الكذب بوصفه حيلة ثقافية .... د. نادر كاظم

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-13-2024, 03:36 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثالث للعام 2007م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
07-10-2007, 03:26 PM

esam gabralla

تاريخ التسجيل: 05-03-2003
مجموع المشاركات: 6116

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
sssss
الكذب بوصفه حيلة ثقافية .... د. نادر كاظم

    لا يمكن للكذب أن يروج إذا صُرح بكونه كذباً، ولذا كان من شروط رواج الكذب إخفاء كونه كذباً من حيث الأصل، أما إذا تعذّر إخفاء أصل الكذب بأن كان مكشوفاً وواضحاً للعيان، فإن الثقافة عندئذٍ تلجأ إلى حيلة تجعل الناس لا يكترثون بالأصل ولا يتساءلون عنه. هذه الحيلة هي نسبة الكذب إلى مصدر موثوق ومعتبر بين القوم بحيث لا يكون ثمة مجال للسؤال عن الأصل ومطابقة القول لأصله في الواقع، فصدوره عن مصدر موثوق معتبر يغني عن السؤال عن الأصل، بل هو يقوم مقام الأصل؛ ولذا يكون البحث عندئذٍ لا من أجل مطابقة القول مع أصله أو عدم مطابقته، بل عن صحة صدوره عن ذاك المصدر الموثوق المعتبر.

    كان الشعر الجاهلي بمثابة الأصل الموثوق المعتبر، ولذا كانت القصائد موضوعاً للكذب الثقافي والتنازع بين القبائل، حيث كانت القبائل تقول شعراً على ألسنة شعرائها الأوائل، شعراً لم يقله هؤلاء الأوائل، بل هو مكذوب عليهم، وإنما نُسب إليهم لكونهم مصدراً موثوقاً، وهو ما يجعل القول يتخّلص من عقدة المساءلة عن صدقه أو كذبه. يقول ابن سلاّم الجمحي عن هذه الحال: إنه »لما راجعت العرب رواية الشعر وذكر أيامها ومآثرها استغلّ بعض العشائر شعر شعرائهم وما ذهب من ذكر وقائعهم، وكان قوم قلّت وقائعهم وأشعارهم وأرادوا أن يلحقوا بمن له الوقائع والأشعار، فقالوا على ألسنة شعرائهم، ثم كانت الرواة بعد فزادوا في الأشعار«. لماذا لجأت هذه القبائل إلى الكذب على نفسها وعلى الآخرين بهذه الزيادات والقول على ألسنة شعرائها؟ لأنها على علم بتأثير الشعر وكونه مصدراً موثوقاً معتبراً، ولأنها تعلم أن اللاحقين لن يشكوا في صدق هذه الوقائع والمآثر ما دامت موثّقة في مصدر موثوق ومعتبر، وحتى حين يتخفّف الشعر الجاهلي من قدسيته وهيبته في النفوس، فكل ما سيعمله اللاحقون أنهم سوف يشكّون في صحة صدور هذه الأشعار عن المصدر الأول.

    وحين تراجعت مكانة الشعر الجاهلي المهيبة، اقتصرت المهابة القدسية على القرآن الكريم وقول الرسول (ص)، وبما أن القرآن كتاب تام ومحفوظ ولا مجال للزيادة فيه أو النقصان، فإن قول الرسول - في المقابل - بقي مفتوحاً أمام كثير من الزيادات والوضع والكذب. وقد يكون من السهل تمييز الصحيح من الموضوع والمكذوب في تلك الأحاديث المكذوبة لأغراض سياسية مكشوفة كالتي حرّض على قولها وترويجها بني أمية وبني العباس، إلا أنه ليس من السهولة بمكان الجزم بكذب أحاديث ليس لها ذلك الطابع السياسي المكشوف والصريح، وإن كانت تدور في فلك السلطة أو السياسة الموجودة في كل مكان كما يقول ميشيل فوكو وإدوارد سعيد، وذلك من حيث إن هذه الأحاديث المكذوبة تعمل كأداة لإخضاع الآخرين وتطويعهم والهيمنة عليهم.

