالي سلم لخاله في القطار العائد إلى السودان". هذه الرواية تستحق أن ننظر إليها في ضوء رواية عبد الله عشري, لأن رواية إدوارد لا تخلو من توخي التعبير عن الموقف الرسمي للحكومة السودانية (الإنجليزية)(عام 1945) وملابسات ذلك الموقف, في حين تبدو رواية عبد الله عشري (1965) متحركة في مدى من الحرية, معبرة عن صديق ملازم, وصنو روح ومعاصر قوي الأواصر, مدرك للواقعة,وذي دراية, وهو بمنجاة من أسر الجانب الرسمي ومقتضياته. يقول عبد الله عشري الصديق: " لم يجد أمامه إلا سبيلا واحدا هو الهروب إلى مصر,.. وماكاد يستقر في مصر, حتى عملت الحكومة على إرجاعه, وكانت تخاف من أولئك الشبان الطموحين,..وطالما لم تشأ الحكومة الظهور أمام الملأ, بأنها تتدخل في شؤون الناس, وتحارب التعليم, فقد عمدت إلى بعض وسائلها, وهي إلقاء المسؤولية على عاتق ولي أمر الشاب الهارب, فأرسلت المرحوم الحاج خالد محمد عثمان خال معاوية, إلى مصر ليعيده إلى السودان, وهكذا سافر الرجل واستعان بالبوليس على إرجاع معاوية للسودان, وقد ذكر معاوية كيف أنه قضى ليلة كاملة في سجن الأجانب في مصر, قبل أن يركب القطار من محطة القاهرة, كما ذكر أن تلك الليلة كانت أسوأ ليلة في حياته, وقال إنه قضاها واقفا على قدميه وسط المجرمين العتاة, وبالقرب من جردل الأوساخ". الفرق بين الروايتين يبدو في أن خال معاوية لم يذهب من تلقاء نفسه إلى القاهرة, وإنما أملت الحكومة عليه السفر وإعادة معاوية. وأن الاستعانة بالشرطة في القاهرة كانت استجابة لطلب من حكومة السودان. إثر عودته إلى أمدرمان, ارتطمت كل الجهود على مستوى العائلة والمقربين بصخرة الرفض, فامتنع عن مواصلة الدراسة في كلية الطب, وإن لم يكن من المتاح التحاقه بجامعة القاهرة, فله متسع في الجامعة الأمريكية ببيروت. نعرف من وثائق المخابرات في السودان: مكتب الاتصال العام, عام 1932, على أيام المستر بني والمستر إدوارد عطية, حال الطلاب السودانيين في الجامعة الأمريكية ببيروت ( وكانت تصنفهم حسب قبائلهم. ومن بينهم أول رئيس وزراء, وأول مدير للجامعة, وأول رئيس لمجلس رأس الدولة في السودان المستقل): 1:من تخرجوا ويعملون الآن بالتدريس في كلية غردون: محجوب الراوي,سوداني متوطن:جده مصري,(1924-1928) عبيد عبد النور , حربيابي من رفاعة (1924-1928) عبد الفتاح المغربي, سوداني جده مصري (1924-1928) محمد عثمان مرغني, رباطابي من الدويم (1927-1930) إسماعيل الأزهري, بديري من كردفان(1927- 1930) نصري حمزة, ركابي من الكوة (1929- 1930) عوض ساتي, دنقلاوي من الدويم (1929- 1932) 2: من لا يزالون في الجامعة وسيتخرجون بعد أربعة أعوام من التحاقهم بالدراسة, وهؤلاء لا تكتنف مستقبلهم أي صعوبة. حسب تعبير المخابرات, لأنهم موفدون من قبل الحكومة مثل إخوانهم الذين أكملوا دراستهم وعادوا: مكي الطيب شبيكة, رباطابي(من الكاملين)(1931) نصر الحاج علي, جعفري( من أمروابة) (1931) عبد الحليم علي طاهر, جعلي (1932) أحمد المرضي, جعلي (1932) 3: من رفضوا التوظف في حكومة السودان, ورغبوا في إكمال دراستهم الجامعية: معاوية محمد نور , جعلي من أم درمان ( 1928-1931) وعبد الله عشري الصديق, شلكاوي,وابن ضابط قديم , يقطن أم درمان, (1929-1832) وهذا يدل على أن معاوية هو أول سوداني يلتحق بالجامعة الأمريكية في بيروت على حسابه الخاص, فقد كان كل من التحقوا بالجامعة قبله أو في عام التحاقه بها, جميعهم موفدين من حكومة السودان. عاصر إسماعيل الأزهري وهو في عامه الأخير, ومن جيله في العام التالي له:1929 : عبد الله عشري الصديق الذي كان مثل معاوية يدرس على حسابه الخاص. وعوض ساتي والنصري حمزة. في حين التحق مكي شبيكة ونصر الحاج علي بالجامعة في العام الذي تخرج فيه معاوية. ومعاوية هو أول من نال درجة جامعية : بكالوريوس في اللغة الإنجليزية. تجمع المصادر السودانية كلها على أن معاوية تعلم على نفقة السيدة والدته, يقول عبد الله عشري: " تصدت المرحومة والدته لتحمل نفقات تعليم ابنها في بيروت, والسير معه إلى نهاية الشوط, فكان أن عمدت إلى ما عندها من مال ومصاغ, وأخذت ترسل إليه ما يكفيه حتى أكمل دراسته". ويضيف عبد اللطيف الخليفة معلومات مهمة في مذكراته: والدة معاوية ورثت عن والدها: محمد عثمان الحاج خالد,عامل المهدية وسفير حكومة المهدية لدى إمبراطور إثيوبيا, حيث عاد بكنوز من الذهب والنفائس الأخرى, وكان نصيب والدة معاوية كبيرا". وكل ذلك كفل لمعاوية الالتحاق بالجامعة والعيش في بيروت ثلاث سنوات, قضاها مقبلا في نهم على القراءة والبحث, لا يشبع ولا يفتر,ونعرف منه أنه اهتدى إلى قراءة البحث, وذلك باستقصاء كل الكتب التي تناولت موضوعا محددا, ويروي عن تجربته أن فهمه استثنائي لما يطلع عليه, يفهم بأكثر مما يتوقع هو أن يفهم.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: في الخرطوم .. خواطر وذكريات محزونة بقلم : معاوية محمد نور (Re: مدثر محمد عمر)
|
يتحدث عن رحلته الى السودان بعد غياب: "ذهبت الى السودان بعد غياب عامين ونصف، وكنت أمني النفس في الطريق أن أرى وطني على خير ما يود الوطني لبلاده من مظاهر الحياة ودلائل التقدم وإوإطراد سبل التحسين والعمار. ذهبت الى السودان إذاً كما يذهب كل وطني إلى وطنه بعد غيبة طويلة أو قصيرة ، وفي ذهني صور مما رأيت في الشام وفلسطين ومصر فماذا رأيت؟. رأيت أرضاً واسعة منبسطة تلمع فيها الشمس نوراً خاطفاً وترسل من لهيبها ناراً محرقة ورأيت الأهلين يمشون فرادى وجماعات قليلة ، ساهمي النظر ضعيفي الأجسام متئدي الخطى من أثر الجو المحرق، والتغذية الضعيفة، والحميات الوافدة ، وأوامر الرجل الأبيض العاسفة.
فهذا الصديق قد عرفته قبل أعوام كثير النشاط، جم المعرفة، شديد التوثب، ماله الآن خبا وضعف نشاطه وحل الوجوم والخوف مكان الوضاءة والشجاعة. وذلك البنيان ماله تهدم وعفت آثاره وأصبح شائخاً يعشش فيه البوم ويوحي بالكآبة والحزن . وهذه معاهد الدارسة قد عرفتها في أيامي أكثر حياة وطيبة ونشاطاً مالها أصبحت قليلة العدد باهتته اللون ليس لها ذلك الإنفاق السابق أو الأمل الباسم ؟
مالي أرى كل شخص عرفته أقل حيوية وأكثر ضعفاً ؟ مالي أرى الوجوه واجمة الألسنة معقولة ؟ مالي أرى خالي وعمي وصحبي كل منهم كئيب حزين. ! ما لهذه الأرض الآمنة قد حل بها الخراب ! ما لهذه الإنسانية الوادعة المسكينة قد سرقت منها حيويتها ! م لهولاء الرجال الذين كنت أعرفهم في شبابهم أذكياء بسامين قد استحالوا أمواتاً لا ينطقون الإ همساً ولا يتكلمون إلا وهم خائفون وجلون !
هذا سوق امدرمان، مازال كل |"؟|شي فيه كما كان قبل أعوام، فبائع القش في مكانه القديم، وكمساري الترام هو هو إنما أقل حيوية ونظافة، وبائعو الذرة والتمر كلهم في أماكنهم الت كانوا فيه قبل عشرات وعشرات الأعوام من عهد الحكومة المهدية جالسين ينظرون إلى الأفق ولي من بيع أو شراء. و السعيد السعيد من ظفر بقوت يومه.، رطل من الذره أو قطعة من اللحم.
فالتاجر والمزارع وصغار الصناع كلهم ساخط غاضب لا يصرح بسخطه أو غضبه الإ في همس وفي حوز أمين. لأنهم يعرفون أن الرجل منهم يستطيع ان يبيت على الطوى ويبكي أولاده جوعاً ولا يستطيع ان يؤخر ما عليه للحكومة من الضرائب المتعددة والعوائد المتنوعة.
فالمزارع الذي يعمل طيلة يومه تحت وهج الشمس وفتك الملاريا به تراه عظاماً نخرة من طول المرض وضعف التغذية وسوء السكنى وجهله بأصول الصحة العامة.
والموظف الوطني الذي يناول أحره الزهيد يصرفه على عائلة كبيرة كلها معتمدة عليه. والتاجر لا تبقى له الحكومة من الأرباح إلا ما يعيش به عيشة الكفاف ، هذه حالة الإنسانية العربية السودانية التي تسكن ضفاف النيل، عمل متواصل صعب تحت جو يحرق الاعصاب مملوء بالأوباء والحميات، مسكن لا يصحل للحيوانات فضلاً عن بني الإنسان. صورة عامة لا نشوز فيها ولا شذوذ اللهم إلأ حياة الرجل الأبيض وسط هذه الإنسانية السوداء . فالرجل الإنجليزي مهما صغرت وظيفته يحيا وينعم في أرض السودان بآخر ما أعدت الحضارة الأوربية من وسائل الراحة وسل التنعم و نواحي الرياضة والتسلية. فهو يسكن في فيلا تحوطها الجنان والخضرة من كل جانب، بها ميدان للتنسن وجراج للإتومبيل " ومرواح" تخفف من وطأة الحر "وثلج" في أيام الصيف يحيط بالجدران. ويلعب البولو في سهول أرض الرجل الأسود. وله من الخدم والحشم العدد الوفير. نهاره عمل بسيط في مكاتب أنيقة، وليلة رياضية وتسلية يتانق فيها ويحيطها بترف ورفاهية . فاذا ما فرغوا من من التنس أو البولو فهناك نواديهم الكثيرة يسمرون فيها الى ساعة متأخرة من الليل والتي يكلف الواح منهم الخزينة السودانية ما يترواح بين عشرة اللآف من الجنيهات يحيون الحفلات الراقصة، ثم نوم هنيء مريء وأحلام سعيدة هانئة ! حقاً إن عبء الرجل الأبيض لعبء ثقيل فادح!"
المصدر: جمعية الصحفيين السودانيين- السعودية معاويــــة نـور التاريخ: الأربعاء 26 أبريل 2006 الموضوع: الصحفيون السودانيون
| |
|
|
|
|
|
|
Re: في الخرطوم .. خواطر وذكريات محزونة بقلم : معاوية محمد نور (Re: مدثر محمد عمر)
|
في القطار
مأساة
بعد أن قطع القطار صحراء العتمور العاتية ومافيها من جبال متلفه ورمال بيضاء منبسطة وأحجار سوداء متناثرة، في لج ذلك الخضم الذي لا تقف منه العين على شيء من صور الحياة النابضة. وسار ينساب في أرض لا تحوجه الى مثل ذلك الكفاح والنضال القوي، بل راح راكضاً في إتساق وسرعة على ضفاف وادي النيل ، وكنت وكلما أمعنت النظر وجاشت بي الخواطر والذكر، خيل الى ان لي تاريخاً مع هذه الصحراء وأنه محال أن تكون هذه المرة الثانية أو الثالثة التي أشاهد فيها هذه الصحراء لما أشعر به من القرابة والعطف والإيناس لهذه الحجارة التي تترامى بالقرب من سير القطار وربما جنح بي الفكر فخيل إلي أنني قد رأيت كل هذا وعرفته قبل حياتي الراهنة، وإلا فكيف أفسر هذا العطف وهذه الإلفة وهذه القرابة الروحية التي هي أشد من كل عطف وقرابة وإيناس ! والقطار سائر الى أن إقترب من مدينة شدني بعد أن مر بمدة مدن أخرى، والمسافر لا يرى غير السهول الواسعة حينا، والأشجار المناثرة الكثيفة حيناً آخر. وقد يرى بعض الأحيان أرضاً خضراء ، ولا يرى في غيرها سوى الرمال والحصى. غير أن النظر الى شجرة من هذا الشجر الذي تجده بين حين وأخر واقفاً متدلي الأغصان في أسى وإكتئاب وصبر وحشه لا تخالطها بشاشة أو يمازحها فرح، لحري بأن يحمل الإنسان الى الإعتقاد بنضوب هذه البقاع من الحياة كما عرفها وذاقها بين المدن الصاخبة، وأنفاس الإنسان النابضة ووثبة الحياة الدافقة. كل هذا وبعض أصحابنا المسافرين المترفين في شغل عن الصحراء والسهول والأشجار وحديثها : هذا يدخن سيجارة، وغيره يقرأ كتاباً، وثالث نائم، وغيره وادع حالم ! . وما أن يقف القطار عند قرية صغيرة يحسبها الإنسان خلاء وقفراً قبل ان يطلع عليه بعض أهليها من شبان وشيب ومعهم أشياء من الطعام يرغبون في بيعها الى المسافرين أو أنواع من الخزف والآنية.
