سركون بولص يُغادر العالم من برلين

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-02-2024, 11:38 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الرابع للعام 2007م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
10-22-2007, 05:28 PM

nassar elhaj
<anassar elhaj
تاريخ التسجيل: 05-25-2003
مجموع المشاركات: 1129

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
سركون بولص يُغادر العالم من برلين

    صباح اليوم الأثنين 22 أكتوبر 2007 في برلين رحل الشاعر العراقي سركون بولص.
    واحد من أميز الشعراء وأجملهم في العقود الأخيرة ...



    سركون بولص يختار نهايته في برلين
    يوسف رزوقة
    الأمين العام لحركة شعراء العالم، ممثّل العالم العربي.

    بعد كمال سبتي ورعد مطشّر وآخرين، يغادرنا صباح اليوم، الإثنين 22 أكتوبر2007، في برلين وبعد صراع مرّ مع المرض، سركون بولص ، شاعرنا العراقيّ الكبير الّذي تناوبته الأراضي البعيدة والغربة الكاسرة حتّى
    استقر به التطواف في ألمانيا ليلفظ بها أنفاسه الأخيرة وهو في الثالثة والستّين ربيعا.
    ولد سركون بولص عام 1944 بالقرب من بحيرة الحبّانية، العراق. يقيم منذ عام 1969 في سان فرانسيسكو بالولايات المتحدة، وقد أمضى السنوات الأخيرة متنقلاً بين أوربا وأمريكا، وخصوصاً في ألمانيا حيث حصل على عدّة مُنَح للتفرّغ الأدبي وحيث صدرت له ثلاثة كتب بالألمانية: غرفة مهجورة، قصص 1996؛ شهود على الضفاف، قصائد مختارة 1997، وأساطير وتراب ، سيرة 2002 وقد أصدر بولص: الوصول إلى مدينة أين، الحياة قرب الأكروبول، الأوّل والتالي، حامل الفانوس في ليل الذئاب، إذا كنتَ نائماً في مركب نوح، والعقرب في البُستان.
    كما أصدر ترجمته لكتاب إيتيل عدنان هناك في ضياء وظلمة النفس والآخر، وسيصدر له هذا العام النبي لجبران، ورقائم لروح الكون / ترجمات مختارة.
    حسب إفادات صلاح عواد ، فإن سركون بولص كان ينتمي في الستينات وقبل أن يهاجر، إلى جماعة كركوك الادبية ، حيث برزت وقتها أسماء عدة من العراقيين الناطقين بالسريانية، مثل الشاعر وراعي الأدباء (الأب يوسف سعيد) والشاعر العبثي الراحل (جان دمو)، وكذلك الشاعر العراقي الأصيل والمتميز (سركون بولص)، هذا الشاعر المنحدر من مدينة كركوك حاول مع أقرانه حين وصلوا إلى بغداد في الستينات تغيير خارطة الشعر العراقي، وفي إحداث ثورة بأساليبه وتقنياته ضمن مشروع يريد تجاوز ما أنتجه جيل الرواد الشعري، جيل قصيدة التفعيلة ومن بغداد حمل سركون بولص مشروعه الشعري، حيث توقف في بيروت وتعرف على تجربة مجلة شعر اللبنانية وساهم في تحريرها وترجم العديد من النصوص الشعرية من اللغة الانجليزية، خصوصا لشعراء القارة الأمريكية. ثمّ منذ فترة تزيد على عشرين عاما هاجر سركون بولص ليقيم في مدينة سان فرانسسكو،. وخلال الأعوام التي قضاها هناك، بقي سركون مخلصا للشعر ولترجمة الشعر، وأثناء تلك الإقامة الطويلة التي قرر أن ينهيها بالذهاب الى أوروبا خصوصا الى لندن وباريس وألمانيا حيث حصل على عدّة مُنَح للتفرّغ الأدبي، طور سركون تقنياته الشعرية، وصارت اللغة لديه أكثر حسية. فهو بالرغم من إقامته الطويلة في الولايات المتحدة لم يتخلص من لهجته البغدادية وبقي نفس القروي ذلك القادم من كركوك.
    يقول في قصيدة له بعنوان " حديث مع رسّـام في نيويورك بعد سقوط الأبراج":
    نهايتكَ أنتَ
    من يختارها؟ قالَ صديقي الرسّام
    انظر الى هذه المدينة. يشترونَ الموتَ بخسا ً، في كلّ دقيقة ، ويبيعونَـهُ في البورصة
    بأعلى الأسعار
    كان واقفا ً على حافة المتاهة التي تنعكفُ نازلة ً على سلاسل مصعد ٍ واسع للحمولة
    سُـفُـلاً بإثنـَي عشر طابقا ً إلى مـرآب العمارة
    إنها معنا ، الكلبة
    سمّها الأبديّـة ، أو سمّها نداءَ الحتف
    لكلّ شئ ٍ حدّ ، إذا تجاوزتـَهُ ، انطلقت عاصفة ُ الأخطاء
    إنها حاشية ٌ على صفحة الحاضر
    خطوتها مهيّـأة ٌ لتبقى
    حَفرا ً واضحا ً في الحجر
    أرى إصبُعَ رودان في كلّ هذا .
    أراهُ واقفا ً في بوّابة الجحيم ، يشيرُ إلى هوّة ستنطلق ُ منها وحوشُ المستقبل ، هناكَ حيثُ
    انهارَ بُرجان ، وجُنـّتْ أمريكا
    هكذا حدّث الرسام صديقه الشاعر وهو يسأله: نهايتك أنت، من يختارها؟ في إشارة إلى البرجين اللذين انهارا في نيويورك، وكأنهما يخفيان برجا آخر هو الشاعر سركون بولص وقد "اختار نهايته"، هناك، بمنأى عن النبع والأصدقاء.
    رحل الشاعر الكبير سركون بولص لنظلّ نذكره بين قصيدة وقصيدة فمثله لا يموت وإن اختفى عنّا.
    يوسف رزوقة
    الأمين العام لحركة شعراء العالم، ممثّل العالم العربي

    (عدل بواسطة nassar elhaj on 10-22-2007, 05:30 PM)

                  

10-22-2007, 05:34 PM

nassar elhaj
<anassar elhaj
تاريخ التسجيل: 05-25-2003
مجموع المشاركات: 1129

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سركون بولص يُغادر العالم من برلين (Re: nassar elhaj)

    عباس بيضون:
    سركون بولص مريض...
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    النقاد، الذين وصلوا، لهم الأجر، مقطوعي الأنفاس الى مشارف الخمسينيات الشعرية وما زالوا من ذلك الحين يلهثون ويعيدون تعلم قراءة الرواد، لن يسألوا.

    إنهم يتخصصون بالفصل بين الأول والثاني في ارض الريادة. يتهجأون البيانات الاولى. يقدرون كم فيها من الديناميت ويختلفون على مساحات الخراب الوهمية وغير الوهمية، ولن يسألوا.

    يحمدون الله على انهم وصلوا سالمين الى مشارف الخمسينيات ولن يجرؤوا بالطبع على مغامرة أخرى. يشكرون انفسهم على انهم استطاعوا ذلك، ولا بأس من ان يواصلوا النكش في المكان ذاته، لن يكون في مقدورهم ان يتقدموا اكثر. انهم يعيدون تجليد ما قاله الرواد عن انفسهم، ويحفظونه عن ظهر قلب. سنوات ضوئية تقطعهم عن سركون بولص، وإذا كانت عافيته لم تسعفه فهذا شأنه. كان عليه ان يصمد حتى يصل مستكشف فتيّ، كان عليه ان يصمد.

    ما زالوا يطبّلون لانتصار الحداثة الشعرية، بمعركة وربما بدون معركة، ما زالوا تحت الرايات وبين الزغاريد ويرفعون «بخور» النقد للمنتصرين. يمدحونهم ولا بأس من ان يكونوا تحت راية فلان. لا بأس من ان يتحزبوا لواحد على آخر. ان يحسبوا بالثواني وصولهم ويختلفوا فيمن وصل أولاً. ان يلوكوا بضع «عنتريات» حديثة وأن يمدحوا الشامانات والغوروات بما يقولونه لأنفسهم. ان يمحوا العالم معهم تحت كلمة محو ويغيروه تحت كلمة تغيير وأن يحفظوا تعويذة الحداثة «ضد كل الشرور». إنها خمسون سنة يا سركون وهي ليست شيئا في عمر النقد، فالعلم والنظر يحتاج الى وقت وعليك ان تصمد يا سركون حتى يكونوا ابتلعوا اضراسهم، وابتلعوا معها يافطات كثيرة تحتاج الى وقت. العلم بطيء والنقد بطيء يا سركون وعليك ان تصمد حتى يجدوا الوقت.

