سن الغزال

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-02-2024, 08:28 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثالث للعام 2007م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
09-10-2007, 04:28 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20472

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
sssss
سن الغزال


    سنّ الغزال


    في ذلك الزمن القديم على بعد نحو تسعمئة ذراع من النهر المسمّى البحر، في بيت تشابك سعف النخيل فوق حوائطه العالية، جلس مختار ود الشيخ المتوكل بمواجهة صاحبة الدار فاطمة بت الحلو التي صارت تعرف باسم فاطمة أم أحمد. وجلس أحمد ابنها بمواجهة فاطمة بنت مختار إلى الطبلية المستديرة المعقدة النقوش التي صنعها الزائر نفسه ببراعة مدهشة من خشب الصندل. ولما وضعت أم أحمد الخبز والأطباق الخشبية الأربعة تفوح منها رائحة السمك البلطي المطبوخ في حساء البندورة والبصل والثوم وعصير الليمون، كان أحمد سباقا إلى الاكل عندما تناول لفافة من الكِسْرَة راح يغرف بها من طبقه قدر ما استطاع. قالت امه تزجره: "قول بسم الله يا حمد... الجوع كافر يا ولدي!".
    فقال أحمد: "بسم الله يا حمد... الجوع كافر يا ولدي!". وصمت لحظتين قبل ان يدوّي بالضحك هو وفاطمة بنت مختار حتى كادت العدوى تنتقل إلى جليسيهما الكبيرين اللذين تمكنا بصعوبة من حبس الضحك عملاً بقواعد أدب المائدة. وعندما هدأ الصبيان ولم يتكلم أحد، قالت فاطمة هامسة: "بسم الله يا حمد... الجوع كافر يا ولدي!". وراحت تقهقه والمجلس الصغير يتبعها حتى قال مختار لأحمد بين بقايا ضحكته: "اضرب البت دي يا ولد".
    فقام أحمد يشد شعر فاطمة الصغيرة المسترسل على كتفيها حتى صفعته امه على ظهر يده. عندها جلس الصبيان يأكلان وكأن شيئا لم يكن. ثم سألت فاطمة أباها: "ليش يا با ما تزوجت أم أحمد؟".
    وقف الطعام في حلق فاطمة المعنيّة. وتأوه مختار ثم أغمض عينيه ومسح جبينه في عصبية قبل ان يفكر لنفسه في غضب: لا تنكأي جراحي يا بنتي. كبرنا والعشق لا يزال. هذا الشيء هو طائر العقاب اللعين بعينه. لا يكاد يحترق، حتى ينهض حيا من الرماد.
    أحب مختار فاطمة بت الحلو حتى صارت محور حياته ودنياه ينام ويصحو على صورتها. وكان ذلك في حد ذاته يحيره.
    لماذا أحبك كل هذا القدر يا امرأة؟ لم كل هذا الحب؟ هذا شيء لا طاقة لمخلوق به ولا ينبغي ان يكون من رجل لامرأة يولدان ويأكلان ويشربان ويقضيان حاجتهما ويموتان كبقية البشر. ارفعي يدك عني يا فاطمة. مسام جسدي أجمعها مفتوحة تنتظر خروجك... او اقتليني على عجل علني أرتاح من هذا الوحش اللعين!
    كان مختار معمارياً ونحاتاً ونجاراً فناناً فذاً صمّم في المكان، لأمثاله المسلمين، مسجدا يظن الناظر إليه من بعد انه كرة عملاقة بيضاء تخرج المئذنة عالية من قطبها. لكن المسجد كان عبارة عن قبة ترخي أطرافها حول حوائط المسجد وتتدلى حتى نهاية ثلث الحوائط الأعلى. وكانت محاطة بسور عبارة عن النصف الأسفل لقبة أخرى، ذات مدخل ومخرج، ترتفع من قاعدتها على الأرض حتى تصل إلى أقدام القبة العليا. وداخل المسجد نفسه قيل إنك، إذا رفعت صوتك فوق درجة الهمس، رفع معمار البنيان صوتك، حتى قيل إن مهندسه، مختار، أحد الأولياء الذين كلفهم الله نقل الصلاة إليه بلا وسيط. وللأقلية التي ظلت على مسيحيتها في ذلك الزمان، شيّد مختار كنيسة صغيرة على شكل صليب مقوّس الزوايا لها من مزايا الصوت ما كان لمسجده الكبير.
