دعوه للقراء(شيرا المجنونة تحلم بالمطر) القاص احمد الملك

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-03-2024, 10:24 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثالث للعام 2007م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
07-28-2007, 11:01 PM

خضر حسين خليل
<aخضر حسين خليل
تاريخ التسجيل: 12-18-2003
مجموع المشاركات: 15087

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
sssss
دعوه للقراء(شيرا المجنونة تحلم بالمطر) القاص احمد الملك

    كنا أول من لاحظ اختفاءها، فقد ظللنا نلعب الكرة طوال يومين ولم يتعرض لنا أحد، ونصبنا الفخاخ لعصافير الخريف دون أن يسرقها أحد، وحينما بدأت الشكوك تساورنا بدأنا نلقي الكرة داخل بيتها، فلاحظنا أن الحجارة لاتنهال علينا كما كان يحدث في المرات السابقة، ثم انهلنا على المكان بالحجارة دون مجيب، وفي النهاية تشجعنا وبدأنا نعد خطة اقتحام بيتها، فقررنا ألا نغامر بالدخول من الباب خوفاً من أن يكون الأمر كله إحدى حيل خريف جنونها، فتسللنا إلى بيتها عن طريق الجدار في الظهيرة في الساعة نفسها المحددة لنومها، وكان أول ما استشعرناه بعمق هو الهدوء يدب في مفاصل فوضى المكان منذ أزمان سحيقة، وعرفنا من خلل تركيز رائحة البهجة الفاترة في المكان ثمة وجوداً نهائياً للموت، فاخترقنا سقيفة البيت الخارجية المشيدة من جذوع شجر النيم، وتوغلنا إلى صالة البيت الداخلية حيث قيظ أغسطس أصبح أكثر كثافة، وحيث الزمن أكثر تشبساً في حبات الضوء المغرقة في القدم، وكان أول شئ يقع عليه نظرنا وجهها الملطخ بدهن الموت وجسدها المتيبس فوق عنقريب شجرة الحراز، وفي البداية حاولنا إزالة الصدأ عن وجهها لتقدير عمرها بالإستعانة بكتيب توضيحي عن الزواحف المنقرضة، ومن مستوى البهجة الأخيرة في عيونها عرفنا أنها حافظت في رحلة الموت على أبرز سماتها كأمرأة معصومة من الحزن، ولنحدد ميعاد موتها حاولنا تحديد آخر أحلامها لمعرفتنا السابقة بمقدرتها على فرض سطوة أحلامها على الحياة اليومية، وبعد أن دققنا في آخر تعابير عيونها، واقتفينا آثار الأحلام في المكان وقارنا ذلك بجدول عادات بهجتها، عرفنا أن شيرا المجنونة كانت تحلم عند موتها بالمطر، فعرفنا أن وفاتها حدثت ظهيرة يوم الأربعاء السابع من أغسطس المطيرة، أي قبل عشرة أيام من اكتشافنا لموتها مما أثار دهشتنا لأن ماعزها المربوط أمام بيتها لم يبد عليه الجوع الشديد إلا قبل يومين فقط من اكتشافنا لموتها، إلا أننا وجدنا تفسيراً مدهشاً حينما اكتشفنا آثار الأقدام الضخمة ذات الأصابع النافرة بجانب الماعز، وتعرّف فيها أكثرنا خبرة في اقتفاء الأثر على خطوات الموت الذي ظل يطاردها طوال سنوات في صورة غريب منسي يرتدي ملابس الجنود ويقضي القيلولة تحت أشجار الكتر معانياً مرارة الخيبة والشعور بالوحدة ..

