مقتطفات من كتاب الطباشيرة والكتاب والناس (مذكرات معلم قديم)

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-08-2024, 09:21 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثالث للعام 2007م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
07-26-2007, 06:26 PM

هلال زاهر الساداتي
<aهلال زاهر الساداتي
تاريخ التسجيل: 04-08-2007
مجموع المشاركات: 225

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
sssss
مقتطفات من كتاب الطباشيرة والكتاب والناس (مذكرات معلم قديم)

    في أمدرمان :
    ولم تطل مدة عملي بمدرسة بحري الأهلية الحكومية وفي نهاية العام الدراسي نقلت إلى مدرسة بيت المال المتوسطة , وأخيراً بعد تطواف وتشريق وتغريب وذهاب شمالاً وجنوباً ووسط وطننا الكبير حط بي المطاف في موطني الصغير أمدرمان , وكأن الوزارة لعبت معي لعبة التقريب منها بالتدريج أو (( بالتقسيط )) فبدأت بالعيلفون , فالخرطوم بحري , ثم أخيراً أمدرمان . مدرسة بيت المال المتوسطة مدرسة ممتازة ومبانيها جديدة مثل مباني مدرسة بحري الأهلية الحكومية وهي مثلها في أنها كانت أهلية وضمت إلى الحكومة ومخازن المدرسة ممتلئة بالكتب والأدوات والكراسي والأدراج , ويجدر هنا أن أذكر أن الطالب كان يحصل في بداية العام الدراسي على الكتب والكراسات وحتى القلم والأستيكة والريشة والمسطرة وأدوات الهندسة كالبرجل والمنقلة مجاناً , وكان اليوم الأول في المدرسة يخصص لصرف الكتب والكراسات والأدوات , وكانت المدرسة بثلاثة أنهر وبكل نهر أربعة فصول وكانت كثافة الفصول كبيرة فكان عدد التلاميذ خمسين تلميذاً ارتفعت إلى خمسة وخمسين في الفصل الواحد , ويعزي اكتظاظ مدارس العاصمة نسبة لنزوح المواطنين من الأقاليم إلى العاصمة وكذلك المنقولين من مستخدمي الحكومة من الوزارات والجيش والشرطة , وتبعاً لذلك يجرى تحويل أبناءهم إلى مدارس العاصمة , وعندما كنت في مكتب تعليم الخرطوم لاحقاً أحصينا وقيدنا في سجلاتنا ثلاثين ألفاً من التلاميذ المحولين إلينا من الأقاليم ووزعناهم على مدارسنا , ولذلك يقع عبء ثقيل على مدارس العاصمة وعلى المدرسين , ولقد خبرت ذلك بنفسي عندما كنت أدرس الإنجليزية للصف الرابع وأصحح تلال الكراسات وما ألقاه من مشقة وتعب خاصة في تصحيح كراسات الإنشاء Composition , كان بالمدرسة نخبة جيدة من المدرسين المدربين , وكانت سيرتي في الإدارة مثلها في أي مدرسة عملت بها وهي إقرار النظام بحزم وعدل وربما بشيء من الشدة أحياناً مما تسبب في ضيق البعض أو التمرد!
    خاصة إذا لم يتعودوا سابقاً على مثل هذا النمط من المعاملة ؛ ولكن كنت في جميع الأحوال أعامل زملائي المدرسين بروح الأخوة وأتخذ من البعض أصدقاء خارج العمل , فقد كنت في صالح العمل ( ما بعرف أبوي ) كما كنت أقول .. وحدث انقلاب في التعليم جاء مع انقلاب مايو , ففي عام 1970 بدأ تطبيق السلم التعليمي الجديد الذي أبتدعه وزير التربية والتعليم في نظام مايو الدكتور محي الدين صابر , وصار التعليم العام ست سنوات للمرحلة الأولية فثلاث سنوات للمرحلة المتوسطة وثلاث سنوات للمرحلة الثانوية ( 6 – 3 – 3 ) , وذلك بدلاً من السلم التعليمي القديم ( 4 – 4 – 4 ) , وأصبح لدينا وفر 3 فصول , وفتحت مدرسة جديدة بمبني مدرستنا وهي مدرسة أبو سعد المتوسطة وبدأت بفصل واحد ..
    وطبقت الخطة الجديدة في سرعة شديدة دون إعداد كاف لها من تغيير المناهج والكتب وإعداد المعلمين لدراسة المناهج الجديدة فجاءت الكتب معيبة في المادة وفي طباعتها وأوراقها , وحدثت ربكة في العمل واضطراب في الدراسة وتعاقدت الوزارة مع مطابع في مصر لطبع الكتب الجديدة وأخذت الطائرات تنقل الكتب من مصر إلى مطار الخرطوم وكان هناك مندوب دائم من الوزارة لاستقبال واستلام الكتب , وأصدر الوزير ترقيات رفيعة للذين عملوا في تطبيق السلم التعليمي الجديد وكان منهم الأستاذ مستقبل طائرات الكتب فقد علم أن الوزير سيزور المطار زيارة فجائية في الصباح الباكر ليرى بنفسه سير العمل , وأحضر الأستاذ سريراً ونام في المطار ولما حضر الوزير وجده بالجلابية والمسواك في يده وهو يستاك ,
    وأخبر الوزير أنه سكن في المطار لاستقبال الطائرات في أي وقت نهاراً أو ليلاً , وأصدر الوزير أمره بترقية من الدرجة G إلى الدرجة B وهي درجتي الوظيفية أي ناظر مدرسة كبيرة ؛ وأطلقت على الترقية تندراً أسم ( الترقية بالسرير ) ! , وتبعاً للسلم التعليمي الجديد تغيرت المسميات فأصبح أسم مدير المدرسة بدلاً من الناظر , والوكيل بدلاً من نائب الناظر , ومدير التعليم العام بدلاً من مساعد الوكيل ومساعد المحافظ للتعليم بدلاً من مدير تعليم المديرية .. وكان لتطبيق السلم التعليمي الجديد تداعيات عديدة فقد دعت الحكومة المواطنين في جميع أنحاء السودان لبناء الفصلين الخامس والسادس في المدارس الابتدائية بالعون الذاتي وانتظمت البلاد حملة واسعة لجمع التبرعات لهذا الغرض وكان الانقلاب الذي سموه ثورة جديداً ووجد تأييداً كبيراً انعكس على حماس الناس في جمع التبرعات , حتى أنه حدث أمر مأساوي وهو وقوع مدير مدرسة من فوق جمل كان يركبه لجمع التبرعات في بادية كردفان , ودقت عنقه وذهب إلى جوار ربه شهيداً للسلم التعليمي .. وأحدثت الدولة وساماً للسلم التعليمي قلدوه للذين ساهموا مساهمة كبيرة في جمع التبرعات , وكوفئ الدير المتردي من فوق الجمل بذلك الوسام وتسلمته أسرة الفقيد ..
