|
امراة من كمبو كديس
|
في صباح قائظ من يوم خريفي، بينما كنت أتسكع في شوارع المدينة – كعادتي – منذ أن طُردت من وظيفتي للصالح العام قبل سنتين – سمعت صرّاخ أطفال وما يشبه التهليل والتكبير وأصوات نسوة تندفع إليَّ مع ريح السموم الصباحية، آتية من جهة تجمع سوق النوبة، كان نهيق حمير الأعراب القادمين من أطراف المدينة هو الصوت الوحيد المعتاد بين مظاهرة الأصوات تلك. هادئون كانوا دائماً رواد سوق النوبة، يساومون في هدوء وخبث وحنكة، يشترون ويبيعون في صمت وكأنهم يؤدون صلاة خاصة. نعم قد يسمع نداء موسي السَمِح الجزار بين الفينة والأخري،وقد تتشاجر بائعتان، و قد، لكن تهليل وتكبير وصراخ أطفال؟!، وكفرد أصيل في هذه المدينة أمتلك حساً تشكيكياً عميقاً هتف في: - إن هنالك شيئاً ما في سوق النوبة... وكما يتشمم كلب الصيد أثر الأرنب البريّ تشممت طريقي الي المكان. عزيزة – إبنة كلتوم بائعة العْرقِي – كنا نحن قطيع المثقفين نطلق عليها اخصائية العْرقِي – مرت امام وجهي كالطلقة الطائشة وهي تحمل – على كتفها – أخاها الصغير منتصر، غير عابئة بصرخاته المتقطعة المخنوقة بلعابه اللزّج والتي تثير الشفقة في قلب أقسى شرطي في العالم الثالث، كان أعجفا صغيرا،له عينان مستديرتان لامعتان كعيني سحلية.. أعرفها جيداً وأعرف أيضاً أنها عائدة من عند أمها كلتومة التي تبيع الكسرة. نهاراً بالسوق، فكان لزاماً على عزيزة أن تحمل منتصر الرضيع ثلاث مرات في اليوم الى أمها بالسوق لكي ترضعه رضعة الصباح، رضعة النهار، ورضعة الغداء، وتحرص كلتومة أشد الحرص بألا تفّوت على إبنها الصغير رضعة واحدة حتى لا يمرض مرض الصعّيد، ويموت. لأن منتصر كان نزقاً شقياً و هبّاش، فما كانت كلتومة ترغب في ابقاءه معها في السوق. صرخت فيها.. - يا بت.. يا عزيزة.. إلتفتت الي بسرعة رشقتني بنظرة عابرة وجدت في سعيها الي حيث تشاء، ولكني ومن خلال لمحتي الخاطفة لوجهها والتي لم تتعد الثلاثة ثوانٍ، رأيت بؤساً وألماً مكثفاً متقنطراً على وجهها الصغير الأملس، بؤساً لا يمكن اخفاؤه أو احتماله لدرجة أنني تيقنت في نفسي أنه لو قسّمنا هذا الحزن والبؤس على كل مشردي العالم لما وسعوه، وفي نظرتها السريعة كانت أسئلة – أيضاً – غامضة ومبهمة ومحيرة في نفس الوقت، جريت وراءها صارخاً: - يا بنت.... أنا وأصدقائي من ابناء أعيان البلدة ومثقفيها، نفضل أن نسكر من عَرقِي بلح كلتومة وفي بيتها الصغير في كمبُو كديِس فهي امرأة أمينة صديقة حيث إنها لا تسرقنا – كما تفعل الحبشيات وكثير من بائعات العرقي – آخذة منا ثمن عَرقِي لم نشربه، عندما نثمل وتلعب الخمرة بعقولنا الصفراء – أو تغش العرقي بالسبرتو أو الماء أو غير ذلك من فنون السرقة. " إنني لا أُطعم أبنائي الحرام ". كما أنها كانت دائماً حافظة لأسرارنا وخبائث فضائحنا " أنا عن نفسي عندما أسكر أفقد مع وعيي وقاري واحترامي وأصبح حيواناً مثقفاً لا أكثر فقد أتبول في ملابسي وأتقيأ علي صدري، وإذا لم