عبد العزيز داوؤد...23 عاما من الغياب....الذكري السنوية 4/8 ...هل يموت الفنان؟؟؟؟؟؟؟

الأسلحة الكيميائية وحقيقة استخدامها في السودان في منتدى ميديكس للحوار
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 09-16-2025, 02:07 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثالث للعام 2007م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
08-03-2007, 07:46 PM

omar altom
<aomar altom
تاريخ التسجيل: 07-15-2007
مجموع المشاركات: 921

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
sssss
عبد العزيز داوؤد...23 عاما من الغياب....الذكري السنوية 4/8 ...هل يموت الفنان؟؟؟؟؟؟؟









    حكم ضميرك

    حكم ضميرك لو ما بيضيرك

    أسمع عتابي وأرهف شعورك

    يالقاسي جورك ليه كل عذابي

    أذكر لقانا في يوم دي الذكري حية

    كان في القدر مقسوم مكتوب عليّ

    ولا القدر مظلوم؟؟؟

    ‏ والعاطفة هيّ ........‏

    لعبت بي وأنت كمان غدرت بيّ

    بقيت اسيرك ما عرفت غيرك

    وجفيت صحابي أنا ‏

    ليه كل عذابي!!!!!‏

    حكم ضميرك

    عيشتني في اوهام تظهر جميلة

    تعبت شوق وخصام وغلبت حيلة

    تمر عليّ ‏

    ايام عليّ ‏

    وانا صاحي ليلة......‏

    ياحبي ذا اللانام انا طرفي لاينام

    أهملت غيرك ........‏

    وسكنت ديرك........‏

    وقفلتوا بابي ‏

    ليه كل عذابي؟؟؟؟؟؟

    حكم ضميرك!!!!!!‏




    الي صديق الموج ونها ابو راس ومعاوية محمد والي كل محبيّ عبد العزيز-هذا البوست - في ذكري

    غيابه وهو بعد بيننا بما تركه من الق وابداع جمل به حياتنا.........واسعدنا.

    ساعود.........
                  

08-03-2007, 10:22 PM

نها محسن أبورأس
<aنها محسن أبورأس
تاريخ التسجيل: 04-04-2007
مجموع المشاركات: 856

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبد العزيز داوؤد...23 عاما من الغياب....الذكري السنوية 4/8 ...هل يموت الفنان؟؟؟؟؟؟؟ (Re: omar altom)

    وكيف يموت من كان رمزا للإبداع والروعة وكان رمزا للسعادة والجمال....
    هل يعقل أن ننساك وأنت محفور في ذاكرة التاريخ إنسان إتسم بالمرح والطيبة والوفاء والشفافية....
    أنت باق طالما هناك سودان ملئ بحبيك....
    ألف شكر الرائع الأستاذ عمر التوم....
    ودمت


    صغيرتي

    شعر عوض أحمد ..
    غناء عبد العزيز داؤد
    --------------------
    أوتذكرين صغيرتى
    أو ربما لا تذكرين
    الخمسة الأعوام قد مرت ، ومازال الحنين
    الشوق والأحلام ،ما زالت تؤرق ، والسنين
    هل كان حبا يا ترى أم كان وهم الواهمين؟
    هل كان حبا لاهيا
    أم كان شيئا كاليقين
    هل كنت تعنين الذى لى تدعين
    ما زلت أذكر خصلة
    عربيدة فوق الجبين
    ما زلت أقرا فى السطور
    فأستبين البعض أو لا أستبين
    والعطر والأنسام تغمرنى
    بفيض الياسمين
    منديلك المنقوش جانبه
    أوتذكرين .. وتذكرين
    ما كان قصدى أن أبوح
    وربما قد تصفحين..


                  

08-04-2007, 09:48 AM

omar altom
<aomar altom
تاريخ التسجيل: 07-15-2007
مجموع المشاركات: 921

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبد العزيز داوؤد...23 عاما من الغياب....الذكري السنوية 4/8 ...هل يموت الفنان؟؟؟؟؟؟؟ (Re: نها محسن أبورأس)

    الدكتورة نهي

    سلامات. تعرفين انني أعمل منذ اسابيع علي إعداد بوست إحياءً لذكري هذا الرجل الفنان ,ولكن أعيتني الحيلة, ‏فانا ‏

    أعرف أن ما ساكتُبه وماكتبه غيري وما سيُكتب لاحقاً عن عبد العزيز لن يوفيه بعضاً يسيراً مما قدمه لفن الغناء ‏

    السوداني, فاستعضت عن كل هذا باغنية حكم ضميرك .....ويآآآآ لها من اغنية.

    شكراً علي المرور وعلي الاغنية الرائعة صغيرتي‏

    ولك كل الود ‏
                  

08-04-2007, 02:31 AM

سلمى الشيخ سلامة
<aسلمى الشيخ سلامة
تاريخ التسجيل: 12-14-2003
مجموع المشاركات: 10754

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبد العزيز داوؤد...23 عاما من الغياب....الذكري السنوية 4/8 ...هل يموت الفنان؟؟؟؟؟؟؟ (Re: omar altom)

    وهل الفن للموت؟
    مثل ابو داؤود لايموت
    فهو سيد الغناء العاطفى والانشاد الدينى مع ذلك
    لم يجد تعارضا بين مدح النبى (ص) وان يناجى محبوبته
    حين تستمع لابو داؤود فانت تستمع الى جلال الصوت
    كل اغنياته منذ ان بدا الى رحيله
    تطويك فى جناح من الالفة
    ولا تود فكاكا
    حتى لو غابت الاوركسترا او عازف العود النابه برعى محمد دفع الله رفيق دربه
    حتى لو غنى (بالكبريته)كاداة عزف وحيدة
    ولك ان (تحكم ضميرك) وانت تستمع الى هذا الشادى
    رحم الله ابو داؤود الفنان صاحب النكتة الحاضرة
    ابن بربر وعطبرة العامل فى السكة الحديد الذى بات احد علامات الغناء السودانى
                  

08-04-2007, 09:57 AM

omar altom
<aomar altom
تاريخ التسجيل: 07-15-2007
مجموع المشاركات: 921

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبد العزيز داوؤد...23 عاما من الغياب....الذكري السنوية 4/8 ...هل يموت الفنان؟؟؟؟؟؟؟ (Re: سلمى الشيخ سلامة)

    الاستاذة سلمي

    اعرفك عاشقة حد الثمالة لعبد العزيز.....ومثلك هو من يجعل للفن قيمة حقيقية.هل مات خليل

    فرح؟؟؟وسيد درويش وعائشة الفلاتية وناجي العلي وعاصي الرحباني وبوب مارلي .هؤلاء الناس هم من

    يعطون للحياة معني الاستمرار......

    احترامي بلا حدود
                  

08-04-2007, 04:18 AM

حسن الطيب يس
<aحسن الطيب يس
تاريخ التسجيل: 10-09-2005
مجموع المشاركات: 1322

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبد العزيز داوؤد...23 عاما من الغياب....الذكري السنوية 4/8 ...هل يموت الفنان؟؟؟؟؟؟؟ (Re: omar altom)

    سلمي
    الف تحية لك علي المعلومة عن الفنان المبدع
    الاستاذ عبد العزيز
    الشئ الخلاني اكتب لكي عندي صديق عليه رحمة الله
    كان يحب ابو داؤد شديد جدا و هو يشبهك شبه شديد
    هو الاخ علية الرحمة العقيد السر بكري
    ربنا يرحم الاستاذ أبو داؤد و الاخ السر بكري
                  

08-04-2007, 10:01 AM

omar altom
<aomar altom
تاريخ التسجيل: 07-15-2007
مجموع المشاركات: 921

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبد العزيز داوؤد...23 عاما من الغياب....الذكري السنوية 4/8 ...هل يموت الفنان؟؟؟؟؟؟؟ (Re: حسن الطيب يس)

    الاخ حسن

    رحم الله عبد العزيز وصديقك العقيد السر.

    شكرا علي المرور
                  

08-04-2007, 06:26 AM

tarig almakki
<atarig almakki
تاريخ التسجيل: 07-30-2007
مجموع المشاركات: 1105

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبد العزيز داوؤد...23 عاما من الغياب....الذكري السنوية 4/8 ...هل يموت الفنان؟؟؟؟؟؟؟ (Re: omar altom)

    يستغرب الكثير من أصدقائي في أنني أعشق هذا الرجل عشقاً لا يضاهيه عشقي لمغنىً آخر . فأنا ومنذ الصغر أحب هذا العبد العزيز .
    تأسرني نبرة صوته وطريقة غنائة اللتي ليس لها مثيل وتعجبني إنتقالاته بي السلالم وكأنه ينتقل بيده صعوداً وهبوطاً , كان رائعاً في كل شيء بدأ بإختيار الأغاني وإنتهاءً باستخدام الكبريت في الإيقاع.


    رحم الله عبد العزيز وأسكنة مع من يحب ويرضى
                  

08-04-2007, 08:36 AM

HAYDER GASIM
<aHAYDER GASIM
تاريخ التسجيل: 01-18-2005
مجموع المشاركات: 11868

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبد العزيز داوؤد...23 عاما من الغياب....الذكري السنوية 4/8 ...هل يموت الفنان؟؟؟؟؟؟؟ (Re: tarig almakki)

    عزيزي ... ود حلتنا ... العمر

    حييت ...

    فإختيارك ضالع فى ثنايا الطيبوبة,
    وفي إحتمال تواصل الفرح سودانيا .

    ولما بين قاماتنا ... الأماجد.

    بصراحة ما كنت قايل الفي العمرك ده
    عندو شغلة بالحقيبة وبدندنات
    مغنيها وأجوائها القديمة , فإذا
    بك تشهر عن حب داؤدي مبين, فأطربتنا
    وأعدت وصلنا ولما يقيم الأطلسي حاجز
    صد ... وعناد ... فكنت { الأعند }

    مع مودتي
                  

08-04-2007, 10:13 AM

خالد الطيب أحمد

تاريخ التسجيل: 03-13-2007
مجموع المشاركات: 0

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبد العزيز داوؤد...23 عاما من الغياب....الذكري السنوية 4/8 ...هل يموت الفنان؟؟؟؟؟؟؟ (Re: HAYDER GASIM)

    الأستاذ عمر التوم

    تحية وإحترام..
    وربما صدفة غريبة أن أقوم بإنزال بوست بعنوان أغنية (من غير ذنب وأسباب) هذا الصباح بصوت الشابة نسرين هندي..
    وأجد بوستك بخصوص ذكري الراحل المقيم في الوجدان الأستاذ عبد العزيز محمد داؤود..فيا لها من صدفة..هنا:


    من غير ذنب وأسباب !


    وأما الأغنية بصوت عبد العزيز فهي هنا:

    اضغط علي تشغيل:




    لك وكل المشاركين في البوست كل التحية والتقدير..
                  

08-04-2007, 10:48 AM

omar altom
<aomar altom
تاريخ التسجيل: 07-15-2007
مجموع المشاركات: 921

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبد العزيز داوؤد...23 عاما من الغياب....الذكري السنوية 4/8 ...هل يموت الفنان؟؟؟؟؟؟؟ (Re: خالد الطيب أحمد)

    الاخ خالد الطيب

    شكرا علي الاغنيات. وشكرا علي نسرين.

    احترامي كبير
                  

08-04-2007, 10:44 AM

omar altom
<aomar altom
تاريخ التسجيل: 07-15-2007
مجموع المشاركات: 921

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبد العزيز داوؤد...23 عاما من الغياب....الذكري السنوية 4/8 ...هل يموت الفنان؟؟؟؟؟؟؟ (Re: HAYDER GASIM)

    عزيزي حيدر

    اما عن العُمر ياسيدي فما بيني وبينك لا يقاس الا بمقدار كم بيننا من غربة؟؟؟؟؟علي الاقل يمكنني ‏

    ان اقف علي ناصية شارع بيتنا متكئاً علي درابزين حديقتنا (الفاشلة) وانا أُدندن بلحن ( يا عذاري ‏

    الحي) بينما بنات المعهد في طريقهن الي درس العصر .هل تستطيع أن تفعل ذلك؟؟؟؟؟


    أما عن عبد العزيز, فهذا الرجل اصبح موجوداً في حياتي بشكل دائم,اما في شريط كاسيت او

    ‏ اغنية في دفتر مدرسة او نكتة مع الشباب او في كتاب لعلي المك او محمد عبد الله الريح واحيانا ‏

    في ونسة مع عبد الله عربي –صاحب الكمان الرآآآآقي- وفي غياب هؤلاء جميعاً, أستطيع ان ‏

    أَغني لنفسي أغاني الرجل التي احفظها عن ظهر قلب, وكل ما احتاجه .....علبة كبريت.‏


    احترامي شديد
                  

08-04-2007, 10:14 AM

omar altom
<aomar altom
تاريخ التسجيل: 07-15-2007
مجموع المشاركات: 921

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبد العزيز داوؤد...23 عاما من الغياب....الذكري السنوية 4/8 ...هل يموت الفنان؟؟؟؟؟؟؟ (Re: tarig almakki)

    الاخ طارق المكي

    عشقك لعبد العزيز يعني انك انسان ...... طبيعي, تحس بالجمال وتطرب حتي ولو لايقاع مضروب علي

    علبة كبريت. الطبيعي هو ان تحب عبد العزيز والغير طبيعي هو ان يستغرب اصدقائك لعشقك له.مآآآآلهم

    كيف يحكمون؟؟؟؟


    شكرا علي المرور الجميل
                  

08-04-2007, 05:17 PM

omar altom
<aomar altom
تاريخ التسجيل: 07-15-2007
مجموع المشاركات: 921

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبد العزيز داوؤد...23 عاما من الغياب....الذكري السنوية 4/8 ...هل يموت الفنان؟؟؟؟؟؟؟ (Re: omar altom)

    ابُو دَاؤُودْ
    كيف الحياة غير ليمك ؟

    أ.د. محمد عبد الله الريح

    ذكرى وفاة الفنان الراحل .

    4/8/1984

    الأكبر من إبو داؤود هو قلبه …
    ألم يسعنا كلنا ؟

    إهداء

    إلى إسرة الفنان الراحل .. إلى محبى فنه ..
    إلى الشعب السودانى الذى جلس على النجيلة
    وتغنى مع أبو داؤود .

    عندما يتهاوى جدار الصمتْ
    وتَخْرجْ الكلمات
    وتصيرُ أشعاراً ،
    تهبط على أوتار
    يعزفها برعى محمد دفع الله
    عندما تصير الأشعار ألحاناً
    تجرى لمستقرِّ لها
    عند حنجرةِ أبو داؤود
    يمتلئُ الكونُ غناءً
    وتخضرُّ الصحارى اليابساتْ
    وتهبط فى روابينا الأفراحْ
    ويتمدَّدُ الوقتُ فى شراييننا
    عندها ندركُ
    أن أبو داؤود يغنِّى .

    غير ليمك ْ
    كيف الحياةْ ..