    وفوق ذلك كان هو مخترع "مكيّف الهواء" الذي سمّاه الناس "الجن المصرّم" والذي كان مؤشرا إلى ثراء من ملكه في منزله. كان برجه هذا أسطوانة خشبية لولبية قطرها لا يتعدى نصف قدم تخترق السقف ويزيد قطر فوّهتها بعشر مرات على قطر الاسطوانة نفسها. وتنزل هذه الاسطوانة مستدقّة إلى أرض الغرفة فتقف على ارتفاع ذراع منها فوق إناء ماء (صيفا) او موقد نار (شتاء). وكانت الفكرة هي ان الهواء يندفع داخل الاسطوانة، المصممة انعطافاتها بنسب تعتمد على طولها، فتسرع به حلزونيتها بحيث ان الهواء الساخن "يصطدم" بالماء (صيفاً) فتذهب حرارته إلى برودة... أو يصطدم الهواء البارد بالجمر (شتاء) فتذهب برودته إلى دفء. لكن مختار كان أيضا، مثل غيره، رجلا يبحث عن أنثاه. وكانت تلك فاطمة. يوم طلبها زوجة، أحضر معه ثياب زفافهما ووضعها أمامها. لم تر أجمل منها. وعلمت ان ثروة عظيمة ذهبت إلى جيوب التجار العابرين من أقاصي الدنيا من أجل شرائها. وعلمت أيضا ان هذا المعرض، الذي تتراقص فيه خيوط الذهب والفضة كيفما شاءت، لا يساوي شيئا من حبه العظيم لها، وفوق ذلك حبها العظيم له. لكنه لما قال لها "تزوجيني يا فاطمة"، وقالت هي "لا"، ارتجّ قلبه ولم يدر هو كيف يرد على هذه المزحة بغير الابتسام والصبر لحظات بطول حياة كاملة قبل أن يهنأ بحبيبته زوجة أيضا. ولما تقلصت ابتسامته وقالت نظراته إليها: "كفى مزاحا" سمعها مجددا: "لا"!
    مضى زمن طويل قبل ان يستوعب إجابتها. فقال كمن يوقظ شخصا من نوم عميق: "فاطمة"!
    وقالت فاطمة كأنها تحدث أيا من رجال الجيران: "نعم".
    فجثا على ركبتيه وأمسك بكلتا يديها وقال: "فاطمة... تزوجيني يا فاطمة! اريدك زوجة حبيبة صديقة شريكة والدة اختاً ابنة جدة وحفيدة... من هذه اللحظة إلى يوم مماتي"!
    ­ "لا"!
    ­ "انا راكع يا فاطمة كما ترين، وأعني ما اقول"!
    ­ "وأنا أقول: لا!... لا قاطعة"!
    ­ "لماذا؟ لماذا؟ ألم نكن...؟"
    وردت عليه قبل ان يكمل:
    ­ "لم يكتب لنا"!
    ­ "لم يكتب لنا؟! ماذا تقصدين؟".
    ­ "لم يكتب لنا!".
    فقال مختار وثمة غضب في صوته يأمرها: "تزوجيني يا فاطمة!".
    وقالت هي: "لا"! ولم يصدق أذنيه حتى نهض على قدميه ونظر إلى غور عينيها فأحس بأحزان الأنبياء مجتمعة في كيانه.
    ذهب من توه إلى منزل النور ود البحر، أقرب أصدقاء ابيه وفي مقام عمه.
    قال له: "جيتك يا عمي..."، وتعلق باقي كلامه بشفتين ترتجفان.
    "شنو يا مختار"؟.
    "جيتك يا عمي اطلب يد ميمونة على سنّة الله ورسوله".
    "نعم؟".
    "جيت اطلب يد ميمونة...".
    "ميمونة؟!". قال ود البحر وهو يقف دفعة واحدة مستندا إلى عصاه.
    أطرق مختار إلى الأرض وهو يقول بصوت هامس: "نعم!".
    وصمت ود البحر زمنا قبل أن يقول: "ميمونة؟".
    "نعم ميمونة يا عمي".
    فانفجر الرجل بكلام ظل يغلي دهرا في صدره: "ميمونة؟! طول عمرك تقول ما حتتزوج ميمونة حتى لو السما انطبقت على الارض. شن حصل الليلة؟ تعبت من الجري ورا الغريب ولا الغريب صدّاك؟ وجملة الايمان لولا انه ابوك الله يرحمه قال لي وهو على فراش الموت: مختار لميمونة وميمونة لمختار، كنت طردتك زي الكلب...".