يحدث هذا أفشيت كل أسراري الأسرية وتحدثت عن أبي – ضابط المجلس – وقلت علانية ما يعرفه الناس عنه، وما لا يعرفونه بل أفشيت ما أعرف من خططه المستقبلية في سرقة التموين والجازولين.. الى آخر مآسي يومي وأسرتي.. " فكانت كلثومة – والحق يقال – تسمع بإهتمام ولكنهها لا تقول شيئاً، وكنا جميعاً نحترمها ونقدرها مثل أمهاتنا وبالتالي "عزيزة" كانت لنا أختاً صغرى.. - يا بنت.... قفي.. أمسكت بكمها القصير.. ودون أن تنظر الي قالت بصوت مبحوح تخالطه صرخات " منتصر " الحامضة المتدفقة تباعاً: - أمي.. - أمي قبضوا عليها.. - "...... " إذاً فهمت كل شئ وشعرت بأن الدينا أظلمت فجأة أمام عيني وأن شعري تحول الى دبابيس مسمومة توخزني في جلد رأسي،ولم استطع ان اقول او افعل لها شيئاً سوى زلق كفي من على كتفها الصغير المتعب، في برود تاركاً إياها تمضي لتذوب في بحر مآسيها ومحنتها و"منتصر" مبللا صدرها بلعابه اللزّج المُلبِّنْ يصليها بصرخاته وندائه المتواصل – بلثغته الحلوة الممتعة – رغم مآساة الموقف – لأمه " اتوما ". كثيراً ما كنت اخجل من نفسي عندما اجدني عاجزاً امام موقف ما، فاذا حدث ذلك بالامس لذهبت الى جلال الجميل القاضي ودار بيننا الحوار التالي: - صدر القرار منك ؟ - كنت مجبراً … فانت تعرف لا شئ بأيدينا تماما .. - ولماذا كلتومة … فهي تعول اطفالاً وزوجها مقتول في الجنوب منذ سنوات. - لم يكن الامر بشأن كلتومة وحدها.. ولكن حظها.. فلابد –كما تعرف – ان يكون هنالك ضحايا قالوا ان الوالي في زيارة جاسوسيّة في كل مكان. ويجب ان يعرف ان الناس هنا تعمل، تحارب الفساد الى آخر الاوهام كما ان كلتوم كانت تعلم بقرار التفتيش، لقد أخبرها "احمد صالح" .. - ولكنهم وجدوا عندها جالوناً من العرقي وثلاث زجاجات مليئة بعرقي البلح. - هذا تلفيق من الشرطة، فقد كانوا يخبئون هذه الأشياء في عربتهم.. فهم غالباً لا يجدون شيئاً عند هؤلاء النسوة.. - وما العمل ؟ - كالعادة نخفف الحكم ما امكن وبدلاً من السجن نضع الغرامة وصديقاتها يقمن بمساعدتها في الدفع كما يفعلن دائماً.. - هذا ما كان يحدث إذا وقعت احدى " زبوناتنا " في قفص الشرطة، ولكن أين اليوم " جلال الجميل " ؟! - فإن القاضي الجديد لا يشرب العرقي ولكن – فقط – الويسكي " والانشا* " ويدعى مخالفة الله والتقوي، وبالتالي يصعب الوصول إليه حتى الآن على الأقل. جسدها النحيل المتعب يرقد على الكنبة في وسط سوق السبت وقد أهالوا عليه صفيحة من المياه ما تزال تقطر من جلبابها القطني الرخيص الى نهاية الجلد، ولو أنها لا تحفل بكتل البشر التي تحيط بها " مشفقة او شامتة " إلا أنها كانت تحاول إخفاء وجهها ما أمكن بين ساعديها وتحاول بقدر المستطاع وبجدية الا تصدر منها تنهيدة، آهة، صرخة ألم أو مجرد زفير مندفع قد يُخّيل للشرطيين القضاة او الجلاد، جمهور المتفرجين أنه توجع من وقع سوط " العنج* " الأسود المشرب بالقطران والذي يصلي ظهرها مشقاً مبرحاً ممزقاً لحميات فيه عجفاء