ووقف بنا القطار في هدوء طاريء في محطة من المحطات بعد أن إحتاز مدينة شندي وكنت تسمع المسافرين ينادون بعضهم بعضاً "أقفل الشباك " وأقفل الباب وبين قصف الرياح وأصوات المسافرين - ذلك لأن الرياح قد إبتدأت تقفصف بشدة وتذر التراب في العيون والعاصفة تولول كالشارد المجنون، والشمس تختفي بين حين وآخر لان بالسماء الداكنة غمام يتجمع ويقلع حينا، ثم يتلاشى حينا آخر، وكانت هنالك إمراة تجلس على بعد ثلاثة أمتار من القطار ناظرة الى الصبية الذين ينادون بملء أفواههم بما عندهم من طعام وشراب لجماعة المسافرين، وكانت تشير على أحد الصبية بين حين وأخر ان يجري هنا وهناك من واجهات القطار منادياً "بيض مستوي" بي ض مستوي" وهم يمدون كسرة الباء مداً طويلاً تكاد تخرج معه حناجرهم من شدة الصياح.. كل ذلك الصراح كان من غير جدوى إذا استثنينا مسافراً واحدا إشترى من أحدهم بيضاً بقرش صاغ ، ولشد ما كنت ترمقه عيون آخرين حاسدة حاقدة ! أما ذلك الطفل الصغير فقد ظل في ندائه باجتهاد وصبر من غير أن يلاقي نجاحاً ! وكانت صرخاته تشتد كلما مر الزمن ولم يبع شيئاً من شايه الذي يحمله في آنية تعافها النفس ، وأكواب يصعب على الاسنان الشرب منها ولقد كان يلبس هذا الفتى الصغير جلباباً أبيض قد استحال لونه فأصبح أسوداً من كثرة الإتساخ ، وتراكم عليه التراب قاتماً أسود يمشي حافي القدمين ، عاري الرأس ، لم يتجاوز عمره إحدى عشر عاماً ، براق العينين ، دقيق الشفاه في أسى وإكتئاب تطل عليك من نظرته لوعة وشجو دفين. وقد ارتسمت على جبهته وحول شفتيه غضون جاءت قبل أوانها مبكرة لشدة وقوفه على الشمس، وحياة المتاعب والشظف التي يحياها ، كل هذا وقد ترى في وثبته وحركته شيئاً من السهوم الواجم، والخفة المستحبة لا تلبث كثيراً إلا وتنقلب الى إنقباض ولوعة، ولعل خفة الحركة والقفز تتملكه عندما ينسى نفسه وما حواليه، ونظرة الأسى والإكتئاب تعتريه عندما يذكر إخفاقه وبؤسه! وانني لن أنسى ذلك الصوت الذي ظل يردد لفظة "شاي" والناس عنه في شغل ، ولعله هو الآخر في شغل عما يحمل من آنية وشاي، بل كان السهوم في أوجه المسافرين وكأنما تنطلق شفاهه في حركة ميكانيكية بين حين وآخر بلفظة "شا... آ.. ي " وهو يمد فتحة "الشين" مداً تكاد تحسب أن روح هذا المسكين تكاد تزهق مع ندائه الحار ولكنه لم يسمع رداً لصداه ولا مجيباً لندائه إزداد عدوه من أول القطار الى آخره، ومن آخره الى أوله ، كأنما هو الحيوان الخائف الهارب! .. وإبتدأ المطر ينزل رذاذاً في هذا الوقت والقطار واقف ، وصوت الرياح وهدير الأمواج يبعث في الإنسان شيئاً من الخوف والجلال والرهبة .. وبين جيشان الطبيعة وثورتها كنت تسمع صوت هذا المسكين بين حين وآخر منادياً "شـــآآآآآآي"
وأحس الفتى برذاذ المطر يهطل على آنية الشاي وهو لم يبع منها شيئاً ، فازداد حزنه ولقد كان المسافرين في حاجة الى الشاي ، غير أن ما صدهم عنه رداءة آنيته وإتساخ أكوابه، وهيئته حامله وقد كانت تناديه تلك المرأة بين حين وآخر مشيرة عليه بأن يسرع خطاه وان يذهب الى الناحية الأخرى من القطار لعله بائع شيئاً للمسافرين وأخيراً بلغ به التعب مبلغه وبح صوته، غير أنه واظب على ندائه وكأنما القطار بانتظاره الطويل قد زاد من ألم هؤلاء الناس وضاعف أحزانهم وقد برد الشاي وأستمر ينادي ولما تعب ذهب الى تلك المرأة وأراد الجلوس الى جانبها فما كان منها إلا ان دفعته الى ناحية القطار ، ولكنه وقد خارت قواه لم يستطع الصراخ فصار ينادي في شيء من الهمود والإعياء وفقدان الصوت "شاي.. شاي حتى كأنه قد ابتلعته الرياح وصفر القطار معلناً سفرته فذهب هؤلاء الباعة مبتعدين عن القطار وسمعت هذه المحادثة والقطار يتحرك بين تلك المرأة وذلك الفتى . قالت المرأة ها قد خسر الشاي ! من ذا الذي قال لك ضع القرشين في مثل هذا الشاي ومن سيشربه لك الآن ؟ لتنام الليلة من غير عشاء وظلت توبخ وهو ساكت وقد بلغ بها الحنق غايته فدفعته بشده إرتج لها جسم الفتى ، وأخذت منه آنية الشاي، وبعدها أخذ الطفل يبكي وأقتربت منه في عطف واسى وأخذت رأسه بين يديها وخانتها قواها ، فانحدرت دمعة كبيرة من مآقيها ولما رأها الفتى على هذه الحالة إسترد شيئاً من شجاعته وقال له " ولكنك أنتي يا أماه قد قلتي لي أعمل هذا الشاي علنا نربح منه قرشاً ، وقد عملته كما أمرتني !" فأجابته بعد ان نظرت الى عينيه الدامعتين قائله في صوت هاديء تخالطه مرارة دفينة ، " نعم أنا ... أنا السبب أسكت ياولدي الله في وبعد هذا المقطع لم أسمع شيئاً بل رأيت الأم والإبن يتجهان نحو قريتهما في خطى متثاقلة وسكون كئيب ، على حين كان المطر يزداد، والأمواج تصخب والريح تولول وجسماهما يختفيان كنقطتين سوداوين وسط ذلك الظلام ، وإبتعد القطار وصورة ذلك المشهد لا تفارق نظري ، ونغم ذلك الجرس الصارخ المملوء لوعة وأسى "شا...آ أي" مازال يرن في إذني . وإذا بصراخ بعض أفندية القطار يقطع على تفكيري فهو ينادي الجرسون "واحد بيرة بس خلي الثلج يكون كثير ورأيت هناك نفراً من الموظفين الإنجليز وهم جالسون في غرفة الطعام يتكلمون بسرعة ويتبادلون النكات المضحكة ويدخنون بينما القطار في عدوه .
المصدر: جمعية الصحفيين السودانيين- السعودية معاويــــة نـور التاريخ: الأربعاء 26 أبريل 2006 الموضوع: الصحفيون السودانيون
| |
|
|
|
|
|
|
Re: في الخرطوم .. خواطر وذكريات محزونة بقلم : معاوية محمد نور (Re: مدثر محمد عمر)
|
عزيزي، مدثر.. وعزيزي مرتضى..
وللحديث، شجون، وتشعب، بمناسبة حديث الاستاذ محمود، عن عبقرينا معاوية، قال لي أخ عزيز، وهو (محمد علي مالك)، من الأخوة الجمهوريين، ومن تتلمذ علي يدي المفكر، والمربي، العظيم ،والفريد محمود، بأنه كان يحمل الأعمال الكاملة لمعاوية نور، فقال له الاستاذ محمود: أقرأ لي فقرة. فقرأ الاخ محمد علي مالك فقرة من ذلك الكتاب. فعلق الاستاذ عن تلك الفقرة بجملة، موجزة، معبرة فقال:
........(ده احترق)......
( وللحق، فقد بكيت لهذه الكلمة، البسيطة، المعبرة، المعزية)
وطلب من ثلاثة من كبار الاخوان الجمهوريين بزيارة أسرة العبقري معاوية، وطلب منهم ايضاً الكتابة عنه، وبالفعل زار وفد مكون استاذ عبد اللطيف، وإبراهيم يوسف، ومالك، أسرة الأديب معاوية، وكانت اسرة سليلة علم وذوق ودين، وفكر.، وحكى الاخ مالك، بأنه كانت من أروع اربعة ساعات مع اخت معاوية، وكانت ذربة اللسان، وتكلمت عن أخيها كلام العارفين ....
حاليا، أمامي الأعمال الكاملة، لمعاوية نور، طباعة دار الخرطوم، انقل لكم جزء من الفهرس، يعكس اهتمام، وتنوع هذا العبقري:
دراسات أدبية:
1- ركود الادب في هذا العصر 2- الحب في الادب الانجليزي 3- الاتجاهات الحديثة في الفنون 4- فلسفة الفنون والأداب (العلم والأخلاق).. 5- الأدب الألماني خواصه وتطوره.. على سبيل المثال..
في الادب المسرحي:
1- نزعة الدراما في القرن العشرين 2- مصرع كليو باترا، لأحمد شوقي.. 3- فلسفة الدراما، الأدباالمسرحي.. برضو على سبيل المثال، لا الحصر..
في الفن القصصي:
1- الادب العالمي والقصص الفرنسي 2- فتور الأدب القصصي وفلسفة الاقصوصة 3- الاخوة كارامازوف 4- القصص الروسي 5- المقال والقصة في الادب المصري برضو
في الشعر والشعراء:
1- ابو العلاء المعري 2- ابن الرومي 3- ادباء امريكا المعاصرون
بحوث اجتماعية وسياسية
1- العالم بعد نصف قرن 2- فوضى العالم ومسئولية العلم 4- الاستعمار والحضارة
ماذا في السودان
1- ملاحظات عامة 2-الإدارة الأهلية 3- سياسة التعليم في السودان 4- الأهالي بين المرض والصحة برضو، مثال، لا حصر..
الثقافة العامة:
1- فن التفكير 2- معنى الثقافة 3-ساعة مع اندريرا موروا 4- الحب والفن.. 5- شاعرة الرقص... برضو مثال... لا حصر..
صور واقاصيص سودانية
1- ابن عمه 2- إيمان 3- في القطار 4- في الخرطوم 5- ام درمان 6- المكان 7- الموت والقمر
خواطر يومية
1- لا يصح ولا يعقل 2- تكريم النبوغ 3- غاندي 4- ساروجيني نايدو 5- نحن وجائزة نوبل..
هذا جزء مبتسر، من تلك الدوحة، الغريبة، العميقة، لهذا الكاتب العظيم..
همسة: ياريت ننزل (شاعرة الرقص)، لم ارى تحليل، في حلاوته، مثل هذه الرؤية، للرقص...
مع فائق حبي..
| |
|
|
|
|
|
|
Re: في الخرطوم .. خواطر وذكريات محزونة بقلم : معاوية محمد نور (Re: عبدالغني كرم الله بشير)
|
الأخ كرم الله.... الاخوة الجمهوريين احب التصاقهم بسودانيتهم اكثر من كل شخص اخر.... ركز محمود محمد طه علي تلك الفكرة واستطاع ان يجعلها تتجذر في من حوله واحتفائه به غير المسبوق كان ضرب من الخرافة في زمن سطوة اللا وعي فطوبي له وليرقد بسلام...