    لكن المهانة لم تستطع الوقوف على قدميها أمام حزن قلب عاشق يبحث عن بديل يلعق به جراحه. عاشت معه ميمونة أربع سنوات كالغريبة لم يحادثها الا قسرا. وعندما أغمضت عينيها مرة وإلى الأبد وهي تضع له وليدتهما، بكى تحت وطأة الذنب مثلما كانت الوليدة تبكي وهي تتنفس للمرة الأولى. وبكى ود البحر لموت ابنته حتى ظن الناس انه هالك معها. لكن الناس شهدوا في مأتمها أيضا ما لم يروه من قبل. كان الشيخ مصطفى النضير قد أتى إلى نهاية سورة الفجر فتلا بصوته العذب: "يا أيتها النفس المطمئنة. ارجعي إلى ربك راضية مرضية. فادخلي في عبادي، وادخلي جنتي". فقام ود البحر قائلا بصوت أخفت نحيب النساء: "ادخلي يا ميمونة جنته! ادخلي يا ميمونة جنته... راضية مرضية! كلي واشربي...". وخنقت العبرات صوته وهو يقول: "ادخلي جنته، يحفظوك ملايكة الرحمن ويحبوك. عشان زوجك ما حفظك وما حبّاك". ووسط صمت يصم الآذان، قال ود البحر واصبعه المرتجفة تشير إلى مختار: "يوم جاني الكلب دا يطلب يد ميمونة، سمع مني كلمة واحدة: لولا انه ابوك الله يرحمه قال لي وهو على فراش الموت: مختار لميمونة وميمونة لمختار، كنت طردتك زي الكلب!". وراحت الأصبع تهبط ومعها أنفاس الحاضرين. لكن ود البحر تحداهم جميعا بقوله: "اسألوه! قاعد أمامكم الكلب! اسألوه!".
    وتحولت الانظار إلى مختار تسأله، ليس جواب ما إن كان هذا صحيحا وإنما رد فعله. لكن المعني بالسؤال جلس مطأطئا رأسه. فمضى ود البحر يقول وفمه يزبد غضبا إن ابنته ماتت مغبونة، وشتم مختار في المذاهب الاربعة. "لعنة الله تغشاك إلى يوم الدين!". وأسرع إلى مختار فرفع رأسه قائلا: "ليه تحني راسك؟ خجلان زي النسوان يا كلب؟".
    وبينما أطبق صمت مدوٍّ على القوم، التفت ود البحر يقلب البصر من عينين كالجمر حتى أوقعتاه على عصا الشيخ النضير، وبسرعة قط، هرع إليها والتقطها وعاد بها إلى مختار ورفعها يريد ان يشجّ رأسه. على ان الايدي والسواعد التي انطلقت بسرعة البرق إلى مسرح الجنون تلقفت الضربة وكبحت جماح ود البحر وسط أصوات تقول في الوقت نفسه: عيب الكلام دا يا شيخ النور!/ ما يصح ياخوانا!/عايز يقتل مختار!/ ود البحر ركبوه العفاريت!/يا... لا حول ولا قوة الا بالله!/ ما شفنا زي دا طول عمرنا!/ انا لله وإنا إليه راجعون!/ معقول ياخوان؟/ جنّيت في راسك يا ود البحر؟!/ إرادة الله يا جماعة!/ الجن المصرّم!/ عايز تتحدى ارادة الله يا شيخ النور؟!/ سدّ الباب يا محمد يا ولد!/ يا محمد النبي...!
    لكن ود البحر ظل يسكب حزنه وغضبه الجبارين على المسامع حتى خرجت به السواعد من بيت مختار، الذي ظل مطأطئا رأسه يلقي بدموعه على ثوبه. كان يعلم انه يستحق هذا. ليس لأنه لم يحب ميمونة، ولكن لأنه لم يتظاهر بذلك. كان يعلم ان عليه ان يتظاهر بحبها. نعم، كان يعلم. لكنه لم يستطع.
    ولما هدأ البيت من المعزّين الحاضرين، الحاملين الفضيحة في ألسنتهم المهتاجة إلى آذان الغائبين، رفع مختار رأسه ورأى أربعة وجوه: عمر الصايغ، وحامد ود النَوّة، ومصطفى الخطاط، والسقّاي. قالوا له بصوت واحد: "رفعنا المأتم".
    واستطاع هو ان يأتي بإيماءة إيجاب وابتسامة رجل أراد ان يُترك لمصيبته. وجلس معه الرجال الأربعة صامتين برهة طويلة قبل ان يقول السقاي الذي كان مسيحيا: "لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم... يا محمد النبي!".