بائسة. وعندما استطعت أن أجد لنفسي مكاناً أشاهد من خلاله ما يحدث كان الشاويش السمين يصرخ بغلظه.. - ثمانية وثلاثين إإيه.. هوب.. - تسعة وثلاثين.. إييه.. هوب.. - أربعون.. إيييه.. آآه.. تماماً مولانا... أربعون جلدة.. قال القاضي وعلى فمه ابتسامة صفراء قاسية محاولاً من خلالها ان يكون تقياً، عادلاً، محبوباً وحاسماً في نفس الوقت.. - هيا قومي.. استغفري ربك الله واعلني توبتك.. توبة نصوحة امام الجميع.. - نظرت إليه – كلتومة – نظرة فاحصة، عميقة – أحسست انها معتصرة من خلايا كبدها – ثم بصقت على الأرض بصاقاً دامياً مرّاً – واقسم ان جميع المتفرجين: الإعراب ذوو الجلاليب المسودة من الأوساخ والتي تفوح منها رائحة وَبر الجِّمال والحمِّير،وقطرانها وروثها بسياطهم وسيوفهم. الشماسة أبناء الشوارع المتشردين. أصحاب المتاجر – أغلقوا دكاكينهم مضحين بقدر من المبيعات كبير في سبيل ان يحضروا المحاكمة – الكلاب الضآلة الحذّرة المختبئة خلف العشب متجنبة أعين الناس، وغير الضآلة أيضاً. أسراب الحدأة والغربان والتي تضع حلقة في السماء، ناعقة. " المثقفاتية " مثلي – والذين ليس بإمكانهم فعل شيئ غير التعليق الذكي الصائب المُبرر غير المقنع لغير شريحتهم والمثير للضحك والسخرية من نساء " الكسرة "، العرقي، الشاي وغيرهم من الكادحات. أعضاء المحكمة " المتفلقصين " كمُخصيىّ القرون الوسطى، صديقاتها البائسات، موظفات المجلس، الشامتون، المتعاطفون " معها او مع السلطة " الجميع.. الجميع بدون فرز ".. اقسم انهم جميعاً أحسوا بمرارة هذا البصاق وكأنه مقذوفاً في عمق حلوقهم مراً كنقع الحنظّل. ودون أن تحرك فوهتا عيناها عن وجهه انتعلت حذاءها البلاستيكي القديم وشقت طريقها عبر الجمع مصوبة وجهها المجهد شطر بيتها – ساعية بخطي ثابتة سريعة – رغم ما بها من إرهاق – فكان عليها أن تسرع حتى لا تُفوت منتصر الصغير رضعة الصباح. نص قصصي لعبد العزيز بركة ساكن http://fdaat.com/vb//showthread.php?t=3893
|
|
 
|
|
|
|
|
|
Re: امراة من كمبو كديس (Re: ابراهيم برسي)
|
بت الجزار
بدأت أفكر في الموضوع بصورة قاسية بعد أن تحرك البص مباشرة متجهاً نحو الخرطوم، الأفكار المظلمة تنتابني بين لحظة وأخرى لدرجة أنني تمنيت أن أجدها قد توفيت ولو في حادث سير، كنت لا اعرف كيف تلتقي أعيننا بعد أن حدث منها ما حدث، هل سينتابني ذلك الشعور الحلو الذي دائماً ما يسيطر عليّ وأنا أراها وهي تكبر يوماً بيوم وتزداد عقلاً وخبرة في الحياة وجمالا ويتجلى وجهها الأسود الحلو الناعم براءة، كنت حينها أحس كما لو أن كل خلية في جسدي تتجدد وأنني اكثر طمأنينة وأقرب للحياة مني إلى الموت، بالرغم من تقدم العمر وأمراضه الكثيرة.. واكثر ما يعذبني فكرة أنها خانتني، خانتني أنا بالذات، ولكني أيضا أفكر في الأمر من جانب آخر. من جانبي أنا .. لأنني ما كنت انظر لعلوية كامرأة أبدا، يبدو أنني أضعها في مكانة رجل ما فوق الأربعين كامل النضج ومستقيم السلوك.. أما أن تذهب علوية مع رجل غريب إلى خلوة وان يغويها أو يلمسها مجرد لمس..