    شيرا المجنونة استطاعت طوال سنوات عمرها إرباك ذاكرة الموت في متاهات نسيانها التي كانت تشيدها. حاجزاً لتفادي الملل الذي قد يتسرب إليها من ثغرة تكرار وقائع غير مشوقة، وحتى في المرة التي احتال الموت لمباغتتها من الخلف وهي تتغوط داخل حقل الذرة مستغرقة في ضعف عذابها وهي تمارس دفع الحجارة من جوفها، مستمعةً لأزيز مفاصل دفعها المتيبسة، ولصوت فئران الحقول تقرض جذور الذرة من حولها، وصوت الخنافس تطير بجانبها، ولصوت الأرضة تدب في حذائها المصنوع من جلد الماعز، إلا أنها كانت بالمرصاد لخطواته، وبعصا السنط ذات الأشواك الناتئة طاردته، شخصاً غريباً أصفر له جناحين قبيحين من نفس لون جسمه يشبهان جناحي وطواط، فجاهد للهرب محطماً أعواد الذرة ومقتلعاً خيال مآتة من جذوره، ومفزعاً فئران الحقول.

    ومنذ ذلك الوقت اكتفى الموت بمراقبتها من على البعد محاولاً رفع منسوب الحزن لديها لتفكر في الموت تلقائياً، فيحاول وضع العراقيل أمام محاولتها تبسيط شؤون حياتها اليومية،تكتشف أحياناً أن أحداً قام بفك رباط ماعزها المربوط بجانب شجرة الجميز فتقضي الليل كله في البحث عنه داخل حقول الذرة، أو تكتشف أن أحداً قام بحلبه سراً، أو أن أحداً يطرق باب بيتها بشدة طوال الليل ثم يولي الأدبار، حينما تستيقظ وتتسلح بعصا السنط قبل أن تفتح الباب، فتكتشف آثار أقدامه الفزعة أمام باب بيتها وتكتشف رائحة الموت الشبيهة برائحة ضبع في لبن ماعزها، وتتعرف عليه فوراً حينما تستمع إلى طرقاته البائسة على بابها يحاول أن يذكرها بوجوده فتقول بأسى: قطع التمور عن هويته يا للمسكين، وحين تسألها سليمة الرمالية التي تقضي معها الليلة الأولى لموسم ؛ فتقول بنفس رنة العطف في صوتها: إنه الموت. وبسبب شعورها بالذنب كانت تعد له عشاءً خفيفاً من لبن الماعز وتتركه له بجاتب أجمة الكتر معتقدة أنها يمكن أن تحقق تعايشاً سلمياً محدوداً معه، وأن تزيل الجفوة المفتعلة معه بتنميةأواصر تموم مشتركة، وتكتشف بدء نجاح تدبيرها حينما تجد أنه أصبح يسرق أعواد الذرة الخضراء من الحقول المجاورة ويكومها أمام ماعزها.

    وحينما توغلنا داخل البيت في العتمة الناشئة عن نباتات قحط أشواقها المتسلقة وصبّار وحدتها بدأت تتكشف لنا أبعاد مأساة أحترافها لمحاولة إرباك الموت طوال عقود، حينما لفت نظرنا أقفاص الطيور المصنوعة من جريد النخيل، واكتشفنا في القفص الأول ثلاثة من طيو رالسقدة مما عزز لدينا شائعة أنها كانت تستخدم كيور السقدة لنظيف أسنانها بعد أن تأكل لحم الضفادع، واكتشفنا قفصاً آخر مخصصاً لمجموعة من العصافير الغريبة التي نشاهدها في حقول الذرة في آخر أيام الخريف.