تعرف؟؟ عندما أقراً لمحمود حقاًاعرف انه ذو ذائقة ادبية لا تخطأ... ويكفيه تعليقه بـ"(ده احترق).. ليقول احد عنه انه شفيف!!
لم استطيع ان احصل علي (شاعرة الرقص) أرجو ان تستطيع انت او رجل شفيف اخر...
كل الاحترام لوعيك العميق
| |
|
|
|
|
|
|
Re: في الخرطوم .. خواطر وذكريات محزونة بقلم : معاوية محمد نور (Re: مدثر محمد عمر)
|
"لا يعرف الكثير منا من هو الأستاذ معاوية نور الكاتب والناقد السوداني الذي مات شهيدا في ريعان شبابه.
انحدر معاوية من عائلة عريقة الأصل، كان جده لأمه (محمد عثمان حاج خالد) أميرا من أمراء المهدية وكان ذا مكانة ونفوذ... مات والد معاوية وكان الطفل يخطو في أعتاب ربيعه العاشر ، فكفله أخواله ومن بينهم الدرديري محمد عثمان الذي كان من الرعيل الأول من المتعلمين في السودان ومن الشباب المرموق في ذلك الحين فقد كان أول سوداني يتولى منصبا قضائيا رفيعا و كان أول قاضي محكمة عليا في تاريخ القضاء السوداني، كما كان من الرواد في الحركة الوطنية في السودان حتى اختير بعد الاستقلال عضوا لمجلس الرئاسة.
كانت حياة معاوية عادية في أول مدراج حياته .. فقد دخل الخلوة ومنها تعلم مبادىء القراءة والكتابة ثم انتقل الى الابتدائية والوسطى بعد أن اجتاز الامتحان بتفوق ملحوظ وظل بها حتى وقع الاختيار عليه ضمن النابهين للانخراط في كلية غردون وفيها بدأ حبه للبحث والتحصيل.. وتملكه حب الاطلاع بدرجة كبيرة حتى صار يدخر كل درهم يحصل عليه كي يشتري به كتابا .. وفي هذاالوقت بدأت ميوله الأدبية تبدو واضحة جلية وبدأ نجمه في عالم الأدب يتألق سريعا حيث كان يكتب في الصحف السيارة والمجلات السودانية ، وكان رحمه الله يذيل كل كتاباته بتوقيع مستعار وهو( مطالع ) وكان طبيعيا أن يلفت أمر هذا اليافع - الذي كان يناقش القضايا الأدبية في الصحف على هذا النحو من التمكن والتقصي والذي كثيرا ما استشهد بكبار المفكرين مثل اناتول وفرانس وبرنارد شو وأضرابهم- كان من الطبيعي أن يلفت نظر أساتذته الذين حسبوا لأول وهلة أنه يتعجل الظهور والشهرة، فعمدوا لمناقشته في الموضوعات التي كان يكتبها في الصحف فهالهم من تفهم عميق وادراك واع لأفكار أولئك الكتاب والمفكرين الذين طالما أخذ آثارهم بالتحليل والمناقشة.
بعد أن أكمل معاوية دراسته الثانوية بكلية غردون في عام 1927 اختير لدراسة الطب، وكانت وقفا على قلة مصطفاة من النابغين من طلبة المرحلة الثانوية وكانت وقتها حلما يراود كل شاب سوداني لما تتيح لخريجيها من مكانة عالية ومركز مرموق وراتب وفير.. ولكن معاوية كان من طينة أخرى، اذ سرعان ما جاهر بعزوفه عن الالتحاق بكلية الطب وما تتيحه أمامه من مستقبل وضاء، ذاكرا أنه يريد مواصلة دراسته الأدبية التي علق بها والتي تملكت شغاف قلبه ووجدانه .. وكما كان متوقعا أحدث عزوفه عن دراسة الطب دويا هائلا في محيط أسرته وكان الجميع يتساءلون عن ماهية هذا " الأدب" الذي يفضله عن الطب والمستقبل العريض، حتى حسبوه معتوها أصابه مس من ذهول ، وتحت ضغط عنيف من أهله واساتذته وزملائه انخرط معاوية في كلية الطب بجسمه فقط.. فقد كانت روحه تهوم في آفاق بعيدة كل البعد عن ما يتصل بالدراسات الطبية ، وان ذهبنا الى القول كان معاوية أول سوداني يتصل اتصالا حقيقيا بروح الغرب.. لقد وجد معاوية هذا الشاب العربي الافريقي الذي نشأ في بيئة جاهلة لم تأخذ الا اليسيرمن أسباب المعرفة ، وجد معاوية في الادب الانجليزي ضالته المنشودة ووطنه الذي يروي ظمأ روحه ووجدانه برغم البون الشاسع بين الوطن الروحي وواقع وطنه الذي يعيش فيه.. بين دنياه البعيدة غير المنظورة التي كان دائم التطلع اليها بشغف وطموح ، وبين دنياه التي يعيشها كواقع لا مهرب منه ولا مفر ( بلده وعائلته وتقاليده ) ..
لم يجد معاوية مفرا من التفكير في العوده الى بلاه عساه يجد موردا للرزق يعينه على الحصول على دواء يشفي به سقمه، طعامه ، ويشفي حر جوعه ، وأيدي حانية تخفف عنه آلامه فضلا عن أنه ربما أتيح له العمل في كلية غردون فيواصل السعي والتحصيل ويعمل على نشر المعرفة بين قومه وأهله. ولكن هذه الآمال لم تكن الا سرابا، فما ان وصل السودان حتى تلاشت أحلامه واستهدف بحرب لا هوادة فيها من السلطات الأجنبية طبقا للمخطط الرامي الى محاربة المهاجرين لطلب العلم في الخارج وكانوا يعتبرونه أحد الخطرين على الأمن الذين يحسن التخلص منهم..
وأخيرا وبعد عناء شديد عرض عليه منصب سكرتير الغرفة التجارية في السودان ، ولكن هذه الوظيفة لم تكن لتلائم ميوله الفكري ولم يؤخذ بعين الاعتبار تعليمه وتخصصه الذي عانى من أجله. فكر معاوية وقدر وعاوده الحنين لدنيا الفكر ، و ضاقت به الحياة وقرر الرحيل الى مصر مرة أخرى ليبحر في عالم الفكر والأدب. ولكنه عاد هذه المرة وهو يتميز غيظا وحقدا على السلطاب الأجنبية التي تعمل على قتل مواهب الشاب السوداني وحرمانه من العيش كمواطن مقتدر .. . وفي مصر بدأ كتابته بغيظ وشراهة قاصدا السلطات الحاكمة وكانت سلسلة كتاباته بعنوان (( سوداني ينظر الى سودانه)) تكشف جانبا من شخصية معاوية .. ألا وهي شخصية معاوية الوطني المحب لبلاده وشعبه. كتب معاويه الكثير وفي كثير من الصحف المصرية .. كتب عن القهر و الظلم والجهل وما شابه،
كتب الكثير لتوعية شعبه وشباب سودانه الحبييب واستمر هكذا يصل الليل بالنهار قارئا وكاتبا يغالب متطلبات العيش حتى وهن ذهنه الوقاد واعتل جسده المكدود فسقط فريسة لمرض عقلي في 1935، وانه لمن المرجح أن اختلال قواه العقلية جاء ناتجا لفشله في أن يوفق بين حياته وطموحه الفكري وواقع بيئته (( على ما بين الاثنين من تباين جلي وقروق شاسعة )) دخل معاوية مستشفى الأمراض العقلية بالقاهرة لعدة أسابيع بين ناقصي العقول وهو صاحب (( العقل الكبير الوقاد)) ولما تحسن حاله بعض الشىء رجع مرة ثانية الى بلاده يحمل مأساته .
مارس معاوية حياته الطبيعية في السودان، ويقال انه كان يحمل مصحفا بين ثنايا جلبابه ، يتلو من آياته البينات ويجتلي معانيه ويتأمل سحرها وهو يردد في نشوة أنه اكتشف في كلام الله معاني طالما غابت عنه ، كان يتكلم
في بعض الأحيان بغموض شديد وكان يميل الى الوحدة والعزلة، حيث كان يقضي كل وقته في المنزل وحيدا
بعيدا عن دنيا الناس ، عمل أهله جهد طاقتهم لانتشاله مما هو عليه(( وهنا جاءت الطامة الكبرى )) ، حيث عرضوه
على فقيه عسى أن يشفيه من المرض، ولكن هذا الفقيه لم يكن الا دجالا، فأخذ يعالجه بالأعشاب وتلاوة الطلاسم ولما لم يجد
تحسنا في حالته أخذ يمزق جسده بالسياط زاعما أنه يخرج الأرواح الشريره القابعة في جسده. وكان طبيعيا أن تزداد
حالته سوءا، ففقد قواه العقلية تماما وأخذ يتهاوى تحت لهيب السياط الى أن انتقلت روحه الى بارئها في أواخر
عام 1941. وبذا خبا الضوء اللماح وانطفأ وهج البارقة التي لا حت في سماء الفكر.
هذه لمحة خاطفة لحياة ناسك الفكر الأستاذ معاوية محمد نور منصور.. هذا الفتى العربي الافريقي الذي تبدى
كالشهاب الذي سرعان ما هوى ضحية لذهن متقد و طموح لا حدود له ، وبيئة جاهلة ، وحاكم مستبد من جهة أخرى.
وحين غابت شمس معاوية وسار في مسيرة الأبد ، بكاه الأدباء والمفكرون، ورثاه العقاد بقصيدة تفيض لوعة وأسى .