بكامل رضاها ودون أن تحس ولو بعقدة الذنب أو خيانة الثقة التي أعطيتها إياها ... وان ... لا ... أمر لا اصدقه كيف يتسنى لعلوية ابنتي أنا التي أنشأتها منشئاً سليماً وربيتها من مال حلال اكتسبته بعرق جبيني واودعت من اجلها مالاً في البنك تسحب منه لمصروفها كما شاءت ... أن تتزوج زواجا عرفيا.. أكون أنا آخر من يعلم، كل القرية تعرف ذلك، جميعهم.. جميعهم.. إلا أنا .. لماذا تجعلني صغيراً تافها أمام الناس وأنا ما يملأ عيني تراب الدنيا كلها... كيف تنظر إليّ... ماذا تقول... هل تنكر ذلك... أتبكى.. ربما، هي نفسها ضحية لذئب لا يرحم لقد قرأت كثيرا في الجرائد عن زواج الطالبات العرفي، ولكني أحلته إلي أسباب مادية، إطلاقاً لم أفكر لحظة في علوية.. أن تكون علوية واحدة من هولاء البنات المطلوقات كما كنت اسميهن، ومازلت، البنات اللائى عجزت أسرهن في توفير مصروفهن، أو تربيتهن تربية كريمة تكسبهن العفة أو ربطهن في البيوت. لم استشر أحدا في كيف أتصرف، لقد وضعت سنوات خبرتي الطويلة في العمل المدني والعسكري وتجاربي الحياتية ومخزوني المعرفي موضع التحدي.. فإذا لم أتمكن من عبور هذه المحنة وحدي بكل هذه المكتسبات فلا فائدة من الحياة التي عشتها. هذا التشجيع للنفس لم يمنع الضعف والانكسار الذي أحس به الآن والخوف.. نعم الخوف الحقيقي من إنني أقوم بفعل قد يحسب ضدي، بل قد يسئ إليّ والى أسرتي وآخرين غيري. في الحقيقة كنت مرتبكا عكس ما أبدو عليه في الظاهر، بحثت في جيوبي وجدت أنني أخذت ربطة من المال عشوائياً تحتوي على خمسمائة ألف جنيه سوداني، حسبتها مرتين، انقطعت دائرة البلاستيك التي تحيط بها. أدخلت المبلغ كله في الشنطة محتفظاً برباط البلاستيك المقطوع، اصدمت أصابعي بشيء صلب بالداخل..إنها السكينة الكبيرة، دخلت الشنطة نتيجة للاستعجال أو الإحساس الداخلي بأنني قد احتاج إليها، أو ربما دسها ليّ شخص فكر في الأمر بطريقة مختلفة، أخذت الهي نفسي بلعبة قديمة كنا نلعبها في طفولتنا مستخدماً رباط النقود المقطوع، كنت في حاجة لأي فعل يلهيني عن التفكير في علوية... عندما أجدها سأفكر في الحلول في ساعتها، لا احب ان يملي عليّ أحد رأيه، حتى ولو كان أخوها. في المقعد المجاور امرأة أربعينية غير متزوجة، طوال الطريق تقرأ مجلة حواء، يفوح منها عطر قوي، تسرق النظرات إلى لعبتي من وقت لآخر، وكنت اهتم بها، ولكنني اخفي ذلك بصورة جيدة كما أنني لا احب التحدث والونسات أثناء السفر، لان السفر هو فرصة جيدة لكي أخلو إلى نفسي دون أن يزعجني أحد، قد أنوم، النوم أيضا لا يتوفر في حياة سريعة ملآنة بالكد والجري وراء الرزق ولكن من اجل من؟ - بتكلم معاي. - منو .. أنا ..آسف ..رأسي ملآن بالمشاغل وظاهر عليَ قاعد اكلم نفسي..