    الشعراء الذين فتحت لهم هذا الأفق، لم يجدوا في الغالب اسمك مناسباً له. ليس للإنجاز بالطبع قوة الاعلان والعمل يتيم وللاعلان آباء كثر. للاعلانات واليافطات الكبيرة انوار ليست للعمل الصغير الذي يملك ظلاً اكثر مما يملك من النيون. إنها ارستقراطية او تبطّل في الغالب ويؤثران اعمال الفروسية على جهد الزارع او شغل الحرفي. الرايات والكليشيهات والأسماء الحسنى أغوى من الانجازات المحدودة يا سركون، وكان عليك ان تطلق بوالين او تلعب بالمفرقعات. كان عليك ان لا ترحل الى ما وراء المحيط لتنزوي في غرفتك وتكتب وأنت ترتجف في سريرك البارد وتحت غطائك الخفيف. كان عليك ان تصنع قناطر وهمية وتصنع اقواس قزح من العاب نارية بدلا من ان تراكم كتباً وكتباً اكثرها لا يزال في خزانتك. بدلاً من ان تكتب وتلقي في العتم، بدلاً من ان تكتب بأنفاسك ورئتك المضروبة والكحول الذي في دمك ببوهيميتك وتشردك من بلد الى بلد، بسياحتك في هذه الأوروبا الصغيرة، وبرأسك الصلب الذي يصطدم بمصانع وناطحات سحاب. كان عليك خيراً من ذلك ان تطرز كلمة الثورة. ان تبيع غضبك بالدرهم والقنطار. ان تتقمص المسافرين بدلاً من ان تسافر. ان تسكر بالسكارى بدلاً من ان تشرب. ان تستعير حياة المرضى وربما اجسادهم بالأجرة او حتى بدون أجر. كان عليك خيراً من ذلك ان ترفع راية او تنصب يافطة وتكتب بفرشاة عريضة تمشي تحت قوس نفسك وتحت قدر نفسك. لماذا فضلت ان تفعل كل ذلك بجسدك الخاص، بدمك وبولك وربما دموعك، وكنت تستطيع ان تفعل أربح منه بنخوتك وادعائك وشيطنتك. انظر ماذا جنيت وماذا اعطوك، غرفة بواب في مدن نائية وأرياف مثلجة وأصقاع بلا شمس. ماذا اعطوك يا سركون، حياة متشرد بلا أمجاد ولا احتفال. ماذا اعطوك مقابل كل هذا الورق الذي صنعته في حياتك، لا يجدون الوقت ليقرأوا لا يجدون الوقت لينشروا. تكفي بالطبع قصيدة صغيرة ليعاد انتاجها في كتب وكتب، قصيدة بسيطة ليسهل اخفاؤها في الأمعاء والدم، لكي لا يظهر بنكوتينها ولا سمها ولا السبيرتو الذي فيها.

    سركون مريض، ماذا يفعل الشعر الذي طالما استقرض منه بدون ان يعترف. ماذا يفعل الشعراء الذين جالوا في ديوانه بدون خوف، تصرفوا فيه كما لو انهم في بيتهم وأخذوا ما يريدون كأنه من ميراثهم. الشعراء الذين يقضون لياليهم متوارين في حديقته بينما يمضون نهاراتهم متصدرين في صالونات «النجوم» والأسماء المتصدرة. الشعراء الذين بكلمة اعتراف واحدة، اذا جادت بها نفوسهم، يتصرفون بشعر سركون كأنه من ملكهم بينما يستفتحون ايامهم كلها بشكر الآخرين على لا شيء تقريباً، على مجرد وجودهم ومجرد حضورهم. كلمة اعتراف واحدة ثم يجري بعد ذلك كل شيء في الظلام وفي النسيان الكبير.

    سركون بولص مريض. أمس قال لي ذلك زاهر الغافري، مريض جداً وفكرت كم هو قاس ومهمل ومنهك هذا الرجل. كم هو غريب هذا الرجل الذي بقي يشرب على رئتين مملوئتين بالماء، ويتشرد بجسد مليء بالفيروس ويكتب بمصل المرض نفسه. فكرت كم يتطلب الأمر ليكون المرء شاعراً، كم يتطلب ليكون فعلاً محتجاً وغاضباً. فكرت ان ليس للشاعر في ذلك الحين سوى جسده يفعل فيه، سوى نفسه يدمر فيها. فكرت ان ذلك صعب جدا ومن الافضل بالطبع ان نستعيره، ان نستورده جاهزا وكاملا وبورقته كما يقال. من الافضل بالطبع ان نتقمصه وأن نقيم فيها كما نقيم في بيت مصنّع سلفاً. لم لا. الأمر هو ذاته تقريباً. بل الاعلان اكبر من الحياة وأكثر نيوناً وكهرباء ولمعاناً. الاعلان يمكن ان يكون قنطرة وقوس قزح ويمكن ان نعيش تحته حياة سهلة. انها شيء صعب ومن الافضل ان نستعيرها.

    نقدر ان نكرهه سركون بولص، الشعراء لا يحتملون. انهم مستقيلون من الخدمة متخلون دائماً، متبطلون. يمكن ان نكرهه سركون بولص بالضبط. إنه «بنعلين من ريح»، لكن بقلب من كبريت. إنه سائح فحسب، لم يكن في يوم بطلاً ولا متألها ولا قائداً. لقد سعى جهده ليكون خارج الميدان وترك الآخرين يلعبون ولم يلق بالاً لكل هذه الابنية، ترك الوطيس في عزه ورحل الى بلاد ملعونة. تسكع ولم يحارب، وفجر غضبه غالباً في جسده وفي كلام ليس فيه جملة العنف ولكن روحه (والجملة اسهل للأذهان). كتب ولم يهتم بناشره ولا قرائه ونشر كتباً كيفما اتفق، ولم يقدم أي جائزة لأحد.

    نقدر ان نكرهه سركون. ان نقول انه لا يطاق. ان نمقت كسله وإهماله وأحيانا فظاظته. ان نمقت برّيته واتهاميّته احيانا. لكن ماذا نفعل اذا كان الشاعر لا يصلح دائما شاماناً او جنرالاً او سفيراً. اذا كان الشاعر لا ينفع دائماً غندوراً ومعطراً. اذا كان الشعر نفسه يكون موبوءاً وزفراً وفاضحاً فلماذا ننتظر من الشاعر اكثر من ذلك، وكيف يكون في وسعه ان يكون وكيلاً معتمداً. نقدر ان نكره الشعراء إنهم يعملون بالسخرة لإله غير مفهوم. يخدمون لغة بائدة او شبه بائدة، يشتغلون في فن منقرض تقريباً. إنه بالتأكيد هوس جنوني يقود أناساً الى إحراق اوراقهم ونفوسهم والتكلم مع الأشباح ومزاملة الموتى. هوس جنوني بالتأكيد لا وقت فيه للتظاهر والاستعراض الا في التجلي الأخير للقبيلة الحديثة.

    ما صنعه سركون بولص. اقول لكم في السر انه شعر. انه من القليل الذي اعرف حين اقرأه انه شعر طبيعي. طبيعي كالدم والكحول وورق الشجر. شعر خرج من قوة الشعر اولا ومن قوة الذات الشاعرة. ليس برنامجا للشعر ولا بطاقة للمستقبل لكنه لحظة لا ترحم عامرة وملأى، خصبة وملموسة، لحظة دينامية متوترة مشعشعة، لحظة للشعر وحده لا شبهه.

    سركون بولص مريض

    أيها الشعراء، ليس احتفالا بسركون ولكن بالشعر وأنفسنا اولاً. كبادرة احترام مهنية على الأقل. كاجتماع شعري. أدعوكم الى ان تكتبوا كيف تقرأون سركون بولص، ان تقولوا ماذا اعطانا كشعراء وكقراء. لا لأنه مريض ولكن لأنه حي ولأنه فاعل، ولأن علينا ان نتكلم مع واحد من أهم شعرائنا وهو يقاتل، كشاعر، جسده والعالم وراء المحيط. (عن السفير الثقافي).