    ذات يومٍ سرحتُ بعيداً .. وأنا أمتطى صهوة نغماتٍ خالداتٍ كان يردِّدُها أبو داؤود :
    يا أنَّة المجروُح
    يا الروحْ حياتَك روحْ
    الحبْ فيكْ ياجميلْ
    معنىَ الجمال مَشَرُوحْ
    بنهاية كلمة ” مشروح:” ينطلق فعلٌ ما .. شرارةٌ ما .. تغمر الإحساس تتطلب رد فعلٍ من نوعٍ ما .. شئ فى تكوينك الوجدانى يتفاعل مع عشرات المؤثرات الموسيقية والصوتية وينتجُ عن هذا طربٌ هائل .. لا يمكن قياسه ..
    بمقدار ما للحب لهيب فى الجوف / زى الزناد مقدوح/ مِنُّو الجبابرة تلين ../ كل شئ يلين فى تلك الحظة .. يترك الجماد هيئته ويتحوَّل الى سائل .. يرتدى السائل غلالة شفافةً فيتحول الى بخار .. نستنشقه داخل رئاتنا وخلايانا .. وهكذا يتحوَّل الطربُ الخارجىُّ الى طرب داخلى ..
    سالتُ صديقي ونحن نستمع الى اغانى مسجلة لأبوداؤود:
    هل تعتقد أنه سياْتى فنان مثل أبوداؤود ؟
    • رد :
    • ربما فى التطريب .. شئ يقارب ولكن فى قوة الصوت والأداء لا اعتقد .. أبو داؤود ظاهرة طبيعية لا تتكرر ، وأذكر ايضاً أنه قال لى :_
    • أبوداؤود مجموعة مؤثرات كثيرة .. بسطة فى الجسم ، حضور دائم ، بديهة حاضرة ، إنشاد ، غناء ، مديح ، ترنيم ، دندنة، عبور غير محدود بزمان أو مكان نحو الاخرين ..إبن مليون نكتة حفرت مفارقاتها فى ذاكرة الشعب السوداني .. أبو داؤود كبريته تحفظ الإيقاع ، تكرار كل هذا مرة أخرى مستحيل .. ربما يكون فى هذا الفنان شئ من أبو داؤود .. وفى ذلك أيضاً ، فهو إذن مفرَّق على عدد كبير من الفنانين والمبدعين .. أما لماذا ساْلته ذلك السؤال .. فلأننى طيلة هذه السنوات وهذا العمر وأنا منشغل بلغز صوت أبو داؤود .. وبالنسبة لى تماماً كما ذكرت .. فهو ظاهرة طبيعية .. يأتى الخريف ..يزحف الشتاء .. يطل الصيف .. يأتى صوت أبو داؤود كإحدى نعم الخالق جل شأنه التى أنعم بها على عبد من عباده .
    فى المرحلة المتوسطة وأنا طالب فى بداية الخمسينيات بمدرسة الأبيض الوسطى كنت أنتمي للفريق الذى يعد أبو داؤود فنانه المفضل .. وكنا نقدم أغانيه فى الاحتفالات التى كانت تقيمها المدرسة بمناسبة يوم الآباء وخاصة أغنية “”فينوس” لاسيما وإن شاعرها المبدع عوض حسن أحمد كان مدرساً بالمدرسة الصناعية الى جوار مدرستنا .
    الذين يستمعون لنا كانوا يغفرون لنا طراوة أصواتنا ويعجبون بجراءتنا فى تقديم أغانٍ لفنان مثل أبو داؤود . فى تلك الايام كانت الاذاعة تقدم برنامج ” ما يطلبه المستمعون ” وكانت أغنية الفنان أحمد المصطفى “اهواك” تحتل المرتبة الاولى كل يوم جمعة وتشاركها أغنية الفنان الكاشف ” الحبيب وين ” وأغنية الفنان عثمان حسين “الوكر المهجور ” وأغنية أبو داؤود ” هل أنت معى ” وهكذا تشكل وجداننا الفني من ذلك النسيج الرائع من الإبداع الغنائي .
    أما أنا فلأننى انفتحت على الطبيعة منذ وقت مبكر كانت جملة الأصوات التى التقطتها من تلك البيئة تختلط مع غناء أبو داؤود وتمتزج وتستقر فى ذاكرتى كطبقة شعورية لها رنين مستمر تصور يا صاحبى انه كانت لنا شجرة جوافة وشجرة حناء وشجرة ليمون وكانت تنشر رائحة وعبقاً مميزاً فى زمن الخريف .. وحمل ذلك العبق معه الى تلافيف الذاكرة صوت الفنان أبو داؤود وهو يغنى رائعة شاعر مدينة الابيض محمد على عبدالله الامى (أحلام الحب) فصرت عندما أشم تلك الرائحة منبعثة من أى مكان يأتينى صوت أبو داؤود .
    زرعوك فى قلبى يامن كسانى شجون
    ورووك من دمى يا اللادن العرجون .
    هذه الاغنية أستدعيها من ذاكرتى عن طريق حاسة الشم – يا سبحان الله ، لقد ظل أثر الفنان أبو داؤود فى وجدانى باقياً يزداد رسوخاً مع مر الايام ولهذا ظللت منشغلاً به .. ولو جاء أبو داؤود فى العصر العباسى ، عصر إزدهار الفنون العربية والأدب والإبداع الاصيل لتحققت له الريادة والسيادة على جميع مغنيى ذلك العصر .. ولصيغت أوزان الانغام العشر كما صنفها إسحاق الموصلى على حنجرته التى يملك زمامها والتى يفعل بها ما يشاء وما الغناء إلا حنجرة ؟ يقول الفارابى فى مؤلفه العمدة ” الموسيقى الكبير ” تحقيق غطاس عبد الملك: 964 ص:79- 80:
    ” فأما االعيدان والطنابير والمعازف والرباب والمزامير وأصنافها فإنها تزيد .. غير أن هذه أيضاً تنقص عن نغم الحلوق ، وليس ها هنا ما هو أكمل من الحلوق ، فإنها تجمع جل فصول الأصوات .. والذى يحاكى الحلوق من الآلات ويساوقها أكثر من غيرها هو الرباب “.
    ولهذا كان أبو داؤود يغنى باقل شئ يمكن أن يخطر على بال “بكبريته” يحفظ بها زمنه وإيقاعه أعطِ مصنعاً من الكبريت لأحد فنانى هذه الأيام ليدندن به ، هل يستطيع ؟
    لقد وضع العرب الأقدمون وملوك الطرب قاعدة لتلك النغمات العشر التى تضم جميع أسرار الصنعة فقال أبو الفرج الأصفهانى فى كتابه ” الأغانى ” ص: 373-374: “
    من الأصوات التى تجمع النغمات العشر :
    توهمَّت بالخيفِ رسماً محيلا
    لعزةَ تعرف منه الطلولا
    تبدل بالحىِّ صوت الصدى
    ونوح الحمامةِ تدعو هديلاً
    الشعرِ لكُثَيَّرِ عَزةٍ والغناء لعبيد بن عبدالله بن طاهر ونسبه الى جاريته ، فذكر أن الصنعة لبعض من كثرت دربته بالغناء وعظم علمه حتى جمع النغمات العشر فى هذا الصوت “.
    إلا تعلم يا صاحبى إن أبو داؤود قد جمع مثلها وزاد عليه بترجيعه ، وتنغيمه وترعيده وتضعيفه فى :
    عربدتْ بى هاجساتُ الشوقِ إذ طال النوَّى
    وتوالتْ ذكرياتى عطرات بالهوى
    كان لى فى عالم الماضى غرامٌ وانطوى
    أريت كيف ينتقل أبو داؤود بذلك النغم فى درجاته المتعددة وينتهى عند كلمة و”انطوى “؟ يقول إبن سينا فى كتابه “الشفاء”:
    “وافضل الإنتقال من أواسط النغم ، وأفضل الإقامة التضعيف وهو أن تكون إحدى النغمتين على النغمة والأخرى تكون على ضعفها أو نصفها .. ومن الزيادات الفاضلة الترعيدات والتمزيجات والتركيبات والتضعيفات “.
    هل لاحظت كيف يعطى أبو داؤود كل تلك الألوان لذلك اللحن الذى وضعه الفنان الساحر برعى محمد دفع الله لأغنية الشاعر المصري محمد على أحمد “هل أنت معى” ونفس الشئ يتحرك به أبو داؤود فى مساحة خرافية من التلوين فى قصيدة عبد المنعم عبد الحى:
    يا نديماً عبَّ من كأْس الصَّبا
    ومضَى يمشى الهُوَيْنا طرباً
    ألا تلمح ذلك الشجن الذى يتحرك داخل حباله الصوتية والاهتزازات التى يحدثها بومضات متتابعة من اللسان صعوداً ونزولاً فى التجويف الفمي فتحدث ذلك التموج فى صوته الذى يشابه إهتزاز عمامة تنشف فى الهواء :

    قال ود الرضى يصف جملاً :
    ينصر وينطلق زَىَّ المُصَابْ بى حُمىَّ
    ويكفتْ فى الأَرِض ْكَفْتَ الصَّقُرْ للرَّمةْ
    يتخفس برا الدراق سريع بى همّة
    ايديهُ التقُولْ غَسَّال بنفَّضْ عِمةْ
    ذلك القفص الصدرى الضخم والذى يحبس فى داخله كمية من الهواء يتحكم فى تصريفها لتدق على حباله الصوتية محدثة تلك الاهتزازات المميزة لصوت أبو داؤود الأمر الذى يمكنه من الانتقال من طبقة نغمية أو “أكتاف” الى طبقة أعلى منها أو أخفض منها .. بينما يبقى تركيب الطبقة وأنغامها ومسافاتها ثابتة لا تتغير ولا تتبدل ، وهو ذات المذهب الذى وضعه إسحاق الموصلى “التحرك الفنى السليم بين المقامات ” والذى يصفه إبن المنجم في رسالته عن الموسيقى ص : 834 بالخروج من المجرى الى المجرى والانتقال فيه والدخول فيه من المواضع الممكنة التى يحسن ذلك فيها حتى لا ينكره السمع.
    ولو اْن اْبو دؤود ظهر فى العصر العباسي لوجد فيه اصحاب صناعة الموسيقى والنغم ضالتهم إذ أن صوته يتجاوز حدودالطبقة او الاكتاف او الديوان الواحد .
    ففى كتاب الاْغانى “الجزء العاشر ص 100_101 “ذكر أبو الفرج الاْصفهانى قائلا “اخبرنى يحيى بن المنجم قال:ذكر لى عبيد الله بن عبد الله بن طاهر عن اسحاق بن عمر بن يزيع قال :كنت اْضرب على إبراهيم بن المهدى صوتاً ذكره فغناه على اْربع طبقات ,على الطبقه التى كان العود عليها, وعلى ضعفها، وعلى إسجاحها وعلى إسجاح الاسجاح . والإسجاح هو الغناء في النغمات قليلة التردد أي الغليظة.
    قال أبو أحمد قال عبيد الله : وهذا شئ ماحُكِىَ لنا عن أحد غير إبراهيم ، وقد تعاطاه بعض الحذاق بهذا الشأن ، فوجده صعباً متعذراًلا يبلغ إلا بصوت قوى مائل إلى الرقة ولايكاد ما اتسع مخرجه يبلغ ذلك، فإذا رق حتى يبلغ الإضعاف لم يقدر على الإسجاح فضلاً عن اسجاح الإسجاح فإذا غلظ حتى يتمكن من هذين لم يقدر على الضعف”

    تأمل بربك يا صاحبى أبو داؤود وهو يغنى رائعة الشاعر عبد المنعم عبد الحى :
    لوموه اللاهى
    فى الغرام باللهِ
    قولوا ليهو الحبْ
    شَئ طبيعى إلاهى
    هذه المقاطع الصغيرة ترى كيف يصعد بها أبوداؤود ويهبط بها فى ميزان الأنغام؟ ولو تأملت المقطع “فى الغرام بالله ” أو المقاطع الأخرى مثل :
    الغرام مـا بخير
    بين صـغير وكبير
    لوجدت أنه يضع لكلمة “كبير ” ثلاثة مستويات نغمية.. ثم يبدأ فى الارتفاع..
    من زمان الحب
    أمروُ فينا يحير
    يا جميل يا نضيرْ
    خلّى هجرك غير
    بكرة تلقى الحب
    عمرو فينا قصير
    وكلمة “قصير ” تنزل فى مستويين نغميين منهية بذلك القفلة التى يحط عليها صوت أبو داؤود أثناء المسار النغمى .
    لو سمع هذه إبراهيم بن المهدى لتتلمذ عليها بقية عمره ولا أجد وصفاً لهذه أبلغ من وصف أبو الفرج الأصفهانى فى تحليل غناء إسحاق بن إبراهيم الموصلى حيث يقول :
    ” وكان حسن الطبع فى صياحه ، حسن التلطف ، فى تنزيله من الصياح الى الإسجاح على ترتيب بنغم ٍ يشاكله، حتى تعتدل وتتزن أعجاز الشعر فى القسمة بصدوره ، وكذلك أصواته كلها ، وأكثرها يبتدئ الصوت فيصيح فيه وذلك مذهبه فى جل غنائه ، حتى كان كثير من المغنين يلقبونه بالملسوع لأنه يبدأ بالصياح فى أحسن نغمة فتح بها أحد فاه ، ثم يرد نغمته فيرجحها ترجيحاً وينزلها تنزيلاً حتى يحطها من تلك الشدة الى ما يوازيها من اللين ثم يعود فيفعل مثل ذلك ، فيخرج من شدة الى لين ومن لين الى شدة وهذا أشد ما ياتى فى الغناء وأعز ما يعرف من الصنعة ” –” الأغانى الجزء الخامس ص376″.
    فكيف تجد أبوداؤود وهو يغنى للشاعر الفذ عبيد عبد الرحمن :
    جَاهلْ وديعْ مَغروُرْ
    فى أحلام صـباه ْ
    نايم خَلى ومسـرورْ
    ما عِرف الهوىْ
    فى سُور وداخل سُور
    فى روضة زهُـورْ
    غناء وقصور فى قصُورْ
    آية الجمـال مبصورْ
    أخلاق الرضيعْ فى هيَبْة المنصور
    ألم تجد من الغناء بديعه وأجوده فى كل هذا؟
    الزمان : مايو 1971م.
    المكان : الكويت ،
    المناسبة : إسبوع السودان فى الكويت..
    صعد أبو داؤود على المسرح أكبر من الحقيقة , مهيباً شامخاً يحمل رسالة السودان الفنية فى ذلك الاسبوع وهو يبدأ الغناء ويفرض سيطرة كاملة على وجدان الحضور برائعة شاعر الاجيال حسين بازرعة :
    قل لي بربِّك كيف تنسَى الموعدا
    والليلُ احلاٌم وشوقٌ غردا
    والجدولُ الهيمانُ حولنا عَرْبدا
    كانتْ ذراعاكَ لرأْسى مَرْقَدَا
    عَجَباً.. أََتنساها وتَنْسَى المشهدَا ؟
    ويقفز الشيخ عبد الرحمن العتيقى وزير المالية والنفط الكويتى فى ذلك الوقت ويلقى بغترته وعقاله على أبو داؤود ويخلع ساعته الذهبية ويلبسها له ثم يقدم له “كبريتته”.
    وقتها سرت فينا نحن السودانيين قشعريرة جعلت شعرة جلدنا “تكلب ” وقد ظلت “مكلبة” الى يومنا هذا عندما يغنى أبو داؤود . هذا فى زمان غير زمان المأمون أو الأمين أو ابراهيم بن المهدي بل فى زمن يمكن أن يوصف بأنه زمن أبوداؤود. أليس معنا الحق أن نطالب بأمارته للغناء فى زمن الخليفة هارون الرشيد وأهل صناعة الغناء فى عصر الموصليين بأثر رجعى ؟.
    أليس معنا الحق أن ننبه أبا الفرج الأصفهانى أن يفرد فصلاً كاملاً فى كتابه ” الأغانى” لأبوداؤود بشئ لم يألفه المجتمع الأموى أو المجتمع العباسى وهو يترنم بإنشاد ومديح ومواجد القوم أهل الصلاح:
    بأسمائك الحسنى دعوناك سيِّدى
    تقبَّلْ دُعانا ربنا وأستجبْ لنا
    بأسرارها عَمِّر فوادى وظاهرى
    وحقق بها روُحى لأظفر بالمنى
    ونور بها سَمْعى وشمِّى وناظرى
    وقوِّ بها ذوقى ولمسى وعقلنا
    ويسِّر بها أمرى وقوِّ عزائمى
    وزَكِّ بها نفسى وفَرِّجْ كروبنا
    ووسِّع بْها رزقى وعلمى وهمتى
    وحسن بها خَلْقى وخُلُقى مع الهنا

    ولكن ما حدث لنا يا صاحبى امر عجيب اذا حكيته لك ستظن أن مساً من الجن اصابنى , او أن حمى الملاريا قد صعدت إلى دماغى ولكن شيئاً من هذا أو ذاك لم يحدث ولكن الذى حدث هو رحلة فى أغوار التاريخ وأنا بصحبة أبو داؤود وبرعى محمد دفع الله .
    وصلنا بغداد لثلاث بقين من شهر المحرم عام 227هـ الموافق 842م فى خلافة الخليفة العباسى الواثق بن المعتصم بن الرشيد واستقبلنا عالم علماء الموسيقى إسحاق بن إبراهيم الموصلى وجماعته .. فاستضافنا فى داره يومين ريثما يرتب لقاءنا بالخليفة الواثق فى قصره فى السامرا والتى كان يطلق عليها “سُرَّ من رأى ” وقد بناها الخليفة المعتصم على بعد 50 ميلاً من بغداد شرقى نهر دجلة . وكان وصول ركبنا فى السامرا فى الثالث من صفر ..
    اجتزنا شوارعها وقبابها وقصورها حتى وقفنا أمام بوابة قصر الخليفة حيث أدخلنا مجلساً مفروشاً بالطنافس والرياش وقد أتو بالمجمر والمباخر فبخروا وطيبوا وقيل لنا أنزعوا أخفافكم وقلنسواتكم ثم أصيبوا شيئاً من الطعام ريثما يؤذن لكم بالدخول على الخليفة الواثق فى مجلسه .
    وكل هذا الوقت واسحاق الموصلى وجماعته يحتفون بنا ويطيبون خاطرنا.
    مجلس الخليفة تلك الليلة كان يعج بأهل الشعر والعلم والأدب والموسيقى منهم فيلسوف العرب الكندى مخلص الموسيقى العربية من الآثار اليونانية والهندية وواضع قوانين العزف على العود . ومنهم الطبيب حنين بن اسحاق واليعقوبى والبلاذرى وأبو حنيفة الدينورى وهؤلاء من المؤرخين وقد ضم أيضاً المغني مخارق بن يحيى وهو من موالي الرشيد وتعلم الغناء على إبراهيم الموصلي وأحمد بن يحيى بن مرزوق المكي وكان من الضراب الحاذقين المشهود لهم بحسن الصنعة ومن أقرب المقربين إلى إسحاق الموصلي وفليح بن العوراء وكان من أهل مكة وجاء إلى بغداد ليختار مع إسحاق الموصلى وإبن جامع المائة صوت للخليفة هارون الرشيد ومن المغنيات كانت هناك عريب وهى جارية من جوارى المامون وغنت من شعرها فى تلك الليلة :
    وأنتم اناس فيكُم الغدر شيمةً
    لكم أوجهٌ شتى وألسنةٌ عشرُ
    عجبتُ لقلبى كيف يصبو إليكم
    على عظم ما يلقى وليس له صَبْرُ
    فسلبت العقول وحركت الأشجان وكانت هناك شارية التى تعلمت الغناء من إبراهيم بن المهدى ثم صارت إلى المعتصم وقد تغنت بصوت حسن وأداء جميل وشاركتها فى الغناء قلم الصالحية التى أخذت الغناء عن إبراهيم الموصلى فتغنت من الثقيل الاول :
    فى إنقباضٍ وحشمةٍ فإذا
    صادفتُ أهل الوفاء والكرمِ
    أرسلتُ نفسى على سجيتها
    وقلتُ ما قلت غير محتشمِ
    تحدث إسحاق الموصلى مع الخليفة ثم أذن لى بالكلام فوقفت وقلت :
    - أيّد الله مولاى وأعزه نحن قوم من أهل السودان قدمنا إلى حاضرة ملككم بعد أن وصلتنا أخباركم وسبقك إلينا صيتكم .
    فيقول الخليفة :
    - وماذا تقول أخبارنا لديكم ؟
    أجبت :
    - تقول يا مولاى .. إنك قد جمعت بين الملك والأدب والشعر وطيب الغناء .. فأما الملك فإن زان غيرك فإنك قد زنته , وإن شرف غيرك فإنك قد شرفته , وأما الدب والشعر والغناء فهذا ميدانك الذى لا يجاريك فيه أحد إلا كبا كبوة لا قيام له بعدها .. تقدمت الذين قبلك وأتعبت الذين بعدك..
    وتهلل وجه الخليفة الواثق فقال :
    • احسنت .. ألكم حاجة نقضيها لكم ؟
    قلت :
    • أحسن الله أمر مولاى .. إن مثولنا بين يديكم أعظم ما توجبه النعمة ويفرضه شرح الحال من المقال .. فهذا أبو داؤود عبد العزيز بن محمد سيد أهل الطرب والصنعة فى ديارنا له من الترجيع والهديل والترعيد وقوة الصوت ورقته وعزوبته الكثير .. وهذا شيخ العازفين وأضربهم بالعود .. أتقن فنه والعزف عليه من الثقيل وخفيفه ومن الرمل والهزج ومن غليظه وعريضه إلى أشده حدة وضيقاً برعى بن محمد بن دفع الله . ونحن نعلم يا مولاى أنه ليس من هو اطيب صوتاً ولا أحكم صنعة منك وقد علمنا أنك صنعت أكثر من مائة صوت ليس فيها لحن ساقط فقدرنا إنك أصلح من يحكم علينا ويجيزنا .. فإن إستحسنت غناءنا كان ذلك تشريفاً لنا وتعظيماً لا يدانيه تشريف أو تعظيم وإن بخس فى نظرك وقل فى تقديرك .. هدانا الله الى خير منه .
    فاستحسن الخليفة ردى ثم قال :
    - وأنت ما شأنك ؟ أشاعر أنت ؟
    - قلت : لا
    - قال : ألك صنعة بهذا الضرب من الفن مثل صاحبيك؟
    - قلت : لا
    قال : إذن من تكون ؟
    - قلت : أنا تابعهم يا مولاى .. مستغرق فى بديع صنائعهم وفنهم .. أجلو حلاوته وأبين غلاوته .. أعزف بلسانى على حواشى أفضالهم فأنال بعض الرضا
    فالتفت الخليفة الى إسحاق الموصلى وقال :
    - ما ترى عند هؤلاء ؟
    - قال إسحاق : أصلح الله حال مولاى الأمير .. فإن كان فى صنعتهم ما يفيدنا أخذنا به وعلمناه لتلاميذنا .
    وهنا أذن لنا الخليفة بإظهار ما عندنا ..
    وبدأ الساحر برعى ينقر على العود من خفيف الثقيل وأخرج أبوداؤود كبريتةً وضعها بين أصابعه فإختفت ولم يظهر منها شئ سوى النقرشة التى تنبعث منها فاشرأبت أعناق القوم لذلك الأمر العجاب الذى لم يشاهدوه فى صناج أو ثلاث ..
    ثم إنطلق أبوداؤود يغنى الشعر لعبيد عبد الرحمن
    صفوة جمالك صافية
    كالماء على البلور
    ينعم صباحك خير
    ويسعد مساك النور
    وقد بان على القوم أنهم لم يسمعوا صوتاً كهذامن قبل وظهر الإستحسان على وجه الخليفة الواثق ومضى أبو داؤود ليصدح :
    نور من جبينكْ لآحْ
    لا نور شموسْ لا بدور
    فقْتَ المعاكْ فى الجيلْ
    فقْتَ المعاكَ فى الدورْ
    والأمر الذى أذهل القوم وأسكرهم أن صوت أبو داؤود كان يتموج ويرتفع وينخفض وهو ينقرش على الكبريتة إلا إنه كان ساكناً سكون جبل احد .. وكأنه يأتى على مجرى .
    وتغـــــنى وكأنها لا تغنى
    من سكون الأوصال وهى تجيدُ
    وعندما وصل أبو داؤود الى :
    وعذابي لو سراك طبعاً أكون مسرور ..
    وصل الطرب باسحاق الموصلي قمته فقال مخاطباً الخليفة الواثق :
    _ بلى يا مولاى .. احسن فأوفى .. يسرنا ما يسرك ويغضبنا ما يغضبك حتى ولو كان فى ذلك عذابنا فقال الخليفة :
    - وأيم الله إننا لم نسمع مثل هذا فى هذه الأرجاء ..
    وإننى أعلم الناس بالشعر وببحوره وبفنونه .. ما فاتنى منه حسن إلا وقفت عنده وما عرض على جزل إلا تمعنت فيه ولكن مثل هذا الغناء ما ظننت أننى ملاقيه .. واصل .. واصل ..
    وبنقرشة من كبريتة أبو داؤود عبد العزيز بن محمد نقر برعى على العود فى مقام لم يسمعه أحد من أهل السامرا .. فغنى أبوداؤود من شعر عمر البنا :
    يا زهرة الروض الظليـــل
    جانى طيبِك مع النسيـــم العليلْ
    زاد وجدِي ونوم عينى أصبح قليل ْ
    يا زهــــرة طيبك جانــي ليل ْ
    اقلــــق راحتي وحار بي الدليلْ
    إمتــــى اراك مع الخــليلْ
    أجلـس أمامكم خاضع ذلـيل
    قال إسحاق :
    ما سمعت هذا الصوت إلا وظننت أن الحيطان والابواب والسقوف وكل ما فى المجلس يجيبه ويغنى معه من حسن صوته حتى خلت أننى أسمع أعضائى وثيابى تجاوبه وبقيت مبهوتاً لا أستطيع الكلام ولا الحركة لما خالط قلبى من اللذة التى غيبتنى عن الوجود .. هل فى هذه الدنيا غناء مثل هذا ونحن لم نسمع به ولم نعرفه ؟
    وإستمر أبو داؤود يصدح ويغنى برائعة الشاعر حسين عثمان منصور وبرعى يعزف .. والقوم قد سكروا طرباً وهم يتمايلون مع :
    أيُّها العشَّــــاق دارت كأسكُم
    يَوْم جئنا نصطلى مـن ناركُــمْ
    وصدَىَ الناى وضفاف الغدير تترنم
    حُمْرة فى الخدِّ آذاها العبيرْ تتظلم
    قصةٌ فى العين والصمت المثير يتكلم
    تلك ليلة يا صاحبى لو جلست أحكى وقائعها لما إنتهيت فلم يكن قبلها قبل ولا بعدها بعد .. أذهل فيها أبو داؤود عبدالعزيز بن محمد جميع من كان فى مجلس الخليفة الواثق بن المعتصم والذى أمر أن يبقينا عنده أياماً بل شهوراً وهو يستزيد من ذلك الغناء والطرب الأصيل وأبو داؤود لا يبخل عليه فأقام رواقاً باسمه ظل باقياً حتى دخول هولاكو إلى بغداد عام 1257م وهزيمته للخليفة المستعصم آخر خلفاء الدولة العباسية ..