    وفي البداية بدأنا نصدق مقولة أنها كانت تربي الطيور لتحارب بغنائها في ساعات القيلولة محاولة الحزن اختراق حدود مملكة بهجتها، إلا أننا شعرنا بالميل أكثر لتفسير أنها كانت في الواقع تختبئ طوال أيام الخريف في حقول الذرة وتربض داخل أشجار الكتر لكي تصطاد طائراً غريباً تحتفظ بتفاصيل شكله في مخيلتها، لأن لحم ذلك الطائر كان كفيلاً بمعالجة أدواء الشيخوخة، واستعادة مجد الشباب، وعزز ذلك الإعتقاد لدينا أكوام عظام العصافير التي وجدناها متناثرة في المكان بين نباتات الصبار التي بدأت في الذبول وسيقان نبات عباد الشمس التي بدأت في الجفاف، وفي رائحة ندى الفرح الآخذة في التراجع، حتى أن أكثرنا تماسكاً بدأ يشعر بالإختناق الناجم عن الفجوة الزمنية التي بدأ يخلفها تراجع الفرح أمام سطوة زمن أحزانها الضائع، كذلك عزز ذلك الإعتقاد لدينا الأشياء التي وجدناها معلقة في السقف بحبال طويلة لدرء خطر الأرضة التي أتت على كل شئ في المكان، والتي كانت كافية لنعرف أن صاحب المكان كان مصاباً بهوس عاطفة متأخرة. فقد عثرنا على أشياء مخصصة لعروس دون أن تهمل حتى أقل التفاصيل أهمية، واكتشفنا الطمبور الذي كانت تحمله في أمسيات أرقها وتجوب به القرية تحاول معالجة الأرق بالإغراق في البهجة، فتفر مذعورة لدى مرورها الخشن فوق الأوراق الجافة بأنغامها القاسية الخالية من رحمة الحب، الطيور النائمة فوق أشجار اللبخ وقماري أشجار النخيل وأرانب أشجار الكتر، ويستعيد الخرفى النائمين لدى هبوب عاصفة مرورها وعياً غير مكترث بأحداث منسية في عتمة الذاكرة، ويعانون من وعثاء الوعي حينما يكتشفوت أنهم مربوطين بالحبال لتجنب سيرهم أثناء النوم، واكتشفنا الجرة التي كانت تحتفظ فيها بشراب المريسة التي تستخدمها كمادة منشطة للنسيان في مواجهة نشاط خريف جنونها، واكتشفنا الرحط الذي كانت ترتديه في الخريف المنصرم حينما اقتحمت عرضاً مكشوفاً للخدعة في سوق الأربعاء يتوسطه ساحر مسن زعم لنفسه مقدرة غير مسبوقة لاستجلاب سمكات حمراء من نهر مقدس في عمق السافنا، ورغم أن العرض كان من أجل التسلية إلا أن شيرا المجنونة حينما شاهدت السمكات الحمراء تقفز حية في جراب الساحر قررت استثمار المعجزة غير المجدية في محاولتها التغلب على شيخوخة القلب، فتقدمت أمام الساحر بغتةً وأعلنت وهي تخرج محفظتها الجلدية من أسفل رحطها:

    · أريد شراء السمكات الثلاث.

    فرد الرجل بارتباك: هذه السمكات ليست للبيع.

    لكنه حينما ووجه بحزم جنون شيرا المجنونة ولاحظ تصاعد الشكوك من حوله حول صحة خدعته اضطر للتنازل فسلمها السمكات الثلاث وأعلن لها بصوت هامس: هذه السمكات ليست للاكل، لكن شيرا المجنونة سخرت من أوهامه؛ ففي رحلة البحث عن دواء ناجع لمأساة شيخوختها أكلت كبد عنكبوت ولحم ضفادع وشربت دهن ثعلب وحساء أظافر كلب وشواء سلحفاة، وترصدت عصافير آخر أيام الخريف في رحلتها نحو السافنا من مكمنها داخل أشجار الكتر، وذاقت لحم القيلدون والرهو وتناولت لحم البجع الكريه الرائحة الذي يشبه طعمه الصمغي طعم ثمار الجميز المتعفنة، وفور وصولها إلى البيت نظفت السمكات ورفعتها في قدر ماء على نار الفحم ثم بدأت تعب المريسة كقاعدة في أمعائها لحساء السمكات الذي سيزيل عنها مكاسب الشيخوخة. سحبت طمبورها وبدأت في الغناء بصوت منحرف بدون رصيد مناسب من الحزن، وفجأةً استمعت إلى صوت غناء يندلع من داخل القدر، نفس غناءها بعد تنظيف المقاطع من أشواك الوحدة وعوائق عدم الإتقان، وما أن قامت برفع غطاء القدر حتى فوجئت بمنظر السمكات الحية التي طارت فجأةً أمامها باتجاه النافذة.