معليش.. أزعجتك قالت وهي تلم ثوباً أنيقا إلى جسدها. - ولا يهمك الناس كلها مشغولة. حاولت النوم حتى لا أتكلم مثل المجنون وضعت رأسي على المقعد الأمامي، أغمضت عيني، أخذت أفكر: أين تكون علوية الآن.. في أي وضع.. في النوم نزلت عليَ ملائكة الأسئلة بجواب خطير. ** نزلت عند الجامعة بعد أن أكد لي سائق التاكسي إنني سوف أجدها أو أجد صديقاتها في ذات المكان الذي أنزلني به وفعلاً وجدتها بسهولة ويسر، وربما هي التي وجدتني، حين رأتني من مسافة بعيدة وأنا أمر إمام الكافتيريا، هرولت نحوي ومعها صديقتان، وجدت نفسي دون شعور مني انظر أولا إلى بطنها، بصورة غير طبيعية، وربما لاحظن ذلك، علقت الصديقتان على إنني أبدو كما لو كنت أخا لعلوية وليس أبا، يشرن إلي مظهري الخارجي وما يتوهمنه من صغر السن، كن يتحدثن باستمرار، أسال نفسي أنا أيضا باستمرار، كم منهن متزوجة زواجاً عرفيا،ً كم منهن يدعرن، كم منهن عفيفات؟! عندما خلوت بعلوية، فاجأتها دون مواربة أو مراوغة، - انتي متزوجة زواج عرفي مش كدا؟! قالت وقد انهارت تماماً من هول المفاجأة، - عرفت!! - نعم..عرفت. وبحركة سريعة سقطت على رجلي، أخذت تبكي بصورة جعلتني أتعاطف معها، وربما اقف في صفها، إذا كنت اكثر صراحة أقول إنني لمت نفسي، بدأت لي طفلة في عهدها الأول، تجمعت بعض الطالبات، سألن إذا كان قد توفى أحد أفراد الأسرة أو إن هناك خبراً أسوأ.. ولكن لم نجب بشيء، طلبت منهن أن يتركننا سوياً لبعض الوقت، لم تستطع أن تقول شيئاً، كانت تنظر إلى الأرض وتبكي في صمت قلت لها، - انخدعت فيك يا علوية.. انخدعت؟1 قالت بصوت مبحوح، - كنا حنعلن زواجاً قريب جداً ..ولكن كل شئ بإرادة ربنا.. - القرية كلها تعرف.. ماعدا أنا فقط.. الجميع يضحك عليّ . سألتها ، - وين الزول دا؟ ** قالوا لي انه في الحصة الآن، بعد ربع ساعة يمكنني مقابلته، شربت الماء البارد جلس قربي خفير ثرثار، ما ترك شيئاً لم يسألني عنه، لم ينجدني منه سوى الجرس الذي، دق كمطرقة في رأسي، قال لي الخفير وهو يشير بفمه ويده وعينيه نحو أستاذ يمر أمامنا، - دا هو أستاذ سالم. فالتفت الأستاذ إلى ومضى ظاناً أنني أب لأحد التلاميذ، ولكن الخفير صاح فيه منادياً، - الزول دا من الصباح منتظرك.. يا أستاذ. طلب كرسي، جلس قربي في البرنده سأل ماء من اجلي، كانت يده ملآنة بالطباشير ويبدو مشغولاً جداً حيث تتحرك عيناه هنا وهناك بحثاً عن مفقود ما، كنت أحاول أن أجد ملمحاً فيه يدل على فعلته ولكنه كان شخصاً عادياً مثله مثل كل الناس، قدرت عمره وأخلاقياته وجزره العرقي أيضا.. قلت له معرفاً بنفسي. - أنا من قرية الدومات.. هل تعرف زول من القرية دي ؟ فكر قليلاً ، قال - ..لا .. - علوية ..علوية..هي من قرية الدومات، علوية ما بتعرف علوية؟ قال باستغراب، - علوية..منو؟ - علوية إبراهيم عثمان وردان .. - آه ..نعم علوية البتدرس في كلية التربية، ايوه قاعدة تحضر العملي هنا عندنا في المدرسة .. في شعبة الرياضيات .. أنا رئيس الشعبة. قلت له، - بس!! قال، - تقصد شنو ؟ - أنت متزوجها زواج عرفي مش كده.. " قلت معتمداً الصدمة والمفاجأة كطريقة لها فائدة كبيرة في الحصول على اعتراف المجرمين" قام من الكرسي ثم جلس، قال للخفير الذي أرخى أذنيه واخذ يستمع للحوار بتلذذ تام، - امش من هنا .. امش شوف شغلك، ثم قال موجهاً كلامه لي، - ده كذب .. علاقتي بعلوية ذي علاقة كل المدرسة بيها ..لا زواج ولا غيرو.. أنا شخص محترم وأستاذ ..وما عندي وقت للهضربا البتهضربا دي ..أنت ذاتك منو ؟ قلت له ببرود، - أنا إبراهيم وردان، لواء شرطة ،، بالمعاش،، اعمل في سعاية الماشية،، برضو بذبح،، بذبح باستمرار،، عندي جزارة صغيرة في البيت، في وقت الفراغ بشتغل مُعْراقي، عارف معراقي يعني شنو.. لحظة. أدخلت يدي في جيبي أخرجت ورقة بيضاء صغيرة مفتولة في حجم راس الإصبع الصغير في شكل إنسان، - ده أنت سالم علي عباس الوالدتك نفيسة جبرين العيش. هززت الشيء أمامه وقمت بوضعه في الشمس، كان يحملق في الشيء بتركيز واهتمام بالغ وبعد ثواني معدودات هرب الشيء من الشمس بتلقاء نفسه واستقر في الظل... كررت العملية ثلاث مرات، أخرجت خيطاً طويلاً من الشنطة النوع الذي يستخدم في صيد الأسماك، بالسكينة الكبيرة قطعت منه ما يقارب ربع المتر، أعدت السكينة في الشنطة، أحطت بالخيط عنق الشيء في شكل انشوطة، قلت له وهو ينظر في ذهول، - دا أنت سالم ود نفيسة. وقمت بجذب طرفي الانشوطة فمسك عنقه وصرخ في جنون، صرخة جمعت كل المدرسة في دقائق أحاطوا بنا، قلت له، - في خمسة ثواني فقط حاتموت.. اها عرفت معنى معراقي . قال بصوت مبحوح بينما يتصبب عرقاً. - كنت حاتزوجا علناً في الإجازة، انتبهت لكف تربت في كتفي وصوت وقور هادئ، - أنا مدير المدرسة..تعال يا حاج إبراهيم..تعال معي إلى المكتب. اخذ بيدي إلى مكتب فسيح تفوح منه رائحة الكتب وعبق الطباشير، أكد لي المدير انه يعلم بزواج سالم من ابنتي عرفياً، وهو منذ البداية ضد الفكرة، لكنه أيضا أثنى على سالم وخلقه القويم وانه رجل مسئول، قال بإمكانه أن يلعب مع البنت، لكنه فضل الزواج العرفي .. أكد لي انه سيلزم أستاذ سالم على إعلان زواجه والآن..وأضاف بحماس: إنه بمثابة ابني. ** قال المدير وقد فرغنا من الاحتفال الصغير الذي أقيم في بيته إحتفاءاً بإعلان زواج ابنتي علوية للأستاذ سالم، - نحن الآن أصدقاء وأهل.. وأنا عندي طلب واحد منك يا حاج إبراهيم، طلب بسيط جداً .. ! - شنو ..اطلب اي شئ بسيط أو غير بسيط. - عايز الموضوع بتاع العروق دا ..والله أنا عندي مشكلة في الدنيا مابيحلها إلا الشيء العندك دا ..الحلّ مشكلة بتك علوية..حايحل مشكلتى . قلت له، - أنا موافق، ولكن توعدني ما تحدث أي شخص كان، لما يدور من حديث بينا الآن.. وعد شرف قال، - أوعدك وعد شرف قلت له، - الموضوع بسيط، يحتاج إلى رباط بلاستيك النوع البيستخدم في ربط القروش، وورقة صغيرة مقوية وخيط متين، وأستاذ رياضيات جبان، ومدير مدرسة عندو مشكلة معقدة لا أكثر http://fdaat.com/vb//showthread.php?t=3893
| |
 
|
|
|
|
|
|
Re: امراة من كمبو كديس (Re: ابراهيم برسي)
|