    وقال حامد ود النَوّة، وكان اقلهم قدرة على الحديث الشفاف: "عليَّ الطلاق بالتلاتة اليسمع السقاي يقول مسلم". والتفت الى مختار يخاطبه: "مختار اخوي، ما تمشي تقتل نفسك. تولع النار في روحك او ترمي نفسك في البحر او شي زي دا".
    وحدجه السقاي بنظرة توبيخ من عينين أضاف سواد بشرته اتساعا إلى اتساعهما. وعندما استطاع ود النوة بعد لأي تفسير معنى النظرات التي انهالت عليه من بقية القوم همّ بقول شيء. لكن الخطاط قطع عليه الطريق بصرامته المعتادة: "يا شيخ حامد يا ود النوة انت يلزمك تراجع حساباتك. مختار عنده بت عمرها يوم واحد. حيقتل نفسه ويخليها عشان تربيها انت بالنيابة عنه؟".
    وبدا للرجال ان ود النوة قد التقط طرف الخيط عندما مط شفتيه بابتسامة المعتذر. لكنه أدهشهم مجددا عندما ذهب الى مختار وربت ظهره قائلا: "خلاص! المرا ماتت وربنا يرحمها. حال الدنيا يا مختار أخوي. لكن زي ما حدثتك، ما تقتل نفسك ياخي. عليَّ الطلاق بالتلاتة نحن نربي البت أحسن ترباية". وأضاف وهو يرمي ببصره الى الخطاط: "نيابة عنك".
    وقبل ان "يقتله" السامعون قال مختار بضحكة يطفئ بها نار غضبهم: "تراهن يا ود النوة اني حأعيش أكتر منك؟".
    ورد ود النوة: "تراهن في شي زي دا يا مختار؟ إنما الأعمار بيد الله. دا مش هذار. على الطلاق بالتلا...".
    وقاطعه الصايغ في غضب ظاهر: "اللهم طولك يا روح! يا ود النوة انت في وادي والناس في وادي تاني".
    وارتفع صوت ود النوة: "آنا في وادي والناس في وادي تاني يا عمر؟ عليَّ الطلاق بالتلاتة لولا ان هذا الرجل في مقام رجال زي...". لكنه قطع حديثه فجأة ورفع أنفه يسنتشق الهواء ويتلذذ بصوت مسموع إشارة الى اشتمامه رائحة زكية. فانتهز الصايغ الفرصة ليخاطب مختار: "يابا، انا والسقاي حنقعد ونبيت معاك إذا ما عندك مانع. رفعنا المأتم نعم، لكن على الأقل انا والسقاي نايمين معاك هنا". وقال مختار: "ألف مرحبا". لكنه وجد الحضور أجمعين يلتفتون الى ما أسكت ود النوة: العطر النسائي ووقع القدمين الخفيفتين الآتيتين إليهم في شكل فاطمة بت الحلو تدخل عليهم وتقول: "وانا معاكم!".
    وبكى مختار فكأنه لم يبك من قبل.

    ¶ ¶ ¶

    تيمناً بحبيبة عمره، سمّى مختار ابنته الوليدة فاطمة. وأنفق عليها بلا حساب. أحضر لها تاجا من الفضة المطعمة بالذهب وحجول العاج المزخرفة بالأبنوس ("شكرا"، قال عمر الصايغ) وألبسها الحرير ("شكرا"، قال التجار الهنود العابرون)... وسهر على راحتها في منامها وحملها بين الرموش في صحوها، حتى ان ود البحر نسي عداوته لمختار ومات وهو يلاعب حفيدته في بيت أقسم يوم ماتت أمها أنه لن يدخله ما ظل على قيد الحياة.
    كان يحملها على كتفيه العريضتين أينما ذهب ولا ينزلها الا بغرض اللعب معها فإذا هو طفل مثلها. خرج ذات يوم بدونها فسأله الناس: وين راسك؟ وكاد حبه لها يذهب مثلا يُضرَب إذ قال أكثر من قائل: زي معزّة مختار لبنته فاطمة! لكنه كاد أيضا أن يودي الى التهلكة. في حكمته القاصرة ومدفوعا بحب استطلاع طفولي، سعى حامد ود النوة لمعرفة ردة فعل مختار في حال "اختفاء" ابنته. كان هذان الأخيران يزورانه في منزله. فاتفق مع جارته على حجب فاطمة في بيت أبيها بعيدا عنهم، وكان له ما أراد. ولما استفسر مختار بعد حين عنها، قال له ود النوة انها بلا شك تلعب مع الأطفال في قارعة الطريق. فخرج يبحث عنها بينهم لكنه لم يجدها أو يجدهم في ايٍّ من الشوارع. صرخ يناديها لكنها لم تجب. نظر الى النهر القريب وراح جسده يرتجف ويرتجّ كورقة في مهب الريح. أسرع الى الماء وهو يصرخ: فاطمة! ثم ألقى بنفسه في لجّته يغطس ويطفو ويهذي حتى تبيّن ود النوة على الضفة يحمل ابنته ويقهقه بالضحك مع ثلة من العطالى.
