|  | 
  |  الحركة الشعبية من الثورة إلي القصر |  | الحركة الشعبية من الثورة إلي القصر
 مقال (1)
 
 
 قد كتبت في مقال سابق ، من ليالي الحزن التي عشتها في حياتي ليلتين  ، ليلة  سقوط مدينة توريت في يد ميليشيات الجبهة الإسلامية عام 92 ، والليلة الثانية هي موت الرفيق قرنق في حادثة  تحطم الطائرة التي كانت تقله إلي الأرض التي رواها بدماء الشهداء ، هناك علاقة ظرفية بين الحادثتين ، فسقوط مدينة توريت في تلك الحقبة جاء بعد عدة تغييرات سياسية كان من أهمها الإنقسام الذي وقع داخل صفوف الحركة الشعبية ، أما الإختلال الثاني هو سقوط نظام مانغستو الذي كان يوفر الدعم المعنوي والإعلامي للحركة ، والعهدة على ( عراب الإنقاذ ) الدكتور حسن عبد الله الترابي ، أن هذه المدينة سقطت بعد أن تحالف السودان مع فصائل التيجراي في كل من أثيوبيا وأرتريا ، بموجب هذه الصفقة وفر السودان دعماً لوجستياً لهذه الفصائل ، مكنها من تسلم سدة الحكم في كل البلدين ، أما نصيب السودان هو التسور من وراء الحدود ومباغتة الحركة الشعبية من الخلف ، فقد أقام النظام أنذاك زخماً ومهرجاناً تبارى فيه أرباب الشعر كما تباروا في مارثون ( أمير الشعراء ) قبل أيام  في الأمارات  .
 فأنشد أحدهم :
 توريت يا توريت يا أرض الفدا
 أقسمت أجعل منك مقبرة العدا
 فخرج من لفيف المحتفلين عبد الباسط  سبدرات ، ملكته روعة الحدث الجليل  ، فالرجل كان شاعراً قبل أن يدلف طارقاً باب السياسة ، لكن ملكة الشعر تمنعت عليه وخانته الكلمات  ، فلم يجد غير الهتاف :
 الليلة مبيت في توريت
 جناح توريت اصبح بلا توريت
 وأنشدت إحدى أخوات نسيبة : الليلة يا قرنق أيامكن أنتهن
 مرت تلك الليلة بغجرها وبجرها كما تقول العرب ، فكانت كليلة أمرؤ القيس عندما أنشد :
 وليلٍ كموج البحر أرخى علىّ سدوله بأنواع الهموم ليبتلي
 نعم عشت في هم وكرب ، لأني أعرف سلفاً ما يعنيه هذا الإنتصار ، سوف تكون من نتائجه أن تستعبد الجبهة الإسلامية كافة أبناء الشعب السوداني ، فعندما أستولوا على مدينة توريت كانت القوات المصرية تهتضم مثلث حلائب ، لكن لمدينة توريت مغزى في نفوسهم أكثر من حلايب ، بالنسبة لحلايب يمكنهم التغاضي عن الأمر طالما أن المصريين لا يهددون عرشهم في الخرطوم ، أما في توريت فهم يرون الثورة والنضال ، كانوا يخافون من المشروع الذي بشر به قرنق ، وهو التوازن بين أبناء الشعب الواحد  في نيل المكاسب  و الحقوق ، كان قرنق عصياً عليهم وقد أسهم في إجهاض مشروعهم الحضاري .هذا المشروع القائم على الظلم والإضطهاد ، يغصبون القمح من أصحابه وهو في سنبله ، ألقوا بآلاف الناس في بئر الصالح العام ، مارسوا التعذيب والقتل ومصادرة الأملاك .
 عند سقوط مدينة مدينة توريت في أيديهم أعتقدوا أن هذه هي خاتمة مطاف الحركة الشعبية ، وقد أغوتهم الأماني ، لا توجد فنادق أو أبراج في توريت ، ولا تعانق سماها العمارات الشواهق ، لكنها كانت رمزاً للصمود والنضال ، فقد راق لرجال الإنقاذ هذا النصر ، وكتبوا في أعمدة الصحف أن المشروع الحضاري بدأ يتمدد من هناك وهناك ، وأنهم أصبحوا قطباً ثالثاً لا يشق له غبار ، وكيف لا ؟؟ وهم قد  نصبوا رئيساً لتشاد ، ورئيسين أخرين لأثيوبيا وأرتريا ، ذكروني بقصة ذلك الرجل الأبله الذي كان يتفرج على سباق الخيل ، فطار من الفرح لأن أحد الأحصنة قد فاز ، سأله أحد من الحاضرين : هل تملك هذا الحصان ؟؟
 فأجابه : لا ...لكنني أملك الحبل الذي يربطه !!
 لكن قرنق لم ينتهي كما تمنت صاحبة الأهزوجة ، فلا شئ يعدل الصبر ، عادت الحركة الشعبية من جديد قوية وفتية ، وكذب المنجمون ولو صدقوا ، فالحركة الشعبية قواعدها ليس العسكر فقط ، هي مشروع كبير حارب من أجل الجميع ، فنبُل القضية جعل الحركة الشعبية تجمع أطرافها وترد الكيل وتزيده في عمليات الشرق عام 97 م ، هذه المرة الرفيق قرنق لم يكن يحارب في بيئة عرفها وعرفته كما كان يفعل سابقاً ، ولم تعد الغابات الكثيفة في الجنوب تشكل حمىً منيعاً يصد الأعداء ، فأرض الشرق كانت منبسطة ، هذه النقلة النوعية في ميدان القتال جعلت رموز النظام تحس بالرعب والفزع ، فالحرب بين الطرفين كانت أشبه بالحروب النظامية بين الدول ، فقد دخل سلاح المدرعات كعامل حاسم في تحرير الكرمك وقيسان من يد النظام الذي هربت فلوله وهي تتجرع كأس الهزيمة .
 بعدها غير النظام من خطابه السياسي فلجأ لإسترضاء الأحزاب السياسية التي طالما ناصبها العداء ، بدأ رجال الإنقاذ يتحدثون عن حق تقرير مصير الجنوب ، بدأ فقهاء الحرب ينظرون إليها من صفحة الأرباح والخسائر بعد أن تنامى إلي سمعهم وجود إحتياطات وفيرة من النفط .فهم يسعون إلي جنوب آمن يضمن الإستثمار في هذا المجال ، وقد وصلوا إلي قناعة تامة أن الحرب وكلكلها يُمكن أن يدهنوا بها عناصرهم التي هجرها الوعي ، لكن الحرب مهما بدت فهي تمثل الأفق المسدود .
 
 سارة عيسي
 |  |  
  |     |  |  |  |