    • نحن معشر المنشغلين بهموم الرصد والتدوين ننحنى للدهشة الاولى , (نسردب ) للثانية حتى إذا جاءت نقيض الأولى إتسعت حدقات العيون ونحن نصيح : “ما معقول !!!”.. هذا ” الما معقول” ..هو الذى ظل يحدد ملامح تلك الدهشة الأبدية وأنا اتأمل فن أبو داؤود كظاهرة طبيعية لا تتكرر .
    وكما قلت من قبل كانت فى بيتنا شجرة ليمون وشجرة جوافة وشجرة حناء .. فى كل عام كان الخريف ينثر على أوراقها شوقه وحزنه .. وما بين غصن وغصن كان الخنفس الكدندار ذو اللون المعدنى الأخضر يتحرك وأنا أرقبه مبللاً بالندى فأستنشق رائحة وعبقاً إرتبط بصوت أبو داؤود وهو يغنى :
    زرعوك فى قلبى يا مَنْ كسانى شجونْ
    ورووك من دمَىِّ يا اللادن العرجـونْ
    فصرت عندما أشم تلك الرائحة .. تدق على ابواب ذاكرتى تلك الاغنية معلنة موسم الدخول فى أشواق عميقة :
    يا الباســم الهادى
    نـورك سطع هادى
    مـاذا اقـــول ؟
    فى سناااااااك
    بيكا الدلال عادي
    شايقانـــى فيك بسمة
    سمحة ومليحة لــــونْ
    عاجبانى فيك قامـــــةْ
    ساحرانى فيك عيون
    ومن قمة ذلك الوجد وتلك الأشواق يرتفع صوت أبو داؤود مؤكداً
    هيهاتْ أسلو هواكْ
    يا حبيبى اسلو هواك ْ
    مهما أعترانى جنُونْ
    أنا لى لقاك صادي
    لو فى الخيال راضي
    وشئ من تهدئة اللعب والإمساك بالمشاعر حتى لا تهرب من فضاء اللحن والنغم :
    خصمى هواك .. يا وديع
    والسؤال الأزلي (القفلة)
    من يا ترى القاضى؟
    كيف تستدعي حاسة الشم كل هذا ؟ هذا هو “الما معقول ” فى علاقتي بفن أبوداؤود . إن الفن الحقيقى هو الذى يجعلك تفسر العالم والطبيعة من خلاله .. هو الذى يجعلك ترى الأشياء المتنافرة تجذب بعضها لتحدد معك وأنت سابح فى محراب الدهشة وأنت تردد: “ما معقول “.
    فإذا خطر بذهنك لحن أو نغم وانت تقف فى إنتظار “البص” فأعلم إن هناك خيطاً غير مرئي يجمع مكونات هذه اللحطة ببعضها.
    ولكي أحكي ما سأحكيه اليوم إلى واقع آخر تذوب فيه الحقيقة المجردة داخل غلالات من الحلم الشفاف .. ذلك الحلم الذى نقبله فى إطار قوى اللاوعى .. حيث أن تلك المنطقة لها إعتباراتها الخاصة بها . إذ كيف تتداخل الأصوات والصور لتخلق واقعاً خارج نطاق المحسوسات المألوفة؟ وهذا بالضبط ما حدث لى ذات يوم من ايام شهر أغسطس عام 1977 وانا فى بلاد طيرها “عجمى” .
    فى تلك الأيام كنت ملتحقاً بالدراسات العليا بجامعة تورنتو الكندية .. وكان علينا اكمال ذلك العمل الجليل الذى قام به البروفيسور بيترسون والذى درس أحد اكبر الوعول فى أمريكا الشمالية والمسمى بالأيل أو العلند أو الموس بالإنجليزية MOOSE والذى أشير إليه هنا بالوعل .. وهو ينتشر فى ولاية ألاسكا الامريكية واوروبا القطبية وسيبيريا .
    ولاية ألاسكا .. اكبر ولاية امريكية حتى أنك إذا وضعتها داخل امريكا لامتدت من فلوريدا الى كاليفورنيا . كانت فى السابق جزءاً من املاك روسيا القيصرية إلا أن القيصر باعها عام 1867 بسبعة ملايين دولار “دولارات معدودات ” .. واليوم فإن دخل ألاسكا من البترول والثروات الطبيعية فى اليوم الواحد يفوق المبلغ الذى بيعت به . انضمت لإتحاد الولايات المتحدة الامريكية فى الثالث من يناير 1959 .
    الرحلة من مطار تورنتو الى مطار انكوردج عاصمة ولاية ألاسكا يمر عبر البرارى الكندية فى ولايات منيتوبا وساسكتشوان والبرتا وكولومبيا البريطانية حيث تحط رحالك فى مطار فانكوفر ثم تمتطى صهوة طائرة أخرى الى أنكوردج .. تلك التى بتنا فيها ليلة الثانى عشر من أغسطس .
    وصولنا الى ألاسكا كان فى عز الصيف .. درجة الحرارة كانت لا تزيد على درجتين مئويتين .. وبينما كنت ” أكتكت ” من البرد كان أهلها من الإسكيمو يتصببون عرقاً (بس العرق دا لقوه وين ما عارف ) وأنا شخص بنفع معاى أى شئ إلا البرد , وقد كنت قد كتبت للأخ حسن أبشر الطيب عندما كان مستشاراً ثقافياً بواشنطون أشكو له حالي من برد تورنتو التى تقع على خط أونتاريو الثلجى ونشرت تلك الرسالة بمجلة “أضواء ” التى كان يصدرها مكتبة .. وعندما جاء المرحوم الأستاذ عثمان حسن أحمد وتسلم مهام المستشارية واصل إصدارها وكانت ترسل لنا .. وكان مما ذكرته فى تلك الرسالة أن قلت له أننى طيلة ذلك الوقت كنت أظن أن شنبي من الصوف الخالص وأنه سيقيني من البرد فاكتشفت انه 65% صوف و35% بولستر ومبالغة فى تصوير البرد كنت أصف ذلك بأن كل شئ يتجمد حتى الكلام كان يتجمد ويسقط كقطع الثلج وكنا نجمع تلك القطع لنسخنها على “الطوة” لنعرف عماذا كنا نتحدث ..
    والآن فإن الأقدار تقذف بى الى ألاسكا حيث تصل درجة الحرارة أحيانأً فى الشتاء الى 62 درجة تحت الصفر ” الصفر تشوفو فوووق !!” حتى أن بعض العلماء كانوا يقترحون أن نجعل من المنطقة القطبية ثلاجة لعموم البشر تحفظ فيها كميات من اللحوم والخضروات والبقوليات حتى إذا داهمت البشرية مجاعة مفاجئة لجأت لتلك الثلاجة الطبيعية .
    إن ألاسكا تقع فى نهاية الدنيا فى مقابل بداية الدنيا من الناحية الأخرىفهناك مدينة ديوميد الكبرى وتقع فى روسيا وديوميد الصغرى وتقع فى أمريكا ويقع بينهما خط التوقيت الدولى , ففى ديوميد الصغرى فى أمريكا يكون الوقت مثلاً الساعة الواحدة ظهراً من يوم السبت بينما تكون فى ديوميد الكبرى فى روسيا الساعة الواحدة ظهراً يوم الاحد .. تصور أن العبور من يوم السبت الى يوم الأحد لا يستغرق إلا دقيقة وكذلك العبور من الأحد الى السبت .
    الأمور تقع على حدود فاصلة فهنا يقف المستقبل وجهاً لوجه مع الماضي بينما أنا أقف بينهما ممثلاً للحاضر .
    الطريق من مدينة أنكوردج الى المحمية أو الحظيرة الطبيعية حيث توجد تلك الوعول .. يبدأ من نقطة ويتلاشى فى الأفق يقف على نهايته جبل ماكنلي .. أعلى قمة فى أمريكا الشمالية (أكثر من 20 ألف قدم )هنا على القمة تتلاقح الرياح والثلوج وتنجب سهولاً بيضاء لانهائية .
    وأنا هنا القادم من أرض قمرها أسخن من شمس الاسكا أحمل أمتعتى على ظهرى وبها أجهزة لاستقبال الاشارات من تلك الوعول وكان الذين سبقونا قد وضعوها على أعناقها .. وما علينا الا الاستماع لتلك النبضات ورصدها وتدوينها وجمع عينات من ” البعر” والمخلفات الحيوانية فى أكياس بلاستكية وذلك لأخذها للمعمل لقياس المحتوى المائى والخيارات الغذائية..
    وفوق ذلك أجتر من ذاكرتى من وقت لآخر ذلك المخزون الهائل من أغانى أبو داؤود.. فلا شئ ينعش النفس ويبعث الدفء غيرها.
    هناك شئ غريب يحدث لى أحياناً وأظنه يحدث لكم . ألا يصادف أن تصح من نومك وبقايا لحن أو أغنية تتردد على لسانك اليوم كله؟ أهو نوع من النشاط الإنصرافى Displacement Activity نلجأ اليه بطريقة لا إرادية لتخفيف ضغط نفسى؟ ربما.
    وحينما ترامت الجبال وراء الخضرة الطاغية والمستنقع نصف المتجمد أيقنت أننا وصلنا فمثل هذه المستنقعات تصلح مرتعاً للوعول وظباء الكاريبو بقرونها المتشعبة .. بينما إنخفضت السحب الركامية كالعهن المنفوش فجعلت السماء وردة كالدهان بفعل شمس ألاسكا فى هذا الوقت من السنة .
    زهور الأقحوان والداليا تنمو على ذلك البساط الأخضر .. زهرة تدثرت ببقايا ثلج .. فى الصباح نفضته عن بتلاتها , شهقت فى الظهيرة , ثم ماتت .. رحلة قصيرة جداً لكنها حافلة بالمغامرة والجسارة .. من رحم تلك الأزهار فى يوم ما يولد فصل الربيع .. أم أن الربيع فى هذه الأرجاء هو خاطر يمر ببال الأشجار ؟ تلك التى تطرح أوراقها وتنتظر الشتاء وهى عارية ؟ ولكن عندما ذبلت تلك الزهرة وهى تبدأ رحلة الاختفاء كان هناك صوت أبو داؤود يخرج من مخبئة يواسيني ويعزي آلاف الأزهار فى فراشها :
    أينعت ْفى الروضِ زهرةْ
    وإكتستْ سحراً ونضرةْ
    وبدت تزهُو جمالاً فاحَ منهُ الطيبُ نشرا
    فهى للنفسِ أمانٌ وهى للإلهامِ سحرا
    أينعتْ لكــنْ أراها
    ذبلتْ فى ناظــريا
    أينعَتْ لكــِنْ أراها
    تندبُ القطــر النديا
    أينعتْ لكــِن أراها
    ساقَهــا الموتُ فتيا
    ذبلت فى الروضِ زهْرَةْ
    كل شئ هنا يومض لحظة ثم ينطفئ .. ويخيم ظلام يمتد إلى شهور فى زمن الشتاء ..
    وبالقرب من حيث أقف وعلى جذع شجرة أسلمت الروح قبل أعوام كان هنالك الصقر الأصلع .. يحمل وقاحة الدنيا كلها فى عينيه كان يحدجنى بنظرات (عقدتنى) .. صقر على شاكلته فى بلادى يهرب منى ولا يقف ليتمعن فى وجهي وقد ظنت لبرهة أنه سيحط ليأكل من رأسي .. أهل بلادى أيها الصقر الأصلع يسلون (أمان) قلب أى طائر ويزرعون مكانه رعباً لا نهائياً .. تخافهم جميع الحيوانات وتخشى بأسهم حتى الصقور أمثالك ..ولكنى أراك وقد إنفردت بي فى بلاد طيرها “عجمي” .. ونداء خفى يدفعنى أن أصرخ فى وجهه بأن الطيور على أشكالها تقع حتى أغيظك ..
    هذا الطائر هو جزء من إيكولوجية الوعل وظباء الكاريبو والدب الأسود .. يعيشون على هذه الحافة القطبية قبل مجئ الإنسان .. مائة وسبعون ألفاً من هذه الظباء تهاجر فى بداية شهر أبريل قاطعة مسافة 360 ميلاً نحو المحمية القطبية وتتبعها الذئاب والصقور والدببة .. ألم يتسلل الى أذنك صوت أبو داؤود وهو يغنى :
    غــزال البر يا راحلْ
    حرام ٌمن بعدك الساحلْ
    أنا المنّ حالى ما سائلْ
    أنا المني الفؤاد مضنِى
    أنا المنّي الدمع سايل
    أعاني عذابِي الهائل
    أخذ منّي الفؤاد مأخذّ
    ونالْ منّي الهوى نائلْ
    غزال البر يا راحلْ
    وهكذا ترحل تلك الظباء والوعول الى حيث الدفء والعشب ” وطبع الريم أصلو نافر”.
    أمامى يستريح هذا الوعل على مملكة الماء .. نصفه يغوص داخل المستنقع والنصف الآخر يرقب ما يحدث على السطح .. وهو يقضم الأعشاب المائية فهذا هو الزمن الذى ينمي فيه طبقات من الشحم يكتنزها لموسم الشتاء .. وهذا زمن الإشتهاء .. فيرسل إشارات العشق خواراً فى الهواء فتلتقطها الإناث.. وهن يخفين الرغبة تحت التهام مستمر للأعشاب..
    خواره الفطرى ينبه مجموعة من الذكور فترفع رؤوسها بينما تتحرك أنثى لفيفة كانت تقضم الأوراق تحت السفح وكأنها تبحث عن الذى أرسل شهقة العشق الأولى فى هذه الأرجاء .
    إناث الوعل تمر عليهم فترة الطمث الشهرى كل 22يوماً والتوقيت يسبق كل شئ فالأجنة تقضى فترة الشتاء داخل الأرحام فى فترة حمل قد تتجاوز الثمانية أشهر ولا تولد إلا فى الربيع حيث الدفء والعشب متوفر والذئاب أقل جوعاً .
    الصراع الذى ينشب بين الذكور حين تشتبك بقرونها الشجرية الضخمة يضمن للإناث تلقيحاً من الأقوى الذى يحفظ إستمرار أقوى الصفات الوراثية وإنكسار الأنوثة تحت وطئة هى التى تجعل إستمرارالنوع وعدم إنقراضه ممكناً فى وجه الصيادين والبندقجية وتجار الجلود والفراء .. الإحصائيات تقول أن السويد وحدها قد قتلت عام 1970 من تلك الوعول 150الفاً..
    فى هذا الوقت أحسست برغبة فى مشاركة أبو داؤود الغناء:
    أوتذكرينَ صَغِيرتى أو رُبَّما لا تذكرينْ
    الخمسة الأعوامُ قد مرّتْ وما زال الحنينْ
    الشوقُ والأحلامُ مازالتْ تؤرقُ والسنينْ
    أم كان حباً ياتُرَىَ أم كان وهم الواهمينْ
    هل كان حباً لاهياً أم كان شيئاً فى اليقينْ
    هل كنت تعنينَ الــــذي ما تدَّعين
    مازلتُ أذكر خصلة عربيدةً فوق الجبين
    مازلتُ أقرأُ فى السطورِ
    فأستبينُ البعض أو لا أستبينْ
    والعطرُ والأنسامُ يغمرني بفيضِ الياسمينْ
    منديلك المنقوشُ جانبه أو تذكــرينْ
    ما كان قَصْدِى أنْ أَبُوحَ
    فربما لا تذكــــرين
    رائعة الشاعر الرقيق عوض حسن أحمد وعبقرية برعى محمد دفع الله جسدها أبو داؤود فى بيت واحد :
    ما زلت أذكر خصلة عربيدةً فوق الجبين
    وأنا ما زلت أذكر كيف كان ذلك الوعل يجرى فتفر المسافات من امامه.. ليلحق بأنثى تحرك أذنيها يميناً وشمالاً كخصلة من الشعر ..”المساير” كصيحة من صيحات الخمسينات .. وهى فى فرارها تتركنى أنا وصديقى أبو داؤود نقف على حافة العتاب :
    جميلْ وصف جمالكْ يحيِّر الشوادي
    غزالْ نفرتَ مِنِّي وعَمَلْتَ قلبي وادي
    تجِدْنِي لو أقبِّل خدودك النوادي
    أذوب من اللطافةْ ويذُوبْ معاى فؤادي
    يا ناسْ محبوبي ساكت قصد عنادي
    فى هذه الأثناء تحركت السحب الركامية وبقية من نهار إختفت فى ظلال جبال ماكنلى الشاهقة وفى ذلك الفضاء الرمادي تختفى ملامح الوجوه ولكن الوعول التى إنتقلت إلى خارج المستنقع رسمت أجسادها بوضوح وهى تشتبك فى عراك يخيل إليك إنه يحتاج الى قرار من الأمم المتحدة لفض الاشتباك .. وكانت تتحرك يميناً وشمالاً فتعمل الأعشاب والأوراق حسابها ولا أحد يتدخل .. وفجأة يطل دب أسود يقف على رجليه جاذباً جسده الضخم الى فوق وكأنه كنج كونج الذى كنا نراه فى سينما كردفان .. ويتوقف كل شئ .. ويفض الإشتباك وكأن صوتاً خفياً سرى وسط المقاتلين .. وهبط سكون عميق وغطى كل المكان.. كان يفصلنا عن الدب مستنقع وطريق ينشطر نحو السفح وحارس يحمل بندقية يطلق منها طلقات صوتية فى الهواء لتخيف ذلك الدب إذا دعا الحال ووقف الزملاء كل فى مكانه يدونون .. الوقت هنا يتغير سريعاً وجميع الكائنات مشغولة بقضية البقاء وحفظ النوع .. والأقوى من تلك الظروف الصعبة هو النوع ولهذا فإن بيئة ألاسكا من أغنى البيئات الطبيعية , فى نهاية الربيع تسبح أسماك السالمون عكس التيار متحدية النهر لتضع بيضها ثم بعد ذلك تموت .. فقد إنتهت مهمتها .. طيور البفن تعشعش على حواف الجبال ثم تندفع ملقية بنفسها فى البحر لتحصل على الأسماك وهناك أيضاً شياه الدال والتى تعيش على الجبال متسلقة الصخور ببراعة تحسد عليها .
    وهناك الذئب الرمادي الذى كاد أن ينقرض فى جميع الولايات ما عدا ولاية منيسوتا والا سكا وهناك 8000 ذئب .. تتبع قطعان الكاريبو والوعل ولكنها تظفر فقط بالصغير أو العجوز أو المعاق وبذلك تحافظ على النوع خالياً من المورثات الضعيفة .
    يتحرك الوعل بجسمه الضخم الذى يتراوح طوله من الرأس الى الذيل بين مترين ونصف الى ثلاثة أمتار ووزن يتجاوز ال 800كليو جرام ويحمل على رأسه تلك القرون المخملية المغطاة بشعر قصير كالقطيفة التى يصل طولها الى مترين .. عندما تسقط تنمو مكانها قرون جديدة أكبر حجماً واشد قوة . ومن وسط تلك السحب الركامية ومن فجوة بين طيات السحاب يغمر المكان ضوء مفاجئ من شمس أغسطس تلك التى ظلت ملازمة لنا وكأن المغيب لا ياتى .. هل إستمعت الى أبو داؤود وهو يغنى “فلق الصباح”؟. رائعة ذلك المبدع الفذ خليل فرح ” فلق الصباح” كانت تشكل لنا معضلة كان يحمل همومها الفنان الشاعر أحمد الفرجونى.. فهو أول من نبه إليها .. الفرجونى بحسه المرهف كان يتأمل ذلك الشعر الانسيابى :