    ورغم أننا لم ننجح في تكوين فكرة كاملة عن كيفية نجاحها طوال سنين عديدة في السيطرة على المشاعر اليومية دون أن تسمح بوجود ثغرة واحدة تتسرب منها رياح الحزن، وفي البداية اعتقدنا أن مجرد تشبثها بالتفاصيل الدقيقة كان كفيلاً بإبعادها عن مأزق المشاعر اليومية المعادية لمخطط أستقرار أحزانها، فيما جعلتننا مقدرتها على إرباك الموت طوال سنوات نعتقد أن بأن مقدرتها على قهر الموت كانت كفيلة بتحصينها ضد الحزن برغم اقتناعنا سلفاً بان طاقة الحزن المتراكم في المكان كانت أقوى من الموت نفسه، رغم أن غناء عصافير الأقفاص في القيلولة كان يخفف من حدته، والمريسة التي تصنعها بنفسها كانت تضع حوجز النسيان أمام سطوة السأم النهاري الناجم عن تكرر وقائع غير مشوقة.

    وحين عبرنا من عتمة مدخراتها الشخصية من مستلزمات قهر الخريف المبكر إلى ضوء نهار نباتاتها الموسمية وعصافير أقفاصها، عرفنا أنها احتفظت بتدرج متغير للزمن يبدأ بصدى ضئيل لأشواق جافة لإرباك ذاكرة الحزن من حولها، فتأكد لنا أن شيرا المجنونة تغلبت على سكوة الموت لأنها لم تركن أمامه للدفاع بل اتخذت مبادرة الهجوم بحيث بات الحزن مطروداً من جنة وحدتها، وتأكدت غفتراضاتنا حينما عثرنا على مخزونها الشخصي من أدوات مصادرة الحزن فاكتشفنا الجاروف الخاص الذي استخدمته لاقتلاع النباتاتا التي تغذي جذوة انتشار الحزن واكتشفنا سيقان نبات عباد الشمس الجافة وزهور الجهنمية الحمراء جافة، وزهور نبات الهبيل التي اقتلعتها حديثاً، فيما أبقت أشجار التين الشوكي والصبار ذات الخواص المحايدة، واكتشفنا بقية آثار تحصيناتها من النباتات المتسلقة التي حاولت بها مكافحة نزوات الفصول، واكتشفنا خطاً دائرياً زاوياً لشجيرات الفل يشكل حزاماً واقياً ضد رائحة الزمن الراكدة في المكان، وعثرنا على العصا التي كانت تقود بها غناء عصافيها في ساعات القيلولة في مواجهة نشاط أشواق القلب.

    وفيما انشغل بعضنا بالبحث عن الفخاخ المعدنية التي سرقت منا أمسيات الخريف المنصرم، ب>أنا نحن الأقل تذمراً من مضايقات حياتها يحفزنا واجب الوفاء لمواسم جنونها، نَعد العدة لجنازة أقوى امرأة معصومة من الحزن تكافح تغول سطوة الموت على حدود مملكة أوهامها الخاصة بغناء عصافيها في الأقفاص وندى رائحة نباتاتها المتسلقة وأحزمة أشواقها الواقية، وتحلم عند موتها بالمطر.
                  

07-28-2007, 11:37 PM

الجيلى أحمد
<aالجيلى أحمد
تاريخ التسجيل: 03-27-2006
مجموع المشاركات: 3236

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: دعوه للقراء(شيرا المجنونة تحلم بالمطر) القاص احمد الملك (Re: خضر حسين خليل)

    خضر ازيك

    يكفى أن تذكر إسم هذا النسمه (أحمد الملك) ليتملكنا إحساس بمتعة كاملة قبل مطالعة النص..
                  