    المحرر الثقافي لصحيفة السفير البيروتية

    [email protected]

    نقلاً عن كيكا
    http://www.kikah.com/indexarabic.asp?fname=kikaharabic\...3\29.txt&storytitle=
                  

10-22-2007, 05:38 PM

nassar elhaj
<anassar elhaj
تاريخ التسجيل: 05-25-2003
مجموع المشاركات: 1129

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سركون بولص يُغادر العالم من برلين (Re: nassar elhaj)

    ملف جريدة "الأخبار" عن سركون بولص



    «جماعة كركوك» تداخل الكتابات واللغات

    لا يمكن ذكر اسم سركون بولص من دون أن نستعيد «جماعة كركوك». لقد ضمت هذه الجماعة أكثر تجارب الشعر العراقي الستيني طليعيةً وموهبة: سركون بولص وفاضل العزاوي ومؤيد الراوي وجان دمو وصلاح فائق... كذلك فإن اجتماع هذه الكوكبة من الأسماء الشعرية الموهوبة في مدينة صغيرة وبعيدة عن بغداد، منح الجماعة خصوصيةً وفرادةً إضافية. معظم هؤلاء كان يتقن اللغة الإنكليزية، وهذا ما أفسح لهم المجال للذهاب مباشرة إلى المصادر والتجارب التي كانت الحداثة العربية بالكاد بدأت بترجمتها وتبنّيها، بوصفها مؤثراً ضرورياً وفاعلاً في صنع النسخة العربية من الحداثة وقصيدة النثر.

    والرافد الأجنبي كان له حضور شبه دائم في القصيدة العراقية. في هذا السياق، يمكن الاستشهاد بتجارب بدر شاكر السياب وجبرا ابراهيم جبرا وسعدي يوسف من الرعيل الأسبق. إذ يمكن تتبّع أثر الشعر الانكليزي والأميركي في أعمال هؤلاء وكذلك في أعمال اللاحقين. ولعل الاطلاع المبكر على الشعر الأميركي والتأثر به تدخّلا في تكوين نبرة سركون بولص التي بوسعها أن تُري القارئ صياغتها العربية وحساسيتها المختلطة والمهجّنة في آن واحد. لهذا رأى سركون بولص في إحدى مقابلاته «أن الترجمة تجعل جميع اللغات والكتابات تتداخل وتتلاحم لتخلق شيئاً جديداً»، ناصحاً «كل شاعر أن يعرف لغة أخرى وأن يحاول الترجمة حتى لو كان ذلك من أجل لذته الخاصة نصفته تمريناً».




    سركون بولص... النثر بجرعات كبيرة

    مقال حسين بن حمزة


    أحد أعذب أصوات الحركة الشعريّة الراهنة. من كركوك وبغداد إلى بيروت الستينات، ومن نيويورك إلى برلين حيث يعالج اليوم، اجتازت القصيدة العربيّة على يده مرحلة حاسمة من تاريخها. محطات في رحلة طويلة إلى «مدينة أين»

    الشعر كان بالنسبة إلى سركون بولص مشروع حياة ومشروع كتابة. لكنّ نظرة متأنية إلى منجز هذا الشاعر العراقي صاحب الصوت الشديد الخصوصية في الشعر العربي الحديث، تترك المرء في حيرة: فهو إما مقلّ في الكتابة، وإمّا إنه لا يملك الجَلد والمزاج الكافيين للاعتناء بجمع شعره ونشره. ومن الواضح أن الصفة الثانية هي الصحيحة.

    عاش سركون بولص من أجل الشعر، لكنّه لم يسعَ إلى تسويق اسمه في مجتمعات الشعراء ونمائمهم. المرة الوحيدة التي انتمى فيها إلى جماعة شعرية، تعود إلى بداياته المبكرة... أيّام «جماعة كركوك». وتُعدّ تلك الجماعة المهد الذي ولدت فيه الحداثة الثانية في الشعر العراقي (راجع الإطار أدناه). كما أنّه لم يعمل في الصحافة الثقافية التي تفسح - كما هو معروف - مجالاً للعلاقات العامة، والتسويق بكلّ أشكاله، ولصنع صيت ما وأحياناً «فبركة» هذا الصيت.

    باستثناء سيرة ذاتية بعنوان «شهود على الضفاف»، ومحاولات قصصية متميزة صدرت مختارات منها في مجموعة يتيمة بالعربية والألمانية بعنوان «غرفة مهجورة»، لم ينشر سركون بولص سوى شعره (أصدر خمس مجموعات فقط)، إضافة إلى ترجمات بارعة لعدد من الشعراء الأميركيين أمثال: ألن غينسبرغ الذي ربطته به علاقة خاصة به، وبعدد من شعراء جيل البيتنيك الأميركي، وأودن وسيلفيا بلاث وإزرا باوند وجون آشبيري... ولكي ينسجم مع صفاته المزاجية الأخرى، تريّث في النشر أيضاً. ديوانه الأول «الوصول إلى مدينة أين» لم يصدر إلا عام 1985. واللافت الذي يمكن إضافته إلى سيرته الفريدة، هو أنّ هذه المجموعة لم تمثّل البداية التاريخية الفعلية له، فقد ضمت قصائد لاحقة على إطلالته القوية والمدهشة على صفحات مجلة «شعر» في مرحلتها الثانية، ثم مجلة «مواقف». تأخّره وتلكّؤه في النشر وعدم مواظبته على ذلك في دواوينه اللاحقة، وإعراضه عن العمل الصحافي اليومي، وابتعاده الاختياري عن مراكز الشعر العربي، وغرقه في حياة تشبه الشعر، وشعر يشبه الحياة... كل ذلك أسهم في تظهير حضور أقل ما يمكن أن يُقال عنه إنّه لا يفي صاحب «الحياة قرب الأكروبول» (1988) حقّه ومكانته. لكن مهلاً... أليست هذه الصفات التي صنعت لسركون بولص سمعة الشاعر المتلافي وغير الساعي إلى البريق الاجتماعي، هي ذاتها التي تكفّلت بتقديمه كشاعر حقيقي «اقتصر» عمله على الشعر، و«قصّر» عن تقديم نفسه كصاحب طريقة أو مشيخة شعرية؟

    الواقع أنّ سركون بولص طارد الشعر لا الصورة المغشوشة للشاعر. وفي هذا السياق، يمكنه أن يكون شاعراً أجنبياً بطريقة ما. لقد قاده الشعر من كركوك إلى بغداد، ثم بيروت وسان فرانسيسكو... وأخيراً برلين التي يُعالج في أحد مستشفياتها اليوم. لقد أراد أن يعيش شاعراً، ونجح في جعل ممارسته الشعرية تتفوق على أي نشاط آخر. حتى إن الحظّ حالفه بأن يستكمل قراءاته وتأثراته المبكرة بجيل البيتنيك الأميركي (نشر ملفاً مهماً عنهم في مجلة «شعر» بتكليف من يوسف الخال) بالتقائهم وعقد صداقات شخصية وشعرية معهم في أميركا.

    إلى جوار عباس بيضون ووديع سعادة وبول شاوول وفاضل العزاوي ونزيه أبو عفش.. وآخرين ينتمون إلى الفترة نفسها، يعتبر سركون بولص أحد الشعراء الذين يمثّلون حلقة وسيطة بين جيل الرواد وجيل السبعينات، ومن جاؤوا بعدهم. لقد احتكّت تجارب هؤلاء بالفتوح الشعرية التي بدأها الروّاد ببياناتهم الانقلابية ونصوصهم الجديدة والمجازِفة. لكنهم، في الوقت نفسه، اشتغلوا على أصواتهم. اختطّ الرواد مسالك مستجدة ووعرة لما سُمي الحداثة الأولى، بينما ألقيت على كاهل هؤلاء الستينيين أن يفتّتوا الأحجار الكبيرة لتلك البيانات، ويرصفوا بها مسالكهم الفردية الخاصة. هكذا رسّخوا تجاربهم وأنضجوها على نار مواهبهم الذاتية، إضافة إلى مواكبتهم لما كان يُكتب من شعر طليعي في العالم.

    مع بعض أهم ممثلي هذا الجيل، صنعت قصيدة النثر العربية انعطافتها الكبرى. بعد ريادة الماغوط وأنسي الحاج، جاءت تجارب هؤلاء لتحويل لحظة التأسيس الممزوجة بالتنظير إلى عمل نصي وتجريبي. ولعل خصوصية سركون بولص تكمن في فرادة نثره داخل تجربة قصيدة النثر العربية، سواء بالصيغة التي كتبها الرواد أو تلك التي كتب بها مجايلوه وأقرانه. حالما تبدأ قصيدته ننتبه أنها ممارسة نثرية شبه كاملة. ليس بمعنى أنها قصيدة نثر فقط، بل المقصود أنّ الشاعر لا يقوم بتحويل المادة اللغوية المحتوية على الشعر إلى نثر. إنه يبدأ مباشرة مما هو نثري. هذه ملاحظة لا بدّ من أخذها في الاعتبار في أي تناول لتجربة بولص. فرغم أنه جرّب الوزن والتفعيلة في العديد من أعماله، إلا أنّه كان يكسر الفصاحة والبلاغة اللتين يُحدثهما الإيقاع والوزن عادةً.