دراما الأسير " بقلم: عبد العزيز بركة ساكن -
لقد رأيت ذلك بأم عينيًً، و لولا أن رأيت لما صدقت، فسوء الظن فيما يحكي فضيلة: انا أؤمن بقول هذا القائل. انتم الآن سوف لا تصدقون ، لكم الحق في ذلك ولا جناح عليكم ًإذا انكرتم ، ولكن ما سوف اقصه عليكم حدث بالفعل و امام عشرين رجلا بكامل أهليتهم، عدول، وسيدتين راشدتين، وكثير من الجرحي وعدد لا يستهان به من القتلي، نعم القتلي و لسوف تعلمون لماذا اشهد القتلي ايضاًًَ، لقد شاهدنا جميعا رجلا ميتا ، في تمام موته، ينهض و يكسر عنق قاتله في ثلاث حركات سريعات رشيقات مرعبات، ادخلت الخوف في انفسنا و أربكت وعينا بما يسميه البعض: بالحقائق الأساسية في الموت و الحياة. انتهت المعركة الصغيرة التي أيضا امنحها بكرم لقب التافهة، حيث خضناها ضد المسلحين المتمردين غرب جبل مرة باقليم دارفور، تحت سلسلة جبلية بغيضة لا ماء فيها لا ظل و لا حتي هواء يحرك عناد اشعة الشمس الحارقة المرابطة علي مركز رؤسنا ، العنيدة الماكرة، ما زالت رائحة البارود تعلق في الهواء ، انين الجرحي، و صرخات المصابين تتردد في الفراغ مربكة سخونة الهواء الساكن الثقيل الذي يبدو و كأنه في حداد ابدي لموت كل شيء في المكان،هذا المكان الذي كان جنة حقيقية قبل الحرب،كنا مرهقين و خائفين من كل شيء حتي من نصرنا السريع غير المتوقع و اللا مفهوم، حيث كنا نتوقع الهزيمة او النصر الصعب، حيث اننا كنا محاصرين و لا خيار لدينا : اما الموت البطيء أو الحرب، حيث كادت أن تنفد ذخائرنا ووقود عرباتنا، نفد ماؤنا و طعامنا ولم يستطع الطيران فك الحصار المضروب علينا من قبل محاربين يعرفون المكان أكثر من ثعابينه و ذئابه،نسمع أصواتهم و ضحكهم، تصيبنا رصاصاتهم و لا نراهم، وفي أول هجوم يائس منا عليهم، انتصرنا، وهاهي جثث موتاهم ، وهاهم جرحاهم يصرخون، ولكن أين بقية المحاربين؟ لذا كان نصرنا عليهم يخيفنا أكثر مما يفرحنا: أهي خدعة حرب ، الجثث تنتشر في كل مكان، تغرق في برك من الدم المختلط بالرمال الساخنة الصفراء،موتي من كتيبتنا و جرحي ايضا، لم نقم بعمليات الدفن بعد، بل اننا لم نقم باستجواب الأسري الجرحي بعد و هو الشيء الذي كان علينا اعطائه الأولوية لكي نقرأ ميدان المعركة قراءة جيدة، وان نتوقع ما سوف يكون عليه الحال، لقد كنا مرتبكين وقلقين و افكارنا في حالة تشتت تام، قمنا بوضع الجرحي تحت صخرة كبيرة تلتوي في شكل كهف صغير ولكنه يمتد عميقا في الجبل، ربما استخدمته بعض الوحوش وجرا،ايام ان كانت هنالك وحوش و مخلوقات برية،تركنا الموتي يستأنسون بالغياب و الشمس،رددنا لتأوهات جرحاهم و ندائهم ببعض الشتائم القلقة المتو ترة وربما الركلات، ولو أن موسي أو ما نسميه بموسي الرحيم قام باسعاف كل الجرحي دون استثناء بمهارة و سرعة اتقان و مسئولية و رحمة معهودة فيه ووحده،تعلم ذلك من منظمة الصليب الأحمر الدولية، هكذا كان يقول دائما، وكل شيء كان سيمضي علي كل حال، لولا ان الجاويش مهدي أصر علي قتل احد الجرحي الأسري، قال