    وقد أشركت التلاميذ في إدارة المدرسة وتقوية روح الانتماء إلى المدرسة وأن يشعر كل واحد بأنها مثل بيته , وفي هذا الصدد أنشأنا جمعية تعاونية للبوفيه يديرها التلاميذ وينتخبون لجنة منهم لهذا الغرض وجعلنا قيمة السهم الواحد عشرة قروش , وكان من أهداف الجمعية توفير إفطار صحي جيد بثمن ميسور للجميع وتوفر الإفطار لغير المستطيعين منهم بالمجان , وحققت الجمعية أرباحاً وزعت على حملة الأسهم في آخر العام كما شيدنا مسرحاً للمدرسة بمعاونة مجلس الآباء وتبرع أحد الآباء وهو مقاول بالرمل والتراب والأسمنت وتبرع آخر بالخشب وتبرع نجار وآخر بناء من الآباء بالعمل , وعملت مع الطلبة في نقل الرمل والتراب , وافتتحنا المسرح في ليلة بهيجة بمسرحية وعروض شيقة ودعونا الآباء وأمهات التلاميذ للحضور , كما حضرها مساعد المحافظ للتعليم الذي أبدى سروره واستحسانه وتبرع لنا بمبلغ مالي لإتمام الناقص في المسرح ..
    كما زرعت جمعية الزراعة الحوش في مدخل المدرسة من الداخل بالنجيلة والزهور والورود .
    ومن أجل تجميل المدرسة نظمنا مسابقة بين الفصول لطلاء جدران كل فصل وتحمس التلاميذ للفكرة وأشترك تلاميذ كل فصل في جمع النقود التي اشتروا بها البوهية والجير والفرش وقاموا بأنفسهم بطلاء فصولهم وبدت الفصول في حلة زاهية , وتغلبنا بذلك على أمر الصيانة والذي تخلت عنه الوزارة من زمن بعيد ..
    وفي الأنشطة أنشأنا جمعيات مختلفة للفنون والعلوم والمسرح والثقافة , أبرزت إنتاجها في المعارض التي أقمناها في يوم الآباء , كما كانت جمعية الإصلاحات تقوم فوراً بإصلاح أي كرسي تلميذ به تلف ..
    كما قمت بعمل حوض مستطيل للوضوء ووصلنا المواسير والحنفيات إليه وإلى المراحيض , وعملنا أغطية لأزيار الماء التي تملأ في المساء حتى يصبح الماء بارداً في اليوم التالي , وكنت أتفقد كل ركن في المدرسة قبل أن أخلد إلى مكتبي .
    كانت المدرسة مركزاً لامتحان دخول المدارس المتوسطة , وحدث أن تسرب الامتحان من المطبعة الحكومية في ذلك العام 1970 مما أحدث ضجة كبرى وفضيحة مدوية لأنه لم يحدث ذلك من قبل , وألغي الامتحان برمته, وعمل امتحان جديد وعملت ضوابط مشددة وإجراءات شديدة للحفاظ على سلامة الأسئلة منها أن أوراق الأسئلة تحفظ تحت الحراسة في مركز الشرطة الرئيسي في كل مدينة , وكنا نحن رؤساء اللجان نذهب في السادسة صباحاً لاستلام أظرف كل مادة يومياً حتى نهاية الامتحان ونضعها في خزائن مكاتبنا ونخرجها قبل ربع ساعة من الامتحان , كما أن كل ورقة للإجابة تكون مختومة بختم المدرسة , وتسلم أوراق الإجابة بالعدد وتستلم بالعدد , وأما الأسئلة فإنها توزع قبل خمس دقائق من بداية الامتحان , ويبدأ التصحيح من مساء اليوم الأول للامتحان , وكانت الحجرة المخصصة للكنترول والتي تحفظ بها أوراق الأجوبة تقفل وتشمع بالشمع الأحمر بعد انتهاء العمل وتفتح بعد فحص الشمع والقفل وتتم هذه العملية مرتان في اليوم لأنه هناك فترتان للتصحيح والرصد في النهار والمساء , وإضافة إلى ذلك فإن هناك حراسة على هذه الحجرة ليلاً ونهاراً من ستة من جنود الشرطة برئاسة رقيب , وظلت هذه الإجراءات قائمة إلى أن انتهينا من أعمال الامتحان والتي استغرقت عشرة أيام .
    في العام التالي كلفني مكتب التعليم برئاسة مركز منطقة بحري لإجراء امتحان الشهادة الابتدائية والدخول إلى المدارس المتوسطة وتعين معي اثنان من وكلاء مدارس بحري المتميزين , وكان مركز الامتحان في مدرسة بحري الحكومية الثانية , وكان علينا نقل مئات الأدراج والكراسي من المدرسة الأهلية المجاورة للمدرسة الحكومية إضافة لما كان فيها ..
    كانت فترة عملي بمدرسة بيت المال المتوسطة أطول فترة عمل بلغت ستة أعوام أزعم أن المدرسة في تلك المدة أصبحت من أميز مدارس العاصمة وكانت الوزارة ومكتب تعليم الخرطوم يوجهون الزائرين المرموقين لزيارة المدرسة , كما أن وزير التربية والتعليم زارها , وفي العام السادس لي بالمدرسة رقيت إلى المجموعة السابعة موجهاً فنياً وكانت هذه الدرجة من الدرجات القيادية العليا , ونقلت مترقياً إلى مكتب تعليم جنوب دارفور , وفي ذلك الحين قسمت مديرية دارفور إلى ثلاث محافظات هي شمال دارفور وعاصمتها الفاشر وجنوب دارفور وعاصمتها نيالا وغرب دارفور وعاصمتها الجنينة , ودارفور تبلغ من المساحة ما يعادل دولة فرنسا , وأنشئ في كل محافظة مكتب للتعليم وبكل مكتب ثلاث إدارات للمراحل المختلفة الابتدائية والمتوسطة والثانوية وبكل إدارة موجهين للمرحلة على رأسها كبير موجهين .. جابهتني مسألة شخصية فقد كانت زوجتي تدرس بسنتها النهائية في المعهد الفني بالخرطوم وكان على أن أسافر إلى نيالا لاستلم عملي هناك .. أعتبر نفسي محظوظاً ان قيض الله لي رجلاً لا ككل الرجال وهو طيب الذكر المرحوم الطيب عبد الله يعقوب _ طيب الله ثراه _ فقد كان رجلاً متفهماً كريماً فاضلاً وإدارياً واعياً وله من أسمه نصيب وافر فهو طيب متواضع شهم
    وكان موجوداً في الوزارة في ذلك الحين . وكلمته في أمري وطلبت منه أن يمهلني إلى نهاية العام على أن يوكل إلى أي عمل يتطلبه وجودي بالعاصمة , ووافق الرجل على الفور ولا سيما ان إدارة التعليم بنيالا جديدة وستبدأ من الصفر , فكانت أثاثات المكاتب و ماكينات الكتابة و الأوراق و كذلك الأثاثات و الكتب و الأدوات للمدارس تجئ من مصلحة المخازن و المهمات بالخرطوم بحري وتشحن في عربات سكة حديد من هناك الي نيالا و كانت هناك مبالغ مالية مرصودة تدفع علي أقساط شهرية من وزارة المالية بالخرطوم وسيارات بمصلحة النقل الميكانيكي بالخرطوم بحري بالإضافة الي قضايا المعلمين المعلقة بالوزارة من علاوات وترقيات وأشياء أخرى , و أوكل الي مساعد المحافظ متابعة وإنجاز هذه الأمور وحصل علي موافقة الوزير وافرد لي مكتب بالوزارة و أصبحت رسميا مندوب أو مدير مكتب تعليم جنوب دارفور بالوزارة , وكان لذلك اكبر الأثر في انسياب وسرعة إتمام و إنجاز الأعمال , مما دعا لتحذوا حذونا بعض إدارات التعليم الجديدة , ولكن للأسف حدث ما شاب هذه المبادرة من عمل معيب فقد قام أحد مندوبي مكاتب التعليم الجديدة بشحن كتب وكراسات المدارس في شاحنات ثم باعها في السوق و اختفي , وقيل انه سافر الي إثيوبيا …
    في جنوب دارفور ..