وكما عاش غريبا كان زاده الجحود والنكران ، مات معاوية . و ياليت معاوية لم يمت.. لكان نجما مفردا في عالم الفكر العربي على حد تعبير استاذنا العقاد.. رحمهما الله جميعا
لقد قام الأخ الرشيد عثمان خالد وبمساعدة عمه المرحوم السبكي خالد بجمع كل مخططات معاويه والتي بعضهاكتب بدمه على حائط الغرفة التي كان يحبس فيها . جمعت في كتاب دراسات في الأدب والنقد وطبع في دار التأليف والنشر - جامعة الخرطوم عام 1970 "
كتاب دراسات في الادب والنقد مؤلفات الاستاذ معاوية محمد نور أعده للنشر : الرشيد خالد عرض وتقديم : أمنية نقلاً عن منتديات النافذه- كندا
| |
|
|
|
|
|
|
معاوية محمد نور أبو الملكية الفكرية في السودان!! (Re: مدثر محمد عمر)
|
"هل تعرفون من هو أبو الملكية الفكرية في السودان؟ إنه المفكر الاديب المثقف الرائع الذي جاء قبل أوانه ورحل قبل أوانه معاوية محمد نور، الذي كان متوهج الفكر متقد العقل حتى احترق عقله في ظلمات التخلّف والجهل التي كان يعيشها هذا المجتمع في ثلاثينات القرن الماضي. * والحديث عن معاوية نور لا يكفيه عمود أو مقال واحد، لذا سأكتب فقط عن علاقته بالملكية الفكرية، فهو من اوائل المثقفين في الوطن العربي الذين تحدثوا عن السرقات الادبية والفكرية، وقد نشر عدداً من المقالات في الصحف المصرية حينها، كاشفاً سرقات أدبية لكتاب كبار وشعراء وأدباء في المجتمع المصري ناقلين عن الادب الانجليزي أو الفرنسي مستغلين جهل القارئ بهذا النوع من الأدب.. كما كتب عن حقوق الملكية الفكرية، كيف أن الغرب يحترم كتابه ومؤلفيه بإعطائهم مقابلاً مادياً عن كل كلمة يكتبونها، ودعا أن يُقيَّم المجهود الفكري للكاتب تقييماً مادياً، وبذلك يكون معاوية نور أول سوداني -وقد يكون أول عربي- تعرَّض لموضوعات الملكية الفكرية، "
بقلم الاستاذة| أمل هباني نقلاً عن موقع السودان اونلاين
| |
|
|
|
|
|
|
معاوية وبليك/ العبقري والشهرة !! (Re: مدثر محمد عمر)
|
معاوية وبليك/ العبقري والشهرة الفاتح ابراهيم احمد هل الشهرة ضرورية للعبقري؟ يجيب الشاعر الإنجليزي وليم بليك على هذا السؤال قائلاً: "ان الشهرة ليست ضرورية لصاحب العبقرية لان الإنسان يعيش وحيداً ويموت وحيداً فلا ينبغي ان ينسى وحدته الأساسية ويعيش في وهم علاقاته الاجتماعية". وإجابة بليك تنبع من سيرته الذاتية وحياته الشخصية وتعكس الظروف التي واجهها في موطنه.. فبالرغم من أن بليك من اكبر شعراء الإنكليز فأنه عاش مغموراً ولم يعترف له بالنبوغ حتى من بعض أصدقائه.. بل اعتبره البعض مجنوناً ولم يكترث بليك وواصل إنتاجه الشعري وقال في إحدى قصائده انه يمتلك كل ما يحتاج إليه في حياته. عدد بليك ما يملكه وهو الغبطة العقلية والصحة العقلية وأصدقاء العقل وزوجة تحبه ويحبها. قال أنه بذلك يملك كل ما يريد في الحياة بالرغم من أنه لا يملك شيئاً من ثروات الجسد. ولا ينبغي ان يؤخذ ما حدث لوليم بليك برمته حتى يطبق على غيره من الأدباء لأن بليك كان محظوظاً بوقوف زوجته إلى جانبه تلك الفتاة التي عرفت برزانتها ونبلها غمرته بحنانها ولم تكف عن تشجيعه والاعتراف له بالنبوغ. فقد كان دورها رائعاً بحق في حفظ التوازن النفسي لهذا الشاعر الذي صار من أكبر شعراء الإنجليز. فالعبقري يحتاج إلى من يقف بجانبه يدعمه ، ويشجعه، والا فأن التجاهل وعدم الاعتراف له بالنبوغ يصيبه بالعقم والانزواء والجنون وهذا بعض ما حدث للأديب السوداني معاوية محمد نور الذي عاش مغموراً ومات مغمور أو ما يزال حتى الآن مجهولاً من القراء بالرغم من كتاباته المتنوعة الجريئة في الصحف المصرية في الثلاثينات. والكتابة عن هذا الأديب العبقري تعيقها ندرة المعلومات عن سيرة حياته الغامضة. تخرج معاوية في كلية غردون بالخرطوم ثم ذهب إلى مصر ليكمل تعليمه فلم يستطع غير أنه أكمله في جامعة بيروت الأمريكية بدعم من عائلته في السودان وبعد فترة قضاها في مصر رجع إلى السودان وأثر في نفسه ما لقيه من ظروف صعبة بسبب مواقفه الوطنية إبان الاستعمار الإنجليزي. لاحت العبقرية في شخصية معاوية في وقت مبكر جداً من عمره وخلال الفترة التي قضاها في مصر. بعد عودته من بيروت أتصل بالأوساط الأدبية في مصر وغمر الصحف المصرية بكتاباته في السياسة الأسبوعية (1927-1933) وفي المقتطف والبلاغ وفي جريدة الجهاد (1934-1937) كما عمل محرراً في جريدة "الاجيبشيان غازيت) التي تصدر باللغة الإنجليزية. وتناول معاوية في كتاباته نقد الشعر والقصة والنثر. وكانت لمعاوية صلة صداقة قوية بالعقاد الذي رثاه بقصيدة نشرت فيما بعد في ديوان العقاد " أعاصير مغرب" وقد ارسلها لتلقى في تأبينه بالخرطوم يقول فيها: اجل هذه ذكرى الشهيد معاوية فيالك من ذكرى على النفس باقية بكائي عليه من فؤاد مفجع ومن مقالة ما شوهدت قط بالكية تبينت فيه الخلد يوم رأيته و ما بان لي أن المنية آتية و ما بان لي أنى أطالع سيرة خواتيمها من بدئها جد دانية نهضة أدبية وأذا تتبعنا نماذج من مقالات معاوية النقدية تجد انه تلمس الطريق الصحيح لإرساء نهضة أدبية متكاملة في تلك الأيام الباكرة من تاريخنا الأدبي الحديث وذلك بالرغم من قصر حياته والاضطراب الذي عاش فيه .. يقول في إحدى مقالاته عام 1929: " ليس الأدب هو الشعر فحسب، و ما أظن كائنا من كان يقول بذلك.. وإنما الشعر فرع من فروع الأدب. فهناك الرواية، وهناك القصة القصيرة، والدراما.. وهناك البحوث الفكرية والأدبية ذات الصبغة الاجتماعية والفلسفية التقدمية. وقد وجد معاوية ثورة عنيفة على مسألة حصر الأدب في نطاق ضيق من الإنتاج الأدبي وعول على ضرورة التنويع وولوج كل جوانب الإنتاج الأدبي كالرواية والقصة والمسرح.. ونعى معاوية في مقالاته على زعماء النهضة في ذلك الوقت حصر إنتاجهم في المقالات الأدبية فقط. يقول: " ويحزنني أن أقول إن زعماء نهضتنا إلى الآن لم يحاولوا الرواية ولم ينتجوا فيها شيئاً يذكر. ويتلخص عمل كتابنا الناثرين في عدة مقالات نقدية وصفية تنشر بالصحف السيارة ثم تجمع في كتاب وتقدم للجمهور. وأعجب من هذا إذا أردت إن تعرف شيئا عن فلسفتهم الأدبية أو الفكرية الأساسية كما هو الحال عند كبار الكتاب". ومن ليس له فكرة أساسية يصدر عنها فمين به الا يعد من زعماء النهضة. ويمضي معاوية نور يوضح مفاهيمه حول أسس النهضة المطلوبة: " نحن نطلب منهم مقاييس أدبية مبتكرة ونظرة خاصة للحياة والآداب. والآن أنظر معي إلى مؤلفات الأستاذ سلامة موسى والدكتور هيكل والدكتور طه حسين وأحزابهم فهل ترى في جميع كتاباتهم شيئاً مثل هذه الفكرة الأساسية؟ فـ " أوقات الفراغ" للأستاذ هيكل ما هو آلا مجموعة مقالات وليس فيه أي فكرة أساسية". ويتساءل معاوية في مقالة " ما الذي عمله الدكتور طه حسين إلى الآن؟ أعترف بأنه حينما يحلل القصص الفرنسية وينقدها يلذ للقارئ كثيراً أو يدل على قوة نقدية رائعة ولكن هل هذا كل ما نطلبه من زعيم نهضة؟ وقد يقول قائل أن الدكتور طه حسين مؤرخ آداب وناقد وليس بأديب فمالك تطلب منه ذلك؟ فأقول : أين هي مقاييسه المبتكرة في نقد الآداب وكتابة تاريخها؟فأننا نعلم إن كبار مؤرخي الأدب لهم فلسفة خاصة بهم أمثال "تيـن" وسانت بيف وهالام فأين الدكتور طه من هؤلاء وأين هي تأليفه؟ " حديث الأربعاء" وما هو الا حديث عن الشعراء ليس فيه فكرة أساسية." الشعر الجاهلي" نعم فيه فكرة أساسية ولكنها منقولة من المستشرقين أمثال "نواكرة" الألماني ونيكسون الإنجليزي " فلسفة ابن خلدون" هو الآخر ليس فيه فكرة أساسية وانما تحليل فقط وتطبيق لنظرية "تين" في دراسة الرجال فهل مثل هذا الاحتكار لأراء علماء الغرب يجدر بزعماء النهضة؟ وكتاب سلامة موسى " حرية الفكر وأبطالها في التاريخ" الذي كتب عنه بعض النقاد فأسماه كتاب السنة وما إلى ذلك من مثل هذا الهراء المحصن، مأخوذ من كتاب تحرير الإنسانية للأستاذ "فان لون" وتاريخ الحركة الفكرية لمؤلفه "ج ب بري" فأي فضل له سوى فضل الترجمة والنشر؟ هذا نموذج من مقالات معاوية النقدية التي أوردها هنا للدلالة على ثقافته الواسعة وثقته في نفسه المتطلعة لمكان لها في الأوساط الأدبية في ذلك الزمان ويظهر ذلك جلياً في تصدية لقضايا أساسية في الأدب ونقده حتى لكبار الكتاب والأدباء والشعراء. ذكـي جـداً... لا يصـلح وقد كتب معاوية أيضا سلسلة مقالات في أوائل الثلاثينيات في مجلة "الرسالة" بعنوان "أصدقائي الشعراء هذا لا يؤدي" نقد فيها إبراهيم ناجي وعلي محمود طه المهندس.. كما نقد أبو شادي في ديوان "الشفق الباكي" في "السياسة الاسبوعية" عام 1930 قال فيه: "لا يمكننا ان نعرض له في شئ من الجد إلا حينما يكون للشاعر شعر وموضوعات شعرية" وقد حفلت مقالات معاوية بمختلف المواضيع، إذ كتب في الاجتماع والسياسة كما كتب في الثقافة العامة وكتب سلسلة مقالات كانت عبارة عن خواطر يومية ، وكتب مجموعة من الاقاصيص المليئة بالصور السودانية.. وقد لاقى معاوية من الصعاب وضنك العيش من خلال حياته القصيرة بسبب موقفه الوطني ونبوغه الذي ضاقت به البيئة السودانية في ذلك الوقت. يقول الأستاذ مختار عجوبة في كتابه " القصة القصيرة في السودان" ومعاوية الذي طارده الأنجليز وحرموه الاستقرار في السودان وخذله أبناء وطنه ولم يتيحوا له فرصة النمو في داخل بلاده، بل إنهم كانوا يتجاهلون ادبه وصدقه. لقد كانوا دونه طراً فحسدوه فعاش غريباً كطائر يغرد يحمل وطنه بين جناحيه ومع نبضات قلبه باحثاً "عن سودانه".. وما ذنب معاوية إذا كان ذكياً حتى يكتب عنه احد الحكام الأنجليز بأنه"ذكي جداً لا يصلح". وقد كان معاوية في ذلك الوقت يكتب مقالات مسلسلة بعنوان" سوداني يبحث عن سودانه"كما كتب في السياسة الأسبوعية مقالاً تحت عنوان "أحاسيس الحياة في الخرطوم: خواطر وذكريات محزونة". وتعكس هذه المقالات مدى ارتباطه الوجداني بالوطن وهو ما زال فى جامعة بيروت في ذلك الوقت. لقد تركت الظروف الصعبة المريرة التي واجهها أثارها عل صحته النفسية والجسدية خاصة بعد موت أبيه فقد واجه اليتم والفقر وأسلم الروح وهو في ريعان شبابه في حوالي الثلاثين من عمره. مات معاوية قبل أن يكمل مشوار العبقرية الذي بدأه بكل هذا التوهج والجرأة. وهكذا قضى ذلك الأديب. حاربه الاستعمار وصرعه الفقر واليتم والمرض ولم يجد ما وجده " بليك" شاعر الإنجليز لينقذه من الجنون ويعيد إليه التوازن النفسي. مقال للأستاذ | الفاتح إبراهيم أحمد نقلاً عن موقع الجالية السودانية بامريكا.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: في الخرطوم .. خواطر وذكريات محزونة بقلم : معاوية محمد نور (Re: Seif Elyazal Burae)
|
الله يا متوكل....
فرحت حتي فاضت عيناي بالدموع عندما علمت انك تعمل علي ذلك.... كل نوابغنا الادباء عانوا غربتهم.... ولدوا ابكر مما يفترض.... زمنهم لم يجيئ بعد..!!! لا استطيع انا أتخيل احتفاء المصريين بابو ذكري او جماع او معاوية لو كانوا بينهم.... اتمني ان لا تهمل هذا البوست فمثلما كان يقول أبي: " الله بيسألك " .... الله الذي سيسألنا كلنا سيسالك اكثر لانك تعرف اكثر.... ارجوك اكتب لنا ما تستطيعه وكن قريباً... فمعاوية ترك زهور حياته ورحل!!!
| |
|
|
|
|
|
|
Re: في الخرطوم .. خواطر وذكريات محزونة بقلم : معاوية محمد نور (Re: مدثر محمد عمر)
|
الاخ عادل... شكرأ علي اضافتك الجيده... العم بانقا أيضاً يستحق التوثيق... هذا الجيل به حقأ أفذاذ ووطنيين.... أعقدعددا من ورش العمل بمدن مختلفه وفي أحد الفنادق هنالك موظف بالفندق بالغ في احترامي لدرجة انني فكرت:"ما الذي يريده مني هذا الرجل"!! أصبحت نفسيتنا مشوهة او اننا نادراً ما نعامل بهذا الادب!!.... قبيل مغادرتي أخبرني بلهجته الخليجية "تعرف يا أستاذ؟درسني سوداني وكان وقتها كبير في السن... انا كنت طالب مشاغب لكن من يومها بحترم اي سوداني في شخص هذاك الاستاذ" أحسست بالفخر وبالحزن لان ذلك الرجل الذي كان قادراً علي ترك بصمة تدوم اكثر من ثلاثين عاماًربما مات ولم يعد يذكره غير اولاده
| |
|
|
|
|
|
|
Re: في الخرطوم .. خواطر وذكريات محزونة بقلم : معاوية محمد نور (Re: مدثر محمد عمر)
|
منذ العشرينات انتبه معاوية محمد نور لقوة الخيال كطاقة لا تنفد يظل يتغذى منها الابداع وينهل. ومن ثم انتبه للصورة الابداعية باعتبارها الايقونة التي تحمل الاشارات المرئية واللامرئية. التي تنبثق من مفاهيم ترتبط أساسا بالوعي المدرك لأهمية الأشياء وجمالياتها في فضاء الكتابة. وما يتبدى منها كعلاقات تنشأ داخل. النسب اللغوي. وانطلاقا من هذا النزوع المفاهيمي الحيوي تحرك ليؤسس كتابة تأتي من المستقبل وتتجاوز شكل الكتابة الخطابية والارشادية والوعظية والوصفية الغارقة في السذاجة الرومانسية التي كانت سائدة وقتذاك.