07-29-2007, 06:11 AM

ahmad almalik
<aahmad almalik
تاريخ التسجيل: 04-03-2003
مجموع المشاركات: 752

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: دعوه للقراء(شيرا المجنونة تحلم بالمطر) القاص احمد الملك (Re: خضر حسين خليل)

    صديقي الكريم خضر لك تحياتي وودي الكثير وشكري العميق على نشر شيرا المجنونة هنا.

    النسخة الموجودة في شبكة الانترنت في صفحتي اختلطت فيها بعض الأسطر والكلمات نتيجة عملية الرفع الى الموقع.

    أحاول هنا إعادة ترتيب بعضها،(وعفوا لهذا الاقتحام!)

    أكرر شكري العميق وتحية لك أخي الجيلي.




    شيرا المجنونة تحلم بالمطر





    كنا أول من لاحظ اختفاءها، فقد ظللنا نلعب الكرة طوال يومين ولم يتعرض لنا أحد، ونصبنا الفخاخ لعصافير الخريف دون أن يسرقها أحد، وحينما بدأت الشكوك تساورنا بدأنا نلقي الكرة داخل بيتها، فلاحظنا أن الحجارة لاتنهال علينا كما كان يحدث في المرات السابقة، ثم انهلنا على المكان بالحجارة دون مجيب، وفي النهاية تشجعنا وبدأنا نعد خطة اقتحام بيتها، فقررنا ألا نغامر بالدخول من الباب خوفاً أن يكون الأمر كله إحدى حيل خريف جنونها، فتسللنا إلى بيتها عن طريق الجدار في الظهيرة في الساعة نفسها المحددة لنومها، وكان أول ما استشعرناه بعمق هو الهدوء يدب في مفاصل فوضى المكان منذ أزمان سحيقة، وعرفنا من خلل تركيز رائحة البهجة الفاترة في المكان ثمة وجوداً نهائياً للموت، فاخترقنا سقيفة البيت الخارجية المشيدة من جذوع شجر النيم، وتوغلنا إلى صالة البيت الداخلية حيث قيظ أغسطس أصبح أكثر كثافة، وحيث الزمن أكثر تشبساً في حبات الضوء المغرقة في القدم، وكان أول شئ يقع عليه نظرنا وجهها الملطخ بدهن الموت وجسدها المتيبس فوق عنقريب شجرة الحراز، وفي البداية حاولنا إزالة الصدأ عن وجهها لتقدير عمرها بالإستعانة بكتيب توضيحي عن الزواحف المنقرضة، ومن مستوى البهجة الأخيرة في عيونها عرفنا أنها حافظت في رحلة الموت على أبرز سماتها كأمرأة معصومة من الحزن، ولنحدد ميعاد موتها حاولنا تحديد آخر أحلامها لمعرفتنا السابقة بمقدرتها على فرض سطوة أحلامها على الحياة اليومية، وبعد أن دققنا في آخر تعابير عيونها، واقتفينا آثار الأحلام في المكان وقارنا ذلك بجدول عادات بهجتها، عرفنا أن شيرا المجنونة كانت تحلم عند موتها بالمطر، فعرفنا أن وفاتها حدثت ظهيرة يوم الأربعاء السابع من أغسطس المطيرة، أي قبل عشرة أيام من اكتشافنا لموتها مما أثار دهشتنا لأن ماعزها المربوط أمام بيتها لم يبد عليه الجوع الشديد إلا قبل يومين فقط من اكتشافنا لموتها، إلا أننا وجدنا تفسيراً مدهشاً حينما اكتشفنا آثار الأقدام الضخمة ذات الأصابع النافرة بجانب الماعز، وتعرّف فيها أكثرنا خبرة في اقتفاء الأثر على خطوات الموت الذي ظل يطاردها طوال سنوات في صورة غريب منسي يرتدي ملابس الجنود ويقضي القيلولة تحت أشجار الكتر معانياً مرارة الخيبة والشعور بالوحدة ..