إنه يستحق الموت، لسبب يعرفه هو وحدهو سوف لا يخبر به: زول. قيل فيما بعد ان الأسير الجريح أشار إلي المرحوم مهدي بالأصبع الوسطي. كالعادة تصدي إليه موسي الرحيم، حيث انه الشخص الوحيد الذي يتبني كل الافكار التي تحرم الإساءة للأسري، قتلهم أو تعزيبهم أو تركهم للموت بعدم اسعافهم، ويفعل ذلك بقلبه و بلسانه و بيده ايضا،ْبدآ بمشادة كلامية حادة،ثم تدافعا بالأيدي ،ثم استخدم الجاويش مهدي دبشك بندقيته، و بركلة بهلوانية ألقي موسي الرحيم علي الأرض،و عندما انتبهنا للمعركة الصغيرة الدائرة بين الرجلين النحفين الطويلين الذين هما من كتيبة واحدة، تدخلنا الستة عشر في رجلا و امرأتين لفضها، و الفصل بينهما،كان مهدي قد حمل بندقيته معمرة،و في وضع إطلاق النار و اتخذ موضعا حريبا دفاعيا ، هجوميا خطيرا بالقرب من صخرة الجرحي،الذين نسوا آلامهم في الحال ،توقفوا عن التأوه،و الصراخ و طلب الماء و تبادل الوصايا، و أخذوا يحملقون بعيون زائقة مفتوحة الي آخرها : فينا ، في مهدي ، في موسي الرحيم المرمي علي الأرض فاقدا الوعي، يصدر الآن أصواتا غير مفهومة، تمثل احتضار فرصتهم الأخيرة في الحياة،طلب المرحوم مهدي من الجميع الجلوس و إلا: لحستكم كلكم واحد واحد . جلسنا ، أمرنا بأن نضع أيادينا علي رؤسنا و أن ننظر في اتجاه الشمال مقابلين اياه بظهورنا، ويريد أن يحدث ذلك: زي الهواء. فعلنا، هددنا ، بأنه إذا تحرك أيا منا ، أية حركة مريبة كانت أم صديقة لأي اتجاه كانت،سوف : أشربه. أومأنا برؤسنا أن : فهمنا و أطعنا.
عندما سمعنا صوت الرصاص، بالرغم من كل التهديد و الوعيد،اتجهنا جميعا في لحظة واحدة نحوه، كان يدوس برجله علي لأسير الجريح الذي يرقد ميمما وجهه شطر الأرض ورأسه قارقة في الرمل الصفر الحارق،تحت ثقل بوت و جسد المرحوم مهدي، وفي اتجاه القلب كان يلق الرصاص: طاخ طاخ طاخ طاخ طاخ طاخ ست رصاصات، قاتلات نافزات من كلاشنكوفه،و قد صمت الأسير الجريح نهائيا في حالة من الموت كاملة تامة فعلية و حقيقية و لا شك فيها مطلقا. و عندما رفع مهدي رجله من رأس الأسير الجريح الميت، نهض الأسير الجريح الميت، أغبر أشعث طويلا مرعبا و صامتا، و قف مهدي مندهشا، فاغرا فاه في بلادة بينة بئيسة، صرع الأسير الجريح الميت مهدي بلكمة واحدة قوية فأرداه علي الأرض، بحركة أخري جيدة قام بقلبه علي وجهه، و بحركة بطيئة وضع رجله اليمني علي ظهر مهدي، أمسك رأسه، بكفتيه الكبيرتين أدارها ناحية اليمين في رفق و عناية فائقة ، ثم بذات الرفق و العناية الفائقتين،أدار الرأس ناحية الشمال، ثم في سرعة البرق و بمهارة شيطان رجيم حني الرأس للوراء في زاوية حادة، ليجعلنا نستمع إلي فرقعة عظام الرقبة وهي تتحطم مصحوبة بأنين مهدي البائس، بينما كانت بعض أطيار الكلجكلج تصيح عابرة السماء العارية نحو الشرق،رقد الرجل الأسير الجريح الميت ، تمطي في متعة خاصة، وضع يديه في حزية مع جسده الطويل الثقيل الهادئ : ثم مات مرة اخري.
| |
 
|
|
|
|
|
|
|