    أصبحت مندوب مكتب تعليم جنوب دارفور بوزارة التربية والتعليم بتخويل ان اقضي أي موضوع و أوقع بالنيابة عن محافظ التعليم بجنوب دارفور , وكان إنشاء المكتب بنيالا يستدعي السرعة في إنجاز الأعمال , وعثرنا علي وسيلة اتصال سريعة لتبادل المكاتبات وهي تضمن لنا الاتصال في نفس اليوم أو اليوم التالي علي إرسال الشيء المراد إرساله , فقد كانت هناك ثلاث سفريات بالطائرة لنيالا من الخرطوم في الأسبوع , وتقلع الطائرة في السابعة صباحا من مطار الخرطوم , وكنت اذهب مبكرا الي المطار و أعطى الخطابات لاحد المسافرين و اطلب منه ان يسلمها للأستاذ الطيب أو لمكتب التعليم فقد كانت مكاتب التعليم بالقرب من السوق , وكانت المكاتبات تصلني من نيالا بنفس الطريقة , وكان كل من قصدناه متحمسا لاداء هذه الخدمة فقد كانوا فخورين بمكتب تعليمهم الجديد , وبالأستاذ الطيب الذي نال ثقتهم و تقديرهم .
    ووفرت لنا هذه الطريقة التأخير في البريد العادي و الذي اصبح سمة غالبة , و استدعي تشعب و كثرة العمل الذي كان أكثره ميدانيا من الذهاب الي مصلحة المخازن و المهمات ومصلحة النقل الميكانيكي و المسبك المركزي لعمل أختام للمكتب مما يستدعي متابعة شبه يومية , وأتاحت لي هذه المتابعة الإلمام بعمل و أقسام مصلحة المخازن و المهمات والتي تحتل مساحة واسعة وبها عديد من الأقسام المختلفة و المستودعات الهائلة و المصلحة تمد كل وزارات الحكومة بجميع الأصناف التي تحتاجها من أثاثات و حقائب جلدية و ملابس رسمية و دفاتر حسابات و عشرات الأصناف و التي تصنعها في ورشها , ويسير العمل فيها بدقة و انتظام وجودة عالية في إنتاجها , وهي تشحن وترسل هذه الأصناف الي جميع أرجاء السودان من حلفا الي جوبا ومن بورتسودان الي الجنينة ..
    إنها حقا مفخرة تسجل للعاملين فيها من صناع وحرفيين وموظفين وخفراء , واسترعي انتباهي و إعجابي جماعة من الشبان العميان يعملون في تعداد الكراسات كل مائة منها في رزمة و حزمها , وهم يؤدون عملهم بسرعة وكفاءة دونها كفاءة المبصرين , وهذه محمدة من القائمين على قيادة المخازن والمهمات أن أتاحوا الفرصة لهؤلاء الشبان ليعملوا ويكسبوا من عمل أيديهم .. وانضم إلي في المكتب زميل وزميلة من كادر الابتدائي حالت ظروفها من الذهاب إلى نيالا وكانت الزميلة _ لحسن الحظ _ تتقن الكتابة على الآلة الكاتبة مما كفانا (( الشحدة )) لطباعة مكاتباتنا لدي كتبة الوزارة , وخفت أعبائي كثيراً .
    ووجدت معاونة حقة من الأستاذ الكبير أحمد حسن فضل السيد ومساعده الأستاذ مصطفى اللذين كانا يسيران مكتب شئون الجنوب بالوزارة فقد أعارونا كثيراً عربتهم اللاندروفر ولعل الصداقة التي كانت تجمع بين الأستاذين الطيب عبد الله وأحمد حسن منذ عملهما فترة طويلة في الجنوب , الأثر في التعاون الذي وجدناه , ولا يفوتني هنا أن أنوه بالمحبة والتقدير التي يظهرها الجنوبيين للأستاذ الطيب , وكان وهو في الشمال يقصدونه في حل مشاكلهم ولقد رأيت الرجل ينفق من جيبه لمن قصده معسراً وهو رجل موظف لا يملك من حطام الدنيا إلا راتبه !