    هذا لا يعني أنّ جملته العربية ركيكة أو تشكو من حشو أو يعتريها ضعف... إنّها متينة ومتوترة ونابضة وذاهبة إلى معانيها وفق مخيلة ذكية. لكنّ شغل الشاعر فيها يكسر فصاحتها. يمكننا أن نشبّه التخلص من الفصاحة هنا بالكسر الذي تعرّض له عمود الشعر العربي. ذلك الكسر الذي لم يعنِ كسر البحور والتفعيلات، بل تغيير المعمار التراتبي والنفسي واللغوي، أي الجوّاني، للقصيدة العربية الكلاسيكية. وإذا كان الكثير من شعر النثر العربي مكتوباً وفق ممارسة، يتم بها تحويل الشعر الجاهز داخل أي عبارة إلى نثر، فإن عمل سركون بولص يتجلى في ابتكار نبرة نثرية مستقلة عن شعرية المعجم الجاهزة. وإذا كان تحويل الشعرية الجاهزية إلى نثر أشبه بتحلية مياه البحر المالحة، فإن سركون يبدأ عمله على البحر مباشرة.

    ثمة إشارة أخيرة جديرة بالملاحظة، هي أنّ ممارسة سركون بولص الطليعية حدثت داخل المشهد الشعري العراقي. الأرجح أنّ تحقق ذلك في نموذج شعري ذي تقاليد كلاسيكية وتفعيلية أكثر رسوخاً وصرامة من أي بلد عربي آخر، يمنح تجربة صاحب «حامل الفانوس في ليل الذئاب» (1996) قوةً إضافية.




    بحثاً عن «ملاذات» الزمن الضائع: المكان صانعاً للملذّات والرموز والمعنى

    فاروق سلوم


    سركون في بداية الثمانينات

    كانت مدينة الحبانية (80 كلم غرب بغداد) ملاذ الطفولة الأول لسركون بولص (1944). وكانت بطابعها المميز بصفتها قاعدة قديمة للقوات الجوية البريطانية منذ عشرينيات القرن الفائت، تنطوي على تفاصيل ذاكرة مثقلة بماء بحيرة الحبانية والخضرة الباهرة وأشجار الأوكالبتوس التي جلبها البريطانيون معهم من الهند وآسيا. كل هذا وسط الصحراء الغربية لبلاد النهرين وفنائها المطلق وعطشها اللانهائي. هكذا، تشكّلت عند سركون رؤية المكان وتناقضاته. وهذه العناصر جعلت هذا المكان صانعاً للملذّات والرموز والمعنى... وقد لازمت سركون بولص فكرة «الصياد» التي يطلقها على الشاعر، فهذا الأخير بالنسبة إليه هو صياد رؤى ومكتشف ملاذات وحالم يقتنص نجوم حروفية من سماءات شتى.

    عندما انتقل إلى كركوك مع عائلته عام 1956، كانت المدينة مركز صناعة النفط الأول ومقرّاً لشركة النفط العراقية البريطانية «آي بي سي». لذلك، كانت لها ميزاتها المؤثرة في بنية الشاعر. ومن هنا، أرسل سركون وهو في الـ 17 من العمر أوّل 16 قصيدة إلى يوسف الخال، فاحتفت مجلة «شعر» بهذا الصوت الخاص المصنوع من خامة الشعراء الكبار. صارت بيروت حلماً وكركوك ملاذاً. كانت بيروت نسمة الحداثة والأفق المفتوح على حوارات الآخر ونتاجه ورمزاً مطلقاً للحرية. وكانت كركوك مدينةً حيةً تضجّ بالتنوع الحضاري والديني والعرقي، حولها عشرات الأديرة الضاربة في القدم والتي شهدت خلال القرن الثالث الميلادي هجمات الروم والفرس الزرادشتيين معاً. وكانت أيضاً مدينة النوادي والأفلام الحديثة والسهرات والمجتمع المتنور المفتوح. وكادت مشاهدات بولص في الحياة وفي السينما تدفعه إلى ترك الشعر ليصبح ممثلاً تارةً ورسّاماً طوراً.

    الا أنّ طبيعة الشاعر فيه كانت قد شملت كل تلك الميول إلى جانب الموسيقى الشرقية التي عشق مقاماتها بدءاً من تهليلات الأديرة والكنائس وصولاً إلى البلوز والجاز. وهنا، لا بد من أن نذكر بأنّ كركوك كانت هوية وخاصية ثقافية لازمت جيلاً كاملاً من مثقفي العراق وكتّابه هم مثقفو كركوك أو ما سُمّي لاحقاً «جماعة كركوك».

    ثم كانت بغداد... بغداد التي تعرّف إليها سركون كانت يومها مدينة المكتبات، ودور السينما والمقاهي والنوادي الليلية وفرق الباليه والعروض العالمية... ومدينة المقاهي والملاذات. وكان الشاعر يذكر أسماء أماكنها دوماً في شعره. وعندما قطع المسافات هارباً من جنون البلاد عام 1968، كانت بيروت المكان والحلم حيث تنفتح الدنيا على مجاهل كثيرة، وسط قشعريرة الدفء الذي منحتها إياه المدينة والميناء والمقاهي. وصحبة يوسف الخال، أنسي الحاج، أدونيس، توفيق صايغ وأسماء هي دلالة بيروت على الثراء والخضمّ المفتوح على كل موج.

    كل مدن لبنان وقراه هي مغزى لدفء قائم ومفقود، سيظل يلازم الشاعر في هجراته في حنين لا ينتهي إلى بلاد الرافدين. كأن الجينات التي يحملها ترفض أن تتلاقح مع الغربات. لكنّه في قرية شطين حيث كان يمضي مع صديقه وديع سعادة بعض الوقت، غاص في آلام بودلير وقصائد متنورة كثيرة... ثم قرأ ثلاثين قصيدة لتوفيق صايغ فأثارت لديه لوعةً خاصة للإهمال الذي لقيه هذا الشاعر من نقاد وكتاب عرب، لمجرد اهتمامه البليغ برموز ديانته. في بيروت، أفاق على وقع الترجمة، ورفقة التجارب الخاصة المحتدمة بكل جديد، فصارت المدينة ملاذ الذكرى اللانهائية لديه.

    وحين يتاح لسركون بولص تحقيق حلمه بالمضيّ على طريق الـ Beat generation، أي الهجرة الى أميركا عام 1969، بمساعدة يوسف الخال وأصدقائه، سيجد غرفةً رخيصةً في سان فرانسيسكو قبالة المدينة الصينية لتظل روح الشرق تلازمه. فهو لم يتخلص من تأثيرات الموسيقى الصينية والشرقية، ليحب موسيقى الغرب الصاخب، رغم علاقته الحميمة بالجاز والبلوز. لكنّ الشرق الذي يمنحه الإحساس بال(.........)اجة في التجول، أو التزود بالمؤن من السوق الصينية الصاخبة هناك، هو الشرق الذي يمثّل حنيناً مطلقاً إلى مدن أخرى أحبَّها... ولا تخلو قصيدة من قصائده من تعبير عن تضاده الحاد مع الغربة المرة، ومدنها الضالّة الصاخبة التي لم تمنحه ما منحته تلك المدن الغارقة في ظلام الماضي كما يقول. ويظل «الشرق الذي لا يوقفه شيء عن كونه شرقاً»، هو شرقه الخاص بمدنه: الحبانية وطنجة وبيروت وبغداد وكركوك. كل تلك المدن هناك التي عصف بها الخراب ودمرتها الحروب، هي طفلة الحرب التي يراها كلما استيقظ من النوم «تنتظر ارتطامي بجدار الحقيقة». حتى مكتبة «أضواء المدينة» التي يديرها أشهر شعراء «البيتنيكس» الأميركي لورنس فيرلنغيتي في شارع كولومبوس، والتي غدت «ملاذه» كما قال، ليست مثل مكتبات بغداد أو بيروت أو مقاهيها الزاخرة بالحياة الملأى بالشجن مقابل مدن الفراغ: «إنه الفراغ نفسه الطالع من حضرة الليل/ في أية مدينة متخمة بالأحياء وبالموتى: باريس برلين لندن نيويورك .. آخر الغرب نهاية الخط سكة الختام».

    لم تندمل جراح حنينه. حتى حين يلوّح بالانتحار، يقول له صديقه العربي البائع الذي يختفي خلف قضبان محلّه خوفاً من التهديد والسرقة: «حتى لو أردت أن تشنق نفسك، هذه مدينة عرصات. بكرا بيعطوك قطعة أرض ولاّ عمود كهربا تدفع إيجارها لانتحارك».

    على رغم نجاحه وعلاقاته بشخصيات ثقافية وفنية وعمله في الترجمة مثل ترجمة قصيدة غوتنبيرغ الشهيرة «عواء»، لم ينشبك سركون بولص بالغرب مكاناً يمنحه الملاذ بلا قلق أو اغتراب. وها هو يستعيد غربة جبران ويراه حالماً في شوارع نيويورك، ويستعيد صورة أبي فراس وهو في سجن الروم يغنّي «أقول وقد ناحت بقربي حمامة».