    شيرا المجنونة استطاعت طوال سنوات عمرها إرباك ذاكرة الموت في متاهات نسيانها التي كانت تشيدها. حاجزاً لتفادي الملل الذي قد يتسرب إليها من ثغرة تكرار وقائع غير مشوقة، وحتى في المرة التي احتال الموت لمباغتتها من الخلف وهي تتغوط داخل حقل الذرة مستغرقة في ضعف عذابها وهي تمارس دفع الحجارة من جوفها، مستمعةً لأزيز مفاصل دفعها المتيبسة، ولصوت فئران الحقول تقرض جذور الذرة من حولها، وصوت الخنافس تطير بجانبها، ولصوت الأرضة تدب في حذائها المصنوع من جلد الماعز، إلا أنها كانت بالمرصاد لخطواته، وبعصا السنط ذات الأشواك الناتئة طاردته، شخصاً غريباً أصفر له جناحين قبيحين من نفس لون جسمه يشبهان جناحي وطواط، فجاهد للهرب محطماً أعواد الذرة ومقتلعاً خيال مآتة من جذوره، ومفزعاً فئران الحقول.

    ومنذ ذلك الوقت إكتفى الموت بمراقبتها من على البعد محاولاً رفع منسوب الحزن لديها لتفكر في الموت تلقائياً، فيحاول وضع العراقيل أمام محاولتها تبسيط شؤون حياتها اليومية،تكتشف أحياناً أن أحداً قام بفك رباط ماعزها المربوط بجانب شجرة الجميز فتقضي الليل كله في البحث عنه داخل حقول الذرة، أو تكتشف أن أحداً قام بحلبه سراً، أو أن أحداً يطرق باب بيتها بشدة طوال الليل ثم يولي الأدبار، حينما تستيقظ وتتسلح بعصا السنط قبل أن تفتح الباب، فتكتشف آثار أقدامه الفزعة أمام باب بيتها وتكتشف رائحة الموت الشبيهة برائحة ضبع في لبن ماعزها، وتتعرف عليه فوراً حينما تستمع إلى طرقاته البائسة على بابها يحاول أن يذكرها بوجوده فتقول بأسى: يا للمسكين!، وحين تسألها سليمة الرمالية التي تقضي معها الليلة الأولى لموسم قطع التمور عن هويته ؛ تقول بنفس رنة العطف في صوتها: إنه الموت!. وبسبب شعورها بالذنب كانت تعد له عشاءً خفيفاً من لبن الماعز وتتركه له بجاتب أجمة الكتر معتقدة أنها يمكن أن تحقق تعايشاً سلمياً محدوداً معه، وأن تزيل الجفوة المفتعلة معه بتنمية أواصر هموم مشتركة، وتكتشف بدء نجاح تدبيرها حينما تجد أنه أصبح يسرق أعواد الذرة الخضراء من الحقول المجاورة ويكومها أمام ماعزها.

    وحينما توغلنا داخل البيت في العتمة الناشئة عن نباتات قحط أشواقها المتسلقة وصبّار وحدتها بدأت تتكشف لنا أبعاد مأساة أحترافها لمحاولة إرباك الموت طوال عقود، حينما لفت نظرنا أقفاص الطيور المصنوعة من جريد النخيل، واكتشفنا في القفص الأول ثلاثة من طيور السقدة مما عزز لدينا شائعة أنها كانت تستخدم طيور السقدة لتنظيف أسنانها بعد أن تأكل لحم الضفادع، واكتشفنا قفصاً آخر مخصصاً لمجموعة من العصافير الغريبة التي نشاهدها في حقول الذرة في آخر أيام الخريف.