    أول ما زاولت عملي في بالوزارة كنت اقتسم مكتب مع ثلاثة من الزملاء , أحدهم كان ملحقا بمكتب المسئول عن التعليم الأوسط , والثاني كان في حالة (تجمد) أي لا عمل له فقد نقل الي أحد مكاتب التعليم الجديدة و استأنف النقل لظروفه الخاصة و كان يقرأ كل الوقت في ديوان الشاعر إبراهيم ناجي , وحسم أمره أخيرا بتكليفه رئاسة قسم التعليم الشعبي بالوزارة , وهو شخصية ظريفة ساخرة و كان في حالة فلس دائمة فقد رزقه الله بقبيلة من البنين و البنات و كان هو نفسه صاحب مزاج ينفق عليه , و ينفق أيضا علي سيارته التي أكل الدهر عليها وشرب .. و كان ينظر الي نظرة ذات معني فيها الحيرة و يسألني بكلمة واحدة وهي (وبعدين) وارد عليه (كراع جادين) , وهي مقولة حفظناها , ويرد علي (هو جادين ده ذاته وين ؟جيبوا لي الأول قبل كراعه) ونضحك أما زميل المكتب الثالث فقد كان طويلا متينا بشوشا وقارئ ذواقة و كانت تربطه بوكيل الوزارة قرابة وثيقة , ولكنه كان يعاني من مرض انفصام الشخصية فمرة تراه هادئا لطيفا ومرة تراه هائجا كالبحر وذات مرة جاء حاملا في راحة يده سكين ذراع في جفيرها ودخل الي المكتب ووضع السكين أمامه علي مكتبه , واقفل بابي المكتب من الجانبين و علق لافته علي الباب كتب عليها (اجتماع) , ثم اخذ يتكلم ويصرخ في التلفون طالبا من عامل الكابينة أماكن غريبة مثل (أديني الخياط الجنب شاطئ البحر) , ثم قام مهرولا وعاد بعد مدة حاملا أربعة مجلدات من مكتبة الوزارة يفتح الواحد بعد الآخر ويشتم في الإنجليز و غردون و كتشنر . وفي مرة وهو يذرع الوزارة جيئة و ذهابا قابله الوزير و ابتدره بالتحية ورد عليه بقوله (أهلا بالوزير الميت Dead minister) . و كان يذهب للعلاج عند الدكتور بعشر و عرضه للكهرباء , كما ان أخاه الكبير جعله يقرأ القرآن شطرا طويلا من الليل كما اخبرني بذلك , وقد قابلت الأستاذ بعد عدة سنوات في سوق الموية بسوق امدرمان الكبير وقد هزل جسمه وحلق مقدمة شعر رأسه بالموسي و استبقي باقي شعر رأسه كما هو , وكان يبدو ان حالته لم تتحسن و اخبرني انه أحيل علي المعاش …
    قبل انقضاء العام استدعاني الأستاذ الطيب إلى نيالا لزيارة مدارس المنطقة للتوجيه ولكتابة التقارير السنوية عن المعلمين من أجل علاواتهم السنوية والترقيات , وكذلك للاستعداد لحضور اللجنة الاستشارية للتنقلات بالوزارة والتي تنظر في أمر نقل المعلمين في جميع مدارس السودان , أي إصدار الكشف العام لتنقلات المدرسين بين المحافظات , وبعد ذلك تصدر مكاتب التعليم كشوفاتها المحلية لتنقلات المعلمين داخل المحافظة واستيعاب المنقولين الجدد من خارج المديرية أو المحافظة .
    وبعد ساعتين من الطيران حطت الطائرة في مطار نيالا ويمكن أن نطلق عليه أسم مطار تجوزاً فقد كان مساحة ممهدة من الأرض Strip محاطة بسلك شائك من ثلاث جهات ويوجد به صالة صغيرة معروشة وبها دكة من الأسمنت , وعلمت فيما أن المطار قد أكتمل تشييده وصار مطاراً بحق , ووجدت في استقبالي السيد الطيب مساعد المحافظ للتعليم ومعه اثنان من موجهي المكتب , وكذلك صهري القاضي محمد عطا ومعه اثنان من القضاة , وكان هناك جمع من المستقبلين للطائرة , وتنافست المجموعتان في استضافتي والذهاب معهم , وحسمه الأستاذ الطيب بأنني سأنزل معه الليلة في منزله على الأقل ولي الخيار في اختيار منزلتي بعد ذلك , وذهبنا إلى منزل الأستاذ الطيب وقدمني الي زوجته , و تصادف ان كانت هناك أزمة في الخبز في نيالا و أتحفتنا زوجته بعشاء لذيذ من دمعة الدجاج بقراصة القمح , وافطرنا بعصيدة بملاح التقلية , ولما كنت تعودت علي الإفطار بعد التاسعة صباحا قال لي الطيب ان اجرب الإفطار في الصباح قبل الذهاب للعمل ولن اخسر شيئا وعملت بنصيحته ووجدت ذلك شيئا مريحا وعمليا يكسب المرء طاقة جديدة لاداء عمله بنشاط و يكسبه ساعة من الزمن الذي يضيع في الفطور , وهذه الساعة تمتد الي ساعتين في دواوين الحكومة ..
    بما أنني كنت اكبر الموجهين درجة فقد كلفت بان أكون كبيرا لموجهي المرحلة المتوسطة , وتنقلت مع مساعد المحافظ في مكاتب التعليم وعرفني بالزملاء في الأقسام المختلفة , وكان هناك ثلاثة موجهين بالمرحلة المتوسطة وموجه مقيم بالمكتب , ومن المصادفات السارة وجدت ان مدير الإدارة العامة بالمكتب أستاذي احمد شرف الدين والذي درسني الإنجليزية في السنة الثانية ابتدائي (متوسط) بمدرسة الأحفاد الابتدائية قبل ثلاثين عاما ! و اجتمعت بالموجهين ووضعنا خطة لزيارة المدارس حتى نهاية السنة للتوجيه وكتابة التقارير عن المدرسين في المحافظة , وكان علينا ان نحصل علي تصريح بكمية البنزين اللازمة للعربة للقيام بهذه الجولة والتي تستغرق منا حوالي الأسبوعين , واصطحبني أستاذي احمد الي المدير التنفيذي للمحافظة وقدمني إليه بشيء من الزهو بقوله زميلي وتلميذي كبير موجهي المرحلة المتوسطة وطلب منه كمية البنزين اللازمة , وصدق لنا المدير ببرميلين من البنزين , وقسمت الجولة الي أسبوعين , تبدأ بأسبوع ثم الرجوع الي نيالا للمكتب لمدة يومين لكتابة التقارير , ثم نبدأ الجولة الثانية ..