    وكما كان كذب القبائل على شعرائها الأوائل يعبّر عن حاجة هذه القبائل إلى تعزيز موقفها ومكانتها بين القبائل، فكذلك هو الشأن مع كذب الثقافة على الرسول، فالكذب على الرسول يعبّر عن رغبة هذه الثقافة في استثمار كل ما هو متاح من أجل تعزيز مواقفها واعتقاداتها، سواء كان هذا المتاح سنداً دينياً أو علمياً أو أدبياً. إن الكذب سيكون مكشوفاً حين يأتي تلبيةً لمتطلبات آنية ملحة في مجال السياسة أو الاقتصاد، غير أنه سيكون قادراً على التخفّي والتستّر ومزاحمة الصدق والاختلاط به، وذلك حين يكون تلبية لحاجات بعيدة المدى وطويلة الأجل، أي حين يكون الكذب استجابة لحاجات ثقافية بعيدة. وحاجات الثقافة هي دائماً من هذا النوع، وهذا ما يميّزها عن حاجات السياسة قصيرة الأجل من حيث إنها تستدعي كذباً حاضراً وتكتيكياً لحلّ أية مشكلة تطرأ.

    إلا أن هذا الفرق بين حاجات الثقافة وحاجات السياسة لا يعني أنهما على طرفي نقيض أو أن التلاقي بينهما غير ممكن، بل إن حاجات الثقافة بعيدة المدى لا تخلو من كونها ذات غاية سياسية جوهرية، وهي العمل على إخضاع الآخرين والتمكين من الهيمنة عليهم. إن لدى السياسة الصريحة أدواتها القمعية في الإخضاع وفرض الهيمنة، ولذلك فإن حاجاتها يمكن أن تلبى بسرعة بصورة تامة أو منقوصة، أما أدوات الثقافة في الإخضاع فتعتمد على العنف، ولكن ليس ذاك العنف المادي الخشن، بل على العنف الناعم ذي الطابع الأيديولوجي كما يقول ألتوسير، أو الرمزي كما يقول بيير بورديو، بمعنى أنه عنف خفي مستور، وهو لا بد أن يكون كذلك ليؤدي غرضه، وإلا لو كشّر عنف الثقافة الأيديولوجي والرمزي عن أنيابه لتكشّف وانتهت الحيلة التي أريد لها أن تنطلي على الآخرين. ومن هنا يمكن القول بأن كذب السياسة من ذلك النوع القابل للتكشّف ونزع الحجب عنه بسهولة، أما أكاذيب الثقافة فهي من النوع الذي يصعب كشفه، ويصعب التحقّق من حقيقة كونه كذباً.

    في الثقافة العربية الإسلامية محاولات عدة لثقافة توسّلت بالكذب الثقافي لتحقيق أغراض الإخضاع والهيمنة أو النبذ والإقصاء. ولعل أشهر تلك المحاولات تتمثل في: محاولة إخضاع المرأة، ومحاولة إخضاع العبد الرقيق، وهما الآخران الداخلي والخارجي اللذان جمعهما المتنبي في بيت واحد حين قال:

    أنوَكُ مِن عبدٍ ومن عِرسِهِ مَن حكّم العبد على نفسه

    ويشرح الواحدي هذا البيت بقوله بأن الأنوك أي الأحمق هو من يخضع للعبد ويقصد به كافور الإخشيدي، فمن يفعل ذلك يكون »أنوك من عبدٍ ومن عرس نفسه يعني المرأة، أي أحمق من المرأة ومن العبد من يكون في طاعة العبد«. إن الوضع الصحيح من منظور هذه الثقافة التي عبّر عن مقاصدها المتنبي أبلغ تعبير هو أن تكون المرأة خاضعة للرجل، وأن يكون العبد خاضعاً لسيده العربي. فإذا كانت المرأة هي أبرز الآخرين الداخليين بالنسبة للرجل العربي، فإن العبد الزنجي هو أبرز الآخرين الخارجيين الذين عرفتهم هذه الثقافة. وهو الآخر الذي كان الرجل العربي يتعامل معه بضربٍ من المغايرة والاختلاف يمكن أن نسميه بـ »المغايرة المضاعفة أو المركبة«، فالزنجي كائن مغاير له في اللون والعرق والدين واللغة ومستوى التحضر وحتى في الجنس النوعي حيث كثيراً ما وُصف أولئك الأرقاء بالحيوانية وكونهم في عداد الوحوش والبهائم. ولذا فمن أجل إخضاع هؤلاء حيناً ونبذهم وإقصائهم حيناً آخر، فإن هذه الثقافة لم تتورّع عن الكذب على الرسول بأحاديث لا تستقيم مع تسامح الإسلام واحترامه لكرامة الإنسان وسويّة خلقته. وهي أحاديث تتعارض مع تسامح الإسلام مع الآخرين، ومع احترامه لكرامة الإنسان من أي عرق كان؛ ولذا صرّح بعض العلماء بكذب هذه الأحاديث، وشكّكوا في صحة صدورها عن الرسول. غير أن القول بكذب نسبة هذه الأحاديث إلى الرسول لا ينهي المشكلة، فلماذا تلجأ هذه الثقافة إلى الكذب؟ ولماذا تكذب على الرسول وهي تعلم أن من كذب على الرسول متعمّداً فقد تبوّأ مقعده من النار؟