    وفي البداية بدأنا نصدق مقولة أنها كانت تربي الطيور لتحارب بغنائها في ساعات القيلولة محاولة الحزن اختراق حدود مملكة بهجتها، إلا أننا شعرنا بالميل أكثر لتفسير أنها كانت في الواقع تختبئ طوال أيام الخريف في حقول الذرة وتربض داخل أشجار الكتر لكي تصطاد طائراً غريباً تحتفظ بتفاصيل شكله في مخيلتها، لأن لحم ذلك الطائر كان كفيلاً بمعالجة أدواء الشيخوخة، واستعادة مجد الشباب، وعزّز ذلك الإعتقاد لدينا أكوام عظام العصافير التي وجدناها متناثرة في المكان بين نباتات الصبار التي بدأت في الذبول وسيقان نبات عباد الشمس التي بدأت في الجفاف، وفي رائحة ندى الفرح الآخذة في التراجع، حتى أن أكثرنا تماسكاً بدأ يشعر بالإختناق الناجم عن الفجوة الزمنية التي بدأ يخلفها تراجع الفرح أمام سطوة زمن أحزانها الضائع، كذلك عزز ذلك الإعتقاد لدينا الأشياء التي وجدناها معلقة في السقف بحبال طويلة لدرء خطر الأرضة التي أتت على كل شئ في المكان، والتي كانت كافية لنعرف أن صاحب المكان كان مصاباً بهوس عاطفة متأخرة. فقد عثرنا على أشياء مخصصة لعروس دون أن تهمل حتى أقل التفاصيل أهمية، واكتشفنا الطمبور الذي كانت تحمله في أمسيات أرقها وتجوب به القرية تحاول معالجة الأرق بالإغراق في البهجة، فتفر مذعورة لدى مرورها الخشن فوق الأوراق الجافة بأنغامها القاسية الخالية من رحمة الحب، الطيور النائمة فوق أشجار اللبخ وقماري أشجار النخيل وأرانب أشجار الكتر، ويستعيد الخرفى النائمين لدى هبوب عاصفة مرورها وعياً غير مكترث بأحداث منسية في عتمة الذاكرة، ويعانون من وعثاء الوعي حينما يكتشفوت أنهم مربوطين بالحبال لتجنب سيرهم أثناء النوم، واكتشفنا الجرة التي كانت تحتفظ فيها بشراب المريسة التي تستخدمها كمادة منشطة للنسيان في مواجهة نشاط خريف جنونها، واكتشفنا الرحط الذي كانت ترتديه في الخريف المنصرم حينما اقتحمت عرضاً مكشوفاً للخدعة في سوق الأربعاء يتوسطه ساحر مسن زعم لنفسه مقدرة غير مسبوقة لاستجلاب سمكات حمراء من نهر مقدس في عمق السافنا، ورغم أن العرض كان من أجل التسلية إلا أن شيرا المجنونة حينما شاهدت السمكات الحمراء تقفز حية في جراب الساحر قررت استثمار المعجزة غير المجدية في محاولتها التغلب على شيخوخة القلب، فتقدمت أمام الساحر بغتةً وأعلنت وهي تخرج محفظتها الجلدية من أسفل رحطها:


    أريد شراء السمكات الثلاث.

    فرد الرجل بإرتباك : هذه السمكات ليست للبيع!

    لكنه حينما ووجه بحزم جنون شيرا المجنونة ولاحظ تصاعد الشكوك من حوله حول صحة خدعته إضطر للتنازل فسلمها السمكات الثلاث وأعلن لها بصوت هامس: هذه السمكات ليست للاكل، لكن شيرا المجنونة سخرت من أوهامه؛ ففي رحلة البحث عن دواء ناجع لمأساة شيخوختها أكلت كبد عنكبوت ولحم ضفادع وشربت دهن ثعلب وحساء أظافر كلب وشواء سلحفاة، وترصدت عصافير آخر أيام الخريف في رحلتها نحو السافنا من مكمنها داخل أشجار الكتر، وذاقت لحم القيلدون والرهو وتناولت لحم البجع الكريه الرائحة الذي يشبه طعمه الصمغي طعم ثمار الجميز المتعفنة، وفور وصولها إلى البيت نظفت السمكات ورفعتها في قدر ماء على نار الفحم ثم بدأت تعب المريسة كقاعدة في أمعائها لحساء السمكات الذي سيزيل عنها مكاسب الشيخوخة. سحبت طمبورها وبدأت في الغناء بصوت منحرف بدون رصيد مناسب من الحزن، وفجأةً استمعت إلى صوت غناء يندلع من داخل القدر، نفس غنائها بعد تنظيف المقاطع من أشواك الوحدة وعوائق عدم الإتقان، وما أن قامت برفع غطاء القدر حتى فوجئت بمنظر السمكات الحية التي طارت فجأةً أمامها باتجاه النافذة.