    احتضن مختار ابنته وبللها بالماء الذي ابتل به بقدر متساو مع دموعه.
    - "وين كانت؟". توجه بسؤاله الى ود النوة الذي قال وهو يغالب الضحك: "دسّيتها منك في حوش شيخ الباشا عشان أشوف حتعمل ايش!". فأنزل مختار ابنته عنه وتقدم الى محدثه قائلا: "عشان تشوف ايش حأعمل؟ طيب...!". وانقضت كفّه العريضة على عنق صديقه مثل فكّي حيوان مفترس وأحكم قبضته عليه قبل ان يرفع به جسد صاحبه قرابة قدمين فوق رأسه. واستمر هذا الوضع رغم ان ود النوة بدأ يخرج صوتا كالذبيح ورغم محاولاته ومحاولات الحاضرين فك خناقه. وكاد جنون مختار أن يصل الى ختام مريع لولا ان فاطمة - المملوءة غيرة لأنها تظن أن أباها يخصص لعبة جديدة بأكملها لصديقه وليس لها هي - نادته وهي تشدّ جلبابه المبتل: "يابا... يابا! أعمل لي أنا كمان!". فأخرجه صوتها من غيبوبة عقله القاتلة، وعندها فقط تنبه الى انه كان في صدد ارتكاب جريمة قتل علنية وأن ضحيته يتنفس حشرجة. فحمله على كتفه وقبض على يد ابنته وهرول بهما الى دار قديمة، طبيبة المكان التي ردت الى الرجل عافيته. فحدثها أنه رأى عزرائيل يطير من السماء في اتجاهه قبل ان يختفي فجأة والمسافة بينهما لا تتعدى عشر أذرع.

    ¶ ¶ ¶

    فاطمة بت الحلو أخبرت نفسها في معرض صدها مختار زوجا: "نظرت إليه خلسة وحبا، فاذا سرواله قد قُدّ اسفله. كان شيئه يتدلى بدون ان يشعر صاحبه. هالني ما رأيت فعزفت عنه وعن الرجال". ورغم ذلك، في غضون ثلاثة أيام لا أكثر، تزوجت عابر سبيل متسولا كان يطرق الأبواب قائلا: "طالب من الله، ومما أعطاكم الله، ومن حق الله: موية، وجلابية دمّور، وِعِمّة حرير، وعباية جلد فهد، وعصاية أبنوس... وعروس!".
    فراحوا يضحكون. لكن فاطمة فوجئت، كما فوجئ غيرها، بلسانها يعلن للناس انها نذرت على نفسها ان تتزوج الرجل لو أُمر له بما طلب! فلم تنقض ساعة من الزمان حتى حضر داوود، وكان ثريا لا يغلبه المال.
    سألها: "تتزوجي الشحاد يا فاطمة؟".
    وأرادت ان تسأله بدورها: "انت صدقت لساني المجنون؟". لكنها وجدت نفسها تقول: "لو لقى جلابية الدمور وِعمة الحرير وعباية جلد الفهد وعصاية الأبنوس، انا ببقاله عروس!".
    فضحك داوود وسمعت فاطمة التشفي يرنّ في ضحكه. ثم أمر للشحاذ بما اراد.
    وقبل ان تستفيق هي من "جنونها" كانت المغنيات يصدحن بطبولهن ودفوفهن:
    آهي الليلة العديل والزين/ والليلة العديلة ويا عديلة الله/ آهي الليلة العديل والزين/ والليلة العديلة يا رسول الله!
    تزوجته فاطمة... هكذا! وليلتها، تحت ضوء بدر التمام، سمعها القاصي والداني تتأوه بلذة الجماع حتى خيِّل للناس انها تسلم الروح.
    كان أول ما فعله زوجها لدى استيقاظه فجر اليوم التالي، ان لبس جبته القديمة وحمل ملابسه الجديدة ثم خرج إلى النهر المسمّـى البحر وقذف بها اليه. ثم عاد إلى الدار وقال لفاطمة: "طالب من الله، ومما أعطاكم الله، ومن حق الله: موية، وجلابية دمور، وعمة حرير ومركوب جلد وعصاية أبنوس... وعروس!".
    "سجم امك وحليل اهلي يا يُمّة!". قالت فاطمة تشتم حظها العاثر وضحكت حتى سالت دموعها. ثم طردته من دار زواجهما.
    لكنها حملت من بعده أحمد.
    يوم ولدته، بعد تسعة أقمار وتسعة أيام لا أقل ولا أكثر، ألحّت عليها الرؤى في منامها المتقطع:
    من رآها تضع جرة الماء علي الأرض التي كلما غمرها الضوء توهجت، ظن انها أسقطتها. ذلك ان الجرة انكفأت على وجهها وغمر المكان طوفان من الماء.
    حدث كل شيء بسرعة عندما تناهى إلى مسامعها صوت السياط تهوي على ظهر وليدها. اندفعت، ليس مثل امرأة وضعت لتوّها، خارج مجلسها جريا. وعندما عبرت أمام مختار الذي كان يترجل عن ظهر حماره أمام بيته، نادى اسمها وردد الكون صدى صوته. لكنها لم تتوقف وظلت تجري حتى لاحظت ان الأشياء وهي تعبرها بهذه السرعة جعلت تتحرك هي أيضا حتى اختلط عليها من يجري ومن يقف. الباحة التي تتوسط البيوت كانت مستديرة بعض الشيء، اطرافها المحيطة دكة عالية من تراب ناعم ذهبي اللون بعضه، وبعضه الآخر بلون الرماد، أقرب شيء في هيئتها هذه إلى فوهة بركان. صوت السياط كان يأتي من داخل الباحة. للمرة الاولى أحست بأن المكان كئيب. وربما جمعت في تلك اللحظة ما تجاوزته خلال كل ذلك العمر فشعرت بالكآبة كما لم تفعل من قبل. كادت تفرغ ما في جوفها لولا ان حجم المصيبة صد عنها الخضوع للغثيان. ورغم ان الذي تبقى بينها وبين بطن الباحة لم يكن سوى الدكة الترابية، فقد أحست بقواها تخور دفعة واحدة، وان الذي أمامها جبل بارتفاع السماء. من وراء الدكة كان الصوت يعلو وصورة ابنها وهو يتلقى السياط على ظهره العاري تكبر. ما عاد ذهنها وقلبها يحتملان كل ذلك فأخذت تتسلق... عمرها وحالها يجرانها إلى أسفل والمصيبة تدفعها إلى أعلى. فلما وصلت ونظرت إلى بطن الباحة، أحصت مئة رجل بمختلف الأزياء والسحنات يسيرون إلى ابنها فيحملونه إلى النيل ويلقون به في أحشائه.
    صرخت أم أحمد حتى ان جيرانها صرخوا في رد فعل لا إرادي واستيقظ ابنها الذي كان نائما في حضنها وراح يبكي. فتحت عينيها ورأته. اختلط داخلها الفرح بالخوف واضطرما حتى أنزلا الدمع منها. وبين الشك واليقين قالت: "اللهم خير يا رب". ثم استجدت: "اللهم خير يا رب".
    لماذا حلم كهذا؟
    أهو ما حدّثها به زوجها يوم طردته من الدار؟ أهو ما قاله من ان الذي ببطنها سيرى ما لا عين رأت، وذهب عنها بلا تفسير؟ راحت تتمتم آيات القرآن القليلة التي حفظت وتستجير بما تذكرت من أسماء أولياء الله الصالحين. وصار أحمد في ما بعد أكثر من مجرد ابنها المدلل فوق حدود التصور. أصبحت تحسه بأبعد مما وهبتها الطبيعة حتى انها كادت تتنفسه. أما هو فلم يجد في ذلك أمرا غير مألوف بل كان في ظنه من صلب ناموس البشر اذ فطم وجبل عليه.
    لما عادت أم أحمد من رحلة ذكرياتها، كان أحمد وفاطمة قد شبعا ولاحظا ان المرأة والرجل لم يمسا طعامهما. وبينما كان عود القصب الصغير يتنقل بين ركني فم مختار بلا توقف، قال أحمد: "امي دايما تتذكر يوم ولادتي".
    أحست هي بشيء كطعم الفضيحة وحدجته بنظرة غلفتها بالقسوة فأطرق رأسه.
    "مش أحسن تاكل بدل تلوك عود القصب دا؟". قالت فاطمة لابيها وشعر هو وكأن أحدا سدّد لكمة إليه من حيث لا يدري. ما لهم الابناء صاروا رقباء ألسنتهم أطول من قاماتهم؟ على أية حال لم يكن هذا هو مكمن الوجع، لذا شرع مختار وأم أحمد في الأكل ولكن من دون ان يذوقا له طعما.
    راح أحمد يحل جدائل الشعر التي انسدلت على كتفي فاطمة واستسلمت هي له. وعندما أمرته امه ان يتركها لحالها، قالت فاطمة انه يجعلها تشعر بالنعاس. فابتسم أحمد وظلت اصابعه تعمل في شعرها بنشاط حتى سمعوا طرقا على الباب. فقام إليه الصبيان جريا وفتحاه للطارق ثم عادا ليخبرا أم أحمد ان يوسف المغاربي بانتظارها عنده.
    ­ "يوسف المغاربي؟ طيّب خلّوه يدخل. ولا عايز يتكلم كالعادة!". قالت أم أحمد.
    ­ "كالعادة: قال عايز يكلمك...". قال أحمد قبل ان يهمس هو وفاطمة مقلدين صوت يوسف: "... على انفراد!".
    ­ "على انفراد!". أعادت فاطمة هامسة.
    ­ "عايز شنو يا ربي المرة دي؟"، تساءلت أم أحمد.
    ­ "عنده سر جديد!"، قال مختار وهو يفرد ابتسامة من الأذن إلى الأذن.
    فخرجت إليه أم أحمد وعادت بعد دقائق معدودة وابتسامتها هي أيضا تضيء وجهها قبل ان تعلن: "قال البحر مليان موية!".
    وراحوا يكبحون جماح ضحكهم لئلا يسمعهم المتحدث عنه في حال كان يتلكأ في ذهابه عن الدار. فلما هدأ اهتزاز اجسادهم أخيرا، قالت فاطمة:
    "البارحة قال للسرة بت يعقوب: القيامة قربت عشان شجر الليمون بقى يطرح ليمون!".
    وعادوا يضحكون وأم أحمد تردد: "الله يجازيك يا يوسف يا ود المغاربي!". ولما علا ضحك ابنها وبنت مختار انتهرتهما: "خلاص! بطلوا اللعب!". ولكن كان جسدها أول من عصى أمرها عندما راح يرتج بمرح الواقعة. لما عاد أحمد من جديد إلى شعر فاطمة وهي إلى نعاسها على يديه، ظل مختار يعمل عينيه في أم أحمد حتى أحست بالحريق المنبعث منهما فقالت بضحكة خجولة: "شنو؟".
    واعتذر هو بصمت تنقلت فيه نظراته بين وجهها وبين السقف وبيد لا تكف عن محاولة الامساك بتفاحة آدم البارزة في عنقه. وقال أخيرا: "السنة دي انا ماشي الحج".
    ابتسمت وقالت له: "كل سنة تقول الكلام نفسه".
    قال لها: "القدم ليها رافع".
    أحمد لم يدع ذلك يفوته فقال لمختار: "لو عايز ترفع قدمك ترفعها وحدك. كدا!". ثم رفع قدمه عاليا في الهواء قبل ان تضيف فاطمة الصغيرة: "بس اعمل حسابك... البحر فيه موية!". وقال أحمد: "وما تنسى تاخد معاك ليمون من شجرة اللالوب...". وانفجر الصبيان بالضحك وتبعتهما أم أحمد ثم مختار الذي ضحك وكأنه يعاقب حزن عمره كله.
    كان ذلك مجلس أسرة واحدة وقعت على أحد نتوءات الزمن فانشطرت إلى نصفين لا يكتمل احدهما بدون الآخر... انشطرت يوم طلب مختار يد فاطمة وقالت: "لا!".
    بلغ أحمد من عمره التاسعة ولم يكن له صاحب في الدنيا سوى فاطمة أمه وفاطمة بنت مختار التي كانت تصغره بثلاثة أعوام، رفيقته في اللعب والأكل والشرب ولا يصاحب غيرها. ويوم سمّاه صبية داوود "أحمد ولد أم أحمد عريس فاطمة"، تصدّت لهم فاطمة ترنيما أذهل الجميع بجمال الصوت المغنّي: يا أم أحمد/ دقّي المحلب/ في توب أحمد/ أحمد غائب/ في الركايب/ جانا كلب/ سنونه صفر/ حلب الناقة/ في الشنقاقة/ أولاد داوود/ السبعة قرود/ تريدي أمك/ ولا أبوك؟
    مختار قال لأم أحمد يوما: "أولاد داوود معاهم حق. أحمد وفاطمة لبعض".