    ذهبت ومعي الموجهون الثلاثة بعربة اللاندروفر الاستيشن الجديدة وبدأنا الجولة من بلدة كاس التي بها مدرسة للبنات ومنها اتجهنا الي زالنجي , وكنت الي جانب توجيهي الإنجليزية اطلع و أراجع الدفاتر المالية ودفاتر المخازن و الغذاءات . وتوجهنا الي زالنجي والطريق وعر وعبرنا بجزء منه يسمي (الفرناغة) وفيها الأرض تتكون من تراب ناعم كالدقيق , تكاد إطارات السيارة تغوص فيه الي نهايتها ويتسلل التراب الي داخل السيارة بالرغم من إغلاق زجاج السيارة بإحكام , ويتحالف الغبار مع الحرارة ليجعل الجو لا يطاق في داخلها , وخرجنا بعد نصف ساعة من السير في هذه الفرناغة العذاب , وتوقفنا وخرجنا من السيارة و كان مظهرنا مضحكا فالتراب يغطينا ويغطي ملابسنا من رؤوسنا والي أقدامنا و كأننا كنا مدفونين في التراب ! واستمرينا في الرحلة وانقلب الحال غير الحال فقد صفا الجو وسخت الطبيعة و اعتدلت الحرارة كلما اقتربنا من جبل مرة وعندما ارتقت السيارة الجبل وجدنا الخضرة قد كست كل شئ حوالينا , وحقيقة ينبغي ان يطلق علي جبل مرة اسم سلسلة جبال مرة لأن الجبل يمتد لمسافة سبعين كيلومترا و الطريق عبر الجبل لا يخلو من خطورة خاصة للسائق الذي لم يسلك الطريق من قبل , فيوجد في قسم من الطريق منحني علي زاوية قائمة فتري الطريق ممتدا أمامك ولكنه في الحقيقة ينحني بزاوية حادة ويأخذ امتدادا آخر , والطريق الذي يبدو ممتدا أمام الرائي يقود الي هوة سحيقة أسفله وحدثت حوادث مروعة لسيارات و شاحنات هوت الي قاع الهوة ومن تلك الحوادث الفاجعة ما حدث لطلبة من كلية الطب في جامعة الخرطوم كانوا في رحلة الي جبل مرة و كان سائق عربتهم التي جاءوا بها من الخرطوم يسير في الطريق وهوت السيارة بهم في الهاوية ولقوا حتفهم جميعاً , وأطلق السكان المحليون على تلك البقعة مقبرة الطلبة , ولا أدري لماذا لم يضع المسئولون علامات تحذيرية وعمل سياج متين في آخر الطريق يحمي السيارات من السقوط في الهاوية !
    واجتزنا تلك المحلة بسلام لأن سائقنا كان متمرساً وجاز هذه الطريق مرات عديدة من قبل , وتوقفنا عند بلدة نرتتي في الجبل وقيل أن نصل إليها اجتزنا ما يشبه النهير لمياه صافية شفافة تجيء من نبع في أعلى الجبل , وفي نرتتي تجلت الطبيعة في أحلى صورها فقد كان مجرى من الماء مثل الخور يشق البلدة ويخترق البيوت في جداول وتنمو في كل بيت حديقة غناء من أشجار الفاكهة والخضروات , وهنا تنمو فواكه منطقة البحر الأبيض والمناطق الباردة مثل البرتقال أبٌ صرة والتفاح , أما الطقس فإنه معتدل يميل إلى البرودة و تنخفض درجة الحرارة كلما ذهبنا علواً في الجبل , ومن المفارقات اللطيفة أنني سألت امرأة كانت تبيع البرتقال أبٌ صرة عن ثمن دسته البرتقال وقالت لي أن الدستة بستين قرشاً , وقلت لها أن هذا غير معقول لأن ثمن الدستة في الخرطوم هو ستون قرشاً وأنتم هنا تزرعونه فلا بد أن يكون أرخص من ذلك , وردت على قائلة : (( أنتم تشترون رطل السكر في الخرطوم بعشرة قروش ونحن نشتريه هنا بخمسين قرشاً فكيف لا نبيع البرتقال بستين قرشاً )) , وألجمني ردها وحقاً , من أين يأتون بثمن السكر ؟! , ولاحظت أنهم لا يبيعون السجائر والتنباك في السوق ولا يتعاطونهما لأنهم يعتقدون أنهما حرام مع أنهم يزرعون التنباك أو التبغ وتكاد تكون دارفور الوحيدة التي تورد لبقية السودان التنباك ! وواصلنا مسيرتنا إلى زالنجي التي تعتبر من أكبر مدن دارفور وفي طريقنا إليها رأينا مبني كأنه القلعة في بقعة موحشة عرفنا أنه سجن نيالا , وهذا السجن رحل إليه حكام نظام الفريق إبراهيم عبود من الجنرالات عقب ثورة أكتوبر 1964 م , وحدث حينذاك أمر يبعث علي الدهشة والتأمل , فقد رفض المساجين من المجرمين أن يكون معهم في السجن أولئك الحكام !!
    ووصلنا زالنجي , والمدينة تقع علي هضبة وتنتشر الخضرة في كل مكان وكان بها مدرسة متوسطة كبيرة ذات داخلية للبنين واخري للبنات وكذلك مدرسة قارسلا الجديدة , وكان للمدرسة الحكومية منازل عديدة , وافردوا منزلا منها للموجهين الثلاثة , ونزلت أنا مع مدير المدرسة (العزابي) في منزله والذي كنا نجتمع فيه جميعا لتناول الغذاء والذي كانت تعده لنا زوجة مدير مدرسة البنات وهي معلمة بنفس المدرسة . وجاءنا موظف بالبنك ودعانا للعشاء باسم موظفي البنك , وذهبنا الي دارهم وكعادة السودانيين اعدوا لنا ذبيحة كما اعدوا كراتين من الشراب , وتصاعد دخان الشية (الشواء) , و(عشوا) مولانا وغادر الي الدار للنوم . وطابت الجلسة , وما ان حانت الساعة العاشرة ليلا اعتذرت للمضيفين عن الاستمرار في السهرة اللطيفة لانه ينتظرنا عمل كثير في الغد وطلبت من الزملاء الانصراف , وانصرف الزملاء علي مضض وكان مدير المدرسة أكثرهم مضضا , وكان مشتهرا بحب الشراب وقد نقل من الخرطوم لهذا السبب ..
    وفي المنزل كنت اسمع صوته يأتيني من داخل حجرته وهو يحتج قائلا (انحنا طلبة في داخلية ينومونا من الساعة تسعة ..) وأنا استمع إليه واضحك وظل في كلامه مع نفسه الي ان نام .
    وفي الغد انقسمنا الي فريقين ذهب أحدهما الي مدرسة البنين و الثاني الي مدرسة البنات , و أمضينا ثلاثة أيام حتى فرغنا من أعمالنا . فوجئت وصدمت عندما وجدت كثيرا من الطلبة يجلسون علي صناديق الشاي الخشبية أو الصفائح الفارغة و يكتبون واضعين كراساتهم علي حجورهم ! وضمنت هذا الحال المزري في تقريري عندما عدنا ووجدنا الحل لذلك وسأبينه لاحقا ..
    وانهالت علينا الدعوات .. دعوة شاي من مدير مشروع السافانا , ودعوة غذاء من كبير تجار البلد ودعانا الشيخ أبو شوارب الي الغذاء في داره العامرة ودعا جميع وجوه المدينة وموظفيها , وهذا الرجل الشهم منجم من الكرم و الهمة فقد قام بمفرده بتشييد مبني لمدرسة ثانوية في زالنجي علي حسابه الخاص . ودعانا آخرون سقطت من الذاكرة أسماؤهم بطول المدة .
