وددتُ لو واصل الدكتور التيجاني عبد القادر حديثه عن الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك بن مروان (أسرّة الحكام، الأحداث، العدد 79، 16/12/2007م)، ومجالس حواره مع النُصحاء والحكماء والعلماء أمثال رجاء بن حيوة الكندي، الذي اقترح عليه ترشيح عمر بن عبد العزيز للخلافة، وقد أثمر هذا الترشيح من انجاب "خليفة راشد خامس، كاد أن يحدث انقلاباً داخلياً فى الأسرة الأموية الحاكمة". وحسب رأي التيجاني فإن صاحب هذا الترشيح: "لم يكن مديراً لجهاز المخابرات، أو رئيساً لمجلس للشورى، أو أميناً لدائرة العلاقات السياسية، أو مبعوثاً خاصاً من قبل الإدارة الأمريكية"، وهنا إشارة خفيَّة إلى آليات صنع القرار في بلادنا، ولكن أذكِّر الأخ التيجاني والقارئ الكريم بأن موقف رجاء حيوة الكندي من ترشيخ عمر بن عبد العزيز للخلافة كان أشبه بموقف الصحابي الجليل أبي حازم، الذي دعاه الخليفة سليمان لمجلسه سنة حجه في المدينة المنورة، فطلب منه أن يذكرّه في أمور الدنيا والدين، فنصحه نصحاً شافياً لا دخنة فيه في كثير من القضايا المرتبطة بشؤون السُلطة والرعية، إلا أن هذا النصح حسبه بعض رجال البلاط تجريحاً صريحاً لا يليق بقامة الخليفة، فكادوا أن ينقضُّوا عليه لولا تدخل الخليفة سليمان وحمايته له من صلف بطانته المالقة. فكانت ردة فعلهم عنيفة عندما سأله الخليفة: فما الذي تقول فيما نحن فيه؟ فقال أبوحازم: "يا أمير المؤمنين أوتَعفيني من ذلك"؟ قال الخليفة: لا، ولكن نصيحة تلقيها إليَّ. فقال أبوحازم: "إن آباءك قهروا الناس بالسيف وأخذوا المُلك عنوة من غير مشورة من المسلمين ولا رضىً، حتى قتلوا عليه مقتلةً عظيمة وارتحلوا عنها، فلو سمعت ما قالوا وما قيل لهم ..." وقبل أن يكمل أبا حازم نصيحته وقع الخليفة مغشياً عليه. فكان رد فعل أحد أفراد بطانته المالقة: بئس ما قلت يا أبا حازم! فرد عليه صاحبنا بقوله: "كذبت يا عدو الله، إن الله أخذ ميثاق العلماء ليبيننّه للناس ولا يكتمونه." وفي هذه أثناء أفاق الخليفة سليمان وقال: يا أبا حازم كيف لنا أن نصلح للناس؟". قال: "تدع الصلف، وتستمسك بالمروءة، وتقسم بالسويَّة." ويبدو أن الخليفة في قرارة نفسه قد استحسن نُصح أبي حازم، فبعث إليه بمائة دينار، وكتب إليه أن أنفقها ولك مثلها كثير. فردَّها أبو حازم عليه، وكتبه إليه معاتباً: "يا أمير المؤمنين أعوذ بالله أن يكون سؤالك إياي هزلاً وردّي عليك باطلاً، فو الله ما أرضاها لك، فكيف أرضاها لنفسي؟ يا أمير المؤمنين إن كانت هذه المائة عِوضاً لما حدثتك، فالميتة ولحم الخنـزير في حل الاضطرار أحلُّ من هذه، وإن كان حقاً لي من بيت المال فلي فيها نظر ..." ومضى في قوله: "يا أمير المؤمنين إن بني إسرائيل ما داموا على الهُدى والرُشد كان أمراؤهم يأتون علماءهم رغبة فيما عندهم، فما رئي قوم من أراذل الناس تعلموا العلم وأتوا به الأمراء يريدون به الدنيا، استغنت الأمراء عن العلماء، فتعسوا ونكسوا وسقطوا من عين الله عز وجل، ولو أن علماءهم زهدوا فيما عند الأمراء لرغب الأمراء في علمهم، ولكنهم رغبوا فيما عند الأمراء، فزهدوا فيهم وهانوا في أعينهم." فكان الزهري حاضراً في مجلس الخليفة فقال: لأبي حازم: إياي تعني وتعرِّض بي؟" فقال له أبوحازم: " لا والله ما تعمدتك، ولكن هو ما تسمع!" فلا غرو أن حوار أبا حازم مع الخليفة سليمان بن عبد الملك فيه جملة من الدروس والعبر التي تدور حول قضية فساد السُلطة وكيفية إصلاحها، والتي يمكننا أن نجمل أسباب فسادها وآليات إصلاحها في النقاط التالية:- أولاً: إن غياب الشورى في أية صورة من صوره يعني فساد السلطة