    مقاربة تؤكد انتماء ذاته العميقة إلى حرية المكان الذي أحبه بكل تنوع الأسماء على جغرافيا سيرته الشرقية «هكذا صارت حياتي، أشبه بجغرافيا لا يمكن تفسيرها بالمواقع والأمكنة»، أو «أداعب قيدي كمسبحة من الأصفار». وهكذا أيضاً، جاءت خيبته كبيرة حين رأى الحرب تمحو أشياءه وأماكنه الحميمة. لم تخلُ أي قصيدة من رفضه لكلّ حرب نالت من تلك الأماكن التي أحبها وانتمى إليها، وهو يرى كيف تهدّدها بالخراب وبالعطش الذي سيدفع رجل الموت القادم الى شرب النفط أيضاً. إنّه خراب تلك المدن التي يفتقدها كل يوم، ذلك الماضي المعتم الجميل الذي يخفي لؤلؤة المكان - الضياء: «تخفي ضياءك عني/ وراء ستائر لا تحصى أيها الماضي/ لكني أعرف أين دفنت اللؤلؤة/ وكيف بنيت من حولها المدينة». (نقلا عن "الأخبار" البيروتية).


    عن كيكا
    http://www.kikah.com/indexarabic.asp?fname=kikaharabic\...2\72.txt&storytitle=
                  

10-22-2007, 05:58 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20472

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سركون بولص يُغادر العالم من برلين (Re: nassar elhaj)

    صديقي نصار تقبل عزائي ،
    في هذا الصباح المليئ بالفجيعة الطازجة.
                  

10-22-2007, 06:37 PM

Ishraga Mustafa
<aIshraga Mustafa
تاريخ التسجيل: 09-05-2002
مجموع المشاركات: 11885

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سركون بولص يُغادر العالم من برلين (Re: osama elkhawad)

    له الرحمة بقدر ما اثرى من ادب رفيع
                  

10-23-2007, 04:23 AM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20472

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سركون بولص يُغادر العالم من برلين (Re: Ishraga Mustafa)

    حوار مع
    الشاعر سركون بولص

    الصور المرافقة

    حاوره: صلاح عواد ( كاتب يعيش في نيويورك)


    --------------------------------------------------------------------------------


    جاءني الشعر مبكرا كالضربة التي مازلت استرجعها حتى هذا الزمن.

    الحداثة مفهوم غامض وصعب التفسير ويعتمد على موقف الشاعر الشخصي من الثقافة والعالم.

    في قصيدة النثر ليس ثمة ما يقيد الشاعر سوى تجربته الخاصة وديمومة الصوت والايقاع.

    منذ فترة تزيد على عشرين عاما يقيم الشاعر العراقي سركون بولس في مدينة سان فرانسسكو، هذا الشاعر المنحدر من مدينة كركوك حاول مع أقرانه حين وصلوا الى بغداد في الستينات تغيير خارطة الشعر العراقي، وفي إحداث ثورة بأساليبه وتقنياته ضمن مشروع يريد تجاوز ما انتجه جيل الرواد الشعري جيل قصيدة التفعيلة.

    ومن بغداد حمل سركون مشروعه الشعري، حيث توقف في بيروت وتعرف على تجربة مجلة شعر اللبنانية وساهم في تحريرها وترجم العديد من النصوص الشعرية من اللغة الانجليزية، خصوصا لشعراء القارة الامريكية، الذين عبروا عن روح جديدة تختلف عن الشعر الانجليزي المكتوب في بريطانيا تنسجم وفضاء القارة الجديدة على حد تعبير اكتافيو باز. ربما هذا الاكتشاف للشعر الامريكي الذي ساهم فيه شعراء عراقيون آخرون مثل جان دمر وفاضل العزاوي دفع سركون للذهاب الى موطن حركة الحداثة الثانية في الشعر الامريكي، فسان فرانسسكو هي المكان الذي أنعش حركة جيل البيكنس ومن هناك برز الشاعر ألن غينيسبرغ ولويس فرلينفتيني وغيري سنا يدر ومايكل ميكلير، إضافة الى بروز جاك كيرواك والكاتب وليم بروغ صاحب رواية «الغذاء العاري» التي أحدثت ضجة كبيرة في الوسط الأمريكي وأصبحت في الستينات انجيل ذلك الجيل.

    في سان فرانسسكو تعرف سركون على مصادر الشعر الامريكي، وتعرف على بعض شخصيات جيل البيكنس، وتعرف على شعراء آخرين اختطوا لأنفسهم نزعة جمالية تتسم بالتأمل وبالنزوع الصوفي مثل الشاعر هيروين. وخلال الأعوام التي قضاها في سان فرانسسكو بقي سركون مخلصا للشعر ولترجمة الشعر، وأثناء تلك الإقامة الطويلة التي قرر أن ينهيها بالذهاب الى أوروبا خصوصا الى لندن وباريس طور سركون تقنياته الشعرية، وصارت اللغة لديه أكثر حسية. فهو بالرغم من اقامته الطويلة في الولايات المتحدة لم يتخلص من لهجته البغدادية وبقي نفس القروي ذلك القادم من كركوك.

    وكان اللقاء الأول به في مقهى يقع في حي أغلب سكانه من المهاجرين القادمين من أمريكا اللاتينية بسان فرانسسكو. وقال هذا أول لقاء له مع شخص عراقي من سان فرانسسكو له اهتمام بالكتابة. ومن المقهى ذهبنا مع صديق لي صاحب مكتبة عربية في المدينة الى حانة شعبية صاحبها من المكسيك ويتحدث أغلب زبائن الحانة بالاسبانية. وكان سركون قد قرر وقف التدخين، فالجو كان غير ملائم في مكان يدخن فيه الجميع بكثافة وبعد ساعتين غادرنا الحانة وتوجهنا الى مطعم مكسيكي يبيع وجبات مكسيكية بهيئة ساندويش كبير. وقبل ان ألتقي بسر كون في اليوم الثاني اشتريت آلة تسجيل صغيرة، واتفقنا على ايجاد محل هادىء لاجراء الحوار، وبعد جوله طويلة شاركنا فيها طالب دراسات عليا من الكويت في هذه المدينة النائمة بوقاحة على لحف المحيط كما وصفها بقصيدة له، وجدنا مكانا هادئا في حانة شعبية لها ساحة ذات فضاء واسع لم يشاركنا فيها أحد في جلسة استمرت أكثر من ثلاث ساعات وكان هذا الحوار.

    * كيف كانت البدايات ولماذا اختار سركون الشعر؟

    - أنا أعتقد أن الشعر يختار،وأحيانا دون ارادك وهذا يعني أن الشعر موقع خاص تصل اليه بشروط معينة تدفعك اليها تجربتك الحياتية. وجاءني الشعر مبكرا منذ كنت صغيرا. وكان كالضربة التي مازلت استرجعها حتى في هذا الزمن المتأخر كلما حاولت أن أكتب قصيدة. وفي مفهومي إن الشعر نوع من السحر الذي من الممكن أن يغير حياتك كاملة، كما قصد ذلك ريلكة في قصيدة له عندما قال "عليك الآن أن تغير حياتك ".

    * متي تؤرخ لأول قصيدة كتبتها؟

    - كانت قصيدة عن صياد أذكر أني كتبتها وأنا في الثانية عشرة من عمري، وأنا لم أنس تلك القصيدة لأن فكرة الصيد هي مفهوم الشاعر الحقيقي. أي أن الشاعر يجلس على البحر أو على الشاطىء كل صباح ويدلي بشصه في الماء لعل هناك سمكة عابرة فالشاعر هو صياد.

    * الآن تدرك هذه المعادلة فلماذا اخترت الصياد كمعادل للشاعر؟

    - اخترت الصياد دون أي وعي وكنت أصغر من أن اكون واعيا بما أفعل آنذاك، ولكنني أرى الآن أن الشعر بحر والشاعر هو الصياد وهناك شبكة ما. ولنقل أن الشبكة هي القصيدة وعليه

    (أي الشاعر) أن يخلق تلك الشبكة وهذا عمل يستغرق طيلة الحياة.

    وبعد ذلك..؟

    - بعد ذلك، البدايات تستمر ولا اعتقد أن ثمة نهاية للشعر، فالشاعر هو دائما بداية. ويؤكد كاتب ايطالي أجله كثيرا اسمه شيزارا بافيسي يقول انه «ليس لنا سوى أن نبدأ» وفي هذه الحال ليس لنا سوى أن نبدأ وهذا هو قول الشاعر الحقيقي.

