|
رحلة الغناء السوداني .. من محمد أحمد سرور إلى ليزا شاكر (1)
|
نشرت لي بصحيفة السوداني عدد الجمعة 26/10/2007
الجزء الأول حملت لنا الأنباء عبر الأثير والأسافير الفضائية أن المطربة الصاعدة ليزا شاكر أبنة الموسيقار المجدد شاكر عبد الرحيم قد عادت مؤخراً من رحلة فنية إلى المملكة المتحدة، والجديد في هذا النبأ أنه وعلى غير ما جرت العادة من رحلات مطربينا إلى الخارج لم تذهب ليزا لتغني للجالية السودانية بلندن ، بل ذهبت بدعوة خاصة من المجلس الثقافي البريطاني لتغني للبريطانيين أنفسهم ، تم أختيارها ضمن خمسة عشر من المطربين الأفارقة منهم إيم كال من الكاميرون ووعبد اللاي أودو من غانا ووماثوني أدونقا من كينيا ومطرب الريقي الشهير جوني ريقا من أثيوبيا ، وأجتمعت هذه النخبة تحت شعار "شهر الموسيقى الافريقية" يشاركهم نخبة من اميز الموسيقيين البريطانيين امثال عازف الايقاع المعروف بول كلارفيز وكيلي بودج وغيرهم ، وقدموا حفلتين الأولى على خشبة مسرح راوند هاوس والثانية في قاعة شنت لاونج ، وذلك بعاصمة الضباب لندن، كما جاء أيضا بأن هذا البرنامج الثقافي سيمتد ليشمل رحلات فنية لعدد من الأقطار الأفريقية من ضمنها السودان. تلك الرحلة والرحلات التي تليها جاءت تتويجا لجهد مضى عليه قرابة قرن من الزمان وذلك حسبما تناقله لنا الرواة قد أنطلقت شرارته في حفل زواج أقيم بأمدرمان عام 1919 أو 1920 حينما أعلن الطمبارة الأضراب عن الغناء خلف محمد أحمد سرور، فما كان من الأخير إلا أن تقدم وطلب من صديقة الأمين برهان أن يقف خلفه ويسانده فذكر الأخير بأنه لا يجيد " الكرير" الذي يؤديه الطمبارة فقال له سرور العنيد لا يهم فقط ردد خلفي آخر شطر في الدوبيت حتى أسترد أنفاسي وأقول بيتاً آخر فتردد لي آخره وهكذا جاء ميلاد الأغنية السودانية الحديثة وما بين أحداث ذلك الحفل الأمدرماني واختيار ليزا شاكر كمطربة تمثل الغناء السوداني لتشارك ضمن مجموعة من المطربين لسرور الأفارقة ومع نخبة من الموسيقيين البريطانيين دلالات عميقة ورحلة كان مهرها الدم من الرواد الذين تحدوا كل الصعاب ليأسسوا لنا فنا شكل وجداننا وأطربنا وما زالت ألحانهم تحرك أشجاننا وتثير إنفعالاتنا . المتأمل لرحلة الغناء الحديث في السودان منذ بدايات محمد ود الفكي وأنطلاقات محمد احمد سرور والأمين برهان وعذوبة إلحان كرومة عبورا بإضافات إبراهيم الكاشف وعبد العزيز محمد داوود ثم عثمان حسين وإختيار الكابلي كسفير للنوايا الحسنة ، إلى أن منح مطرب القرن الفرعون محمد وردي درجة الدكتوراة الفخرية من جامعة الخرطوم يجد أنها سلسلة عناقيد من ذهب وزمرد ومرجان، كل أضاف لها لون وشكل حتى أتت أكلها لتغني ليزا شاكر بأسمنا جميعا في فاعة في الراوند هاوس لتشنف آذان بيضاء وسمراء قد لا تدرك لغتها لكنها حتما ستدرك أنها من أي أرض نبتت وستدرك تميز غنائها عن أي غناء آخر لأنه أولا وأخيرا غناءً سودانيا قح. سأتناول في هذه الدراسة الموجزة وفي عدة حلقات تطور الغناء في مراحله الأولى أي ما أصطلح على تسميته بالحقيبة ، ولن أدعي بأن الغناء الذي أتحدث عنه هو غناء كل السودان ، كلا وحاشا فالسودان بلد متعدد الثقافات ومتنوع الرؤي الفنية، لكن الأغنية التي أعنيها هي الأغنية الأمدرمانية التي تشكلت في بدايات القرن الماضي وخرجت لتسود معظم المدن والأصقاع السودانية وهي ما تعارف عليه بغناء الحقيبة وأمتداده الغناء الوتري الحديث. كما سأتناول الجذور الأولى لإنطلاقه والعوامل التي هيئة لميلاده " داخلياً وخارجياً " وذاتياً وموضوعياً كما سأتناول بعض سيرة الرواد الذين قادوا عملية التحويل من القديم للجديد . الحقيبة وأصول الغناء السوداني كتب الكثيرين عن الحقيبة على سبيل المثال لاالحصر الأساتذة : علي المك وأحمد طه والطيب ميرغني شكاك وعثمان محمد سعيد ومعاوية حسن يس والموسيقيين جمعة جابر والفاتح الطاهر ومكي سيد أحمد والماحي سليمان والعديد من