    فلق الصباح قول لي
    أهو نورك لاح …خلَّي
    ياخفيف الروحْ.. هُوَّ هذا نداكْ
    أم ندى الأزهار ْ
    **
    من جنان رضوان أصلكْ
    لذا كل ربيع فصـــلك
    أتنفــس فوح
    تتنـفس ناسْ
    ورياض وبحارْ
    بالنسبة للفرجونى فإن الطريقة التى تغنى بها هذه الأغنية لا تتماشى مع كلماتها الرقيقة – المستعطفة المتأملة المتسائلة :
    أنت روضة وليك زهرةْ
    ولا كوكب وليك بهـرةْ
    الطريقة التى إنطلق معشر المغنين يقدمون بها أغنية فلق الصباح جردت الأغنية من محتواها النغمى الرقيق ووضعت مكانه مارشاً عسكرياً .. ولهذا كانت محاولة الفنان الفرجونى الناجحة فى “تطرية ” و”تليين” و”مزينة” تلك الأغنية حتى جاءتنا طرية تتثنى مصورة لوجدان الخليل والذى قصد أن يتسلل الى وعينا السياسى من خلال وجداننا العاطفى ..الوحيد الذى كان قد فطن الى هذه الحقيقة هو أبو داؤود بفطرته الفنية السليمة دون أن يخوض فى تنظير لها .. يرق صوت أبو داؤود حتى يكاد يلامس رقة الأطفال وهو يغنى :

    فى لهيبك بشوف ساحل ْ
    كالفراشة بجيك راحلْ
    يا لطيف الطـــيف
    قول لى أعمل كيفْ
    مع اللعـب بالنار
    **
    إنتى روضة وليك زهرةْ
    ولا كوكب وليك بهرةْ
    ضمّخوك للجبينْ
    زعفران وعبيرْ
    إنت نار فى بهارْ
    **
    ما عرفنا عدوك ذاهل
    ولا لسه غلام جاهلْ
    متهللْ طــــيفْ
    الشتاء عندك صيف
    اللعب بالنار
    **
    صبغ الخــدين حمرةْ
    بعد ساعة بشوف صفرة
    الاصــفرار ده كتير
    أخجلوك يا أميـــر
    ولا نمت نهـــار
    فلق الصباح نورْ
    لنحور الغيد صورْ
    يا صباح النـــورْ
    على العـيون الحورْ
    والخديد الحـــارْ
    ثم يقف بنا أبو داؤود على مربط الفرس وهو يقودنا :
    عزة قومى كفاك نومكْ
    وكفانا دلال يومــكْ
    إنتي يا الكبــرتوك
    البنات فاتوك
    فى القطار الطارْ
    والتفت وأجد زملائى طلاب الدراسات العليا وقد فاتوني راجعين الى ذلك الكوخ الخشبى الذى كنا نقيم فيه تحت ضيافة سلطات المحمية الطبيعية .. وصوت أبوداؤود يتردد فى أذني وهو يغنى من كلمات ديمترى البازار:
    بتنّى فــى الترتيلْ
    ما عرفنا ليهو مثيل
    يا ناس لى حبيّبْ “تصغير حبيب “
    أنا فى غرامُو كتيلْ
    يا صاحبى .. هذا حديث لا ينتهى .. رحم الله أبوداؤود عبد العزيز بن محمد أشهر مغنيى الدولة الأموية والعباسية ودولة الأندلس والفاطميين والتركية والمهدية والاستقلال وعصر الانترنت ..
    الأكبر من أبو داؤود .. هو قلبه ألم يسعنا كلنا ؟

    *نشر المقال بموقعsentimetalcom.worldpress.com
                  

08-04-2007, 09:58 PM

maia

تاريخ التسجيل: 03-05-2002
مجموع المشاركات: 2613

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبد العزيز داوؤد...23 عاما من الغياب....الذكري السنوية 4/8 ...هل يموت الفنان؟؟؟؟؟؟؟ (Re: omar altom)

    وقفة تقدير وانتم تحيون ذكرى العبقري عبدالعزيز داوود
    عبدالعزيز داوود .. كيف الحياة غير ليمك .. على الباسل ...وكم من روائع تغنى بها
    رغم مرور سنوات رحيله الا انه لم يمت ولم يرحل عن وجدانا
    صوت مميز ، يتغلغل بطريقة غريبة ليحسسك بانه الفن السوداني حاجة اعظم من عظيمة

    رحم الله هذا العبقري .. وسيبقا فينا حيا ..

    رجاء لو امكن اغنية على الباسل
                  

08-05-2007, 09:55 AM

omar altom
<aomar altom
تاريخ التسجيل: 07-15-2007
مجموع المشاركات: 921

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبد العزيز داوؤد...23 عاما من الغياب....الذكري السنوية 4/8 ...هل يموت الفنان؟؟؟؟؟؟؟ (Re: maia)

    الاخت مايا

    شكرا علي مشاركتك لنا احياء ذكري الفنان القدير عبد العزيز داوؤد. اغنية علي الباسل من درر اغاني الحقيبةومعروف عن المرحوم بانه احد الذين اجادوا اداء غناء الحقيبة ايما اجادة بل وقد ذهب بعص الموسيقيين والفنانين الي اعتبار ان عبد العزيز هو افضل من غني اغاني الحقيبة في ظل منافسة شرسة بوجود عمالقة كالكاشف ومبارك حسن بركات واخرون تفوق عليهم عبد العزيز بقدرته الفائقة علي التحكم بصوته.

    وهنا الاغنية وكلماتها - لك حبا وكرامة-وشكرا علي المرور الجميل

    علي الباسل

    طول يا ليل على الباسل على هضليمة البماثل خدها الاثل
    حليلو الفى القلب مرسوم شوينى خلقة و فاطرو بسوم
    تنتل اكتافو يجيك مقسوم هلك عظمى و هرانى خصوم
    جبينو العطري انداهو سطع نور خدو فى حداهو
    هلكنى و لسة فى حداه و ده العميرى و روحى بتفداهو
    حليلو الفاهو ما هراج حليلو العاصى و السراج
    حليلو الغالى يا دراج حبيبى الليلهموم فراج
    حليلو اللاح فر بسمو حليلو الكية لخصمو
    جميع من سمى باسمو حرام النار على جسمو
    حرام النار على جسمو


                  

08-05-2007, 10:19 AM

salma subhi
<asalma subhi
تاريخ التسجيل: 06-29-2006
مجموع المشاركات: 4817

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبد العزيز داوؤد...23 عاما من الغياب....الذكري السنوية 4/8 ...هل يموت الفنان؟؟؟؟؟؟؟ (Re: omar altom)

    الفن لا يموت...

    التحية لك أخ عمر وانت تحي ذكرى الفنان أبو داؤود.

    كل التقدير
                  

08-05-2007, 04:39 PM

omar altom
<aomar altom
تاريخ التسجيل: 07-15-2007
مجموع المشاركات: 921

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبد العزيز داوؤد...23 عاما من الغياب....الذكري السنوية 4/8 ...هل يموت الفنان؟؟؟؟؟؟؟ (Re: salma subhi)

    الاستاذة سلمي

    شكرا علي المرور والمشاركة باحياء ذكري المرحوم عبد العزيز

    تحياتي
                  

08-05-2007, 04:55 PM

omar altom
<aomar altom
تاريخ التسجيل: 07-15-2007
مجموع المشاركات: 921

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبد العزيز داوؤد...23 عاما من الغياب....الذكري السنوية 4/8 ...هل يموت الفنان؟؟؟؟؟؟؟ (Re: omar altom)

    البروفيسور علي المك ينعي صديقه عبدالعزيز محمد داؤود‎ ‎

    الإهداء‎
    إلى حليمة سليمان أمي‎
    أنها كانت تنشد المديح النبوي‎
    ترانيم في‎ ‎أشغال يومها‎

    والى الشيخ محمد علي المك‎
    أنه أدخلني في‎
    فراديس لغتنا‎ ‎الجميلة‎....

    ثم إلى خالي علي سليمان‎
    فقد تعلمت منه‎
    كيف يكون العيش‎
    في أم درمان صبابة‎...

    مولد زهرة الروض الظليل

    مساء السبت الرابع من أغسطس 1984م مات عبدالعزيز‎ ‎محمد داؤد، كان بدأ رحلته في طريق ‏الأبد مساء الجمعة، وانطلق الموت يلهث إلى قلبه‎ ‎الكبير، فمصير القلب الكبير إلى لهاث، وارتاح ‏الموت حين أسكته، لم اصدق كل ما حصل،‎ ‎وبعضه قد شهدت، ولم اصدق، في يوم الجمعة التي ‏بدأت فيها رحلة الموت كنت مدعواً في‎ ‎بيت أحد الجيران، والدعوة غداء والنهار حار ومضجر، لا ‏اعلم، تباطأت شيئاً، ولكني‎ ‎ذهبت علي كل حال، وجدت خلقاً كثيرين، كان منهم أحد المغنين، ودأبه ‏كان تقليد أداء‎ ‎عبدالعزيز، ولكنه بون شاسع، قال يبدي تظرفاً امقت صنوفه (صاحبك صوته خف) ‏قلت بحدة‎ (‎صاحبي منو؟) قال (عبدالعزيز داؤد) قلت ساخراً (ما هو أنت موجود!) ضحك القوم ‏ضحكاً‎ ‎كثيراً، تشاءمت، أكلت في عجلة، عدت للبيت، وحدي كنت، وفي التلفزيون وجدت ألواناً من‎ ‎مسابقات الأولمبياد في لوس انجيلاس، لم تفد حالتي كثيراً، اعرف الاكتئاب النفسي‎ ‎يقيناً، كنت لا ‏اعلم من أمره، الاكتئاب، كبير شيء، ولكن الأزمنة الصعبة، والتمرس‎ ‎بمقابلة المكاذبين يبدون، ‏أول أمرهم، براءة أطفال، هد من صلابة النفس ونقائها‎ ‎كثيراً. عرفت الاكتئاب إذن. يقيناً. والجمعة ‏‏3 أغسطس كان يومه‏‎.

    وحين بدأت شمس النهار بالإخفاق أبصره حيث كنت في‎ ‎البرندة، سمعت حركة أقدام، ثمة من ‏يصفق، نهضت من موقعي، فتحت الباب، أمامي كان‎ ‎عثمان محمد داؤد، أحييه في حماسة، ثوان ‏وتخال دهوراً، لعله كان يود يختزل مجاملات‎ ‎التحية الطويلات ليقول لي شيئاً أهم كثيرا من ‏مجاملات السلام. توقف السلام، قال‎ (‎صاحبك جه من الأبيض عيان جداً) تركت التلفزيون يحفل ‏بالعدو والملاكمة والسباحة‎ ‎وانطلقت معه نبحث عن طبيب، وعدنا صديق طبيب أن يتبعنا، ذهبنا ‏إلى الخرطوم بحري، ما‎ ‎أنكرنا حي الدناقلة، كان بي حفياً منذ أن جعلته وطن الوجدان يكون في دار ‏عبدالعزيز،‎ ‎ذلك كان في أخريات الخمسين، جسر مطمئن علي الخور يفضي إلى زقاق فيه دار ‏عبدالعزيز،‎ ‎لا اعلم لماذا تفرست في معالم الجسر الصغير في ذاك الموعد من ذاك اليوم ولأول ‏مرة‎! ‎فوقه حصى، وعليه مع الحصى تراب، وكان يضايق السيارة انه علي حافي الجسر تكون ‏دائماً‎ ‎مجموعة صبيان، أقدامهم تزيد ضيق الجسر ضيقاً تخال أحياناً، إن أقدامهم تدعو إطارات‎ ‎السيارات أن تدهسها، تارة ينهضون من مجالسهم برمين، وأحياناً بذوق حسن، في ذاك‎ ‎الموعد ‏من ذاك اليوم لا صبيان ولا أقدام صبيان، ليس هناك من شيء علي الجسر إلا‎ ‎الحصي وإلا التراب، ‏صرنا إلى البيت، ثوان وتخال دهوراً، بعد الباب المضياف، وجه‎ ‎عبدالعزيز، كان جالساً علي ‏كرسي، اسند ظهره علي وسادات، تعبن علي قليل من راحة‎ ‎يحتاجها قلب متعب مجهد، مرهف، ‏أنفاسه تجعل من جلابيته شراعا تعبث به الريح وتنفخ‎ ‎فيه، لا تسعفه الأنفاس المبهورات، لم يتعود ‏هذا الإنسان الرائع أن يصمت، هش لي وبش،‏‎ ‎وضعت اكتئابي بين يديه، دأبي منذ أن عرفته، ‏يعرف ما يضايقني قبل أن أبوح به، نظر‎ ‎إلي، ضحك ضحكاً صافياً هزم به الأنفاس المبهورات قال ‏‏(أنت لسع محافظ علي جلابيتي‎ ‎الجبتها ليك؟) ضحكت بصفاء جعل الاكتئاب المر يتساقط من خيوط ‏الجلابية، يغادر نفسي،‎ ‎جلست انظر إليه، تذكرت لحظتها زماناً في الستين وكنت اعد نفسي للسفر ‏للدراسة في‎ ‎أمريكا. جاءني عبد العزيز وأهداني جلابية زرقاء اللون وفصلتها وحملتها معي، وحين‎ ‎عدت إلى الوطن سألني؟ ماذا أحضرت معك، إن شاء الله جلابيتي رجعت معاك؟) ضحكت، قلت‎ ‎‎(‎والله يا أستاذ كل الجبته معاي اسطوانات وفونوغراف) قال (بس! مرحب الغاب وجاب‎)!

    قبل عصر الجمعة ذاك، بأسبوع أو نحو أسبوع،‎ ‎زرته في البيت، أوان لمنيب، كانت الحمى قد ‏استقرت بجسده، ولحظت تورما في ركبته،‎ ‎جنته، كان يسال ملحفاً عن أغنية الحاج سرور (يجلي ‏النظر يا صاح)، جودت نصها، جعلت‎ ‎أغريه بالترنم، كان علمني شيئاً من مذهبه في الغناء، سنين ‏طويلات، كمفت مثل ظله‎ ‎اتبعه، أغني على استحياء امسك صوته المذهل أغنية سرور، يتحسس ‏مداخلها ومخارجها، كان‎ ‎الأغنية لديه محبوبة يغازلها، ثم تلين، ترق، تتداعى، تكون هو، ثم ‏يكونها صدح (في‎ ‎الضي جبينو النادي والبدر خلان يجمع لطافة ورقة ونفرة الغزلان‎).