    * انك من مدينة كركوك وانتقلت من كركوك الى بغداد وفي مجموعتك الثانية "الحياة قرب الاكروبول" ثمة حضور لمدينة كركوك فكيف تصف لنا تجربة كركوك ؟

    - هناك فرق كبير بين كركوك وبغداد. فكركوك مدينة غريبة التركيب من حيث الأجواء الاجتماعية ومن حيث الأقوام التي تسكن فيها، ذلك الخليط العجيب المتكون من العرب والآشوريين والأكراد والأرمن والصابئة ومن الاجناس العتيقة التاريخية التي وجدت نفسها في الشمال، حيث ان المدينة كانت دائما منبعا إنسانيا متنوع اللون والشكل. وهو منبع لا ينتهي لغرابة اللغات المتبادلة بين تلك الأقوام، بينما بغداد هي بغداد وهي شيء آخر ولها طابع يعرفه كل من عاش في تلك المدينة. وكركرك بالنسبة لي هي بداية الكتابة وكانت المنبع والمكان الذي فتحت فيه عيني على مواقف الشعر. وعندما ذهبت الى بغداد كان تركيبي الشعري قد ثبت وتصلب تقريبا حتى ولو كانت بغداد هي المنبر الحقيقي والمكان الأوسع روحا والاكثر امتلاء بالحياة عندما وجدت نفسي فيها.

    * ما هي ملامح كركوك في تجربة سركون الشعرية ؟

    - لقد كتبت عن كركوك في كل كتبي وفي شكل خاص في كتابي الأخير «الأول والتالي» وفيه قصيدة اسمها نهار في كركوك. وهي قصيدة تعبر بالضبط عن صورة كركوك التي لا زالت تلازمني، وهي قصيدة كتبت في أمريكا بسان فرانسسكو.

    * إذا أردنا أن نتعرف على ملامح ذلك الشاعر الشاب سركون بولص في كركوك كيف نتعرف عليه ؟

    - طبعا.... هذا الشيء لا يمكن أن أعبر عنه إلا شعريا في قصيدة ولكن سأحاول (يضحك).

    * بعد مرحلة كركوك تأتي تجربة بغداد كيف كانت تلك التجربة ؟

    - كانت بغداد بالنسبة الي الخروج من الأحلام والسقوط في حلم آخر كبير. فبغداد هي الحلم وكنا نحلم نحن شعراء المدن النائية كمدينة كركوك بتلك الروضة المليئة بالنيون والمليئة بالملذات كما كنا نتخيلها نحن القرويون تقريبا، ذلك لأن الكركوكي بالنسبة للبغدادي في الفترة التي أتحدث عنها وهي فترة الستينات كان نوعا من القروي، وهو يمثل التفكير الريفي بالنسبة للتفكير المديني الذي كان يجسده رجل العاصمة حيث الحانات وحيث الانفتاح من الناحية الاجتماعية في الجنس والنساء والحب. فبغداد أكثر تحررا من مدينة مغلقة اجتماعيا مثل مدينة كركوك، كبقية المدن الأخرى الصغيرة حيث الحب مثلا كان شيئا سريا وخفيا ومازال حتى الآن. وكنا نحلم ببغداد وكأننا إذا وصلنا سنكون قد وصلنا الى واحة كبيرة بالحياة.

    * في بغداد وجدت نفسك مع جيل شعري جديد كان يفكر بكتابة جديدة تتجاوز ما أنتجه جيل الرواد الشعري في العراق.

    - في تلك الفترة كانت بغداد مليئة بالشعراء وكان جيل الستينات الذي جاء من جميع أطراف العراق ربما كان مدفوعا بنفس الحلم ومتبعا نفس الخطي مكنا. وجد ذلك الجيل نفسه في المقاهي حيث النقاش السياسي والثقافي دائر ليل نهار، وكنت تجد نفسك في معركة سحرية جميلة يشارك فيها العشرات من الشباب وكانوا هم من أدرك إن الثقافة ليست مجرد لعبة ايديولوجية كما كانت مثلا عند الرواد، وانما هي حلم أكبر من ذلك وأكبر من أن تتداول مفاهيم معينة كالثورة والثقافة والشعر، لأن العالم كان كله يلتهب ويفلي بالنسبة لهؤلاء الشباب ويجعلهم يحسون أن طاقتهم جديدة تماما وينبغي أن تكون ثورية ومختلفة بشكل آخر بالنسبة عما سبقهم. ونتيجة لذلك الاحساس وليس التفكير الذي كان يشكل حساسية معينة كان هو الذي ميز شعراء الستينات عن الشعراء الذين سبقوهم وجعل شعرهم وكتاباتهم روضتهم الى عالم أكثر حداثة وانفتاحا.

    * في تلك الفترة ظهرت مستويات مختلفة من الكتابة التي تدرج ضمن مفهوم الحداثة.

    - الحداثة هي مفهوم غامض وصعب التفسير ويعتمد على موقف الشاعر الشخصي من الثقافة والعالم بشكل عام. أي إن الثقافة تجربة تقف وراء الشاعر والتي تقرر مدى فهم هذا الشاعر أو ذاك وعلى أي مستوى من ما نسميه بالحداثة. وكانت حداثة الرواد تشكيلا جديدا للتفكير الرومانسي الذي هو ثوري أصلا. وكانت متأثرة بتقنيات شعراء الحداثة في أوروبا كإليوت وستويل وعزرا باوند وأودن الذين خلقوا الحداثة الأوروبية ز العشرينات والثلاثينات من هذا القرن، في حين أن الشعراء الذين جاؤوا بعدهم - شعراء الستينات - كانوا يقرأ ون لأجيال أخرى جاءت ما بعد إليوت وباوند وأردن كشعراء البيكنس مكر ألن غينيسبرغ وجاك كيرواك وغيرهم من شعراء الحداثة الثانية في أوروبا وأمريكا. فالتأثيرات التي فعلت فعلها في شعراء الستينات لم يعرف عنها شعراء الريادة الأولى أي شي ء، لأن ثقافتهم توقفت عند حدود الحداثة البدائية الأولى، حداثة إليوت وعزرا باوند.

    * هذا يعني حدوث قطيعة مع جيل الرواد؟

    - إن جيل الستينات كان جيل القطيعة لأنه تبنى أولا قصيدة النثر، وان قصيدة النثر هي ثورة حقيقية ورفض كامل لأسس معينة استند اليها ويحتمي بها الشعر العربي الكلاسيكي والتي تفرع منها شعر الرواد. فشعر الرواد كسر العمود الشعري وهذا لا يعني أبدا أن الشعر قد تحرر، لأن القيود مازالت كما كانت عند شعراء مكركيتس وووردزروث. فالسياب مثلا كتب بنفس النمط الذي كان يكتب فيه كيتس، فهو أحدث الشعراء على الاطلاق وأعتبره أهم شاعر عربي وقد كتب حسب أنماط موجودة في الشعر الانجليزي وكانت ثقافته انجليزية بحتة واتبع نفس التقنيات والقوانين التي كانت عند شعراء الرومانسية الانجليزية ولم يتبع تقنيات شعر إليوت وعزرا باوند. فهو قد تأثر بإليوت فكريا وتقنيا ولكن ليس بشكل الكتابة الشعرية. وعلي أن اعترف إن المسألة معقدة فإليوت وشعراء الحداثة الأوروبية جاؤوا لكي يثوروا على شعر الرومانسية عند بايرون وكيتس وشيلي وووردزروث وعلى غيرهم من شعراء الرومانسية، وشعراء الرومانسية هؤلاء قد تمكرا في شاعر سبق إليوت وباوند هو توماس هاردي الذي جاء واعتبر في الشعر الانجليزي أكبر وريث حديث للرومانسية، الذي نقاها وشكلها في قوالب أخرى. أما شعراء العراق الذين سميناهم بالرواد فقد جاؤوا ليكتبوا قصيدة كما كتبها هاردي وليس كما يكتبها إليوت أو باوند وأردن وغيرهم من الشعراء الذين جاؤوا وثاروا على هاردي وريث الرومانسية.

    * هل يصح مثل هذا الحديث على الجيل الثاني من الرواد مثل سعدي يوسف ؟

    - هذا جيل أخر يضم كلا من سعدي يوسف ومحمود البريكان ورشدي العامل وشعراء أخرين وقعوا تاريخيا بين الرواد وبين الستينيين ونطلق عليهم شعراء الخمسينات. فسعدي يوسف مثلا هو شاعر ذكي وواع، وكان في بداياته مدركا بشكل جيد لهذه المسائل. والغريب أنه قد قام بوثبات مذهلة بتقنياته في شعره الباكر، لكن سعدي يوسف مازال يحمل ذلك النفس الرومانتيكي الحديث لأن شخصيته الشعرية لازالت تتراوح بين قطبين، قطب الحداثة المطلقة وقطب الحداثة المقيدة. وف هذا المجال خلق سعدي أنماطا جديدة في الشعر موسومة بطابعه الشخص، لأنك تستطيع أن تتعرف على قصيدة سعدي أينما وجدتها وهو شاعر كبير ولم يخلق قطيعة مع الرواد قطيعة كاملة وانه بحكم عمره وموقعه التاريخي كان مجددا حقيقيا.