    وكان للموجه مولانا مزرعة بن بالبلدة وارانا لها وكانت تلك أول مرة أرى فيها شجرة البن , وأخذت حبات خضراء منها .. وقضينا الثلاثة أيام في عمل وتلبية دعوات , وقفلنا راجعين , ومنحنا أنفسنا راحة لنقضي الليلة في استراحة بالجبل و لنشاهد معالم الجبل عن كثب , وتسلقت العربة اللاندروفر الجبل تسلقا في طريق متعرج ملئ بالصخور و الحجارة فكانت السيارة تثب وثبا فوق الصخور مستخدما السائق مغير السرعة الذي يسمونه (ترس القوة) وهو يجعل هذه السيارة تسير في الرمل والطين والصخر ووصلنا الاستراحة الحكومية والتي كانت مهيأة بالأسرة والفراش وبها خفير وفراش . كان الجو باردا وقضينا الليل نتقلب من البرد واصبح الصبح ووقعت أنظارنا علي أروع منظر يمكن ان يصافح العيون فالازاهر من كل لون في كل مكان , وأريحها يعطر الجو وخضرة الأشجار زاهية ونظيفة وكأنها غسلت بالماء و الصابون , وشقشقة الأطيار تطرب السمع وكأنها أوركسترا موسيقية تعزف ألحانا عبقرية .. وذهبنا الي موقع البحيرة غير بعيد من الاستراحة وهي بحيرة وسط الصخور تنبع من باطن الأرض وتغذيها مياه جارية نابعة من قمة الجبل , والبحيرة تحوطها الأشجار والأزهار من كل جانب , ومياه البحيرة صافية شفافة , وسموها بركة الفيل كما حدثنا الخفير لان فيلا غرق فيها فمياه البحيرة عميقة .. وقال لنا الخفير ان الكبراء ورؤساء الدول يأتون بهم الي هنا ويضربون لهم فسطاطا أي صيوانا بجانب البحيرة ويقضون اليوم هناك وكانوا جميعا مسحورين بجمال وروعة المكان ..
    واستمتعت بذلك المحيط الشاعري الجذاب الذي يغسل من الروح منغصات الحياة واوشاب العيش ! وصحوت من الحلم الواقعي الجميل وقفلنا راجعين الي نيالا عبر الطريق الوعر وخائضين بسيارتنا الفرناغة اللئيمة !
    وقدمت تقريرا لمساعد المحافظ للتعليم شفاهة وكتابة فهناك أشياء لا تذكر في التقارير الرسمية وليس كل ما يعرف يقال شريطة ان لا يخل المسكوت عنه بسير العمل .. و ذكرت له سوء الحال من جلوس الطلبة علي صناديق الخشب و الصفائح وهي حالة ملحة تستوجب حلا سريعا , وأننا إذا طلبنا الكراسي من الوزارة التي تطلبها من المخازن و المهمات وفي حالة توفرها فان هذه العملية تأخذ وقتا طويلا وربما تصلنا في العام الجديد , وقلت له لماذا لا نقدم عطاءات لتصنيعها أو شرائها محليا حسب ما نضعه من مواصفات ونكون قد حققنا بذلك أمرين أو نكون قد اصطدنا طائرين بحجر واحد وهما أولا قلة التكلفة المالية و ثانيا سرعة الإنجاز و التسليم , وقال لي لماذا لا نضعها نحن في مكتب التعليم و تكون لنا ورشتنا الخاصة ما دام لنا بند مالي للإنشاء في الميزانية , ثم ان المديرية تزخر بالأخشاب , ووافقته بحماس علي هذه الفكرة وبعد الحصول علي المصادقة من المحافظ شرعنا في العمل , وبدأ العمل , وبعد وقت قصير تمكنا من اجلاس معظم تلاميذنا في كراسي وما يزال العمل جار لتغطية جميع المدارس التي تعاني من نفس المشكلة .
    كلفت برئاسة لجنة قبول التلاميذ و التلميذات بمنطقة الضعين و يوجد بمدينة الضعين مدرستان متوسطتان للبنين ومدرسة متوسطة للبنات , وحجز لي المكتب قمرة نوم بالقطار الي الضعين وهذه القمرة كانت في الماضي قمة في الرفاهية و كانت آخر مرة لي لركوب القطار قبل تسع سنوات علي هذه الدرجة , ووجدت الحال غير الحال في ذلك الوقت , فغطاء السرير ممزق و متسخ , والقمرة مظلمة و المروحة لا تعمل ولا يوجد ماء بالترمس , بل لا يوجد ترمس أصلاً وقلت في نفسي إذا كانت هذه الحال في قمرة النوم فكيف يكون في الدرجات الثانية والثالثة والرابعة ؟! سؤال لم يحتاج إلى إجابة فإن عدد الراكبين فوق سطح القطار كان أكثر من الركاب المحشورين كالسردين داخله !! وتحرك القطار بعد ساعتين من موعده المضروب لتحركه وقطار نيالا يشتهر بتسكعه وإبطائه في سيره ولا يعلم أحد متي يصل إلى غايته إلا علام الغيوب , وخاصة في فصل الخريف !
    ووصل القطار أخيراً إلى مدينة الضعين بعد رحلة مضنية ووجدت في انتظاري مدير المدرسة الحكومية المتوسطة الأستاذ محمد يعقوب زريبة والذي استضافني بمنزله , وهو مدير مقتدر وشخصية محترمة في البلدة وكان المكتب في نيالا يعتمد عليه في مدينة الضعين وذلك قبل أن يفتح المكتب فرعاً له هناك .. وفي الغد عقدنا اللجنة التي كان من أعضائها مديرا المدرستين المتوسطتين واثنان من الأعيان , وفرغنا من قبول التلاميذ في جلسة ممتدة من الصبح وحتى الواحدة بعد الظهر ومن هناك توجهت إلى مدرسة البنات الوسطى وكان معي مدير المدرسة والذي للمصادفة كان من أبرز المعلمين في مدرسة العيلفون المتوسطة عندما كنت ناظراً لها قبل خمسة عشر عاماً , وحدث هنا في القبول للداخلية شيء مماثل لما حدث في لجنة القبول بمدرسة بورتسودان الحكومية قبل ثمانية عشر عاماً , فمن شروط القبول للداخلية أن لا يكون أهل التلميذ أو التلميذة من سكان المدينة , وأصرت إحدى أمهات التلميذات أن تقبل أبنتها بالداخلية , وحاولت إفهامها بأن أبنتها لا تستحق القبول بالداخلية , وأسر لي المدير بأن البنت يتيمة الأب وتعيش مع أمها في قطية وأن الأم بتبيع الفول والتسالي واللالوب وتعيش مع أبنتها تحت خط الفقر , والأم تغيب طول النهار وجزءاً من الليل في طلب الرزق وتترك البنت بمفردها وهي في طور المراهقة ولا تأمن عليها ..