    جلست انظر إليه، لم أكن أعلم إني أشهد طرفاً‎ ‎من ساعاته الأخيرات، وهو جالس أمامي، صدره ‏يعلو سريعاً ويهبط سريعاً، أردت أن أقول‎ ‎له إنني لم اكن مقتنعا بسفره للأبيض، لأنه كان مريضاً ‏بحمى وبيلة، عرفت حدتها حين‎ ‎جعلت يدي على جبينه، أصرت عايدة عبدالعزيز ألا أترك أباها ‏يسافر للأبيض، كانت قلقة‎ ‎ليلتئذ وقد زايلها مرح معهود في أسرة ربها واتسم بالمرح، حدثتني ‏ماجدة عبدالعزيز‎ ‎مرة أن والدها قال لها نكتة يبدو انه ألفها في حينه قال يا ماجدة سمعتي بالجدادة‎ ‎الاستضافوها في الإذاعة، قالت ماجدة: (لا) قال (اكمل ليك القصة الجدادة دخلت‎ ‎الأستوديو، ‏وبعدين كالعادة شكرت الإذاعة على إتاحة الفرصة، واتكلمت عن مزارع‎ ‎الدواجن، والأوبئة، وحياة ‏الجداد في البيوت أيام زمان، واتكلمت كويس.. وبعدين‎ ‎المذيع كالعادة قال ليها تحبى تسمعي أغنية ‏شنو؟ الجدادة ما أتلفتت قالت احب استمع‏‎ ‎لأغنية: في الليلة ديك‎ !!).

    ما توقفت لحظة، رفضت رجاء عايدة، لأني كنت‎ ‎أعلم أن عبدالعزيز إن قد قر رأيه على شئ استقر ‏عليه وفعله، إذن فرجائي ألا يسافر‎ ‎مرفوض سلفاً، بحثت في عينيّ لا أمل طأطأت رأسي وخرجت ‏مسرعاً اضرب في الليل لحين أن‎ ‎استدعاني عثمان داؤد عصر الجمعة تلك‎.

    كنت‎ ‎انظر إليه إلى جلابيتي الدمورية، أحاط بها البلى كل جانب تتماسك جميلة في شيخوختها،‎ ‎تكون الدمورية جميلة الشأن رقيقة الملمس حين تدنو من الهلاك، كان كلام عبدالعزيز‎ ‎متقطعاً، ‏رجوته ألا يتكلم. شعرت بثقل المرض الذي احتمل، عاد الاكتئاب إلى نفسي، غمر‎ ‎جيوب الجلابية، ‏تقافز يعود إلى مواقعه. قلت إن الطبيب قادم، هز رأسه، مضيت لحالي‎.

    أمسيات عدداً قبل ذلك كان بدأ يتدرب على ما اسميه (برنامج عتيق) وهو يشمل‎ ‎مختارات من ‏أغنيات للشاعر محمد البشير عتيق، وقد الفت حنجرة عبدالعزيز شعر عتيق منذ‎ ‎عهد ليس ‏بالقصير، غنى له (ما بنسى ليلة كنا)، بتفريغ نغمى على لحن كرومة، ثم تناول‎ ‎القصيدة الصعبة ‏‏(قم نرتشف خمر الهوى) وأخضعها لسلطانه، ومن بعد تلك (أول نظرة‎) ‎واذكر يوم كان تسجيلها ‏بالإذاعة، لم نكن نعرف النص تماماً، اتصلت في نحو الظهر‎ ‎بعتيق في المدبغة الحكومية حيث كان ‏يعمل عصرئذ، وعن طريق سيف النصر عمر عثمان عازف‎ ‎الكمان، وجاء صوت عتيق على ‏التليفون، أملى عليّ كلمات قصيدته، جاء صوته يزدان بوقار‎ ‎السنين، يملى دون خطأ، في ثبات، ‏قصيدة كان نظمها في مطالع الأربعين، عاد حين نشر‎ ‎ديوانه في هذا العام (1987) يثبت على ‏صدرها عام نظمها 1942، ويكتب يقول (رأيتها وهى‎ ‎جالسة على سباته العرس بين أترابها فكانت ‏أول نظرة)، صوته جاء عبر التليفون (الحيا‎ ‎والنضرة والتيه والجبره هم مصدر شوقى، ومصيبتى ‏الكبرى، بالحب ابلانى، وكمان خلاني‎)‎،‎ ‎دخل الموسيقيون إلى الاستديو، الساعة الثالثة بعد الظهر، ‏ينتظرون الاشارة كيف‎ ‎لحنها: أول نظرة، بدأ عبدالعزيز يدندن بشىء ليس من تلك الاغنية في ‏شئ، اضطربت‎ ‎شيئاً، جريت الى مكتبة الاذاعة جئت باللحن عل صوت أولاد الموردة، عطا ‏ومحمود‎ ‎عبدالكريم استمعنا اليه مرة واحدة، رسخ في أوتار الكمنجات، التقطه عبدالعزيز، وجعل‎ ‎يستعمره شيئاً فشيئاً وتم التسجيل بالصورة التي تعرفون الآن‎.

    وأنا أنظر إليه: أيمكن أن يخرس المرض هذا‎ ‎الصوت، أو هذا الرجل الذي ما عهدت نفسه صمتاً ‏طوال حياته فهو إما يتكلم أو يغنى،‎ ‎كانت نظراته بعيدا سابحات، والجلابية خلتها شراع مركب ‏تستبد به الريح، تعلو وتهبط‎ ‎مسرعة: الحالتين كلتيهما.. هل يعقل أن يصمت هذا الصوت المذهل ‏عن الغناء لحظة؟‎

    وأنا إليه انظر: كنا نذهب إلى المنطقة الصناعية‎ ‎أي واحدة من المدن الثلاث تكون، بسبب أو بلا ‏سبب، كان الحرفيون والصنايعية صناع‎ ‎الحياة يتجمعون حين يبصرون بسيارة عبدالعزيز، ‏يصيحون به جماعات، على ملابسهم الزيت‎ ‎والشحوم والغبار، وحر الأسقف الزنك يلوذون منه ‏بظلال النيم إذ يبدو انه لا شجر ينبت‎ ‎مواقع الحديد والشدة سوى النيم، تتوقف سيارته وينطلقون ‏إليه وإليها، جماعة تطلب‎ ‎نكتة، وأخري حكاية وثالثة تطلب (زهرة الروض الظليل). ويغنى ويؤلف ‏نكتة على الفور،‎ ‎ويترك في المناطق الصناعية سعادة كبيرة. وما قصة زهرة الروض الظليل؟ في ‏بدايات‎ ‎الستين مات على أبو الجود رحمه الله، وكان الرجل من أساطين الغناء، في عهده (طابق‎) ‎كرومة عهدا ليس باليسير ثم استقل بغنائه، كان له صوت قوى عريض المساحة، وكان له في‎ ‎مجال تشجيع فريق المريخ باع طويل، وقرر معجبوه الأوفياء أن يقيموا له حفل تأبين على‎ ‎مسرح ‏النادي الذي احب. روى الرواة أن على أبو الجود وجماعته كانوا يشهدون مباراة‎ ‎حامية بين فريق ‏المريخ وفريق الشاطئ. جاء فريق الشاطئ قوياً، متحمساً، وبرز من‎ ‎لاعبيه حارس المرمى ‏بصورة. رائعة، وامسك بكل الكرات التي صوبت نحوه. نذكر أبو الجود‎ ‎أن هذا الحارس من اكثر ‏خلق الله حبا لكرومة ولفنه يتبعه أنى ذهب، رجل طربي من‎ ‎الطراز الأول. انتهى شوط المباراة ‏الأول، هتف على أبو الجود بالناس (يا عالم ما في‎ ‎زول في الهاشماب عنده رق)؟ بين الهاشماب ‏ودار الرياضة شارع الموردة لا سواه، كان‎ ‎المريخ مهزوما بثلاث إصابات، انطلق مريخابي ‏كالقذيفة إلى حي الهاشماب واحضر رقا،‎ ‎بدأ الشوط الثاني، مضى أبو الجود وجماعته وجلسوا ‏خلف شباك حارس مرمى الشاطئ، وصدحوا‎ ‎بالغناء (الرشيم الأخضر، زهرة الروض الظليل، نسيم ‏سحرك، جوهر صدر المحافل) الخ هذا‎ ‎الغناء العذب، ثم جعل الرجل يتداعى، يفقد توازنه طربا الله ‏‏! الله ! ورماة المريخ‎ ‎يسجلون، عصمت معنى، طلب مدني، أبو زيد العبد، وانتصر المريخ آخر ‏الأمر. لم يكن‎ ‎عبدالعزيز يعلم شيئاً عن حفل التأبين، كنا نزور صديقنا الحميم حسن يحي الكوارتى ‏في‎ ‎داره بحي العرب، منطقة ونصيبها من الشعر والغناء حق وفير، قلت له بعد أن هبط الظلام‎ (‎يا ‏أستاذ نمشى نادى المريخ لحضور حفل تابين على أبو الجود) وافق على الفور، ذهبنا،‎ ‎ؤ الطريق ‏عجبت لهذا الرجل، دائماً للغناء مستعد، ولإسعاد الآخرين يتأهب، قلت لنفسي‎: ‎من يعزف له؟ ماذا ‏يتوقع أن يكون بانتظاره في نادى المريخ؟ أشرفنا على الموقع، كان‎ ‎محتشداً بالناس، مجموعة من ‏أهل غناء الحقيبة، قدامى ومحدثين، قدموا خير مالديهم في‎ ‎ذكرى زميل وعزيز، جاء دور ‏عبدالعزيز، صعد خفيفاً إلى المسرح، دأبه، صمت الجمهور‎ ‎يحتشد بالأذان، لم يقل إنه سيقدم أغنية ‏بعينها، ولا أغنيات بأعيانهن، أخذ الرق من‎ ‎أحد المغنين بيد، ثلاثة أو أربعة من الكورس وقفوا ‏خلفه، ما درى أولئك إنهم،‎ ‎وللتاريخ، أمسوا على مشارف مولد أغنية لدى عبدالعزيز، ما كان قد ‏حدثنا عنها قط، ما‎ ‎ترنم بها قط، نكون في سيارته نجوب الطرقات، كثير أحيان، بلا هدف ولا هدى، ‏إذ ذاك‎ ‎يكون الغناء والطرب ونكون محاولات التنغيم التي لم يبلغ علياءها من معاصريه أحد‎. ‎الرمية أولاً، طال صمت الأذان تحتشد: هيا (الجرحو نوسر بى، غور في الضمير، فوق قلبي‎ ‎خلف ‏الكى، يا ناس الله لى): صياح مذهل أمطار مثجمة من الطرب يعب منها الجمهور لحين‎ ‎يثمل ‏نشوان، ثم (يا زهرة طيبك جانى ليل، أقلق راحتي حار بى الدليل، زاد وجدي) هناك‎ ‎جاء مولد ‏زهرة الروض الظليل، (كرومة الأصلي) كما يقولون، إحدى أغنياته الخالدات،‎ ‎كرومة الأصلي، كما ‏أتصور مع كلمات صالح عبدالسيد أبو صلاح، وكلمات عمر البنا وأشعار‎ ‎عتيق. خرجنا من الحفل ‏والجمهور المحتشد يصفق لنا في حماسة كأنه يظاهر فريق المريخ،‎ ‎برعى وابراهومة وجقدول‎.

    وأنا انظر إليه: كيف يصمت هذا الصوت الذي هطل‎ ‎سعادة على كل شبر في الوطن على مد بضع ‏وأربعين سنة، مرة كنا في اتحاد الفنانين، في‎ ‎الدار كانوا يحتفلون بثورة أكتوبر، كل الفنانين الكبار ‏اشتركوا في الحفل، جاءنا حيث‎ ‎كنا نجلس آخر الصفوف، عبدالله حامد العربى عازف الكمان ‏المجيد. قال لعبدالعزيز‎ (‎سمعت انك مريض ولن تستطيع الغناء) رد عبدالعزيز (المرض بحمى ‏الغنا؟).. ضحكنا قام‎ ‎قال (سأغنى لكم ثنائي مع الكابي) اتفق المطربان، صعد عبدالعزيز إلى ‏المسرح، كان‎ ‎الزعيم إسماعيل الأزهري يشهد الحفل، كان سعيداً جداً، تقدم عبدالعزيز إلى‏‎ ‎المايكرفون، قال يخاطب الزعيم (حيغني ليكم اثنين من أولاد بحري، ثنائي، الكابي‎ ‎وأنا، بلاك آند ‏وايت)! كان بشير عباس في مقدمة الأوركسترا، والخليل، وتم دور‎ ‎واتدور. وأنا انظر إليه: في ذلك ‏المغيب الكئيب، هل يمنع المرض الغناء؟ والكلام‎ ‎هكذا؟ في مثل هذا الوقت منذ بدايات عام 1984 م ‏كنت اختلف إليه، قررنا أن نعالج‎ ‎قصائد عتيق المشهورة، اختلفنا حول بعضهن، كان عبدالعزيز لا ‏يحب أغنية (كلما اتاملت‎ ‎حسنك يا رشيق) بينما كنت أودها وداً شديداً، وكان يريد أن يغني (بدر لي ‏حسنك سحر‏‎) ‎وكنت لا أودها وأخيراً حذفنا الاثنتين، وكان بدأ يتدرب على أغنية (يا نسيم بالله‎ ‎اشكي له) وجعل يؤديها بصورة مدهشة جداً، وقرر أن يزحف بكنوز عتيق إلى الإذاعة، كان‎ ‎عبدالعزيز لا يفعل ما يفعله كثير من المطربين، لم يكن يطلب أجورا عالية من أجهزة‎ ‎الإعلام، كان ‏يريد أن يغني بما يسعد الناس في هذا البلد الرحيب. ولما سجل مجموعة من‎ ‎أغنيات الحقيبة في ‏مطلع السبعين تقاض عن كل أغنية بضعة وثلاثين جنيها، فاعجب‎ ! ‎ومثلما قال سامي ديفز حين ‏مات نات كنج كول انهم كانوا لا يقربون أغنية غناها، قال‎ ‎ديفز إن كول كان يضع بصمته الفريدة ‏وأداءه. الأسر على كل الأغنيات. قال لي عبدالله‎ ‎عربي انه يظن أن في ظهر عبدالعزيز مكبرات ‏صوت حبته بها الطبيعة، قال صديقي عاشق‎ ‎اللحون معقبا (عينو حارة ود القطينة!!) لم اكن اعلم ‏مدق ما ذهب إليه سامي ديفز إلا‎ ‎حينما اختطف عبدالعزيز أغنية (ذكرتني) من عثمان حسين، ‏وعثمان جالس إليه ينظر في‎ ‎سعادة، ثم جعل يغنيها بما اطرب صاحبها غاية الطرب، و غير هذا‎ ‎كثير‎.

    صباح السبت 4 أغسطس 984ام كان ذاك العام بما‎ ‎فيه وما انقضى منه ثقيلاً بأحداثه، بطوارئه، ‏وقضاة طوارئه، وقد استحال بذلك إلى قرن‎ ‎من الزمان كان حكمه الواحد هو كاليجولا وجنكيزخان، ‏وسوموزا، آه صباح ذاك السبت طرت‎ ‎إلى الخرطوم بحري لحين أن بلغت دار عبدالعزيز كان ‏الطبيب قد عاده في المساء، ووصف‎ ‎له دواء، أفاده شيئاً حين اطل الصباح، لعل أنفاسه هدأت ‏بعض شئ حين رأيته قلت (الحمد‎ ‎لله) ثم عدت إلى طاحونة الحياة اليومية. في العصر أيضاً جلست ‏وحدي أشاهد الألعاب‎ ‎الأولمبية، تتفجر معها ذكريات لوس انجيلاس عهود الصبا، اخفق الضوء ‏الأصيلي فصار إلى‎ ‎ضوء باهت وأطبق المساء عل روحي، هذا اكثر لحظات اليوم كآبة عندي، وقع ‏أقدام،. ثمة‎ ‎من يصفق، وثب قلبي إلى فمي، أهذا طعم الفجيعة؟ جاء إلي.محمد احمد حمد زميل ‏دراستي،‎ ‎وجار عبدالعزيز، أهناك وقت للتحية؟ نظرت في وجهه، لحظ في وجهي، لا ريب، أثر ‏الفجيعة‎ ‎يوشك هو أن يطلق عنانها خبرا. قال إن عبدالعزيز حالته خطيرة، ذهبنا إلى الطبيب ما‎ ‎وجدناه، وقال لي انهم حملوه إلى المستشفي في بحري، قلت له (انطلق بي) حين وصلنا إلى‎ ‎المستشفي لم يكن على أبوابها جمع حاشد، أوقفنا السيارة قبل أن نسأل، سمعنا رجلاً‎ ‎فقيراً ما ستر ‏الليل فقره يحدث بائساً مثله في أول ليل بحري يقول له (أبو داؤود‎ ‎مات) ! انفجرت السيارة، نحن ‏بداخلها، تبكى ! أعدت الطبيعة عدتها، زمجرت الريح في‎ ‎الأشجار مكتئبة الأغصان، تبكي، صعد ‏الغبار يبكى، قالت الطبيعة: إن هذا نصيبي من‎ ‎الحزن، تكون الفجيعة الرؤية مدببة الأطراف وذات ‏أبعاد، انطلق الأسى على شاشة‎ ‎التليفزيون يبلغ الناس الخبر الذي (جل حتى دق فيه الأجل) لقيت ‏عبدالله العربي أمامي‎ ‎جالساً، يتيم الكمان، على الأرض يبكى، والفاتح الهادي يبكى، وجل أهل ‏الموسيقى، برعي‎ ‎دفع الله كان بعيداً عن ليل الفجيعة في تونس، بشير عباس في جدة، وبقيت ‏وحدي. وجاء‎ ‎كل أهل الموسيقى يبكون، وكل الوتريات تبكى، ورق كرومة يبكى، والخرطوم بحري ‏دخلت‎ (‎بيت الحبس). هل يموت عبدالعزيز، سذاجة سمها أو جهالة فلتكن، كنت أظن أنه لن يموت‎ ‎وأنه دائماً هناك كل مساء قبيل إخفاق ضوء الأصيل في داره بالدناقلة في الخرطوم‎ ‎بحري، وأنه ‏بانتظاري، للونسة أو نخرج لمجاملة الأصدقاء، آه لقد ذهب في نفس الوقت من‎ ‎المساء، يلبي نداء ‏ليس يقدر أن يتمرد عليه أحد. نبهنا الطيب محمد الطيب مرة بمقالة‎ ‎في يوميات الأيام كتبها عن ‏عبدالعزبز، كأنه كان يحس أن هبة الله لهذا الوطن توشك أن‎ ‎تعود إلى من وهبها لنا، وما سمعنا ‏كلام الطيب. وقال لي حسن عطية بعدها (هل قرأت‎ ‎كلمة الطيب؟ ما عجبتنى، بصراحة زي الكتب ‏تأبين لعبدالعزيز) ولم نصدق هذا كله، وفي‎ ‎المساء الموعود، مساء السبت الرابع من أغسطس ‏عام 984ام حمل روحه الرائعة وغناءه‎ ‎العذب، ولم‎ ‎ينتظر‎.