ومن ثم انتبه للمكان كوعاء يحتوي الزمن وكمركزية يمكن للخيال والذاكرة الانطلاق منهما للامساك بتلك اللحظات الغامضة التي تتشظى فيها الذات وتتصدع في سعيها لامتلاك الوعي بالعالم والأشياء ومجمل العلاقات الانطولوجية التي تتشابك في النسيج الجمالي.
وبما هو كذلك أصبح المكان بحيرة بركانية تقذف من بواطنها المعاني. وبالتالي انزاح المكان من استخدامه المألوف في النصوص الإبداعية. باعتباره مجرد جغرافيا للمشاهد السر دية. يتحرك بين أشيائها الانسان ضمن علاقة ساكنة وسلبية. لا تعني شيئا سوى وظيفتها. ونهضت علاقات اكثر عمقا بين الانسان والمكان. علاقات نفسية ووجودية وتاريخية وايمائية، في نسيج لامتناهي للنص الجمالي. علاقة تؤسس للامركزية الانسان في العالم وأن الانسان لم يعد وحده امبراطور الأشياء، وتثبت أن للأشياء فعلها الحيوي واشاراتها النابضة بالمعنى، لاحظ هذا المقطع من قصة (المكان) لمعاوية نور. نوفمبر 1931م.
"استجاش احساسه بالمكان، فذكر أن للمكان من كل ظاهرات الوجود النصيب الأوفر من خياله واحساسه، واستولى عليه شعور قوي. يدفع به لتدوين ما يحسه تجده المكان. لكنه شعر أن الموضوع مترامي الأطراف متشعب النواحي لا يستطيع صهره وتركيزه وتبويبه على الوجه الذي يرضيه. كيف يستطيع ذلك والموضوع شائع في كيانه شيوع النور في الفضاء كله).
هكذا استطاع معاوية نور الإمساك بالظاهرة المكانية وادراك فعاليتها والكيفية التي بها يمارس المكان حضوره وقوته المعرفية. وقد أبان هذا النص القصصي مدى التشظي الذي أصاب الذات المبدعة وهي تسعي للسيطرة على الظاهرة. والظاهرة عصية ومتمردة.
وهكذا ينبغي أن تتفتت الذاكرة التي ارتبطت بأفق الإنسان المسيطر ولتأسيس ذاكرة جديدة (قادمة من المستقبل) لتعيد انتاج العلاقة داخل الصورة. ولتصبح السيادة للعلاقات المتعددة والمتشابكة بين الأشياء والظواهر. ومن هذا الأفق المعرفي انطلقت المفاهيم المركزية لمعاوية نور والذي بها ر.ى العالم كفضاء اتصال هائل من الشفرات والعلامات والإشارات المتباينة والمتداخلة. والمتشابكة والتي ينبغي للمبدع أن يشعل خياله الخاص ليضيئها.
ويمكن للدراسة أن تستمر في مزيد من الكشف والتحليل وإضاءة المفاهيم المعرفية التي انطق منها معاوية نور. في تأسيس منهجه النقدي وأسلوبه الإبداعي باعتباره أول من لفت الانتباه للصورة الجمالية للمكان ورائدا حقيقيا للحداثة الأدبية العربية.
يقول معاوية نور في مقدمته التحليلية لقصة (المكان): (هذا النوع من الفن القمي ليس من مهمته تصوير المجتمع ولا النقد الاجتماعي، ولا استجاشة الاحساس والعطف القوي على الخلائق. وليس من مهمته أن يحكي حكاية، وإنما هو يتناول التفاعلا- الداخلية في عملية الاحساس والتفكير عند شخص من الأشخاص. ويربه كل ذلك بموسيقى الروع واتجاه الوعر. كما يعرض لمسائل الحياة العادية المبتذلة. ويشير من طريق اتجاه الى علاقتها بشعر الحياة ومسائلها الكبرى. كما أنه يصور ما يثيره انه شره تافه من ملابسات الحياة فر عملية الوعى وتداعى الخواطر وقفز الخيال، وتموجات الصور الفكرية). هذه النظرة النقدية تحمل في أحشائها ثلاثة مفاهيم مركزية انطق منها معاوية نور لتأسيس منهجية نقدية وابداعية تتطابق ومفاهيم المنهج الظاهراتي الحاشر وتتسامى بها أساليب الكتابة الأكثر حداثة. وقد لخصها الأستاذ غالب هلسا في عدة محاور (1): أولا: التأكيد على عزل الصورة الجمالية من بعدها الاجتماعي الآلي المباشر والتركيز على التجربة الوجودية والفومينولجية التي ترتبط بالوعي المفارق (وهو الوعي المستقل الذي يسعى لإدراك الوجود الأنطلوجي بالحدس المتجاوز للحواس والعقل القصدي)(2).
ثانيا: الانتباه للقوة الكامنة في الأشياء العادية والمألوفة ودعوة الى ضرورة تفجير طاقتها الساكنة باتجاه الأبعاد الجمالية القصية. اي اخراجها من عاديتها وابتذالها الى شعريتها، والتسامي بروحها المندغمة في نسيج العالم. كسياق تتبدى فيه العلاقات كمركزية تسود بين الأشياء. حيث تكمن في نسيجها القيم الخالدة. أو كما اسماها معاوية نور شعر الحياة ومسائلها الكبري.
ثالثا: الإشارة الى الخيال باعتباره طاقة مركزية محايثة تنهض بالممارسة الابداعية كتجليات للمفاهيم الفكرية. وتثبيت لوعي الأنا بتصدعها. وانشطارها الى ذات وموضوع. حيث الذات تدرك ذاتها في الكتابة وبها بوصفها وعيا وموضوعا معا. حيث يقول معاوية نور في ذات السياق (وهو يعرض لذلك الجانب الغامض في تسلسل الاحساسات وإضطراب الميمول والأفكار وتضادها في لحظمة واحدة من الزمان عند شخص واحد من الأشخاص) وهذا ما يمكن تسميته بوعي التصدع الذي ينتج المأساة من خلال ثنائية الانفصال والالتئام. حيث تغدو الكتابة امتدادا للذات وتجاوزا لها في نفس الحين.
إن هذا العقل الفذ الذي يسمى معاوية نور أمس هذه المفاهيم الحداثية تنظيرا وإبداعا منذ أواخر العشرينات من هذا القرن. وقد حقق قطيعة جمالية ومعرفية في شكل الخطاب الثقافي الذي كان سائدا وقتها. فطه حسين اهتم بالمنهى العقلاني في بحثه عن الحقيقة، وجبران التس ذلك بالتأمل والاستبصار. كذلك العقاد وعلي عبدالرازق. وجميع هؤلاء الرواد ومفكري النهضة العربية وقتها اهتموا بمركزية الانسان وقدرته على صنع التأرين. إلا ان معاوية استطاع أن يتمايز ويختلف بإمساكه الخيط السري الذي يربط السو سيولجي بالاستيهامي (قوة الخيال) والتأريخ بالسيمولوجيا (علم الاشارات) ومعنى أكثر من ذلك ليؤسس لشعرية الأشياء من خلال وعى قصدي وموقف فومنيولوجي يعمل على تأكيد التجربة الذاتية التي ترتبط بتصور الانسان لهويته وموقعه من العالم. وادراك المفاهيم الأنطلوجية الشاملة بالمدمر المتجاوز للحواس والعقل. يقول ادونيس في معرض حديثه عن الصوفية بوصفها تجميد الرؤية ابداعية حداثية (3) (لا تعني " الصوفية " هنا، الانفصال من الواقع. إنما هي انفصال عن ظاهره المباشر. من أجل الاتصال بعمقه الكلى. والغوص في أبعاده الداخلية. فيما يتجاوز الغامر الى الباطن. ثانيا تشير العبارة هنا الى التجربة الحية. الى التجريد النفرو. فالصوفية هنا تتجاوز العقلانية ونغامها الى الحياة وحدوسها، لنقل بتعبير آخر، إن كانت الفلسفة تحاكم الحدس. التجربة، بالعقل. المنطق، فإن الصوفية علو العكر تحاكم العقل. المنطق. بالتجربة. الحدس. إن الابداع في هذه الصوفية تلتاني. إنه كما تصفه العبارات الصوفية نفسها. إملاء أو فيض. أو شطح خارج كل رقابة عقلانية، إنه الابد او الذي يصدر عن طور يتجاوز طور العقل).
ان هذا التطابق الأكيد بين مفاهيم معاوية نور المنهجية في العشرينات ومفاهيم أدونيس عن الحداثة الا بداهية في التسعينات هو ليسر بالأمر المدهش. وخاصة إذا عرفنا اتصال معاوية نور بالجزر المعرفي لمفاهيم الحداثة الفكرية والأدبية في منبعها الغربي وهي في بداياتها التكوينية. حيث يقول (4) اهذا النوع من القصص انتشر في أوروبا وعرف منذ عشر سنوات تقريبا حينما أخرج مارسيل بروس الفرنسي روائحه القصصية. كما انه عرف في أتمه واحسنه عند كاترين مانسفيلد وفرجينيا ولف. من كتاب الانجليز. ونور ولا شك أن يكتب وان يعرف في وادي النيل).
إن هذه العبارة الأخيرة هي التي تكشف طرافة هذه المفاهيم المنهجية وجدتها على الواقع الأدبي العربي وقتذاك. وهي التي انبثق منها الأسلوب السردي المعروف بتيار الوعي. والذي فيه تتكثف العبارات بطاقة تعبيرية وايمائية فذة. تجعل قراءتها مفتوحة الاحتمالات. وفيه تتشظى الذات من خلال تقنية ضمير المتكلم الى تعددية الأصوات. ويقوم السرد على المحور التزامني ويغلب على السياق التعاقبي. وهو الأسلوب الذي انتهجه الطيب صالح في كتابة رائعته (موسم الهجرة الى الشمال) وغسان كنفاني واسماعيل فهد فيما بعد منتصف الستينات.
في بداية الستينات (1963) أصدر المفكر الظاهراتي الفرنسي جاستون باشلار كتابه (جماليات المكان) والذي أصبح المرجع الأكثر أهمية عندما يأتي الحديث عن ظاهرة المكان في الأدب. والفلسفة على حد سواء. والذي أوضح فيه ان للمادة خيالها الخاص وان للأشياء قوى معرفية ولدت لدى الانسان احساسا ما بمنطلقات كبيرة كالماوى والدفء والأمان والحكاية واحلام اليقظة. كما أوضح.ن للأشياء احساسا بالوجود يوازي احساسنا به يقول (5) ران نوعا من الانجذاب نحو الصور يركزها. أي القيم. في البيت. فلو تجاوزنا ذكرياتنا عن كل البيوت التي سكناها، والبيوت التي حلمنا أن نسكنها، فهل نستطيع أن نعزل ونستنبط جوهرا حميما، ومحددا يبرر القيمة غير الشائعة لكل الصور المتعلقة بالالفة المحمية).
ورغم أن جاستون باشلار استطاع تطوير منهج خاص به ومتوسع في اللغة التي ينتجها الخيال. انطلاقا من مبادئ هوسرل في الظاهراتية (فومينولوجيا) الا أن معاوية نور استطاع الامساك بهذا الجزر المفاهيمي ووظفه في اكتشاف الأهمية الجمالية للمكان، بما هو موقع تتنامى فيه موسيقى الروح وتتفجر به تفاعلات الوعي والخيال في مطلع الثلاثينات من هذا القرن. لاحظ يقول معاوية نور (وكان إذا قرأ عن مكان أو سمع به تخيله ورسمه في مخيلته، لكن الالفة او الايناس الذي يشعر به نحو تلك الأمكنة ومنعرجاتها يخيل اليه أنه قد عرف ذلك وصحبه ردحا من الزمن. فالحقيقة الباقية كي "المكان " وأننا أحياء من أوائل الأزمان الى أواخر الآباد في صور وأشكال ومواد مختلفة. كلها لها حظ من "الوعي" يختلف ضعفا وقوة باختلاف الأفراد والأشياء وعلى هذا الزعم فللحوائط والمادة السماء والا شجار وعي واحساس من نوع وعينا واحساسنا. الا أنه قليل من الكم بنسبة حظ تلك الأشياء من الحياة والحرية والحركة).