    إننا عندما نتحدث عن التجديد المطلق الكامل أو عن القصيدة التي تذهب الى نهاية القطيعة ينبغي أن نتحدث عن قصيدة النثر إذا أردنا أن نفهم أين مستقبل الشعر العربي. ونحن حين نقول قصيدة النثر فهذا تعبير خاطيء لأن قصيدة النثر في الشعر الأوروبي هي شيء آخر. وفي الشعر العربي عندما نقول قصيدة النثر نتحدث عن قصيدة مقطعة وهي مجرد تسمية خاطئة، وأنا أسمي هذا الشعر الذي أكتبه بالشعر الحر كما كان يكتبا إليوت وأودن وكما يكتبه شعراء كثيرون في العالم الآن. واذا كنت تسميها قصيدة النثر فأنت تبدي جهلك لأن قصيدة النثر هي التي كان يكتبها بودلير ورامبو ومالارميه وتعرف بـ (prose poem) أي قصيدة غير مقطعة. وأصبحت هذه المسألة معروفة الآن. واعتقد أن النقاد العرب، يصرون على هذه التسميات كي يشككوا في قيمة قصيدة النثر لذا نحن نحتاج الى نقاد مستقبليين يتحررون من هذه العقدة أي عقدة الخوف وان يفهموا بعد دراسة حقيقية للشعر العالمي ماهية قصيدة الشعر الحر. ونأمل أن يأتي جيل جديد من النقاد يتميز بهذا الفهم، بهذا الانفتاح دون خوف وعقد. ويبدو أن الكثير من كتبوا عن قصيدة النثر كتبوا عنها بشكل عدائي، وهناك فهم خاص في أن قصيدة النثر هي قطيعة نهائية وهذا صحيح وهذه القطيعة هي ضد الشعر وهذا أمر غير صحيح.

    * في الوطن العربي ظهر جيل بعد تجربة الرواد مثل جيل أدونيس ومحمود درويش وصلاح عبد الصبور وآخرين هل أضاف هذا الجيل الى تجربة الشعر العربي الحديث ؟

    - طبعا دون شك....

    * أنت تتحدث عن قطيعة عن قصيدة التفعيلة لكن الاتهام الذي يوجه الى جيلكم هو التأثر الكبير بتجربة أدونيس الذي لم يتحرر من قصيدة التفعيلة.

    - بالطبع إن جزءا من شعراء ذلك الجيل كانوا شعراء ايديولوجيين الذين وجدوا عند أدونيس ضالتهم المنشودة. وان شعراء الايديولوجيا في الستينات والسبعينات في الشعر العربي هم من تأثر بأدونيس لأنه شاعر ايديولوجي وانا لا أقصد بذلك طعنا بأدونيس وانما أقصد أن ثمة جانبا كبيرا من التفكير الايديولوجي يسير شعر أدونيس.

    * هل شكت تجربة أدونيس إضافة الى الشعر العربي الحديث ؟

    - دون شك إن أدونيس شكل إضافة وهو شاعر عظيم وأنا لا أحب أي واحد أن يطعن بأدونيس وهو شاعر لا يحتاج الى شهادات ولا يحتاج الى إثبات أي شيء لأن نتاجه يقف هناك شامخا.

    * من خلال تجربتك الخاصة كيف تنظر الى أدونيس؟

    - أنا من خلال تجربتي أختلف شخصيا ونهائيا عن تجربة أدونيس وأعرف شعر أدونيس واين يتجه واحترم ذلك الاتجاه، لكن مفهومي الحقيقي للشعر هو: إن كل شاعر ينبغي أن يبني عالما كاملا لأن كل شاعر مختلف في تقاسيمه وايقاعاته وفي تجربته التي يجترع منها تلك الايقاعات وتلك التقاسيم وأنا لا أعتقد أن أي شاعر يخرج هكذا ويقلد شاعرا ما، هذا الأمر ليسر له أي معنى.

    * في الستينات كتبتم كثيرا ويبدو انكم مارستم نوعا من الاستعجال في الكتابة ومن خلال الاعمال التي نشرها أبرز ممثلي جيلكم هناك نوع من التخلي عن الكتابات التي يبدو عليها الحماس والاستعجال وأنت واحد منهم حيث نشرت كثيرا في مجلة شعر ومواقف ولم نجد الكثير من تلك النصوص في المجموعات الثلاث التي نشرتها من شعرك.

    - هذا صحيح وعل أن أتحدث عن تجربتي الشخصية واستطيع أن أحكم عن شعراء آخرين وربما قد تكون لي أراء معينة في هذا المجال وأنا لم أتبع الطرق المعتادة التي يتبعها الشعراء الآخرون لأن حياتي كانت مضطربة بشكل مهول وأنا لم أعش الحياة الجيدة اللطيفة الثابتة التي عاشها أغلب الشعراء بعد التخرج من الجامعات واصدار مجموعات شعرية منظمة والتعامل مع الناشرين.فأنا عشت الشعر وفي رأيي إن الشاعر المبدع هو أن يعيش ذلك الشعر الذي يريد أن يكتبه. فالشاعر بالنسبة لي هو متناحر مع تجربته الحياتية حقا، وتجد الكثير من القصائد إن لم يكن تسعون بالمئة منها لا تعتمد على تجارب حياتية حقيقية رغم أن هذا ليس شرطا ولا يهم القارىء في النهاية. غير اني أجد أن الشعر بالنسبة الي حاجة عظيمة ومخيفة وسحرا أحتاجه لذلك فإن الشعر لا يعني أي شيء عندما يكون مجرد نتاج وملء صفحتي كتاب لذلك لدى ثلاثة كتب فقط، ولدي قصائد منشورة هنا وهناك وفي مجلة أدونيس "مواقف" لدي قصائد منشورة من الممكن أن تكون أكثر من كتاب ولكني لم أجمعها على الاطلاق ولا تلك القصائد التي نشرتها في مجلة شعر والتي تتجاوز الخمسين قصيدة. فأنا لست شاعرا نظاميا، أنا شاعر من نوع آخر.

    * في المجموعة الأولى "الوصول الى مدينة أين " يحمى القاريء أن القصائد منتقدة من فترات معينة وليس ثمة تاريخ للقصائد فهل كنت متعمدا في هذا الاختيار؟

    - إن قصائد "الوصول الى مدينة أين " هي قصائد متفجرة وهي قصائد الحيرة بدءا من العنوان وإذا فتحت الكتاب وقرأت الكلمة الأولى وهي «وصلت» وقرأت الكلمة الأخيرة في الكتاب "ذهبت " تجد في الكتاب أن فكرة الوصول الى مدينة أين محتجزة بين هاتين الكلمتين. ففي البداية تصل ولكنك في النهاية تذهب ولم تصل الى أي مكان لأن ليس هناك أي مكان والمسألة هذه تلتقي مع قول القديس أوغسطين أنه "ليس هناك مكان نحاول أن نذهب ونجيء اليه ولكن ليس ثمة مكان " التي كانت حاضرة في مجموعة الوصول الى مدينة أين.

    * هل تنطبق هذه المقولة على اختيار كل القصائد في المجموعة ؟

    - انا أختار القصائد لتشكل كتابا وليست مجموعة قصائد،وأنا أكتب كتابا له بداية ونهاية وتجد هذا في الكتاب الثاني "الحياة قرب الأكروبول" فالكتاب الثالث "الأول والتالي" يبدأ من الطفولة وينتهي في نيويورك وهو يضم سبعة أجزاء وهذا ينطبق على كتاب "الحياة قرب الاكروبول" فكل البلدان التي عشت فيها والمدن التي تعرفت عليها والنساء التي شكت تجربتي تقولب نفسها كي تتخذ هذه الأشكال وفي النهاية تصب في نوع نهائي هو الكتابة.