    البحث عن نسايم الليل‎

    لم يكن عبدالعزيز داؤد يحدث كثيراً عن حياته،‎ ‎نشأته أو صباه أو مدارسه، ولم اكن كثير علم بذلك ‏وبعض ما عرفت كان من أحاديث سجلها‎ ‎للإذاعة يذكر فيها طفولته في بربر، وبعض مراحل تعليمه ‏ويبدر أنه قد درس في مدرسة‎ ‎الخرطوم الابتدائية وقتاً قصيراً، مدرسة ومكانها في قلب السوق، ‏ذكر عبدالعزيز أن‎ ‎نوافذ الفصل كانت تجلب الضوضاء خارج المدرسة، وضجيج المقاهي وغناؤها ‏ينبعث من‎ ‎الفونوغرافات، قال في خضم الجلبة الهائلة، يأتيه صوت كرومة عذباً صافياً، لكأنه‎ ‎خلاصة الخلاصة من ينابيع الفن، وذكر أن إنصاته لتلك الخلاصة ما ترك له بالاً أو‎ ‎عقلاً، فقد عرف ‏إذن طريقه فليس عنه يحيد، وفي تسجيل للإذاعة يروى انه سار على قدميه‎ ‎مسافة بعيدة ليستمع ‏إلى زنقار، ذكر أن الليل كان مظلماً، وحده، وأخطار الطريق،‎ ‎استأسدت عليه الكلاب، مزقت من ‏ملابسه طرفاً، أتمثل العبادى يقول (شق حشا الطريق‎ ‎اتيا من الحلال زفنوا الكلاب، ما نالن الا ‏علال) كلا فكلاب الطريق نالت من‎ ‎عبدالعزيز! من هنا وهناك تأتى أخبار بداياته، ذكر لي مرة انه ‏غنى (زمانك والهوى‎ ‎أوانك) لعلى المساح في نحو عام 1939م، كان عبدالعزيز شديد إعجاب بهذا ‏الشاعر‎ ‎العبقرى، وكان يبحث عن قصائده ويدونها ويغنيها، غنى له (طول يا ليل على الباسل) ‏وهى‎ ‎من بعد كلمة رائعة، أتذكر خاتمتها (جميع من سمى باسمو، حرام النار على جسمو)، وقد‎ ‎خلق بأدائه (غصن الرياض المايد) ثورة في الأداء تتشرف بها مطالع الستينات، وغنى له‎ (‎بالله يا ‏نسيم الصبا)، ولم يتم تسجيلها للإذاعة، وربما كان هذا هو السبب في أن لم‎ ‎يكتب لها ذيوع كثير ‏ومرة ذهب إلى عطبرة فسمع مطرباً مغموراً يغنى أغنية بهره لحنها‎ ‎لم يتذكر منها سوى قول ‏المطرب (مساء الخير يا أمير) ولكن اللحن استقر في حنجرته فلا‎ ‎يبرحها، وحين لحظ المغنى ‏إنصات عبدالعزيز المركز، شعر أن الرجل بسبيل أن يختطفها‎ ‎ويستعمرها فامسك عن الغناء، ولكن ‏قضي الأمر، استقر اللحن في ذهن عبدالعزيز، بقى‎ ‎النص، ليست هناك مشكلة سافر عبدالعزيز إلى ‏شندي، وحمل قضيته لمؤلف الأغاني على‎ ‎إبراهيم خليل، واسمعه اللحن وكانت الكلمات، بعضها ‏‏(عار الصيد منك عيون، أهدت ليك‎ ‎البانة لون).. مرة جاء من إحدى جولاته الفنية يدندن بلحن ‏فريد، من الحان كرومة،‎ ‎كعادته تعلق صوته الفريد بالمطلع، جن به جنوناً (نسايم الليل زيدينى) ‏قال إنها من‎ ‎كلمات عمر البنا، أين الشيخ عمر؟ قالوا يسكن مدينة الثورة .. وأين؟ ابحثوا عنه،‎ ‎إصرار وفريد، ذاك شأن عبدالعزيز، ذهبنا وصلنا، جلسنا في دار الشيخ، بصر ووهن، وجسد‎ ‎عليه ‏من آثار الأعوام الكثير، بشاشة معهودة فيه، هذا الفارس بالشعر، القوى بالقصيد،‎ ‎الشاب بإحساس ‏القلب الوثاب، الذي شهد النقائض تكون بين شعراء عصره، وكأن العصر‎ ‎الأموي فينا، وكأن ‏الأخطل وجريراً والفرزدق بيننا، ظاهر صالح عبدالسيد، وشارك في‎ ‎المعارك، وظهر الغناء كالذهب ‏النفيس، نحن في حضرة الشيخ الشاعر وهن بصره القوى‎ ‎بالشعر، عمر البنا، لم يمهله عبدالعزيز ‏فيكمل ترحابه لم يلق عليه القصيدة إلقاء، بل‎ ‎غنى ما علق بذاكرته منها غناءً عذباً استبدت بالشيخ ‏القوى بالشعر، هاشمية الطرب،‎ ‎شالته، بسمة رضا، صارت كل وجهه، جعل يهمهم، يدندن بصوت، ‏لا ريب قد عرف الغناء،‎ ‎صباه، بل حياته كلها، أنطقته هاشمية الطرب (آخ يا شافع .. يا سلام عليك ‏يا شافع‎ .. ‎يا شافع) .. نظرت إلى (الشافع)، فإذا هو ذلك الضخم، الطويل، العريض، عبدالعزيز‎ .. ‎فاجأتنا نسايم الليل إذن، انظر يحمل الشاعر سلامه النسيم ليس كمثل غيره من شعراء‎ ‎زمانه، بل ‏هو بمذهب شعراء المدائح ملتزم ومفتون، مثلهم يمزقه الحنين، تختلف الوجهة‎ ‎والمحبوب، لكنه ‏على المذهب مقيم، سلام أولئك الشعراء لا يحصى عدداً، يفوق أعداد‎ ‎الكمون والسمسم، سلام ‏شاعرنا مثل ذاك، لا يقع تحت حصر تأمل: سلامي بعد تجنينى‎.. ‎عليك وليالى سنينى .. في وصفك ‏وعد حنينى.. يغشاك مرفوق مع النسام روحى خلالو‎.. ‎تسلمنا القصيدة، انتشرت على حنجرة ‏الذهب، سخية الوقع والإيقاع واللحون .. ولم يكن‎ ‎عبدالعزيز يتحدث كثيراً عن بداياته الفنية، ذكر ‏مختار عباس - صديق وحميم- انه قبلنا‏‎ ‎جميعاً، استمع إلى صوت عبدالعزيز، كان بهذا يباهى، وبه ‏يفاخر، قلنا كيف؟ قال (كان‎ ‎ذلك في عام 1943. كنا ماشين عرس في القطينة، مجاملة لصديق، ‏أجرنا تاكسى فورد،‎ ‎اتفقنا مع فنان من المشهورين، مشينا ليهو ما لقيناه، قعدنا مسافة ما ظهر، ‏أدانا‎ ‎طبقة زولك، زعلنا جداً اتكسفنا الجماعة هناك منتظرين، العريس والقطينة كلها،‎ ‎وبعدين؟ قام ‏صديقنا عبدالله محمد صالح قال يا جماعة ولا يهمكم، أنا بعرف واحد بغنى‎ ‎كويس، بس ما ‏مشهور، المهم نعدي الحفلة، أنا شخصياً ما كنت مقتنع بي كلامه، لكن‎ ‎قبلت، قلنا ليه يا عبدالله ‏زولك رين؟ قال طوالى بيكون قاعد في قهوة الزيبق، مشينا‎ ‎للقهوة، زولك عبدالله نزل القهوة، جانا ‏راجع معاهو واحد، أزرق زي الكحل، طويل،‎ ‎عريض، لابس طاقية، جلابيتو نص لياقة، ولابس ‏شبشب، ما معقول يكون ده الفنان؟ ما‎ ‎معقول! يا عبدالله، قلت ليه بالراحة .. ده فنان، واللا رباط، ‏المهم زولك ركب معانا‎ ‎ونهضنا على القطينة، ومما ركب كان بغنى، وبغنى أطربني شديد،.قلت ليه ‏يا عبد، الناس‎ ‎حتعرفك بعد عشرين سنة، في السكة يا زول موية العربية خلصت، زولك عبدالعزبز ‏من يومه‎ ‎دمو خفيف، والدنيا صقيعة والبحر بعيد، كنا ماشين بالطريق الفوق، رمال، رمال، مويا‎ ‎مافي وبعدين قلت ليك زولك عبدالعزيز من يومه دمو خفيف، وبحب يعمل مقالب قال: طيب‎ ‎أحسن ‏بدل نتعطل واحد يبول في اللديتر، واحد فينا سمع كلامو، قام البخار سخن من‎ ‎اللديتر والحصل ‏حصل)! وقد عرف الناس عبدالعزيز داؤد بعد ذلك بزمان لا يقل بحال عن‎ ‎عقد كامل من الزمان، ‏وقد بقى مختار عباس في حياة عبدالعزيز مستمعاً مخلصاً وصديقاً‎ ‎وفياً، وكان مختار زهرة ‏القعدات، وله فيها مواقف مشهودة ومشهورة، وكثيراً ما كان‎ ‎يمزق جلابيته طرباً، وكنت أخشى ‏مثل هذا الموقف، يبلغه مختار دائماً حين يبلغ‎ ‎عبدالعزيز في شدوه (خدام جناين يا نديم، لازلت ‏لامن انعدم) من رائعة الشاعر حدباى‎ (‎زهر الرياض في غصونه ماح). وكان عبدالعزيز يحب هذه ‏الجلسات الصغيرة، لأنها تجمع‎ ‎أصدقاءه ومعجبي فنه، وكانت له بعض أفدنة في الحلفاية، زرعها ‏برسيماً، وأقام عليها‎ ‎حارساً، ولكن عبدالعزيز لم يكن يعرف عن الزراعة أو التجارة كبير شيء، ‏وكسدت بضاعته‎ ‎وصارت المزرعة وبالاً بعد ان اقترض من البنك الزراعي مالاً وجعل البنك ‏يطارده،‎ ‎والفوائد تطارده، وأشباح المحاكم والحجز والبيع وهلم جرا، تغفل الحكومات كل أمر،‎ ‎وتستأسد أحيانا وذاك دين واجب السداد، وقد دفع من دمه ومن قوت عياله ما أسكت‎ ‎الأقساط ‏والفوائد حيناً، ولكن إصرار القوم شديد، فكتب عبدالعزيز خطاباً إلى‎ ‎المسؤولين يلتمس أن يشطب ‏ما تبقى من القرض، كان أهم ما فيه (لقد أنشأت هذه المزرعة‎ ‎أمنى نفسي أن أكون عزيز كافورى، ‏فصرت عزيز قوم ذل !).. ولقد اختفي عبدالعزيز بعد‎ ‎أيام ظهوره الأولي عهدا ليس بقصير، ومن ‏الناس من لم يكن يحب سماعه، وهذه سنة‎ ‎الحياة، ولكنه حين عاد للظهور، جاء بثورة في الفن، ‏ولم يسبق لها مثيل، كان‎ ‎عبدالعزيز صديقاً للسيد الدرديرى عمر كروم، كان الدرديرى مثل مختار ‏عباس يعرف ويثق‎ ‎بكل صدق، أن لعبدالعزيز صوتاً رائعاً وأداءً فريداً، وفي بيت الدرديرى في ‏الموردة؟‎ ‎كانت مجموعة من الأصدقاء تجتمع للسمر وسماع غناء عبدالعزيز، مرة كلم الدرديري، ‏برعي‎ ‎محمد دفع الله، أن يشاركهم في الجلسات، قال برعي (كنت بعزف العود كويس وما بفتكر‎ ‎إني كنت متميز خالص في الزمن داك، ما فكرت كثير في التلحين، جيت لي ناس الدرديرى،‎ ‎سمعت ‏عبدالعزيز بغني الأغاني القديمة، عزفت ليه انسجمنا جداً جداً، غناء عبدالعزيز‎ ‎من الزمن داك كان ‏غناء جميل، أداء سليم جداً، استمرت المقابلات، فهمنا بعض كويس‎)... ‎في عام 1950 سافر فريق ‏المريخ إلى مصر، كان من أعضاء الوفد الفنان إبراهيم الكاشف،‎ ‎كان الكاشف يظاهر فريق المريخ ‏في حماسة مشجعي الترسو، وكانت كرة القدم من صيم‎ ‎اهتمامات حياته، وله ولع بهذا الفريق لا ‏يخفيه، وقد عرف به وهو لا ينكر. كنا نعلم‎ ‎كلما سمعنا صوته الرنان نقول الكاشف مريخابي ومثل ‏هذا الصدق فتشجيع فرق كرة القدم‎ ‎أمر لم يألفه الناس من نجوم الأدب والغناء وغيرها، كثير من ‏هؤلاء خشية أن يفقد‎ ‎طرفاً من جماهيره يدعى الحياد، اذكر فناناً سئل مرة عن أي الفرق يظاهر قال ‏انه‎ ‎محايد وذكر انه يشجع اللعبة الحلوة، وقال آخر إنه يشجع الفريق القومي! على كل في‎ ‎قطار ‏المريخ عام 1950 سافر الكاشف إلى مصر، وكان معه برعي دفع الله، وحسن خواض‏‎ ‎وآخرون، ‏توقف القطار يسعى حثيثاً للشمال، في بربر جاء عبدالعزيز داؤد إلى المحطة،‎ ‎كان ساعتئذٍ يمضي ‏وقتاً في مسقط رأسه، بصر بالقوم قال على الفور(أنا مسافر معكم‎) ‎انطلق للبيت، أحضر متاعه، ‏وانطلق مع القطار المريخي إلى مصر، وهناك سجل بعض أغنيات‎ ‎الحقيبة لركن السودان .. برعي ‏والعود في يده ليس آلة. العود عند برعي إنسان يعشقه‎ ‎تحس أن للرجل علاقة مع ابن مدلل هو ‏العود، علاقة مع معشوقة هي العود، وعزف برعي عزف‎ ‎منفرد لا يطاول سماءه أحد، عود برعي ‏عود سوداني مثل اللون السوداني، ومثل العيون‎ ‎العسلية تكون على وجوهنا جميعاً، أن تفرد برعي ‏بأمر من أمور الموسيقى، فلأن الطبيعة‎ ‎قد منحته السر أن يعزف هذا‎ ‎اللون السوداني، وهذه السمة ‏التي لا نستطيع لها تفسيراً‎ ‎إلا أن نقول إنها شيء سوداني، وحين أذاع برعي في الناس معزوفة ‏‏(لحن الحرية)، عرفنا‎ ‎من بعد، إنه أعلن مولد الموسيقى الآلية، وأعلن مولد المعزوفة السودانية ‏المؤلفة‎ ‎تكون بعد المارش الشعبي، واختصت به، كانت، فرق الموسيقى العسكرية ويعبر عنه ‏بآلات‎ ‎النفخ الخشبية والنحاسية ثم ضروب من الإيقاع تؤديها طبول مختلف أحجامها.. نقل برعي‎ ‎دفع الله إلى الأبيض، واصبح باشكاتب مستشفي الأبيض، وللمدينة في تاريخ الموسيقى، آن‎ ‎يذكر، ‏نصيب. وفيها من أهل شعر الغناء محمد عوض الكريم القرشي، ومحمد على عبدالله‎ ‎الأمي، وقد ‏قدر لقصيدته (أحلام الحب) أن تكون أول عمل يلحنه برعي لعبدالعزيز، جاء‎ ‎عبدالعزيز إلى الأبيض ‏يبحث عن برعي ويعد لثورة في الغناء ليس لها من نظير، قلت لكم‎ ‎إصرار ذلك فريد. من بعد تلك ‏الأغنية جاءت (بالله يا أهل الهوى) واستمرت الألحان‎ ‎تتدفق: هل أنت معي، فينوس، لحن العذارى، ‏أجراس المعبد، عذارى الحي، ومحمد على أحمد،‎ ‎عوض حسن أحمد، عبدالمنعم عبدالحي، حسين ‏عثمان منصور وإسماعيل حسن.. وتدرجت المعزوفة‎ ‎على الزمان يرعاها أب حان، فازت (ملتقى ‏النيلين) التي صنفها برعي بالجائزة الأولى‎ ‎في مسابقة نظمتها إذاعة (الترانسفال) .. قال برعي ‏‏(كان عبدالعزيز لا يغني لحناً لا‎ ‎يقتنع به، أو يحس، إنه لا يلائم صوته، كان يعرف قدرته على ‏ضخامتها). أقول، وكنا حين‎ ‎نجلس في القعدات يجود عبدالعزيز ببعض من الغناء الذي ألفت الآذان ‏والأرواح زمان‎ ‎الثلاثين والأربعين، أغنيات يتسلى بها الناس، كانوا، في المجالس، تبرد عليهم ‏لظى‎ ‎الحرب، تدق الأبواب في الشرق، وفي الصحراء الغربية، ومناسبات آخر، وكنا نسمعها‎ ‎فتبرد ‏لنا لظى زماننا ذاك العصيب، أغنيات تكشف الحجاب عن نساء عاشقات، ما نزع‎ ‎المجتمع عنهن، ‏عصرئذٍ، حجابه الغليظ: يوم لاقيتو راكب بسكليتو.. الشاب الظريف القبل‎ ‎الشاطيء بيتو.. اشر لي ‏بريتو، شقانى وما شقيتو.. شفت الحبيب توب الحد رميتو.. العجب‎ ‎حبييى ما رد لي تحية.. بعض ‏إسفاف، قد يقول بذلك بعض المثقفين، من النوع الكامل من‎ ‎المثقفين والإنصاف أيضاً والأرباع، ‏ولكن أين تخبئون الرؤوس من روح ذاك العصر؟ أكلما‎ ‎تغنت امرأة تتمنى حبيبها، تشتاق، قلتم ذاك ‏هو الإسفاف؟؟ وكنا نستشيره فيمن ندعو‎ ‎للقعدات، إذ أن لها طقوساً ولوائح، وهى بعد محرمة على ‏الثقلاء وهؤلاء كالموت يدركون‎ ‎المرء ولو ألجأ نفسه إلى البروج المشيدة، جاء أحدهم إلى حفل ‏يغني فيه عبدالعزيز ولم‎ ‎يكن عبدالعزيز يود الرجل ويستثقله كثيراً ولكنه صبر عليه حتى لا يفسد ‏الحفل ومضى‎ ‎زمان وعبدالعزيز يشدو، قام الثقيل من مجلسه، جاء إلى عبدالعزيز وقال (يا أستاذ،‎ ‎عليك الله غني لي غصن الرياض لأنها بترجعني عشرين سنة لي ورا) رد عبدالعزيز عليه‎ ‎قال ‏‏(أنت عمرك كم سنة؟) رد الرجل (أربعين سنة) قال له عبدالعزيز (أغني ليك غصن‎ ‎الرياض مرتين، ‏عشان ترجع بطن أمك وتريحنا)!! كان عبدالعزيز يخضع للآلات الموسيقية‎ ‎مثل هذه الأغنيات التي ‏ذكرنا من أغنيات الدلوكة، أغنيات التم تم، أغنيات البنات،‎ ‎سمها ما شئت، وكانت حرية القعدات ‏الصافيات تبيح للغناء والحديث حرية مطلقة،‎ ‎وأحياناً لا تشارك ليلنا أي آلة موسيقية، إيقاع ‏الكبريتة وحده، يشعل الليل طرباً،‎ ‎رجل لا يخطئ في أدائه قط، مرة جاء عبدالله عربي يبحث عن ‏عبدالعزيز، كنت جالسا بدار‎ ‎اتحاد الفنانين سألني عربى قلت له إن عبدالعزيز سافر إلى عطبرة، ‏قال عربى (لكن أنا‎ ‎شايف برعي موجود وأكرت وخواض وبشير، وأنا برضو مكلمنى، السافر معاه ‏منو؟) قلت له‎ (‎غير ليكم، قال ما عايز عازفين اشترى كروسة كبريت من دكان اليمانى وسافر)!! ‏من عهد‎ ‎الأربعينات من اكتشاف مختار عباس، إلى اللقاء في بيت الدرديرى عمر كروم، في مطلع‎ ‎الخمسينات من الطريق الفوق يفضى إلى القطينة، ومن أرجاء الموردة ذات الفن والأصالة‎ ‎والجمال، ومن بربر تزفه الكلاب، تمزق أطراف ملابسه، تريد مسامعه تبلغ صوت زنقار،‎ ‎لحين إن ‏صار عبدالعزيز إلى مسامع الوطن كله، وصار جزءاً رائعاً من تراث هذا‎ ‎الوطن.... رأيت عبدالعزيز ‏محمد داؤد، أول مرة، رأى العين، في أخريات الأربعين، أسعى‎ ‎كل يوم من زقاق العصاصير سيراً ‏على الأقدام إلى مدرسة أم درمان الوسطى، وكانوا‎ ‎يسمونها الأميرية، ولا أمير، وكنا نلبس جلاليب ‏الدمورية والصنادل بنية اللون، رأيته‎ ‎ذات صباح باكر، يقف أمام المكان الذي صار إلى سينما ‏أمدرمان الآن، وكان قبلها قد‎ ‎صار دار حزب الأمة، وفي بدايات نشأته كان معروفاً انه بيت تاجر ‏مصري اسمه إبراهيم‎ ‎عامر. لذلك العهد رأيت عبدالعزيز أول مرة، ولم أعرف لحظتئذٍ انه هو، إلا ‏بعد ذلك‎ ‎حين طالعت صورته تلك في صحيفة ما، وتذكرت القبعة التي كانت على رأسه، والتقط بها‎ ‎صورة فريدة تنم عن شباب وفتوة يذكرها أبناء جيلنا، وأهلات ذلك العصر، قبعة وقميص‎ ‎وجاكت ‏سبور، وعلى الفم كدوس، يعتمد آخره على أصابع يده اليمنى، كان واقفاً في‎ ‎الطريق الكبير، شارع ‏الموردة، وحده، يلفت النظر بطوله الفارع، وسواد بشرته النبيل،‎ ‎على أقل تقدير، كان أطول إنسان ‏عرفه ذلك الصباح في ذلك الشارع. في بيتنا راديو‎ ‎كهربائي خشبي، يأتي بالمحطات الإذاعية من ‏قرونها حين عدت إلى أمدرمان من الفاشر،‎ ‎وجدت أن الكهرباء قد دخلت بيتنا في العصاصير، ‏وكان هذا مبعث دهشة ظلت تسيطر عليّ‎ ‎زماناً طويلاً، وكان الراديو مصدر دهشة أكبر، وأول ‏أغنية سمعتها في الإذاعة في حفلة‎ ‎غنائية موسيقية، نقدم لكم أيها السادة أغنية (يا مار عند ‏الأصيل للفنان حسن عطية‎). ‎كانت أيام وادي سيدنا بداية النضوج لأبناء جيلنا، في السياسة، في ‏الرياضة، وغيرها،‎ ‎وكنا نجلس في النادي، الساعات المتاحة لنا بعد الاستذكار نستمع إلى إذاعة أم ‏درمان،‎ ‎راديو ضخم وكهربائي، يستشرف المكان ينظر إلينا، ننظر إليه، يسعدنا، كنا شيعاً نظاهر‎ ‎فناناً أو آخر، أكبر حزبين، حزب احمد المصطفي، وحزب حسن عطية، وعلى بعد يسير جماعة‎ ‎عثمان حسين، وعلى رأس هؤلاء صديقنا ومولانا فيما بعد، الطيب عباس الجيلي، كنت عصرئذ‎ ‎قد ‏صرت، طوعاً، من أنصار عثمان حسين، وعند برنامج ما يطلبه المستمعون كنا نزيد‎ ‎عدداً، ‏ونقوى، كان عبدالحليم عباس، قد فطن إلى صوت عبدالعزيز قبل أن نألفه بزمان‏‎ ‎بعيد، ونبهنا إليه، ‏ما سمعنا كلامه، حين يطل صوت عبدالعزيز من الراديو الكهربائي‎ ‎الضخم، لا يبقى في النادي قريباً ‏من الراديو أحد، إلا عبدالحليم عباس، وكنت أول‎ ‎أمري، أجامله، إذ كنت اسخر من كلمة ‏‏(العرجون) وهى التي تجيء في صدر أغنية أحلام‎ ‎الحب (زرعوك في قلبي يا من كساني شجون، ‏ورووك من دمى يا اللادن العرجون)، أظنها‎ ‎ليست من الشعر في شيء، بعد زمن صرت متعدد ‏الولاء، حينا أكون مع أشياع عثمان حسين،‎ ‎وطوراً أنصت مع عبدالحليم عباس إلى عبدالعزيز ‏محمد داؤد، أحس اليوم أن عبدالحليم‎ ‎كان يعرف أن في الجو بواكير ثورة، يراها هو، تتكشف ‏كنوزها أمامه، دون أن ندرى، ثم‎ ‎زادتنا (هل أنت معي) عدداً كبيراً، وبعد فينوس، كبر حزبنا شيئاً، ‏وعبدالحليم عباس‎ ‎يقوده سراً، ولا يعالن. أما صديقنا محمد توفيق خليل فانه كان ثابتاً على حزب ‏حسن‎ ‎عطية، بل كان يغنى (محبوبي لاقاني) بعذوبة، ورقة لا تنكرها أذن، رغم إنه كان يلعب‎ ‎الكرة ‏بخشونة أفريقية، قبل أن يعلم الناس أمر الخشونة الأفريقية، ولم يكن توفيق‎ ‎خليل يظاهر فريقاً من ‏فرق كرة القدم، ولا يميل لا إلى الهلال ولا إلى المريخ، ولقد‎ ‎سمعت قبل أيام انه صار رئيساً فخرياً ‏لنادى العباسية، والحمد لله انه قد تعصب‎ ‎لفريق. وكان توفيق يضربنا في الدافورى ضرباً شديداً، ‏ثم نستمع إلى غنائه ونغفر له،‎ ‎ثم أن صديقنا حافظ الشاذلى كان على قدر كبير وعظيم من ‏الرومانسية وكثير إعجاب‎ ‎بأغنيات عبدالدافع عثمان. عرفت عبدالعزيز داؤد، أول مرة عام 1958. ‏ذهبنا إلى داره‎ ‎في الدناقلة شمال، عبدالماجد بشير الاحمدى وأنا، كان الوقت عصراً، وفي اتحاد ‏طلاب‎ ‎جامعة الخرطوم حفل في ذات المساء وللرجل كانت سمعة مدوية في (التعليق) وعدم الظهور‎ ‎في الموعد المضروب، قال الاحمدى انه يثق في بلدياته عبدالعزيز وفي كلمته، الاحمدى‎ ‎من ناس ‏بربر، وكان بمدينته وأهلها يفاخر، كنت في شك من الأمر وكبير، اطل عبدالعزيز‏‎ ‎من الباب، رحب ‏بنا، قال سأحضر، وبر بوعده وغنى، ومنذ ذاك المساء توطدت صلتي به،‎ ‎وصادقته بضعاً وعشرين ‏سنة، لم نكن نفترق أثناءها إلا قليلاً، عرفت زوجه وأبناءه‎ ‎وأهله، وكأني بعض أهله، وحين ماتت ‏‏(فلة) وهى كلبة الأسرة، حزنت عليها زوجه حزناً‎ ‎شديداً، خاصة وان فلة قد الفت دار عبدالعزيز ‏جرواً صغيراً لحين أن أسنت وماتت، وكان‎ ‎عبدالعزيز قد أحس بحزن زوجته، فناداها وقد استبدت ‏به روح الدعابة فقال (يا فوزية‎ ‎شدي حيلك أنا شايف الجيران جايين يعزوك!). وكان مدخل كثير ‏من معجبيه إلى فنه غناءه‏‎ ‎أغنيات الحقيبة وخاصة ما كان منها من التراث المتلالىء، الذي كان قد ‏خلفه كرومه‎ ‎لوطنه وأبناء وطنه، ومن هؤلاء من زملائنا المرحوم اسماعيل بخيت عمر، ‏وعبدالسلام‎ ‎صالح (شلب) وفي الرجلين خفة روح ودماثة خلق لا تخفي، وصارا من بعد من ‏أصدقاء‎ ‎عبدالعزيز، واذكر للمهندس عبدالسلام صالح إننا كنا أيام الطلب في الجامعة نسعى‎ ‎لإقامة ‏حفل بدار الاتحاد، وكلفنا أن نتصل بالفنان عطا كوكو، وكان عطا، رحمه الله،‎ ‎يعمل حلاقاً، وله ‏دكان صغير في سوق الموردة، وانطلقنا إلى هناك صباح يوم جمعة،‎ ‎لنخبر عطا بأمر الحفل. حين ‏بلغنا مشارف الدكان. توقف عبدالسلام وقال لي (تعرف يا‎ ‎أبو المك في مشكلة، عشان الراجل دي ‏أول ما يشوفنا حيفتكر إننا زباين! أنا اكتشفت‎ ‎انو شعرنا طويل، وما بنشبه ناس جايين يكلموه في ‏حفلة!). وذات يوم جاء عبدالعزيز إلى‎ ‎الإذاعة، رأى أن سيدتين ضخمتي الجثة تتقدمان نحوه، كانتا ‏مشهورتين بالدعابة ومن‎ ‎المعجبات بفنه، توقف عن السير، ينتظر، بلغت الأولى موقفه، وئيدة ‏الخطى، حيته، كانت‎ ‎الثانية، وهى اضخم جسدا لم تصل إليهما بعد، قالت الأولى (أظنك ما عرفتني ‏يا‎ ‎عبدالعزيز، أنا ما دار النعيم) ثم التفتت كأنها تريد أن تقدم صاحبتها إليه، لم‎ ‎يمهلها عبدالعزيز، ‏قال على الفور (عارف صاحبتك أتذكرتها دى مش دار الرياضة)؟! بعض‎ ‎المشتغلين بقضايا الشعر ‏السوداني يؤرخون له بأحد كتب الاختيار (شعراء السودان) الذي‎ ‎جمع مادته سعد ميخائيل وهو ‏كتاب له فضل الريادة في جمع مختارات من شعر شعراء ذلك‎ ‎العصر. وينسى هؤلاء فضل رجل هو ‏محمود عزت المفتى والذي جمع المختار من شعر شعراء‎ ‎العامية في ذلك العصر، وهو كتاب نادر ‏ندرة أسنان الدجاج (التعبير مأخوذ من الشاعر‎ ‎لانجستون هيوز): ويحوى الكتاب بين دفتيه قصائد ‏لخليل فرح، يوسف حسب الله، وإبراهيم‎ ‎العبادى وأبو صلاح وغير هؤلاء وكان عبدالعزيز يقتني ‏نسخة منه يحرص عليها حرصاً‎ ‎شديداً، كانت هذه النسخة بعضاً من مصادر فنه وينابيعه، ثم انه قد ‏أنشدني طرفاً مما‎ ‎كان انشأ خليل فرح، وبخاصة ما كان يسمى الخمريات، وكان عبدالعزيز هو أول ‏من تنبه‎ ‎إلى قيمة فن هذا الشاعر، وكان أول من غنى (عزة في هواك) بعد ظهور برنامج الحقيبة،‎ ‎ولا اعرف انه قد سجلها للإذاعة أم غير ذلك. وكان ينشد بعض أبيات الخمريات يصطنعها‎ ‎مطالع ‏لأغنيات الحقيبة، بأسلوب حر هو وسط بين إنشاد الشعر كما علمناه، وأداء‎ ‎المدائح المكتوبة باللغة ‏الفصحى، قر بذهني منها قول الخليل: أنا في بساتين الزهور‎ ‎بين الترايب والنحور اشرب معتقه ‏الدهور نداماى عصافير السحور جمدانه وابريقين وكاس‎ ‎ونديم وساقي خدوده ماس وجنينه سايقه ‏نخيل وآس أنا والحبيب ما معانا ناص ولقد أمد‎ ‎شعر الخليل هذا عبدالعزيز باستنباط طريقة في ‏الإنشاد استخدمها من بعد في قصائد ابن‎ ‎الفارض والبرعي وغيرهما مما سجل ولعل اشهرها ‏الميمية المعروفة (شربنا على ذكر‎ ‎الحبيب مدامة، سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم). ولعل هذه ‏القصيدة هي التي جذبت فن‎ ‎الفنان المصور والمخرج السينمائي حسين مأمون شريف إلى فن ‏عبدالعزيز، فجعلها مقدمة‎ ‎لفيلمه التسجيلي الرائع‎ DISLOCATION OF AMBER ‎والذي ‏يحكى قصة الناس والبناء وحركة‎ ‎الحياة في ميناء سواكن، بغموضها وسحرها، وتجارة الرقيق. ‏هي كلمة حق يقولها المخرج‎ ‎باللون والحركة والصوت ثم يخلص حسين من ميمية ابن الفارض ‏في فيلمه إلى (انتم فروض‎ ‎ونفلي، انتم حبيبي وأهلي يا قبلتي في صلاتي، إذا وقفت أصلي، الله ‏الله) سنين بعدها‎ ‎ظل فن حسين السينمائي يطارد صوت عبدالعزيز. والتقيا، جاءني عبدالعزيز يوماً ‏في‎ ‎الجامعة كدأبه، وقال لي انه يريد أن يسجل شريط فيديو يقدم فيه بعض أغنياته، كان ذلك‎ ‎في ‏مطالع عام 1984، قال انه يريد أن يعطى للناس شيئاً لم يألفوه إذ هم قد سئموا أن‎ ‎ينظروا إلى ‏التلفزيون يستمعون إلى مغن تعزف خلفه الأوركسترا دونما تعبير أو حركة أو‎ ‎تغيير، حمدت له ‏حماسته، ثم قلت له أن الشخص الوحيد، الذي يقدر على هذا الأمر هو‎ ‎حسين شريف، كان حسين ‏شريف يود عبدالعزيز وداً كثيراً، وحين مرض حسين مرة مرضاً‎ ‎شديداً ألزمه الفراش زماناً، كان ‏عبدالعزيز يصحبني إليه، ويصعد إلى غرفته ويغنى له‎ ‎كل مرة أغنيته المفضلة (أمتى أرجع لأمدر ‏وأعودا)، ويطرب حسين كل حين يتقافز طربه‎ ‎بين آلامه الموجعة. وتحمس حسين للفكرة كأنه كان ‏بنتظرها، وكلفني أن أعد كلاماً، هو‎ ‎بالأساس رأى عبدالعزيز في أمور الفن والغناء، وجاء دور ‏الكاميرا لتسجل له هذا‎ ‎الكلام، حسين إذن (قد خلف العبء علي وولى). أشركني حسين في هذا ‏المجد، ماذا أقول،‎ ‎ماذا اكتب إذن؟ جاء الإلهام مرة واحدة شيدت كلامي كله الذي كتبته للفيلم ‏الموعود من‎ ‎صلتي بعبدالعزيز التي بلغت آنذاك بضعاً وعشرين سنة، لذلك حين بدأنا التصوير، ‏وكان‎ ‎في بيت أهل حسين في ود نوباوى كان عبدالعزيز يحدث الكاميرا والمايكروفون بكلام هو‎ ‎خلاصة أحاديث رواها لي، قد يكون قد نسيها، ولكنها جعلت إليه تعود كلمة، كلمة بصوته‎ ‎الدافئ ‏في الحديث. كان يحدث الكاميرا يقول (تعرف يا حسين اهلك من يوم ما ولدوك‎ ‎خاتين عينهم عليك، ‏عايزنك تبقى حاجة تقوم تطلع فنان؟، بفتكروا الفن عمل صياع لكن‎ ‎تحت، تحت، بطربوا ويرقصوا. ‏كرومة خلا حياة الناس بهجة، قهاوي السودان كلها تملا‎ ‎وتفضى بى صوتو، السباته في كل بيت ‏عرس مليانة عشان كرومة، الناس كانت تباريه طول‎ ‎الليل من محل لمحل، تعبنا نحن كمان عشان ‏نصل الإذاعة، المنافسة حادة قدامنا كان‎ ‎الكاشف وعبدالحميد يوسف واحمد المصطفي، وحسن ‏عطية والتاج، عثمان حسين والشفيع، عشان‎ ‎تظهر لازم تجتهد، زملاءنا كلهم كافحوا قبلنا كفاح ‏شديد لحد ما وصلوا، مرة كنت عملت‎ ‎فاصل غنائي في الإذاعة القديمة، وأنا طالع في الباب قابلت ‏واحد يشبهنى جداً، اسود‎ ‎زي الكحل عريض سمين، واهم من ده كله اصلع، كان شايل عود وداخل ‏الإذاعة، لما شفتو‎ ‎ضحكت ضحك شديد. قال لي: مالك ؟ قلت ليه: أوعى تكون جاي تغنى، قال ‏طبعاً! قلت ليه‎ (‎اسمع، أنا لما دخلت الإذاعة كان عندي شعر زي أولاد الهنود، قامت لي صلعة من ‏الغنا،‎ ‎هسع إنت داخل الإذاعة بى صلعة جاهزة؟ شيل شيلتك)! كان عبدالعزيز ينتظرنى بعد صلاة‎ ‎الفجر لنذهب إلى التصوير، لعله كان يحس دنو اجله، كان يحثنا على العمل، وسجل‎ ‎الأغنيات، ‏وحين انتهى التصوير، اطمأنت نفسه، وسافر حسين إلى واو وإلى كادوقلى‎ ‎بعدها، يعد فيلماً آخر، ‏وفي أمسية السبت الرابع من أغسطس 1984، والمطر يحيط‎ ‎بكادوقلى، ويضرب على سقف ‏الاستراحة وجدرانها، ما علموا ساعتئذٍ أن قطراته تنبئهم‎ ‎أنها دموع تذرف على العزيز الذي مات. ‏ونواصل‎ ..................