والسلطان، لأن الشورى من مستلزمات الفطرة، ومن سنن استقرار المجتمع، فهي ليست هدفًا في حد ذاتها بل شُرعت كوسيلة لتحقيق العدل والطمأنينة بين الناس، وتنفيذ مقاصد الوجود الإنساني على أديم هذه الأرض. وتعد أيضاً مبدأً إنسانيًا واجتماعيًا وأخلاقيًا، بجانب كونها قاعدة لنظام الحكم وتداول السلطة، وحقاً مثبوتاً للجماعة تستخدمه في إخيتار من يمثلها، ومن خلاله تتحمل المسئولية الجماعية تجاه القرارات التي يصدرها ممثلوها، لأنها تملك الشعور بالمشاركة في صياغتها بطريق مباشر أو غير مباشر، ومن ثم يضحى لزاماً عليها حماية مثل هذه القرارات وصونها، لأنها تصب في معين المصلحة العامة. فلا جدال أن تطبيق الشورى بهذه الكيفية يسهم في القضاء على فوضوية الاقصاء السياسي التي يمارسها الحكام، ويقلص دائرة نفوذ علماء السوء ونصحاء السلطان الطامعين في خزائن الدولة وشارات الحكم والولاية، والذين يصفهم الدكتور الأفندي بـ"أنصار الاستبداد"، الذين "ألفوا الاستكانة وقعدوا عن طلب حقهم، ورضوا باستصغار أنفسهم أمام أهل السلطان، مهما صغر شأنهم ومكانتهم، لأنهم يرون كل وظيفة مغنماً، ويرون الحاكم سيداً متصرفاً في مال الأمة لا خادماً من خدامها". ثانياً: إن غياب التواصل الإيجابي بين النصحاء والحكام يفضي إلى فساد السلطة وجور السلطان، وعليه فإن وجود النصحاء والعلماء في أروقة السلطة والسلطان يجب أن يكون وجوداً مؤسسياً، قوامه الكفاءة التي تسهم بدورها في وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وتهدف إلى تفعيل العلاقة المحاسبية بين السلطات الثلاث (التشريعية، والتنفيذية، والقضائية)، ويجب أن تكون مرجعية هذا التواصل والتفاعل قائمة قواعد دستورية، وقوانين مرعية، تهدف إلى توجيه مسار العلاقة بين الحاكم والمحكوم، والرئيس والمرؤوس، والقضايا المرتبطة بالشأن العام والخاص. ثالثاً: إن أبا حازم قد أشار إلى قضية "تقسم الثروة بالسويَّة" في إطار نُصحه إلى الخليفة سليمان بن عبد الملك، واعتبرها مدخلاً مهماً من مداخل الإصلاح السياسي وتنمية المجتمع. ويبدو أن اتفاق تقسيم الثروة بين الحكومة والحركة الشعبية في السودان قد استرشد بهدي هذه النصيحة التي لم تأته مباشرةً من أبي حازم، بل ربما من بعض المهتمين بإصلاح الشأن السياسي والاجتماعي في السودان، وبناءً على ذلك اتفق الطرفان على تقسيم الثروة الناجمة من موارد السودان وتخصيصها لضمان "ترقية نوعية الحياة، وكرامة ظروف المعيشة لكل المواطنين، دون تفرقة على أساس الجنس، أو العنصر، أو الدين، أو الانتماء السياسي، أو العرقي، أو اللغة، أو المنطقة". فلا عجب أنهم مُحِقُّون فيما ذهبوا إليه، بيد أن التحدي الذي يواجهه الطرفان يكمن في كيفية تفعيل بنود هذه الاتقافية، وتطبيقها على صعيد الواقع بعيداً عن الغرض السياسي الماحق للمصلحة العامة، والأهواء الشخصية المتقوقعة حول ذواتها. وأخيراً آمل أن ينظر القارئ الكريم في قضية السُلطة ونُصحاء السُلطان بعين فاحصة وموضوعية دون أن يصاب بغشاوة الزهري الذي كان حاضراً في مجلس الخليفة سليمان بن عبد الملك، وكان يحسب أن أبا حازم تعمَّد إساءته، لأنه كان من أنصار الاستبداد الذين يؤثرون تضليل الحكام في الخفاء، ويعتقدون أن إفشاء النُصح في العلن فيه تشهير وتقليل من قيمة السلطان، دون أن يأخذوا في الحسبان أن مجالس السر تفضي إلى غياب الشفافية، وتحجب الناس من ممارسة حقهم المشروع في مساءلة سلاطينهم وحُكامهم، الذين يتولون أمرهم أما عبر قنوات انتخابات حرة ونزيهة، أو في أغلب الأحيان عن طريق القهر والاستبداد.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة