|
من يتذكر ميشيل عفلق ؟
|
من يتذكر ميشيل عفلق ؟ عبد العزيز حسين الصاوي ماالذي يعنيه هذا الاسم بالنسبة لعموم السودانيين وحتي بالنسبة لمتابعي الشأن العام منهم، حتي يفرد له هذا المقال بمناسبة الذكري لسنوية لوفاته التي مرت يوم 23 يونيو الماضي؟ يكتسب السؤال اهمية اضافيه اذا مالوحظ أنه حتي العالم العربي المشرقي الاكثر قربا لعفلق لم ينتبه لهذه المناسبه فيما عدا سطور عابرة في جريدة المحرر الالكترونيه التي يصدرها مؤيدو قيادة صدام حسين من البعثيين. هناك علاقة بعثية عفلقية بالسودان سابقة بكثير لظهور بعثيين سودانيين. ففي عام التأسيس الرسمي لحزب البعث العربي الاشتراكي في سوريا عام 1947 التقي ميشيل يوسف عفلق ( وهذا هو اسمه الكامل ) وفدا سودانيا بقيادة اسماعيل الازهري كان قد زار دمشق للتعريف بالقضية السودانيه ضمن لقاءات بالاحزاب السوريه، كما ان خضر حمد يقول في مذكراته انه اطلع علي كتابات ميشيل عفلق اوائل الاربعينات ضمن نشاط مشترك مع طلبة عرب في مصر. علي ان العلاقة البعثية الاهم بالسودان نشأت بعد تأسيس الحزب بحوالي 15 عاما حين تشكلت اول خلية بعثيه توسعت بعد ذلك طولا وعرضا لتصبح الحزب الذي لفت الانظار السودانية بقوه اوائل الثمانينيات عندما تصدر الحملة ضد قوانين سبتمبر. خلال الفترة الديموقراطية 85- 89 حقق الحزب حضورا ملموسا في الفضاء العلني ايضا مجتذبا قطاعات هامة من الشباب بمزيج من رصيده النضالي المشهود وعلاقاته العراقيه بوجوهها المتعدده. ويبدو ان هذا النمو البعثي في تربة لها خصوصية معينه بالمقارنة لكافة ارجاء الوطن العربي وخلال فترة في تاريخ البعث العربي كانت موسومة بضعف النمو في الساحات الاخري، افسح للبعثيين السودانيين موقعا مميزا لدي ميشيل عفلق عبر عنه صراحة في اللقاء الوحيد الذي خصصه لمجموعة بعثية غير عراقيه عام 1980 بقوله : " ان الحزب في السودان له مكانة خاصة لديه "، تشهد علي ذلك ايضا تجربة كاتب هذا المقال اذ اتيحت له معايشته اياما عديدة في منزله بباريس منحه فيها من وقته وعقله ومشاعره الكثير. كما برز تقدير ميشيل عفلق الاستثنائي للبعثيين السودانيين في تجاوز اهتمامه بهم الي الاهتمام بالسودان نفسه كتركيبة متنوعة قوميا اكثر من بقية الاقطار التي وصلها البعث الي درجة قبوله استخدام مصطلح العروبة السودانيه مفارقا بذلك التفكير البعثي الكلاسيكي حول موضوع الهوية العربيه. ولعل أحد المصادر الاخري لادراك ميشيل عفلق للحقائق السودانية حوارات شملت مجموعة من الشخصيات الفكرية والسياسية السودانيه من بينها الصادق المهدي. مع كل ذلك فأن السؤال حول مايعنيه ميشيل عفلق بالنسبة للسودانيين يظل قائما وبحدة ومشروعية اكبر من اي وقت مضي لانه ابتعد عن ذاكرتهم ومدي رؤيتهم بنفس مسافة ابتعاد البعث في السودان الذي اختفي او كاد من الساحة السياسيه لان داء الشرذمة الذي لم ينج منه اي حزب سوداني كان تأثيره عليه مضاعفا لازدواج مصدر العدوي بين محلي سوداني وعربي. الرابطة القومية العربية التي شكلت مرتكز اهم شعارات الحزب ( الوحده العربيه ) تمزقت بين الشد الديني الاسلامي والتفتت الاثني – الجهوي في اكثر من قطر، والاشتراكية، الركيزة الثانية لايدولوجية الحزب، تلقت ضربة رأسمالية شبه- قاضيه اما الحريه، الركيزة الثالثه، فأن مصيرها الكئيب علي يد التجربة التطبيقية البعثية نفسها تدل عليه جيوش الاحتلال في العراق والجولان السوريه التي مهدت طريقها مصارع حرية العراقيين والسوريين علي يد صدام- الاسد. شعار الوحدة العربيه كان له صداه المحلي سودانيا عندما كان النزاع حول هوية السودان العربيه اقل حدة مما