فهل لاحظت محي أيها القارئ العزيز، هذا الوعي الفومينولوجي ( الظاهراتي) المبكر؟ والذي اجتر حه مفاهيميا معاوية نور قبل أكفر من ستين عاما. ونستطيع القول. ومن غير مجازفة. أن كل ما جاء في المتن الحداثي من مفاهيم و.نساق فيما بعد الستينات واخترقت بنية الثقافة العربية. كانت بمثابة التأكيد للحظة الفكرية والنقدية التي بث مفاهيمها الشاب معاوية نور في الثلاثينات من هذا القرن. ومضى. بل وكأن الحداثة الأدبية قوس كبير يمسك احد أطرافه الشاب معاوية نور في مطلع الثلاثينات. ويمسك بطرفه الآخر رموز الحداثة الأدبية في التسعينات. والحيز الزماني الذي يمثله انبعاج القوس، هو اشكالية التوتر والتجريب والاضطراب الذي يتميز بها زمن الإنتقال من مفاهيم سائدة الى مفاهيم جديدة تسعي لت كيد ذاتها وتثبيت رؤيتها للعالم. انها لحظة الحداثة التي استطاع معاوية نور امساك خيطها السري الذي ينسج خلايا التاريخ الثقافي وبها تميز خطابه واختلف عن جيل رواد النهضة. وهذا الخيط السري لا يمكن الامساك به الا من خلال المثوف والرؤية المخترقة واشتغال الحدس الذي يعمل على سبر غور اللحظة القادمة واستحضار غيابها واخراج باطنها ولا مرئيها.
كان ينبغي للقمة السودانية وحتى فيما بعد منتصف الستينات أن ترتبط بمفاهيم المدرسة الواقعية. تلك المدرسة التي جعلت من النص مرآة تعكس الواقع وتمثله بشكل استنساخي زائف كما هو في ذهنية المبدع. وليس الواقع كما هو. والنص عبارة عن وسيلة تعبر عن التزام كاتبه الاجتماعي والأيديولوجي، من شو صارت اللغة أداة وصف وتقرير عن حالات الوقائع بشكلها السطحي. واصبحت الدوال تشير آليا الى دلالات مباشرة. وكل مفردة تتطابق بالمعنى الواحد المقصود. وانسحب هذا الحديث على المكان. الذي يرد في فضاء النصوص فلا تجد غير هذا الوصف التقريري الذي لا يحيل القارئ الا الى نفسه فقط. وإذا كانت هناك حالات دلالية. فلا تتجاوز ذات الأبعاد الاجتماعية الوقائعية الذي انطلق منها الكاتب بقصد ايصالها مباشرة الي القارئ. حيث ان القارئ لهذه النصوص (الواقعية) مفترضا فيه أن يكون متلقيا سلبيا للنص. والكاتب هو المعلم الذي يرشد الى أبواب الحكمة والحقيقة الذي يمتلكها هو فقط. والدراسة هنا لا تريد ~ن تقلل من شرن القصة (الواقعية) التي سادت خلال ثلاثة عقود. بل تعترف الدراسة أنها (القصة الواقعية) كان لها دور لا يمكن تجاهله في تثبيت القصة القصيرة كجنس أدبي وتركيزها في بلادنا بتراكمها الكمي والنوعي. الا انها عبت بخيال أقل. والدراسة تعترف أنها كانت المرحلة التي من خلالها تم تجاوز المفاهيم الأيديولوجية والقيمية التي فت تشد الإبداع الى سلطتها لكي تحاكمه بمعاييرها الجاهزة.
حيث انبثثت مفاهيم الحداثة الأدبية فيما بعد منتصف السبعينات وتحرر الإبداع القصصي من قيوده الثقيلة. وأصبح النص اللغوي عالما قائما بذاته موازيا للعالم القائم. وصارت اللغة تتفتح على آفاق الكتابة التي لا تحدها حدود. بدلالاتها المفتوحة على كل الاحتمالات. وأصبح النص السردي ينبثق من المخيلة التي ترتبط بالوقائعي وتنفصل عن الواقع في ذات الحين. وغدت القصة القصيرة ملتصقة بما يشتمل عليه وجودنا من صراع وحيرة وتمزق وانهزام وتعدد في الرؤية. وطموح الى احتضان الجوهري من الأشياء. ولم يعد الواقع بمفهومه الاستنساخي التبسيطي هو ما يثير اهتمام المبدعين المجددين. وإنما أصبح الواقع يعني.يضا المحسوس والمتخيل والمتذكر. ويعني الوقح والمألوف، والمتطرف من الأحداث والمواقف. ويعني الذات الموزعة والمشتتة والظروف الحياتية القاسية. كما يعني احتمال تصوير الأمور على غير ما تسير عليه وبافتراضات واسعة لا حدود لها. كما لاحظ الناقد المغربي محمد براءة.
اذن أن المكان كبنية انو جدت داخل المتن القصصي الحديث له ابعاد ومعان عميقة تحتاج لتفكيكها دلاليا. لاكتشاف ما توارى خلفه. حيث انه يتجلى بأشكال مختلفة من خلال لغة تتماهى مع الشعري تارة وترتبط بالوصف تارة أخرى. ومن خلال فضاء سردي يرتبط بالأسطوي حينا وبالوقائعي حينا آخر وبالكوني الصوفي مرة وبالانساني الأرضي مرة أخرى.
هكذا ودونما سابق تنويه او إشارة. تجد الدراسة نفسها قد انحازت للقمة الحديثة. وبدات تتحمس أبواب الأخون لعالمها الغامض المثير والثري في محاولة أخرى للامساك باستراتيجية معنى المكان فيها. باعتباران للمكان معاي أخرى عميقة تقع خلف المعاني الدانية. وكل ذلك بسبب أن كتابتنا النقدية تتحرك داخل فضاء واسع للمفاهيم المنهجية الحديثة والتي بها تحررت الكتابة من قيودها الأكاديمية والتصنيفية وتمضي لمعالجة النصوص الحداثية لاستنباط المفاهيم التي انكتبت بها وعبرها برزت المعاني الخفية من تربة الكلمات.
فضاء النبل. مثلا فك خذ نصا قصصيا للأديب الطيب صالح بعنوان (يوم مبارك على شاطئ أم باب) الذي يحيلك أولا الى نص آخر لنغص الكاتب هو قصة (دومة ود حامد) ففي دومة ود حامد. تتموضع البنية الدلالية الكلية للنيل. باعتباره مكانا واسعا يتحمل كل المتناقضات (الأمر الذي فات على هؤلاء جميعا أن المكان يتسع كل هذه الأشياء) حيث ين للنيل كموقع ومكان أن يتسع لمحطة الباخرة. ولوابىالماء ليسقي المبثروع الزراعي وأيضا للدومة المباركة. هكذا يمكننا الارتفاع أكثر بدلالة النيل. ليكون بؤرة تلتقي وتتوحد عندها المتناقضات. ويمكنها ان تتجاوز بسلام وامن. باعتبارها جزاء من مشهد كوني أوسع.
فالنيل هنا ليسر موقعا جغرافيا فحسب بل يتحول داخل النص الي فضاء كوني مشحون بالمعاني المطلقة. بدلالة الاتساع والشمول بصرف النظر عن المعنى المألوف للنيل كرمز للخير والعطاء. ان هذا الاتساع وحده القادر على توحيد الثراء المشتت والمبعثر. أو بمعنى آخر هو الذي يؤس علاقة الواحد بالمتعدد.
وعندما نطالع قصة (يوم مبارك على شاطئ أم باب) نقف أمام مشهد فذ ومدهش (ليس الصوت الذي يتكلم به الموج، بل الصوت الذي يصدر من البحر ذاته، اذ لا هبوب ولا موج. وبدأت الشمس تنزل معارج السماء خطوة. خطوة. ومع كل خطوة تفتح نافورة من ضوء بحت. كسا السماء والأرض والبحر. وأخمد نيران آبار البترول... بغتة هب الرجل واقفا وقامت الغلة وقامت المرأة. دخلوا البحر في وهج الضوء المحض. فقد كان الضوء كأنه يمتصهم الى جوفه. ظلوا كذلك حتى كادوا يدخلون في معارج السماء.).
هكذا نلاحظ امتلاء المشهد بالكلمات التي ارتبطت بفكرة الاتساع. أي بمعنى آخر لها علاقات رمزية ودلالية بالمعلق مثل. الضوء البحت. الضوء المحض. الماء. البحر. الأرض. معارج السماء. نيران الجوف. انها الكلمات عندما تعبر عن المعاني اللانهائية ذات الوقع الصوفي. والصوفية كمفهوم تؤكد على أن المعنى العميق للانسان في كونه يقطع باستمرار الى ما لا ينتهي. عبر وحدة الوجود التي تؤالف بين الأطراف المتناقضة. حيث توحد بين الحلم والواقع. الليل والنهار. الوجود والعدم. وتتحرك باتجاه المجهول في سعيها المستمر للكشف عن طفولة العالم وصفائه.
هكذا استطاع الكاتب المبدع، تحقيق انزياح كامل للمعني المتداول والمالوف للنيل كمكان باعتباره رمزا للعطاء والخير. وتسامى بهذا المكان ليتطابق بالمعاني الكونية المعلقة وكمركز للوجود والذي به وفيه تتوحد أشياء العالم المتناقضة والمتصارعة، وهذا ما يجعلنا نؤكد على المفاهيم الصوفية التي تتلبس رؤيا العالم لدى الأديب الطيب صالح. والتجربة الصوفية تفصح عن أسرارها كتابة واللفة الايمائية وسيلتها في معرفة الكون وتجليا ته. فالأشياء في الرؤيا الصوفية متماهية ومتباينة. مؤتلفة ومختلفة. وبكل ذلك تكون عالما داخل العالم تتعانق فيه الأزمنة في حاضر ديناميكي وتنمو باتجاه الآفاق القصية.
والنيل كفضاء وبنية اشارية دالة على الكوني نجدها بذات المستوى الدلالي في قصة (حالة انعدام وزن) للقاص أحمد الفضل احمد. حيث يرصد النص السردي حالة انسان اعتزل عالما كنير النفاق وقليل النقاء. يتجه بكل جدية نحو النيل فيحادثه ويشكو له سوء العالم وضنه. حوار يتم كحوار اب مع ابنه. الذي ينتهي في اند غام الجسد بالماء.
(فاجأني النيل وكنت قد نسيت بالفعل لهجته تلك العطوفة والأبوية السحيقة، مرحبا وأهلا يا ولداه لماذا الخصام كل هذا الزمان أنسيت ميلادك في أحشائي سقيتك وأطعمتك وطهرتك).
قلت. العفو أيها التليد السرمدي العتيق قال في رحمة. ما فات مات. أدن قليلا يا ولدي وستري قلت ممتنا. ألم تخرج قليلا عن التقريرية والابتذال..؟
وقلت وقد عادني شك الألم في جنبي "حتما سأخرج من نطاق جاذبيتهم هناك أشياء لا يمكن مصالحتها حيث لا جدوى ولا ملاذ.. لن أعود لمألوفهم الفارغ).
وبعد هذا الحوار الأبوي الحميم بين بطر القصة الرافض لقيم 0 المجتمع السلبية والنيل. نجده قد قفز الى الماء وأفنى روحه فيه. هكذا تبين وتتضح فكرة اند غام الجسد في الماء باعتبارها نفسر فكرة فناء الذات في المحبوب التي ترجع الى مفهوم الرجوع الى الأصل زي النقاء المطلق. وعلى مستوى آخر صار النيل كمكان وكد لالة ملجأ وملاذ أمان. أو بيت يحمي الانسان من شوور العالم المتوحش القاهر. وبالرؤيا الصوفية التي بها تصير الكلمة لها عمق آخر. باطنا بعيد الغور يعمل على كشف ونقد الأمس التي يستند الواقع عليها. وبها يعمل على تغييب الانسان وقهره. وغاية الرؤيا الصوفية وعلى المستوى الإبداعي هي تخطي الجاهز المسبق والمالوف. من اجل خلق عالم جديد او واقع أسمى.أو من أجل (الا كشاف المنظم لأعماق الذات) كما يقول ادونيس.
فالنيل كمكان. في الرؤيا الصوفية. استخدم من خلال صورتين عند الطيب صالح واحمد الفضل احمد. وكل صورة تعبر عن واحد من المفاهيم الصوفية الأساسية. ففي دومة ود حامد عبرت صورة النيل شعريا عن مفهوم الذات التي تتوحد في مركزها المتناقضات. وهي ذات اتساع لانهائي. ويحتمل اتساعها هذا كل أشياء العالم (الواحد المتعدد). أما في (حالة انعدام وزن) فعبرت صورة النيل شعريا عن مفهوم فكرة الفناء الكونية في ذات الحبيب. والصورة في الابداع الصوفي تقوم اساسا على المجاز. حيث تكمن شعرية المجاز في لامرجعيته. أي بوصفه طاقة فذة لتوليد الأسئلة والصور. مما يتطلب بالمقابل طاقة فذة للقراءة وتوليد المعاني. حتى تواكب القراءة حركية الابداع. وهكذا احتشدت بنية المكان كصورة جمالية بالمعاني المفارقة لتلك المفاهيم الوصفية السطحية. وصارت بنية المكان في النص الابداعي مركزا لفريا وجماليا لتوليد المعانى المتجددة.