    إن الأحاديث المكذوبة على الرسول والتي تنطوي على ما أسميناه بـ »الكذب الثقافي الجماعي«، تتطابق مع اعتقادات الجماعة الثقافية التي وضعت هذه الأحاديث ونسبتها إلى الرسول بوصفه مصدراً دينياً معتبراً. ولربما عدّت الثقافة هذا الكذب صدقاً لكون الخبر فيه طابق اعتقادات الرواة والناقلين والسامعين. ألم يذهب بعض البلاغيين والكلاميين مثل إبراهيم النظّام المعتزلي (‮١٢٢‬هـ) إلى القول بأن صدق الخبر هو »مطابقة حكمه لاعتقاد المخبِر صواباً كان أو خطأً، وكذبه عدم مطابقة حكمه له«؟ فلو قال قائل: إن ماء البحر عذب، وهو معتقد بذلك لكان قوله صدقاً. وعلى هذا، فإن هذه الثقافة لا تتحرّج من الكذب في الأحاديث والأشعار والحكايات، وذلك ما دامت هذه الأقاويل صادقة من حيث هي مطابقة لاعتقادات الجماعة الثقافية، فإذا كان متخيّل هذه الجماعة عن المرأة والعبد مشحوناً بصور نمطية سلبية، فإن وضع أحاديث وأشعار وابتداع حكايات ومرويات تنتقص من كرامتهما لن يكون من باب الكذب، بل هو معدود في عداد »الصدق الثقافي« الذي هو الوجه الثاني من عملة »الكذب الثقافي الجماعي«.

    ومقتضى هذا التصور للكذب والصدق الثقافيين أن يكون لكل ثقافة كذبها الخاص وصدقها الخاص، فليس ثمة كذب مطلق وصدق مطلق ينسحب على كل الثقافات، بدليل أن ما يعد صدقاً في ثقافة ما قد ينقلب كذباً في ثقافة أخرى، والعكس بالعكس. ولقد سبق للبلاغيين العرب أن تطرّقوا إلى معنى قريب من هذا، وذلك حين يتعرضون لمفهوم المجاز العقلي.

    فعبد القاهر الجرجاني يميّز بين نوعين من المجاز: المجاز اللغوي، وهو ما يكون مجازاً من طريق اللغة ومواضعاتها كإطلاق اليد للدلالة على النعمة أو القدرة، وهو خاص بالمفردات. والنوع الثاني هو المجاز العقلي، وهو مجاز من طريق العقل، كأن يُسند فعل الحيّ القادر لغير القادر مثل: »محبتك جاءت بي«، وهو خاص بالجُمل. وأشار الجرجاني سريعاً إلى مجاز يمكن أن نطلق عليه هنا »المجاز الثقافي« أو »الكذب الثقافي«، وهو يكون في المفردات لأن الذي يقرر العلاقة بين معنى ومعنى إنما هي مواضعات الثقافة لا مواضعات اللغة فحسب، كما أنه يكون في الجمل لأن الذي يحدّد القادرين على الفعل مثلاً إنما هي الثقافة وليس العقل وحده، بدليل أن ما هو ساكن عاجز في ثقافة ما قد يكون حياً قادراً في ثقافة أخرى كقول الدهريين، بحسب حكاية الآية القرآنية الكريمة، »وما يهلكنا إلا الدهر«، فإسناد الإهلاك إلى الدهر بحسب اعتقادهم ليس مجازاً بل هو حقيقة، ولا هو من باب الكذب بل هو صدق. وعلى هذا فثمة أقوال هي كاذبة من حيث الأصل، بيد أنها صادقة من حيث مطابقتها لاعتقادات الجماعة الثقافية.
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de