صار عليه فيما بعد، كذلك الاشتراكيه كنقيض للرأسمالية ناهبة ثروات الشعوب وصنو الامبرياليه عدوة حريتها مقابل حرية الانسان والاوطان في الوعد الاشتراكي والشيوعي انئذ. هذا الصدي مقترنا بأندماج كلي وصميمي للبعثيين السودانيين في المعارك ضد الدكتاتوريات المتتاليه منذ نشأتهم، الي جانب العلاقة العراقية كنموذج بنائي ايجابي بمقاييس الستينيات ومصدر دعم معنوي ومادي، كفل لهم قوة دفع هائله هي التي فتحت الطريق نحو خصوصية العلاقه مع ميشيل عفلق. علي ان استمرار قوة الدفع هذه كان متوقفا علي استيفاء نفس الشرط الذي جعل من البعث العربي الاشتراكي قوة ناهضة عند نشوئه وخلال الخمسينات والستينيات وهي مقدرة الاستجابة للتحديات المستجدة دوما التي لعبت فيها مؤلفات ميشيل عفلق دورا قياديا، حيث ينسب اليه الانجاز الفكري في وضع اللبنات الاولي لتحميل القومية العربية بمضمون اجتماعي وتغييري عموما فاتحا الطريق بذلك لتجذير قضية الوحده العربيه في مصالح الطبقات الشعبيه وفي المستقبل بدلا من الماضي .. وكذلك الانجاز الخاص بصياغة العلاقة السليمة بين العروبة والاسلام حيث اكد في مجمل كتاباته حول الموضوع علي قوة العلاقة بينهما بحيث يغدو الاسلام ثقافة حتي بالنسبة للمسيحيين وعلي الفصل بين الدين والنظام السياسي. طليعية ميشيل عفلق خلال تلك الفتره كانت متواكبة مع طليعية البعث نفسه. وكانت الاقدار رحيمة به اذ لم يعش ليشهد وصول تلك الطليعية اقصي درجات انحسارها بوصول دولة البعث عتبة التحول الي دولة دينيه نتيجة اصرار قيادة صدام علي بناء عراق قوي وقادر دون عراقيين اقوياء وقادرين بممارستهم لحرية التفكير والعمل السياسي. تنمية واجتذاب المجتمع الواعي استبدلته القيادة العراقية بتنمية واجتذاب مجتمع عبادة الشخصيه واحياء الخطاب الديني التقليدي والعشائريه. لاشك أن ميشيل عفلق كان يلاحظ هذا التحول التدريجي بل ان كتاباته المتأخره فيها مايمكن اعتباره تراجعا عن افكاره السابقه، وهو بذلك يجسد المفارقة التي ينطوي عليها تطور الاحزاب الحديثه، فاية حداثتها كونها تحرر الانسان من قيود الفكر التقليدي ولكنها اذ تجد نفسها نتيجة لذلك في مواجهة قاسية مع القوي القديمه وتحالفاتها الفعلية او الموضوعية مع الاستراتيجيات الدولية المعاديه، تفرض علي اعضائها قيودا تنظيمية وايدلوجية حديديه تجعل الخروج عليها نوعا من الانتحار المعنوي فما بالك اذا كان هذا العضو قياديا. وفي حالة عفلق بالذات كان الامر اكثر تعقيدا من ذلك اذ كان، بعد فترة استنكاف عن تبني الانقلاب الذي جاء بقيادة صدام للحكم عام 68، قد استثمر كل رصيده المعنوي في هذه التجربة التي بدت لفتره، ربما تحت تأثير موقفه هذا، مختلفة عن النمط الدكتاتوري العربي بقيادتها المدنيه وانفتاحها علي القوي السياسية العراقية الاخري. من هنا اصبح التراجع صعبا عندما اتضحت مبرراته لاسيما وان عفلق كان قد تقدم في العمر وقتها ويتربصه حكم بالاعدام في بلده سوريا. والحقيقة هي ان كثيرا من البعثيين، ومن بينهم قيادات حزب البعث السوداني حاليا، لم يفقدوا الامل نهائيا في امكانية تصحيح مسيرة النظام العراقي حتي اواخر الثمانينات. فبعد نهاية حرب السنوات الثمان مع ايران عام 1988 نشرت القيادة العراقية محاضر جلسات نوقشت فيها اهمية وكيفية الانفتاح الديموقراطي مما ايقظ امالا عريضة في اوساط المثقفين العرب عموما ضربت بها قيادة صدام عرض الحائط بغزو الكويت في عام 1990. وكان هذا اخر مسمار يدق في نعش سيرة ميشيل عفلق كموضوع للدراسه العلمية اذ ادار المفكرون والاكاديميون العرب ظهرهم لها كما اداروا ظهرهم لنظام صدام.
|
|
|
|
|
|