ومن جهة أخرى يمكننا ان نرى النيل كبنية دالة تتمحور حول مفهوم التطهر والخلاص الروحي. عند القاصة أغنيس لاكودو في قصتها (الربيبة) والتي ترى فيها تلك المرأة تخرج من السجن بعد ادانتها بقتل زوجها القاسي. نواها وهى تعتلي مركبا خشبيا في عرض النيل. حيث رأت وشاهدت وجهها منعكسا على صفحة الماء. ثم بدأت احداث تاريخها الشخصي تتري امام ناظريها في مرأة الماء. وعند نهاية الأحداث. تلقي بجسدها في الماء. هكذا صار للنيل دلالة أخرى في الوقت التي تتجاوز فيه رمزية النيل المعطاء واهب الخير المألوفة. وتختلف عن الصورة الجمالية للنيل كما تبين في الرؤيا الصوفية عند الطيب صالح واحمد الفضل احمد.. وتبرز دلالة النيل هنا وصورته الجمالية كمرموز للتطهر والاغتسال من الذنوب عند أفنيس لاكودو. حيث ترتبط الصورة بالشفافية والنقاء.
ورغم الاستخدامات الجمالية العديدة للنيل كمكان يشحن بالمعاني الكبيرة يظل يعبر عن فكرة قديمة وجدت في البناء الأسطوري. تقدم النيل كمقدس. فإذا رصدنا قيمة النيل في الأدب السوداني عموما شعرا كان أم نثرا. قلما نجد نصا أدبيا يخلو من هذه القيمة. وباستخدامات مختلفة وعديدة تشكل في مجملها مرموزا اسطو ري الدلالة. يوظف كعلامة مرجعية للوعي الجمحي، تستجير به من الانعطافات التاريخية القاهرة. وكمقدس في ذاته في المثيولوجيا أو كتجل للمقدس في الرؤيا الصوفية. بوصفها تجسيدا لرؤية جمالية تمسك العالم من خلال عمقه الكلي وتغوص في أبعاده الداخلية فيما يتجاوز الظاهر الي الباطن. والحاضر الى الغائب.
فإذا رجعنا الى معاوية نور في (الموت والقمر) نجد ان الأفق الظاهراتي قد عزل النيل عن كل احتشاد للمعني الماورائي فيه. وثبته كظاهرة مكانية تقع بين مكانين مختلفين. وهو حلقة وصل وفصل بينهما. طريق الاتصال والانفصال في ذات الحين. وبما هو موقع يحتل موقع البين بين. حيث التوتر والاضطراب والاستقرار. حيث يندلع صراع الأنا مع أناها وصراعها مع الآخر. أي أنه الموقع الذي تواجه فيه الأنا الوجود. باعتباره ليسر مكانا رحميا(من رحم) تمتلكه الأنا وتحتمي به. كالغرفة مثلا حتى تلك اللوحة الجميلة التي ترسمها أشعة الشمس العسجدية على سطح الماء. وتلك الخضرة الكثيفة التي تؤطر اللوحة، لا تثير في النفس أحلام اليقظة ومتعة الذكريات. بقدر ما تثير الأشجان ذات الحزن الشفيق وعواطف التشتت. هذا إذا كان المرء ناظرا اليه أو جالسا حوله. اما ان تكون على سطح مائه ومستخدمه كطريق عبور. فهو لا شك موقع لتوترات الأزمة وتفجر الأسئلة المصيرية كأي طريق آخر.
الغرفه. الفضاء المغلق. واضح أن الدراسة صعب عليها أن تفصح بما لديها من غير أن تبدا بتلك الغرفة التي أسسها مصطفى سعيد في (عمق الغرب) وحشد فيها كل مرموزيات الشرق ويسحره باعتبارها الشرق الساحر الغامض الخرافي. غرزها كخنجر أسطوري في قلب الغرب العقلاني الديكارتي وقتها. وبالمقابل بنى مصطفى سعيد غرفة محدودبة السطح (كظهر الثور) مثل بيوت الريف الانجليزي. بنى هذه الغرفة في قرية شرقية بسيطة تقع على منحنى النيل (النيل مرة أخرى يا له من أفعى ملتو) وحشد فيها الكتب والصور وكل مرموزيات الغرب العقلاني. هكذا لم يجد هذا الكاتب المبدع غير الغرفة كصورة جمالية تستوعب استراتيجية المعنى الذي يريده ويراه. انها تضمر المعاني كقلب الانسان تماما... مكمن للأسرار والخصوصية. ففي طب الغرب ينوجد شرق يضخ دما ساحرا وبالمقابل في قلب المشرق ينوجد غرب حاد.
كذلك فاجأتني تلك الغرفة ذات الجدران الخضراء (الأخضر بمستوياته اللونية) التي استطاع عادل حسن القصاص في قصته الرائعة (ذات صفاء... ذات نهار سادس أخضر) تجسيد صورتها الجمالية بلغة شاعرية هامسة. وهذا الهمس هو الذي ساهم في استحضار ذاك الحوار الداخلي المحموم بين الشاب الهامشي (بطل القصة ل وذاته. وهذا الحوار الذاتي يستحضر علاقته بالجدران تارة وتارة أخرى بصفاء. في علاقة تبادلية مريرة. حيث ان صفاء هي الحلم النائي والذي يتراءى بحضور كنيف من ثم تجئ الجدران كملاذ آمن، كحصان تشخوف. منغلق على صمت سرمدي إلا أنه اخضر حميم. فكيف تتفكك علاقة الجدران بالحبيبة وكلاهما سامت. وقد احالتهما الذات المنشطرة بشوق لافح الى حالة دف ء مر تجئ. فلماذا لا نقول أن هذه العمورة الجمالية خلقها البحث عن ملاذ هادئ وريف ؟وما لهدوء الو ريف الا جدران وامرأة. تكسوهما الخضرة بمستوياتها المتعددة. فكيف السبيل اليهما وكلاهما يمتلكهما الآخر الاجتماعي السلطوي. هكذا أسئلة الهم الاجتماعي لا نستطيع الفكاك منها. وخاصة عندما تأتي متوارية خلف حلم جارح. حيث تستطيل حواجز العزلة بيننا وبين الآخرين (أحباب وأعداء،) انها أشبه بمن يسجن في العراء. أن تسجن خارج الأسرار يعني أن تقذف في التيه. وفي هذه الحالة فقط تصبح ضرورة أن تستدعي جدرانا او خيمة لتضمك اليها. وتلتف حولك وتنتمي اليك. كأم أو حبيبة. لحظتها تستطيع أن تحلم احلام اليقظة التي تنتجها الغرفة الدفيئة. وليمة كوابيس الألم المر التي تنتجها العزلة والتيه.
وفي حالة أخرى تبدو الغرفة كمأوى لحديث العزلة. او كملاذ ينقصا الدف ء بغرفة ذات جدران تحتاج للمسات آخر حميم يفك عتمتها. مثل تلك التي صورها جماليا القاص احمد شريف في قصته (منطقة الصفر) يقول النص: (بغباء وعصبية حادين. يرف مصدرهما جيدا. أوشك أن يقذف حذاءه علو حمامة دخلت حجرته ولكنه تراجع فجأة. حيث رأى الحمامة وقد شرعت تلتقط من علو الأرض فتات الخبز وحبوب الغول الصغيرة المتبقية من الليلة الماضية. تصلب في مكانه بشكل مضحك ولكنه قد فقد القدرة على الابتسام ثم أنزل الحذاء برفق الى جواره في الفراش ويدا يعود الى حاله الأول في به، كالمريض حتى تمدد تماما ودون أن يحرد ساكنا خوف أن تطير الحمامة بعيدا وتتركه وحيدا. فكان ذلك من ابرز النجاحات التي حققها في الفترة الأخيرة.) انها الغرفة المثالية لأحلام اليقظة وكأن المأوى لا يجدي مع الوحدة والاستيحاش، فالمأوى يحتاج الى آخر خاص (أنثى) تفك برودة الوحشة. هذا الرجل يحول كل الأشياء التي حوله الى اشارة تحيله الى علاقات الأنثى. (الحمامة الوديعة وصوت الحذاء) هذه الغرفة تضعنا امام مغزى المأوى الحقيقي باعتباره مفهوما انسانيا متكامل الوجود في نسيجه. فالماوى ليست جدرانا فحسب تحمي الانسان من الرياح والصقيع والأمطار والحرارة. إنما ترتبط بوجود الأنثى والإلفة. والأنثى هي أصل المأوى حيث هي التي يرجع اليها تاسيس ول مأوى في تاريخ البشرية.
وفي ذات السياق نجد كوخ الذكريات العاصفة، ذلك الكوخ الشر الذي صوره جماليا القاص يا كوب جل أكول في قصته الرائعة (عودة العاصفة) والذي تسكنه امرأة عجوز وحيدة. تجتر ذكريات حياتها المريرة. تاريخها الشخصي. الذي حاولت فيه أن تصنع بعض النجاحات السعيدة خارج النظام الاجتماعي. ولكنها فشلت. وذهب العمر وصارت ضعيفة ومنهكة. تفترش هذا الكوخ المتهالك الأي يقع في طرف المدينة (جوبا) وهي ترقد على طرف الحياة. ولا أود هنا أن أشير الى ان هناك تشابها بين حالة المرأة العجوز وكوخها المتهالك. ولكن أود أن أربط الحديث بتلك الدلالة الكلية للمأوى والذي لكي يتكامل مفهومه انسانيا لابد من جدران أخرى للمرء، جدران تصنعها حول الانسان علاقته بالآخر الحميم. فكأن الانسان يحتاج لحمايته من الطبيعة لجدران صما، ويحتاج لحمايته من صقيع العزلة النفسية والاجتماعية لجدران عاطفية من لحم ودم واحساس تحتوي شوقه وحرارة أنفاسه. انها جدلية الخارج والداخل. التي تتساوى فيها غرفة أحمد شريف وكوخ يا كوب جل أكول. رغم ان الكوخ يرتبط بدلالات أخرى ضمن شبكة العلاقات التي انتجها النص ولكن در استنا هذه تنطلق من البحث في الصور الجمالية وتحاول اكتشاف معان أخرى للمكان باعتباره ظاهرة ارتبطت بالانسان في سياقه الاجتماعي والتاريخي والرمزي ان شئنا الدقة. فكل انسان يشبه كوخه (أرى كوخك أي غرفتك اقل لكن من أنت) فهجمن يا كوب جل أكول تشبه كوخها المتهالك المعزول. وعندما هبت العاصفة للمرة الثانية بعد ثلاثين عاما دمر الكوخ والعجوز معا. لذا أطلقت عليه كوخ الذكريات العاصفة. باعتباره ماوى للكهولة والعجز. بيت هش المفاصل. فعل فيه الزمن ما فعلت به الطبيعة بعواصفها وأمطارها.. فيصير الكوخ كالانسان تماما هشا متهالكا أيلا للسقوط. لا يقوى على الصراع. فاقدا أهم خصائصه التي وجد من أجلها وهي الحماية. وبدون ذلك يكون مجرد أثر للماضي كتلك العجوز التي سارت بفعل الزمن لا تقوى على الفعل الانساني ماديا ومعنويا. فصارت تجتر الذكريات وتستدعي الأثر. فهناك علاقة خفية ومضمرة بين المكان والانسان فحينما تحل الكارثة بشروطها القاسية وتصيب روح المكان. فإن الخلل سرعان ما يدب في الانسان الذي يحيل فيه كنتيجة لهذا الارتباط فيتبدى المكان كشخصية محورية يدور حولها الوعى المركزي. حيث ينشأ بينهما وحدة تاريخ ووجود.
وغرفة الذكريات هذه تبدأ في تقمص هذه الحالة عندما يبدا انسانها الذي تأويه في فقدان أحلام يقظته الحميمة. وقد تقادم عليه العمر وصار العالم حوله مجرد ذكريات يجسدها خياله الفج. والفجاجة هنا يخلقها الفرض الذي من أجله استدعيت هذه الذكريات. والتي تحضر مجسدة كبديل معادل لحالة فقدان القدرة على الفعل والتاثير الانسانيين في العالم. كغرفة مريم في قصة (الملكة والعرش) لعيسى الحلو التي تمثل مسرح أحداث الماضي التي يعاد تجسيدها بكامل ديكوراتها.
(كان المساء قد بدا.. حينما أنهت مريم زينتها، واتجهت للحائط الغربي في الصالون.. حيث تنزل الستائر الثقيلة، ذات الحافات البيضاء وهي تتهدل. داكنة على خيطان الصالون. فهو بهو شرقي كبير تتوسطه نافورة مزينة بالقيشاني اللامع الملون.. وهو بني خصيما لتستقبل فيه مريم زوارها.. الساعة الكبيرة الثابتة معلقة. في الوسط باقة ورد ندية. ورصت أدوات وأواني العشاء. سرفيس كامل من الخزف الصيني المورد.. ملاعق وشوك وسكاكين وكؤوس مذهبة الأطراف. وكان بخور الند والصندل يتصاعد في الصالون زكيا فواحا).