    الكمونية أخت العذارى‎

    كانت اجمل الأغنيات تؤدي في الجلسات أو القعدات‎ ‎تكون في وداع صديق أو استقبال صديق، ‏أغنيات فيها حرية كمثل الحرية في الأمكنة‎ ‎الفساح، بعيداً عن لجان النصوص التي كانت، في أكثر ‏الأحوال، تجتمع وتنفض لترفض كلمة‎ ‎بعينها أو قصيدة كاملة .. وكنت أحضر كثيراً من هذه ‏القعدات بتنظيمها الدقيق، وكأنها‎ ‎ملاذ الفنان عبدالعزيز محمد داؤود، تصير فيه روح الفن ‏الرومانسي فيختلف إلى الغاب‎ ‎من ضجيج المدن والثقلاء ورسميات الأمور، حقا كان عبدالعزيز ‏داؤود، ربما عهد صباه،‎ ‎مولعاً بالطعام، وقد نسج الناس حول هذا الأمر حكايات عدداً، غير أن اكثر ‏هاتيك‎ ‎روايات فيها مبالغة، أو مغالاة، أو إسراف، يقولون انه في قعدة ما في الحتة الفلانية‎ ‎أكل ‏عبدالعزيز خروفاً، اعترف لي مرة، عبدالعزيز، إنه أتى علي صاج كبير من اللحم‎ ‎الشهي في بيت ‏عرس وقد شاركه (بالعزف) علي محتويات الصاج أحد الموسيقيين، هو بالواقع‎ ‎كثير الحديث عن ‏الطعام، يصفه وينتخب أطايبه كل حين يختلف فيه إلى السوق .. وذات يوم‎ ‎وكنا علي أطراف سوق ‏الموردة قطع علينا الطريق قطيع من الخراف، فأوقف السيارة‎ ‎احتراماً للقطيع وأعجبه خروف ‏فتسمرت عليه عيناه وسط القطيع، وكان خروفاً بني اللون،‎ ‎تمعن في ذلك اللون، ونبهني ‏عبدالعزيز إلى انه (خروف كموش)! ضحكت وهو صاحب تشبيهات‏‎ ‎لا تنسى .. اذكرها فيما يخص ‏صنوف الطعام، مثلاً كان يشبه الكستليتة بمضارب البنق‎ ‎بنق، ويقول عن الكمونية (كمونية أخت ‏العذاري)! لا اعلم لم اسماها كذلك، ولم أساله‎ ‎عن ذلك أبدا .. لعلي قد اكتفيت بطرفة التعبير‎!!

    كانت القعدات أيضاً مكان‎ ‎تجارب موسيقية وغنائية مدهشة، اعتاد بشير عباس أن يصاحب بعوده ‏عبدالعزيز في أغنيات‎ ‎لمطربين آخرين .. فما من جلسة حضرها بشير عباس إلا وقدم عبدالعزيز ‏فيها رائعة‎ ‎إبراهيم الكاشف‎
    ‎(‎المقرن في الصباح) لخالد أبو الروس‎ ..
    الروض بسم‎ ‎والطير غرد‎ ..
    والطقس لا حر لا برد‎ ..
    الشمس إبان الشروق‎ ..
    أنا والحبيب‎ ‎نجلس نروق‎ ..
    وسط الزهور العاملة روق‎ ..
    ويشجينا أيضا بأغنية محمد عوض الكريم‎ ‎القرشي وعثمان الشفيع (رب الجمال) وأولها (المالك ‏شعوري، أنا لي فيه آمال، رب‎ ‎الجمال) وكانت رب الجمال هذه ورب السعادة وسائر القرشيات ‏اللائي يسميهن الجمهور‎ ‎عاشق الغناء (الأرباب) قد وجدن من وقف لهن في الإذاعة بالمرصاد ‏فصارت رب الجمال‎ (‎رمز الجمال) وشتان ما بين هذه وتلك، أعلم انه لو عاش هؤلاء القوم في ‏العصر العباسي‎ ‎لقتلوا بشار بن برد انه قال (ربابة ربة البيت) ومن لجان النصوص والمسؤولين ما ‏يقارب‎ ‎أن يشابه محاكم التفتيش‎.

    كان عبدالعزيز صديقا لعباس بشير والد بشير عباس،‎ ‎ولعبدالعزيز حبال صداقة وود مع كثير من ‏أهل حلفاية الملوك، ما تصرمت، وكان كلما‎ ‎سافر إلى بلد في أنحاء السودان وفيها عباس بشير إلا ‏زاره وأقام عنده، وفي 1956 حل‏‎ ‎عبدالعزيز مدينة سنار، وكان عباس بشير يعمل موظفاً بها، ‏وبشير بدأ حياته العملية‎ ‎هناك موظفاً بمصلحة الري، وكان عبدالعزيز قد جاء لحفل يقام في دار ‏السينما، ويعلم‎ ‎أن لبشير بدايات موفقة للعزف علي العود، فطلب إليه عبدالعزيز أن يصاحبه ‏بالعزف،‎ ‎وتلك كانت أول مرة وحدثني بشير عباس فذكر أن أول أغنية عزفها في ذلك الحفل كانت ‏هي‎ (‎سمير الروح) من نظم الشاعر الملهم عبدالرحمن الريح‎..

    ولم تعد مدينة سنار‎ ‎تفي بأغراض بشير عباس الفنية وأشغاله .. فانطلق إلى الإذاعة بعد ذلك بعام ‏أو عامين،‎ ‎ولعل مصاحبته عبدالعزيز علي العود قد كانت إجازة فنية فتحت له أبواب الإذاعة، عين‎ ‎في مطالع يوليو 959ام سكرتيراً لأوركسترا الإذاعة، وفي واقع الأمر فقد كانت أخريات‎ ‎الخمسينات ‏وبدايات الستين تؤذن بعهد جديد في تطور الموسيقي والموسيقيين في السودان،‎ ‎كانت طريقة ‏بشير عباس في العزف علي العود تنبئ عن تأثر بليغ بالموسيقي العربية‎ ‎والمصرية بوجه خاص، ‏ولكن بشير عباس لم يستسلم لذلك الأثر، بل أفاد منه، ولم يجعل‎ ‎نفسه محل استسلام وخضوع لتلك ‏الموسيقي، فخلط ذلك التأثر بتربية فطرية سودانية‎ ‎صميمة، هي التي نسميها دون كثير حذر ‏طريقة بشير عباس، تحسها في‎ ‎موسيقاه وفي لحون‎ ‎الغناء التي صنفها، وكان عهد ظهور بشير ‏هو عهد جيل الموسيقيين من أمثال عازف الكمان‎ ‎محمدية الذي تأثر أو قل تعرض لذات المؤثرات، ‏وبأسلوب عبدالله حامد العربي أولاً، ثم‎ ‎درس في معهد الموسيقي في مصر وأجاد الأسلوب الشرقي ‏ولم يفقده ذلك موروثات الكمان‎ ‎السوداني من لدن السر عبدالله وحسن الخواض وسائر الذين .. ‏منحوا الكمان سيدة الآلات‎ ‎الموسيقية طراً، جنسيتها السودانية‎ ..

    سافر بشير عباس عام 1961م إلى القاهرة‎ ‎بصحبة عبدالعزبز داؤد، كان هناك حسن خواض ‏وبابكر محمد احمد وبرعي محمد دفع الله‎.. ‎ويذكر بشير انه وفي وجود برعي ربما لم تكن هنالك ‏من حاجة كبيرة إلى سفره إلى مصر مع‎ ‎الفرقة، ولكنه يبرر هذا أن عبدالعزيز كان بعيد النظر ولعله ‏عزم علي أن يمنح بشيراً‎ ‎فرصة (للتدريب) علي حد تعبير بشير عباس .. وقال انه حمل معه وعلي ‏استحياء أول لحن‎ ‎له هو أغنية (أشوفك) التي نظمها عبدالله النجيب لتكون بكورة تعاونه مع ‏عبدالعزيز‎.. ‎كان بشير يخشى أن يهمل عبدالعزيز شان أغنيته، ولكن عبدالعزيز تحمس للأغنية ‏وغناها‎ .. ‎ويعتز بشير بذلك كثيراً، إذ كان عبدالعزيز منذ بداياته قد قدم ألحانا رصينة‎ ‎السبك، جليلة ‏الصوغ، مثل هل أنت معي وفينوس وصبابة وغيرهن من ذاك العقد النضيد‎ ‎المتلالىء‎ ..

    في الجلسات حيناً بعد حين، تكون النكتة سيدة الموقف، وقد تاخذ‎ ‎مقاماً قريباً من الغناء، وقد تنبثق ‏فجأة رغم كل شىء، وقد يحكي عبدالعزيز لي ملحة‎ ‎أو نكتة انشأها أو سمعها ويريد أن يسردها ‏علي طريقته الفريدة يأتي إلى مكتبي في‎ ‎الصباح البكر يقول (سيد علي أنا جاييك بي واحدة بت ‏كلب) اقول له (طيب نسمع) ينطلق‎ (‎طبعا انت عارف اليومين دي الرعاة بقي عندهم سوق ‏وبيهاجروا كمان، عشان كدة اسعارهم‎ ‎عالية، المهم في واحد كان عنده خمسة غنمايات، قال احسن ‏يوديهم للراعي، قام مشي ليه‎ ‎وقال يا سيادتك تاخذ كم في الشهر وترعي الغنم ديل؟ صاحبنا ‏الراعي قال ليهو والله‎ ‎انت عارف اليومين الحكاية قرصت معانا شوية، يعني حنأخد منك مية جنيه، ‏كل غنماية بي‎ ‎عشرين جنيه! صاحب الغنم ضحك كدة وقال للراعي: عندى سؤال واحد الكتب علينا ‏ولا عليكم‎ ..

    حين اتجه عزمنا إلى تسجيل أغنيات الحقيبة، كتبت خطاباً حول هذا الموضوع‎ ‎إلى الاستاذ محجوب ‏عثمان، وكان وزيراً للثقافة والاعلام عصرئذ، فوافق علي الفور‎ ‎وأول أغنية سجلها عبدالعزيز فيما ‏اذكر كانت (عروس الروض‎) ..
    سارعي من قبل‎ ‎يشتد الهجير بالنزوح‎
    واسبحي ما بين طيات الاثير مثل روحي‎
    راذا لاح لك الروض‎ ‎النضير فاستريحي‎

    وهي قصيدة للشاعر الياس‎ ‎فرحات، وكان زنقار قد جعلها طرفا من تراث الغناء السوداني ‏فانتشمرت، في زمانه‎ ‎انتشاراً شديداً، وقد كان الفنان الممتاز زنقار من الفنانين الذين يكن ‏عبدالعزيز‎ ‎لهمم وداً شديداً، وكان معجباً به اشد الاعجاب، واذكر انها حين انتشرت بصوت‎ ‎عبدالعزيز وكلما سمعها صديقنا الموسيقي علي ميرغنى، بكي لفرط التأثر بالاداء‎ ‎الجميل، وسجل ‏عبدالعزيز ضمن هذا المشروع أغنيات عدداً، كنا نامل بالطبع أن تزيد‎ ‎ولكن تراكم الاشغال حان ‏دون بلوغنا ما كنا نروم، أما أنا فقد كان من دافعي كمستمع‎ ‎أن ينعم المستمعون كافة بسماعهم ‏غناء عبدالعزيز اغنيةصالح عبدالسيد ابو صلاح وكرومة‎ (‎كم نظرنا هلال) وقد سمعته يغنيها فيما ‏يشبه الاعجاز وكنت كثير الحديث عنها، في‎ ‎واقع الأمر، ما أزال، ويسألني الأصدقاء مداعبين ‏ولماذا كم نظرنا هلال، وانت مفرط في‎ ‎تشجيع المريخ؟ والرد عندي: لله في خلقه شؤون‎ ..

    وطرفة أخري، قال عبدالعزيز‎: ‎انه عاش في زمن ما شاب (درويش) يعتقد الناس أن فيه بركة، ‏وكان اذا قال مثلا (خالي‎) ‎يموت خاله في اليوم التالي، واذا قال (عمتي) تموت عمته في اليوم ‏التالي، وهكذا وكان‎ ‎أهله يخشون هذا كثيراً وفي ذات يوم وأهله كلهم في البيت صاح فيهم (ابوي)! ‏وفي اليوم‎ ‎التالي مات جارهم‎!!

    اللهم قد اخترت عبدالعزيز إلى جوارك، اجل لكل اجل كتاب،‎ ‎اللهم أن كان مسيئاً فتجاوز عن ‏سيئاته، وما كان عبدالعزيز كذلك، اللهم أن كان‎ ‎محسناً فزد في احسانه، وبالمعنى الذي نعلم فقد ‏كان براً بنا؟ عف اللسان، وعلمت من‎ ‎بعد أن مات انه كان يخرج إلى سور جامع ام درمان الكبير ‏عقب صلاة الفجر كل يوم جمعة،‎ ‎ويوزع علي المعدمين الفقراء عند سور الجامع مئات الارغفة .. ‏حدثني بهذا صديقي حسن‎ ‎يحي الكوارتي‎ ..

    كان الغبار مساء السبت الرابع من اغسطس 1984، يشيع معنا‎ ‎اعذب الاصوات في تاريخ هذا ‏الوطن غير مدافع، دونما ضجة، أو ثرثرة في الصحف، هو اعذب‎ ‎الاصوات في تاريخ غناء ‏السودان غير مدافع، اقولها لا ارجو تأييداً من احد، ولا‎ ‎تعضيداً، واري الان بعض اصوات ردىء ‏الغناء تريد لتثري من أغنيات عبدالعزبز، من‎ ‎هؤلاء من حاكي مذهبه في الاداء، يصيبني عمله ذاك ‏بتعاسة غامرة اقول لهذا أن انشاد‎ ‎عبد العزيز‎:
    بهديها روحي تقسما‎
    بدل الزهور في‎ ‎مواسما‎
    مهما النفوس قدرن سما‎
    دي الفي القليب ممضي اسما‎
    والتي ينشدها باسلوب الرميات الحر، مثل ما عهدنا‎ ‎من أيام سيادة غناء الحقيبة لم تصطنع (رمية) ‏قي واقع الأمر وانما هي أغنية لها لحن‎ ‎معروف وتؤدي به وهي أغنية (لي نيه في قمر السما) ‏لسيد عبدالعزيز، وقد تصرف‎ ‎عبدالعزيز في ادائها وجعلها مطلعاُ ينشده بحرية، وهو أمر لا يقدر ‏عليه إلا صاحبه‎ ‎الذي ابتدعه، والله تعالي اعلم، ثم هل يقلد مذهب في الاداء؟ ثم أن بعض اهل الفن‎ ‎الشعبي اسلموا لحونه (لكركبة) الايقاعات المنفرة، تصور لقد سمعت من يغني بتلك‎ ‎الايقاعات ‏المنفرة أغنية لبرعي وعبدالعزيز تعتمد اساساً علي استهلال موسيقي بارع،‎ ‎وعلي لازمات ‏موسيقية صعبة الاداء، تلك هي أغنية صغيرتي. والشيالون يرددون مع مغنيهم‎ (‎الشوق والاحلام ‏ما زالت تؤرق والسنين، هل كنت تعنين الذي ما تدعين، ما زلت اذكر‎ ‎خصلة عربيدة فوق ‏الجبين‎)..

    فوزية محمد حسين زوج الفقيد، خلف العبء، بعضه‎ ‎وهو جله،عليها وولي، عزة وعزام التوأمان ‏يصعدان درج التعليم صعوداً متفوقاً، عمران‎ ‎اكبر الاولاد صار من اهل فنون الطباعة، كان ابوه ‏العظيم طرفاً من حياته، صفيفاً في‎ ‎مطبعة، وداؤد في دبى، وعلاء الدين في شموخه، وعايدة تعمل ‏في الإذاعة، وماجدة تغني‎ ‎لابيها فيما قد علمنا، وشجرة النبق في ذلك البيت تجود بما تقدر عليه، ‏وقد تجادت في‎ ‎صباها بثمر حلو وفير، وقريباً منها غطاء بئر المجاري، وكان المجلس البلدي قد ‏اصدر‎ ‎قراراً بأن تحفر الابار في كل بيت علي نمط هندسة المجاري الحديث، وجاء الحفارون إلى‎ ‎بيت عبدالعزيز وقد استبد بهم الطمع، قالوا له يا استاذ البير بتجيب مويه في البيت‎ ‎ده بعد ما نحفر ‏عمق عشرة رجال، والراجل بكلف ميتين جنيه! ضحك عبدالعزيز ثم قال‎ (‎و..بتحفروه بي كم)؟‎!!

    واني مازلت اذكر والاسي بعضي وجلي وكلي والحزن تلك‎ ‎الليلة الرابعة من شهر اغسطس ‏‏1984م، والغبار ينشر الاسي، والمقبرة ذات الظلام واهل‎ ‎الفن قد تركوا الغناء للبكاء، اذكر أن ‏واحدا من المغنين المعروفين كان يغنى علي بعد‎ ‎خطوات من بيت الاسي في حفل عرس ليلة دخلت ‏الأمة (بيت الحبس) من قال أن الفن غير‎ ‎الاخلاق؟‎..‎
                  

08-06-2007, 00:22 AM

حاتم هاشم
<aحاتم هاشم
تاريخ التسجيل: 08-31-2006
مجموع المشاركات: 1411

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبد العزيز داوؤد...23 عاما من الغياب....الذكري السنوية 4/8 ...هل يموت الفنان؟؟؟؟؟؟؟ (Re: omar altom)


    بسم الله الرحمن الرحيم
    سلام ...
    عمر ود الخاله .. كيف ياحبه
    تسجيل حضور و متابعه .. واعجاب .

    ابـــــؤداوود :

    تحياتي ...
    حاتم هاشم.
                  

08-06-2007, 08:31 AM

omar altom
<aomar altom
تاريخ التسجيل: 07-15-2007
مجموع المشاركات: 921

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبد العزيز داوؤد...23 عاما من الغياب....الذكري السنوية 4/8 ...هل يموت الفنان؟؟؟؟؟؟؟ (Re: حاتم هاشم)


    ود الخالة حاتم

    شكرا يا حبة علي الغشوة السريعة. ياها المحرية فيك.

    تحياتي للجميع
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de