    ووعدتها بأن أنظر في أمر أبنتها بعد أن نفرغ من قبول المستحقات واللواتي حالاتهن أكثر إلحاحاً من حالة ابنتها لأن الكثيرات يأتين من أماكن و بلدان بعيدة وليس لهن أحد بالمدينة , وفرغنا من القبول وراجعت عدد المقبولات بالداخلية ووجدته مكتملا , وإذا قبلت ابنة المرأة فسيزيد العدد واحدا فوق المصرح به بالقبول , وقبلت البنت , وخرجت من هذا المأزق بكتابة ملحوظة تقول بأن تقبل البنت فوق العدد المحدد نسبة لظروفها الخاصة وبعد تصديق مساعد المحافظ للتعليم , وكان ان صادق الإنسان مساعد المحافظ للتعليم علي قبولها ..
    عدت الي نيالا و أوفر علي نفسي وعلي القارئ وصف رحلة العودة بالقطار فقد كانت أسوأ من رحلة الذهاب .. انه قطار نيالا و كفي !
    وجدت عند عودتي خطابا رسميا من المحافظ يكلفني فيه برئاسة مجلس تأديب لمحاسبة أحد الموظفين, وكانت تلك ثالث مرة أتلقى فيها مثل هذا التكليف , فعندما كنت مندوبا لتعليم جنوب دارفور بالوزارة كلفني المدير العام للتعليم العام بعضوية مجلسي تأديب لمحاسبة اثنين من المدرسين , وعلمت ان ذلك الموظف كان معتقلا من الأمن و أخلي سبيله , وبعد ذلك تشكل له مجلس تأديب . إذاً الأمر سياسي ويريدون ان ينالوا منه ما لم يستطيعوا ان ينالوه بالقضاء , واعتذرت عن المهمة لأن موعد مجلس التأديب يتعارض مع ذهابي الي الوزارة في الخرطوم للاشتراك في اللجنة الاستشارية للتنقلات والتي يشارك فيها كبار الموجهين في محافظات السودان والتي تقرر في نقل المعلمين علي نطاق السودان .
    ذهبت الي الخرطوم ممثلا لمحافظة جنوب دارفور في اللجنة الاستشارية لتنقلات مدرسي المرحلة المتوسطة , وهناك لجنتان أخريان للمرحلة الثانوية و المرحلة الابتدائية , وذهبت متزودا بالإحصاءات و المعلومات عن المدرسين وعن احتياج المحافظة من مدرسي التخصصات المختلفة للمواد وبطلبات الراغبين في النقل الي المحافظات الأخرى , وكانت هذه أول مرة أشارك فيها في هذه اللجنة , وافتتح الجلسة الأولى وكيل الوزارة مرحبا بنا ومتمنيا لنا التوفيق في مهمتنا ومذكرا لنا بأن نلتزم النزاهة و الدقة في عملنا و ملتزمين بالسرية التامة الي ان يصدر كشف التنقلات بعد اعتماده من الوكيل و الوزير في صورته النهائية , ولا أريد ان ادخل في تفاصيل العمل ولكن القي الضوء علي جانب واحد وهو طلبات النقل للراغبين في النقل من محافظاتهم الي محافظات أخرى , فأن كبير الموجهين للمحافظة يعرض الطلب علي الاجتماع ويذكر السبب أو الأسباب المصاحبة لطلب النقل , ويناقش المجتمعون الطلب ثم يقررون قبول النقل أو رفضه وتكتب أسباب الرفض علي الطلب , وتعرض وتناقش كل حالة علي حدة , وهناك طلبات يقدمها ممثل المحافظة لنقل مدرس من محافظته , وتحضرني حادثة طريفة فقد قدم ممثل إحدى المحافظات اسم مدرس للنقل من محافظته وطلب وأصر علي نقله الي جنوب دارفور , ووجدت الحضور يضحكون ويتغامزون , فخمنت ان في الأمر شيئا , وسألته عن إصراره علي نقله الي جنوب دارفور بالذات و المدرس ليس من المنطقة وأنني لن اقبل نقله إلينا إلا إذا بين لي السبب الحقيقي لنقله , وآزرني بعض المجتمعين , واخيرا كشف عن المستور وقال ان ذلك المدرس من النوع الشاذ السلبي جنسيا , وان الناس في جنوب دارفور لا يعرفون الشذوذ ولو فعل فعلته تلك هناك فربما يتلقي طعنة سكين أو ضربة عكاز تريح الخلق منه , وزاد ضحك الجميع , ورددت عليه قائلا انه بدلا من ان نعرض حياة هذا المبتلي للهلاك فان لم نستطع تقويمه أو بتره فلا يحق لنا ان نضيع عمره , وعسي ان يتوب ويقلع عن شذوذه , وأنني بدلا من ذلك اقترح ان ننقله لمحافظة كبيرة و سيذوب وسط الملايين فيها وارشح ولاية الخرطوم ووافق الاجتماع علي ذلك رغم احتجاج كبير موجهي الخرطوم ..
    وحدثني الأخ كبير الموجهين بمحافظة شمال دارفور عن مدير مدرسة يريد ان ينقله إلينا في جنوب دارفور وهو من زالنجي ونقل تعسفا الي الجنينة ونتيجة للظلم فقد صار يشرب كثيرا من الخمر ويخشي عليه من التلف وعرفني باسمه وهو إبراهيم أبو الخيرات , وعرفت فيه صديقي القديم عندما كنت ناظرا لمدرسة الجنينة الوسطي للبنات قبل 10 سنوات , وجاء منقولا ليفتح مدرسة هبيلة المتوسطة الجديدة بمبني مدرسة الجنينة المتوسطة للبنين , وعلمت قصته بعد ذلك فقد عين مديرا لمدرسة زالنجي الحكومية المتوسطة بعد ان كان نائبا في البرلمان عن حزب الأمة , بعد حل البرلمان . وفي زيارة للرئيس السابق جعفر نميري ومعه وزير التربية والتعليم الدكتور محي الدين صابر قابلهم طلاب وتلاميذ المدارس بمظاهرة وكانوا يطالبون فيها بالكتب والأدوات , واتهم الأستاذ إبراهيم بتحريض الطلاب علي التظاهر و أوقف من العمل وقدم لمجلس تأديب , وبرأه مجلس التأديب , ونقله الوزير الي الجنينة بتوصية ليبقي بها أبدا . وكان بين الوزير والمدير عندما كان نائبا للبرلمان مشاحنات .. ونقلنا أبو الخيرات الي جنوب دارفور ونقلته الي موطنه زالنجي ومديرا لمدرسته القديمة المتوسطة الحكومية .. وجاء الرجل الي نيالا وجاءني ليشكرني ولم أكد اعرفه ولم يكن ذلك الرجل المتين البنيه الذي عرفته فقد صار هزيلا ترتجف يداه وعيونه محمرة , وجلس مطرقا ساكنا لا يتكلم وتسقطت أخباره بعد عدة اشهر وعرفت انه اقلع نهائيا عن شرب الخمر وتحسنت صحته وعادت إليه حيويته .