    ورغم أننا لم ننجح في تكوين فكرة كاملة عن كيفية نجاحها طوال سنين عديدة في السيطرة على المشاعر اليومية دون أن تسمح بوجود ثغرة واحدة تتسرب منها رياح الحزن، وفي البداية اعتقدنا أن مجرد تشبثها بالتفاصيل الدقيقة كان كفيلاً بإبعادها عن مأزق المشاعر اليومية المعادية لمخطط أستقرار أحزانها، فيما جعلتننا مقدرتها على إرباك الموت طوال سنوات نعتقد بأن مقدرتها على قهر الموت كانت كفيلة بتحصينها ضد الحزن برغم اقتناعنا سلفاً بان طاقة الحزن المتراكم في المكان كانت أقوى من الموت نفسه، رغم أن غناء عصافير الأقفاص في القيلولة كان يخفف من حدته، والمريسة التي تصنعها بنفسها كانت تضع حوجز النسيان أمام سطوة السأم النهاري الناجم عن تكرر وقائع غير مشوقة.

    وحين عبرنا من عتمة مدخراتها الشخصية من مستلزمات قهر الخريف المبكر إلى ضوء نهار نباتاتها الموسمية وعصافير أقفاصها، عرفنا أنها احتفظت بتدرج متغير للزمن يبدأ بصدى ضئيل لأشواق جافة لإرباك ذاكرة الحزن من حولها، فتأكد لنا أن شيرا المجنونة تغلبت على سطوة الموت لأنها لم تركن أمامه للدفاع بل اتخذت مبادرة الهجوم بحيث بات الحزن مطروداً من جنة وحدتها، وتأكدت إفتراضاتنا حينما عثرنا على مخزونها الشخصي من أدوات مصادرة الحزن فاكتشفنا الجاروف الخاص الذي استخدمته لاقتلاع النباتات التي تغذي جذوة انتشار الحزن واكتشفنا سيقان نبات عباد الشمس الجافة وزهور الجهنمية الحمراء جافة، وزهور نبات الهبيل التي اقتلعتها حديثاً، فيما أبقت أشجار التين الشوكي والصبار ذات الخواص المحايدة، واكتشفنا بقية آثار تحصيناتها من النباتات المتسلقة التي حاولت بها مكافحة نزوات الفصول، واكتشفنا خطاً دائرياً ذاوياً لشجيرات الفل يشكل حزاماً واقياً ضد رائحة الزمن الراكدة في المكان، وعثرنا على العصا التي كانت تقود بها غناء عصافيها في ساعات القيلولة في مواجهة نشاط أشواق القلب.

    وفيما انشغل بعضنا بالبحث عن الفخاخ المعدنية التي سرقت منا أمسيات الخريف المنصرم، بدأنا نحن الأقل تذمراً من مضايقات حياتها يحفزنا واجب الوفاء لمواسم جنونها، نَعد العدة لجنازة أقوى امرأة معصومة من الحزن تكافح تغول سطوة الموت على حدود مملكة أوهامها الخاصة بغناء عصافيرها في الأقفاص وندى رائحة نباتاتها المتسلقة وأحزمة أشواقها الواقية، وتحلم عند موتها بالمطر.
                  

07-29-2007, 07:01 AM

mohmed khalail
<amohmed khalail
تاريخ التسجيل: 06-14-2007
مجموع المشاركات: 4509

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: دعوه للقراء(شيرا المجنونة تحلم بالمطر) القاص احمد الملك (Re: ahmad almalik)

    الاستاذ خضر

    شكرا لك على هذا النص الجميل (شيرا المجنونة تحلم بالمطر)

    والتحية للاستاذ احمد الملك..

    مودتي

    محمد
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de