هكذا هيأت مريم العجوز نفسها وهيأت المسرح (الصالون) للبده في مسرحية كل مساء. في انتظار زوار وهميين لا يأتون. كانوا يملأون حياتها. بالزهو أيام شبابها النضر.
هناك أيضا الغرف المعادية. تلك الغرف التي تحدث عنها الناقد الروسي (مخاييل باختين) كغرف التحقيق والزنارين والغرف النية ذات الجدران السوداء الداكنة.
كذلك هناك غرف كاملة الدفء والعاطفة ترفل بالانسانية. كغرفة محمود وعروسه في أعلى جبل فرتيت. في قصة (الخريف) للقاص زهاء الطاهر. وهي الغرفة التي شهدت حمى التفاصيل الحميمة والنزق الحر بين محمود وعروسته وهما يقضيان شهر العسل. وهذه الغرفة بالضد تماما عن الغرفة التي صورها القاص أحمد عثمان عمر في قصته (تخمة الحوت البرئ) والتي اغتصب فيها الطفيلي الثري بملامحه الشريرة براءة البنت التي اشتواها بماله من أبيها كزوجة له. وهي تشبه في عداوتها غرفة المأساة التي شهدت قتل ود الريس على يد حسنة بنت محمود ثم قتلت نفسها وفاضت الغرفة بالدماء الحارة المسكوية على فراش ليلة الدخلة. هي الغرفة التي يقتحمها الآخر المعادي الذي يريد أن يفرض وجوده بالقوة والقهر ويغتصب عاطفة وجسدا ليسا له.
الشارع. الفضاء المفتوح.
الشارع هو الفضاء المفتوح، المكان الذي يمر به الجميع. والذي توجد فيه الأنا متحفزة ومتوترة بوجود الآخرين. حيث تتضارب وتتقاطع الانفعالات والأهواء. وتحتد المشاعر بتوترات الأسئلة المصيرية وصراع الإرادات والمصالح والمطامع. فتبدو الأنا في حالة هذيان وتداع. تلتقط تفاصيل الشارع وأشياءه وهي في حالة حوار مرير مع ذاتها. فالشارع مصنع للأحداث الكبيرة ومسرح لها. وهو الضمير الجمعي الذي يضر الرؤى والتصورات الجماعية وفي ذات الوقت يتجلى على سطحه تناقضات الفئات والجماعات المختلفة وتبين اشاراتها بعمق آخر يمور تحت المجاري السرية التي تتفاعل لتشكل صيرورة التاريخ.
ففي قصة ( وردة حمراء من أجل مريم) للقاص عيسى الحلو. يمكننا أن نفهم جليا امكانيات الشارع في محمولاته الدلالية. ليكون موقعا لصراع الإرادات بل مسرحا تتجلى فيه التناقضات الاجتماعية (ومنذ الصباح حتى المساء تجرى على الشارع الرئيسي المرصوف بالأسفلت. والذي تحيطه أشجار اللبخ الضخمة، تجرى مسرعة حافلات النقل العام والباصات. وعلى طرفيه يجلس باعة 0فواكه وباعة البطيخ حول الأكوام الخضراء وفي المساء حين تغمض الرؤية.. يختبئ العشاق وبائعو الدولارات والمخدرات. وتجئ سيارات صغيرة.. تبطئ. عند منعرج الشارع مطفأة المصابيح، تندس فيها فتيات مجهولات في بواكير المساء. تنزل من الباصات الأهلية. الهالكة عجائز النساء. وهن يحملن سلالهن المحملة بالخضار واللحوم من السوق الكبير)
مما لا شك فيه أنها صورة سينمائية تبين ملامح شارع كبير في مدينة الخرطوم وحركة الناس فيه. وما يحمله من أسرار طوال اليوم. إذ أنه يفصل بين عالمين متناقضين. (عالم الأغنياء وعالم الفقراء) أما الشارع نفسه فهو مسرح يبين تجليات هذا التناقض التاريخي في أشكاله وصوره الأولية. فهو يبدو كوعاء أنطلوجي لتمظهرات الوجود في سياق سيرورة التاريخ.
ويمكن أن نلمس هذه الصورة في شكلها المأساوي في قصة (كرسي القماش) للقاص علي المك. حيث الشارع مسرح للمآسي الانسانية. فالمشارح كان شاهدا على اغتيال الطفولة والبراءة. وشاهدا كذلك على اختلاط الأصوات وفوضاها.حيث اختلفت الآراء وكل من موقع له أبدى وجهات النظر تجاه هذا الحدث المأساة (وتحمل الكرسي ثم تضعه على جدار الحجرة بعناية. كأنما قصدت أن يصيب راحة من بعد عناء. وترقد على السرير، والنهار صامت بد أن تغذى بدم فتاة. وقد تطل عليك زوجك بعد حين: أيها الجحيم ؟ الشارع أم البيت ؟ فلننتظر قدوم يومك الثاني في حياتك الجديدة !!).
وفي القصة الحديثة في الثمانينات، برز الشارع. كخلفية أساسية للمشهد السردي. حيث تبلور من خلال تقنية الكتابة، كأنه الشخصية الرئيسية التي تظهر بعمقها غير المحدود الذي يحتوي كل التناقضات ويتفجر بالأسئلة المصيرية. كعلامة للبطل الذي يحي الهم الجماعي والذي بدوره يحيل الأنا الى النحن. وبالتالي يستحضر الهناك الى الهنا. وبما هو كذلك يصير وعاء شاملا للزمن. أي الثابت الذي يصنع المتغير. وضمن هذا النسيب المتشابك من علاقات المعنى وجدليتها. يتأكد الشارع باعتباره الأمل المرتجئ وبه وفيه تتبلور آفاق المستقبل المختلف عن الحاضر المقيت. ففي بعض النماذج القصصية المتطورة لقصة الثمانينات نجد أن الروائي في حالة هذيان وتداع محموم وهو يقتحم الشارع. كأنه يندغم فيه وتتوحد ذات الراوي بذات الشارع في حوار محموم تارة وحميم تارة أخري، ويتحرك الراوي باتجاه الأشياء في الوقت الذي يعكس فيها ارتجاجه الصاخب وأسئلته المريرة. وتستمر جدلية هذه المرأيا المتعاكسة باتجاه لا ينتهي أواره. لاحظ هذا المقطع من قصة (القداس) للقاص محمد خلف الله سليمان: (جاءت بتنورة حمراء ولما لم أجد رغبة منها في الاجابة، توكلت على الله، وتركت شارع النهر وتخطيته الى سوق (العصافير) ومكتبات شارع المتنبي. وبذلك استطعت أن أسقط كل الاستثناءات العارضة عن تاريخي الشخصي.
تتشابك أزمتي. يتواصل ايقاع طبل متوتر. وصوت ناي، خرجت من الماء فارغا، سمعت صهيلا، وزغاريد نساء، غير أني لم أر خيلا، أو.... فأقمت وحدي عند عزلتي الحميمة.تأتي السيارات، وترش الشوارع بالماء، فينبت العشب فوق الاسفلت وتقذف الشمس الطالعة على ظلال البنايات خضرة لامعة).
كذلك يمكن أن نلاحظ مقطعا آخر من قصة (كائنات) للقاص الشاب هاشم ميرغني الحاج: (كنت مصلوبا على رمل الشارع، واقفا كالصوت على جسد الظهيرة. منتظرا طيف حافلة تقلني الى أم درمان، عندما عبرت الشارع لأستعيده، كان قد أكمل دورته في الظل الآخر واناغم هناك. غافلني ظلي في منتصف الوقت وصار لها ظلان). ان قصة الثمانينات وما بعدها يمكن أن توصف بدقة بأنها قصة الشارع، القصة ذات الكيان اللغوي الهزياني، الذي يكشف ويعري تناقضات العالم القاهر من خلال مسرح المواجهات الخفية، حيث تتوحد الذات بأرضها لتتعارك ضد قيم التشيؤ التي تحاول ابتلاعها وضد قيم الاستهلاك التي تقصيها. فيكشف الراوي عن تفاصيل أزمته وضعفه وانهزامه، ففي ذات الوقت الذي تلهب فيه هذه اللغة المحمومة التداعي. بأصوات التحدي. تبث قيم الارتكاز على الوعي الجمعي وتحاول الكشف عن المغيب والموارى لتخرجه لفضاء الشمس والريح والتعري. فضاء الشارع. وهو الفضاء الذي يهرع اليه كل انسان يعاني العزلة. العزلة بمفهومها الانطلوجي.حيث تعني الارتداد الى الذات البدائية والتي هي بالضرورة ذات جماعية. لا تحتفل بعزلتها وهامشيتها الا في الفضاءات المفتوحة. باعتبارها عزلة تؤسس للانعطاف التاريخي عزلة تترابط خيوطها جماعيا من خلال تصورات وأحلام جديدة للعالم. عكس العزلة المريضة السلبية التي تلجأ الى الغرف المغلقة الكئيبة لتجتر جراحاتها.. في انتظار موت متكلس.
الهوامش 1- غاستون باشلار. جماليات المكان، ت غالب هلسا 1982م
2- محمد برادة دراسات في القصة العربية. مؤسسة الأبحاث العربية ص 14، بيروت1986م.
3- أدونيس. السريالية والصوفية.
4. مؤلفات معاوية نور. دار نشر جامعة الخرطوم.
5- دومة ود حامد، الطيب صالح، دار العودة بيروت1984م، ص 52.
قراءة في استراجية المعنى المكان في القصة السودانية الحديثة معاوية البلال جريدة نزوي
| |
|
|
|
|
|
|
Re: في الخرطوم .. خواطر وذكريات محزونة بقلم : معاوية محمد نور (Re: مدثر محمد عمر)
|
الأعزاء مدثر وعبد الغني وبقية المتداخلين
تحياتي وكبير احترامي
لعل تعبير الأستاذ محمود محمد طه وأسفه على الرحيل المبكر لمبدعنا معاوية محمد نور بالقول "دهـ احترق" تذكرني بمقولة عظيمة للموسيقي العظيم وعازف الكمان المتفاني الدكتور أبو زيد عبد الله الإمام، عندما كنا نتحدث عن سر الموت المبكر للكثير من المبدعين، فمثلا موزارت قد توفي وهو في الرابعة والثلاثين وترك كل هذه الموسيقى وكان قد عزف على آلة الفيولين (الكمان) أمام إمبراطور النمسا وهو ابن السادسة. وذكرنا التيجاني يوسف بشير ومعاوية محمد نور ومصطفى سيد أحمد كلهم ماتوا وهم في ريعان شبابهم وتركوا لمسات مضيئة ورائهم. وكان الدكتور أبو زيد قد قال بأن الناس بين نوعين من يقتلون الموهبة ومن تقتلهم الموهبة وأظنه كان قد استخدم عبارة من يحرقون الموهبة ومن تحرقهم الموهبة، فلا تستطيع أجسادهم الناحلة التعبة أن تتحمل كل هذا الإبداع فتخذلهم عن مواصلة المسير فيغيبون مبكراً.
مرتضى جعفر
| |
|
|
|
|
|
|
Re: في الخرطوم .. خواطر وذكريات محزونة بقلم : معاوية محمد نور (Re: مدثر محمد عمر)
|
الأعزاء مدثر وعبد الغني وبقية المتداخلين
تحياتي وكبير احترامي
لعل تعبير الأستاذ محمود محمد طه وأسفه على الرحيل المبكر لمبدعنا معاوية محمد نور بالقول "دهـ احترق" تذكرني بمقولة عظيمة للموسيقي العظيم وعازف الكمان المتفاني الدكتور أبو زيد عبد الله الإمام، عندما كنا نتحدث عن سر الموت المبكر للكثير من المبدعين، فمثلا موزارت قد توفي وهو في الرابعة والثلاثين وترك كل هذه الموسيقى وكان قد عزف على آلة الفيولين (الكمان) أمام إمبراطور النمسا وهو ابن السادسة. وذكرنا التيجاني يوسف بشير ومعاوية محمد نور ومصطفى سيد أحمد كلهم ماتوا وهم في ريعان شبابهم وتركوا لمسات مضيئة ورائهم. وكان الدكتور أبو زيد قد قال بأن الناس بين نوعين من يقتلون الموهبة ومن تقتلهم الموهبة وأظنه كان قد استخدم عبارة من يحرقون الموهبة ومن تحرقهم الموهبة، فلا تستطيع أجسادهم الناحلة التعبة أن تتحمل كل هذا الإبداع فتخذلهم عن مواصلة المسير فيغيبون مبكراً.
مرتضى جعفر
| |
|
|
|
|
|
|
|