    كانت هناك مشكلة مزمنة وشائكة تعاني منها الوزارة ولا نستطيع لها حلا وهي وجود أعداد من المدرسين الذين يعانون من أمراض عصبية ونفسية ويخضعون للعلاج لمدة طويلة , وهناك فئة من المدرسين يدمنون شرب الخمر , وهناك فئة ثالثة عديمي الكفاءة ومهملين ولا مبالين .
    وجاءنا في الاجتماع توجبه مكتوب من الوزير يطلب فيه ان تعد كل محافظة ثلاث قوائم , واحدة تحوي أسماء مرضي الأعصاب و الذين درج علي تسميتهم بالمجانين , وقائمة ثانية بأسماء المدمنين علي الخمر , وقائمة ثالثة بأسماء المهملين و الضعفاء في كفايتهم وادائهم . واعددنا القوائم , واصدر الوزير قرارا بإحالتهم جميعا للمعاش , ووجد القرار استحسانا من اغلب المدرسين لأن أولئك المدرسين كانوا يسببون صداعا مستديما لما يسببونه من مشاكل في المدارس . وللحقيقة و التاريخ كان ذلك الوزير هو الدكتور منصور خالد والذي رأت وزارة التربية والتعليم علي يديه خيرا كثيرا من تنظيم للوزارة و إنصاف للمعلمين وحل للمشاكل المزمنة وكل ذلك خلال الفترة القصيرة التي تولي فيها مقاليد الوزارة , ولم تشهد الوزارة وزيرا مثله في كفايته من قبل ومن بعد ..
    أنفقنا واحدا وعشرين يوما في أعمال لجنة التنقلات وكنا نجتمع في جانب قصي من الوزارة في قاعة مقفلة علينا ولا يدخل عليها أحد من الوزارة أو خارجها , وكنا عندما يقابلنا أحد الزملاء من الوزارة و يسألنا عن شخص معين نعتذر له بأننا أقسمنا علي المصحف ان لا نبوح بأي شئ مما يدور في اللجنة ولا نصرح بشيء إلا بعد صدور كشف التنقلات من الوزارة , وفي آخر يوم لنا في العمل أتى إلينا صراف الوزارة حاملا في حقيبته المبالغ التي نستحقها من بدلات نقدية للسفر و المعيشة خلال الفترة التي قضيناها في أعمال اللجنة و كان زميل لنا في اللجنة ابرم معه هذا الترتيب علي ان يدفع كل واحد منا مبلغ جنيه واحد .
    لا يستقيم ان استمر في الكتابة عن إقامتي بنيالا دون الحديث عن أناس بعضهم من أكرمني باستضافتي معه في منزله وبعضهم من كانت عشرتهم ومعرفتهم مكسبا لي في رصيدي الإنساني من كرام الناس , وبدون ترتيب أو تفضيل , فعندما نقل صهري مولانا محمد عطا والذي استضافني معه في منزل القضاة العزابة والذي كان يسكنه مع اثنين من القضاة الشبان , استضافني في منزله مولانا عمر المنا القاضي المقيم بنيالا وهو شاب جمع حكمة الشيوخ مع حماس الشباب ويزين ذلك كرم فياض وثقافة ثرة , وشخصية أخرى هو قاضي المديرية مولانا عبد الله التوم وهو من الطف خلق الله , وسبقت لي معرفة به وبأهله في حي الضباط وحي بانت منذ ان كنا أطفالا , ويتميز بكرم أصيل وتواضع غير مصطنع وتجد من معارفه أو أصدقائه من كل الطبقات من الوجهاء والي الجزمجي عندما تراه مختلطا بالناس في نادي البلدة , وهو شعلة لا تهدأ من النشاط , واما عندما يجلس علي منصة القضاء فهو القاضي العادل الصارم المهاب , وقد كون فريق لكرة القدم من عواجيز رؤساء المصالح بنيالا اسماه فريق الأحد Sunday Team وهو امتداد للفريق الام في الخرطوم وكانوا يلعبون كرة القدم بإستاد نيالا في يوم الأحد من كل أسبوع , وكان القضاة يأكلون جميعهم في الميز , وشاءت الصدفة ان يكونوا كلهم عزاب , وكان من عادتي وما زالت ان اخلد الي قيلولة بعد الغداء , ولكن مولانا عبد الله جعلني بلطفه أتنازل عن (النومة) لالعب معهم (الوست) لعبة ورق اللعب المعروفة , ولكن كنت العب بعقل نصف يقظ وتسببت في ذلك لزميلي في اللعب في الهزيمة والتي ترقي أحيانا الي درجة (الاسنافيك) وهي قمة الهزيمة في هذه اللعبة .
    ولا انسي صديقي عوض سعد اختصاصي الأشعة بمستشفي نيالا والذي تعود معرفتي به الي امدرمان وهو من أبناء فريق الضباط الذي قضيت فيه شطرا من طفولتي في منزل جدي لأمي وسعد شخص جاد في ظرف وكرم أصيل وكان لي أخا عوضني عن اخوة الرحم وكنت اسهر معه في ليالي الخميس وتتحفنا زوجته الفاضلة بعشاء شهي ..
    كما قضيت شطرا من إقامتي بنيالا مع صهري الصديق الدكتور الطاهر إسماعيل مساعد المحافظ للصحة في منزله بعد ان سافرت زوجته للخرطوم , وهو شخص هادئ الطبع رفيع الخلق , أما الزملاء في مكتب التعليم من موجهين وموظفين و كاتبات , كانوا جميعا رفقاء وكانوا يزاولون أعمالهم بإتقان و إخلاص , ويقود هذه النخبة من العاملين الأخ الكبير الإنسان الطيب عبد الله _ طيب الله ثراه وجعل صحبته مع الصديقين و الشهداء , فوضع أساسا متينا قام عليه بنيان مكتب تعليم جنوب دارفور شامخا راسخا وضرب لنا مثلا في تعامل الرئيس مع مرؤوسيه في السماحة مع الحسم و العدل مع الرفق , وفعل ما ينفع الناس . وصدر كشف التنقلات ووجدتني منقولا الي مكتب تعليم الخرطوم , وأذنت شمس بقائي في نيالا بالأفول لتشرق من جديد علي موطني الصغير بأمدرمان حيث منبت وجودي وملاعب صباي ووثبات شبابي , وها أنا أعود إليها بعد تجوال طويل المدى في أرجاء وطننا العريض الكبير , وغادرتها في زهرة الشباب , و أعود إليها في بواكير الكهولة ...
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de