فطاحلة المثقفين والباحثين السودانيين ، رغم ذلك هي ما زالت أشبه بالحور العين تجدد عذريتها كل يوم لعاشيقها وتتجلى عن آيات جمالها. لن تأتي أغاني الحقيبة من فراغ بل تأسست على أمجاد تراث فني وثقافي موغل في القدم ، لن أذهب بعيداً في البحث عن جذور الغناء السوداني،الذي عرفته الحضارات السودانية القديمة في كوش ونبته ومروي أو للغناء في مملكة الفونج وسلطنة دارفور ، بل سأعود للفترة التي سبقت ظهور فن الحقيبة من آواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين . كانت هناك غناء حيث الحكامات يلهبن خيال الفرسان من أجدادنا الذين يقاومون المستعمر القادم من أقصى الشمال، وييدخلن الحماسة في القلوب كما قالت مهيرة : الليلة إستعدوا وركبوا خيل الكر قدامن عقيدن بالأغر دفر جنياتنا العزاز الليلة تتنبر يا الباشا الغشيم قول لي جدادك كر وهن لم يكتفين بأغاني الحماسة بل أجدن الوصف مثال ما قالته الشايقية : حلالي يا السايق البلوبوشو لا قوز ولا هييج بحوشو مثل الباشا التابع ديوشو غازي كدوسو وموهط طربوشه كما برعن أغاني في السيرة الزين حننو فوقك السيادة سيرو ومرق كيه للندادة الله يتم لي وأيضا يا عديلة يا بيضاء يا ملايكة سيري معاه يمة سار الخير وداعة الله
كما أبدعت في أغاني التمتم مستورة بت عرضو وقبلهم شريفة بت بلال في أغاني الحماسة على أيقاع التمتم، وقد سطرت لنا رقية المعروفة ب "بت مسيمس" تمجد أستشهاد شقيقها عبد القادر ود حبوبة عندما اقتيد للإعدام . بتريد اللطام أسد الخشاش الذم هزيت البلد من اليمن للشام سيفك للفقر قلام ديما في التقر أنصاره منذرين بالصفاء واليقين حقيقة أنصار دين كما أنشدت مناحة أخرى لا تقل عنها جمالاً ونبلا في وصف ملحمة إستشهاد البطل ود حبوبة. الواعي ما بوصوه من أمس الضحي توري ابزنود ساقوه يامقنع ولياتو الواعي ما بوصوه الفتح الدرب خل العريب يمشوه وكانت معظم أغاني الحكامات في التمتم مراثية أو حماسية وقد تركوا لنا تراثاً ثرا ما زلنا ننهل منه ونطرب له. أما أهل الدوبيت والطمبارة ألذين أفل نجمهم فكانوا إذا أرخى الليل سدوله يصنعون البهجة في النفوس في بيوت الأفراح وحفلات الختان ، وكان شعراء الدوبيت حاضرون دوما كما سيأتي ذكرهم ومعظمهم من الذين أسسوا لغناء الحقيبة فيما بعد أمثال صالح عبد السيد أبو صلاح وود الرضي والعبادي. فمن ابو صلاح كان الدوباي لو كان الغرام العندي يا أم تلال مقسوم النصف قسمة حلال من نفسي البحر يصبح جبال وتلال وعتمور أب حمد من دمعك شلال ومن ود الرضي جلسن شوف يا حلاتن فزر في ناصلاتن قالوا لي جن هوي هبابن يالله الحبايب حبابن ومن العبادي نورها الضاوي خافي فداها تايهة المايحة روحي فداها كان الطنابرة يجيدون فن الكرير أي إصدار الصوت من الحلق خلف المدوبي، حيث كان فن الدوبيت هو الشكل الوحيد للتعبير الفني الرجالي المعترف به في مجال الطرب ، أما الغناء فكان فعل أنثوي تختص به فيه النسوة وليس كل النساء بل الذين يأتون من أسفل السلم الطبقي الإجتماعي ، من الجواري والخدم وأترابهن، وكلمة مغني كانت تطلق على الشعراء كما قال إسماعيل حسن : " وا أسفاي وحاتكم أنتو .. وا أسفاي إرادة المولى رادتني وبيقيت (غناي) " وكذلك على الدوبيت كما قال ود شوراني الذي ورد في رباعياته لفظ «الغنا» اشارة للدوباى. أنا يا ابتله سافعة العشا البتقوقي قلتها كرسي نومي وضيفي سهدك فوقي من قليبو أليل والطعم معشوقي صديتا تاني لي مضغ (الغنا) وحيروقي ورغم أن مصطلح "مغني" وقد عرف به أيضاً مؤدي الدوبيت كما أوضحنا حيث أن الدوبيت له عدة مسميات في السودان منها (الغُنا) و(النم) و(الدوباى) و(الهرولة) ، إلا أن كلمة "مغني" بالمعنى المتداول حالياً كانت تطلق حصريا على المغنيات أوالمطربات الحكامات وكانن يؤلفن الأشعار ويؤدينها بمصاحبة الدلوكة .
ونواصل في الجزء الثاني *الدولة المهدية وأثرها في الغناء الحديث *أمدرمان وعبقرية المكان
|
|
|
|
|
|