    وقالت أم أحمد: "يعرسوا هالساعة!".
    ماذا؟ طفلان لا أكثر!
    ومع ذلك اتخذ الطفلان زخرفهما وازّينا. ثم استويا على العنقريب عروسا وعريسا... بالهلال والجدلة والدلكة والضريرة وفِرْكة القرمصيص وعقد الحجبات. زغردت أم أحمد وبشّرها مختار تحت ضوء القمر الذي اكتسى احمرارا من لهب قناديل الزيت.
    آهي الليلة العديل والزين/ والليلة العديلة ويا عديلة الله/ آهي الليلة العديل والزين/ والليلة العديلة ويا رسول الله.
    فالتف الناس على العرس واجمين إذ لم يشهدوا شيئا كهذا من قبل، منتظرين ان يقول لهم قائل: "ما هو سوى ضرب من اللعب". لكن احدا لم يفعل.
    "أحمد ود أم أحمد عريس فاطمة!". قال أولاد داوود من بين الجموع. التفت مختار إلى أم أحمد لما سمع ذلك ورمقها بنظرة أدركت معناها وقال الاثنان في الوقت نفسه: "نعم ونعمين!".
    وكان التأكيد في "نعم ونعمين" بعض تحدّ لاحتجاج الناس: "أنى لطفلين ان يتزوجا؟ ليس في عادتنا وليس في عرفنا!". إذ كان هو الملاذ الذي لجأ إليه مختار ود المتوكل وفاطمة بت الحلو عوضا عن عرسهما الذي أيقن الاثنان الآن انه لن يكون. كانا يقولان، بعبارة أخرى: "إن لم تُكتب لنا القربى، كتبناها نحن بأيدينا!". لكنهما سيعلمان في ما بعد ­ على لسان قديم ­ أنهما كانا ينفذان أوامر صدرت في زمن سحيق!
    يا أم أحمد/ دقي المحلب/ في توب أحمد/ أحمد غائب/ في الركايب/ أولاد داوود/ السبعة قرود...واقع الأمر ان أولاد داوود كانوا أكثر من سبعة.كانوا، إذا أردت الدقة، سبعة وخمسين. كلهم ذكور وسوادهم الأعظم أنصاف أشقاء. كان أبوهم رجلا ذا همة جمع من المال ما لا يحصى وتزوج من النساء عددا لا طاقة لرجل واحد به، فخرج من صلبه سبعة وخمسون ولدا سيأخذهم معه في رحلة مجنونة، وسيعودون هم بدونه ويحكون عن رحلتهم وكأنهم يقرأون فصولا من "ألف ليلة وليلة".
    أسبغ داوود على أولاده عبادة الأسماء الحسنى فاسماهم عبد الله، وعبد الرحمن، وعبد الرحيم، وعبد الملك، وعبد القدوس، وعبد السلام... والمؤمن والمهيمن والعزيز والجبار والمتكبر والخالق البارئ المصور الغفار القهار الوهاب الرزاق الفتاح العليم القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل السميع البصير الحكم العدل اللطيف الخبير الحليم العظيم الغفور الشكور العلي الكبير الحفيظ المقيت الحسيب الجليل الكريم الرقيب المجيب الواسع الحكيم الودود المجيد الباعث الشهيد الحق الوكيل القوي المتين الولي، والحميد، الاسم السابع والخمسون. وكان يحدث كل سائل انه سيبلغ الصبور، خاتم اسماء الجلالة التسعة والتسعين، سعيا لإرضاء الله وبحثا عن ركن في جنته. لكن جل السامعين قالوا إن ايمانه لا يعدل ذرة من عشقه النساء. وقال بعضهم انه تمنى بنتا بعد وليده الرابع، وفي بحثه عنها تزوج رباعا وطلّقهن لرباع اخريات، وهكذا حتى صارت زوجاته وطليقاته أربعا وعشرين منحنه سبعة وخمسين ولدا ولا بنت واحدة ¶

    ¶ فصل من رواية للسوداني صلاح حسن أحمد تصدر قريباً بالعنوان نفسه لدى "دار الآداب".
    http://www.annahar.com/content.php?priority=13&table=mu...k_thakafi&day=Mon[/B]
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de