    * في نصوص «الوصول الى مدينة اين » تقنيات في الكتابة تكاد أن تتشابه.. كيف تصف تلك التقنيات ؟

    -هذا الكتاب حاولت أن أجمع فيه جوهر الأصوات المتعددة التي كنت أكتب فيها منذ بدء الستينات بكتاب جاء في الثمانينات أي بعد نشر الكثير من القصائد في المجلات العربية غير أني لم أجمع منها سوى النزر اليسير وركزت بدل ذلك على ما أسميه بالقصائد التفجيرية، لأني أردت أن يكون الكتاب الأول مركزا على النثر بصورة كاملة دون أي تشبث بقصائد الوزن التقليدية كما كانت تكتب من قبل الرواد وان تكون قطيعة مطلقة من حيث الصوت ومن حيث الايقاع النثري الخالص مع الشعر السائد. وأنا حين أنظر الى كل ذلك من خلال هذه المسافة الزمنية أجد أن الجنون العاطفي والايقاعي الذي يصل أحيانا الى حد اللاوعي والاستغراق به في هذه القصائد هو دليل على ما كنت أعانيه عندما جئت الى الولايات المتحدة من بيروت وهو دليل على حيرتي إزاء هذا العالم الشاسع الوحشي الذي وجدت نفسي فيه وكيف يمكن لي أن أعبر عما كنت أعيشه وباي سبل. كانت هناك ضرورة قصوى أن أجد أشكالا أخرى لتقمص التجربة الامريكية كامتداد لتجربتي في الستينات في كل من بغداد وبيروت وهكذا جاء كتاب "الوصول الى مدينة اين" وهو يعبر عن اللامكان الذي كنت أقف فيه آنذاك.

    * في المجموعة الأولى نلاحظ أن القصيدة تتكون من مقاطع قصيرة حيث تعتمد التقطيع، في حين نلاحظ في المجموعة الثانية "الحياة قرب الأكروبول " ان القصيدة تتكون من جمل طويلة وأحيانا تكون مقطعا كاملا فكيف وصلت الى مثل هذه التقنية ؟

    - هذا سؤال رائع، بالطبع هناك قصيدة الضربة، منها مثلا قصيدة الجلاد في الكتاب الأول التي تتكون من ثلاثة أسطر وهي عن الطاغية الذي مازال شبحه يلاحقنا حتى الآن وهذه قصيدة كاملة

    وهناك قصائد أخرى من هذا النوع في الكتاب، إنها القصيدة الشرسة والصوت الذي يواجه الموضوع مباشرة ويطلق سهمه نحو الهدف. ويضاف الى ذلك القصائد العنيفة أي تجربة قصائد النثر التي يمكن لها أن تدخل اللاوعي بشكل عاصف حيث تدوخ اللغة العربية وتبدو أجنبية. واللغة من الممكن ان تغرب بهذه الطريقة. وفي الشعر الحديث إذا درسنا صناعة الحداثة نجد أن تغريب اللغة هو أول الأفعال لفصلها وقطعها عما سبقها بحيث تقف وحدها بلباس أجنبي لتبدو لغة أخرى، ومن هنا تبدأ هذه الصناعة. لذا فإن لغة كتاب "الوصول الى مدينة أين" هي اللغة التي غربت نفسها قصدا لأن الهدف في كل الكتاب هو أن تقف على حدة من جميع ما هو سائد وهذا هو فعل الثورية الحقيقي العنيف الذي ربما فاق الحدود في رأيي. بينما في الكتاب الثاني وجدت نفسي أكثر هدوءا وأتعمق في التجربة الحياتية حيث إن الصوت شكل نوعا من الجملة المطولة التي لا تقف عند حد في حين كانت الجملة بالكتاب الأول عنيفة وشرسة. بينما أصبحت في "الحياة قرب الأكروبول" أكثر امتدادا لتنال مدى أبعد.

    * هل جاء اختيار الجملة الطويلة ضمن خطة واعية أم أملتها التجربة الخاصة ؟

    - دون أي شك جاءت ضمن اختيارات واعية جدا وأنا واع جدا لعملية كتابة القصيدة، ففي الكتاب الثالث «الأول والتالي » تخلصت من أشياء كثيرة كانت موجودة في الكتابين الأولين، وجرت فيه - أي الكتاب الثالث - عملية تركيز مكثفة حيث أن الوعي يبرز أكثر في كل كلمة. لذلك جاءت القصائد أقصر والديمومة تنال القصيدة بأكملها. ففي القصائد الأخيرة نجد ديمومة الصوت التي بدأت في الكتاب الأول بشكل عنيف كما قلت ومن ثم تطورت وهدأت ونضجت أكثر في الكتاب الثاني حيث تنفرش على الساحة الأصوات والايقاعات وتعطيك خلفية كاملة ومطلقة وبتفاصيل حقيقية تعتمد مرجعيا على التجربة الحياتية مثل الحياة في اليونان والتي استمرت - تلك التجربة الاغريقية - في الكتاب الثالث وثمة قسم كامل لقصائد اليونان في "الأول والتالي" متطورة تقنيا الى حد أن تتخذ القصيدة مشاهد العالم الحقيقي والتعابير والأشكال والايقاعات التي يستنبطها الشاعر من ذلك العالم.

    * من أين تستمد الايقاع ؟ وأنت تؤكد أن التفعيلة تجعل من القصيدة ذات تركيب أفقي وذات شكل هندسي من الممكن أن تتصوره قبل كتابة القصيدة، فأين تجربة محمود درويش الذي حاول أن يطوع التفعيلة ويمنح القصيدة أفقا مفتوحا من حيث الايقاع ؟

    - إن البحور العربية تفرض على الشاعر العربي - أي قبل أن يكتب قصيدة - أن يمشي عبر الصفحة بشكل معين ودون حرية مطلقة، أي أن الشاعر مهما برع في السيطرة والسيادة على الوزن هناك دائما الايقاع الهندسي الذي تفرضه شكلية البحر المختار لكتابة القصيدة. واذا قررنا أن نكتب على إيقاع بحر الكامل مثلا لوجدنا أنفسنا مجبرين على اختيار كلمات معينة ومطولة تتوافق مع متفاعلن ومستفعلن. أي أن مجزوءات هذين الشكلين اللذين يؤلفان بحر الكامل سيفرضان علينا دائما طوال القصيدة أن نتقيد بالكلمات التي تنبني أو تنصب في هذين الصوتين، فـ(متفاعلن) يقابلها (متفجر) لذلك ستكون كل قصيدة تكتب على بحر الكامل ستكون على الاطلاق مؤلفة من كلمات يكون الجزء الأساسي منها مشددا حيث لا تكون ثلاثية أو رباعية وانما من كلمات خماسية وسداسية وأكثر.

    * يعتبر بحر الكامل من البحور التي تمتاز بالتعقيد فهو يجمع بين بحر الوجز والسريع والمتدارك، وثمة عدد قليل من شعراء التفعيلة الذين لجأوا الى استخدامه مثل أدونيس ومحمود درويش.

    - إذا كان الأمر يتعلق بشاعر سيد على وزنه وسيد على قصيدته قد يكون مختلفا، فشعراء مثل أدونيس ومحمود درويش هؤلاء يعرفون كيف يمسكون بالتيار وكيف يسيطرون على الدفق. وأنا أتكلم عن أشياء مسبقة عن السيادة ومطلقة بالنسبة لأي شاعر يكتب بالوزن، أي ما أسميه بالقصيدة الأفقية إذ يكون من الصعب كسر السطوح التعبيرية والايقاعية فيها وأحيانا يكون صعبا بشكل استحالي، وعندما يتعلق الأمر بالنثر وأنا أتحدث عن سيد نثره وسيد الايقاعات وهذا لا ينطبق على جميع الشعراء وانما ينطبق على قلة حيث يمكنك ان تخلق في النثر إيقاعات حقيقية وحرة تضرب في مجالات لا يمكن للقصيدة الموزونة أن تطرقها.

    * كيف يمكن تحديد هذه الايقاعات ؟ وما هي إيقاعات القصيدة التي تكتبها؟

    - عندما نتحدث عن الايقاع الموزون والايقاع النثري فإننا نتحدث عن شيئين مختلفين،ذلك لأن الأذن العربية لفرط تعاملها مع الوزن قد صارت مخدرة وتعترف بإيقاعات خاصة معينة تنتج نوعا من الطرب وهي الايقاعات التي تحتويها البحور العربية. لذا يبدو أن الأذن العربية تحتاج الى وقت طويل كي تتعود على ايقاعات النثر، وقصيدة النثر لا تعتمد على الايقاع فحسب بل هي تعتمد على أشياء كثيرة فالإيقاع هو عنصر واحد. وهو في قصائد معينة يتبع دائما الثيمة والموضوع والشكل والأشكال الشعرية الأخرى التي لا تمتلكها قصيدة الوزن بكل بساطة لذا فإن التعقيد في هذا النوع من الشعر - شعر النثر - هو من أول الشروط الشعرية التي يتبعها الشاعر.

    * نلاحظ أن تجربة جيل البيكنس الامريكي استفادت من إيقاعات معينة مثل الجاز حتى عندما نقرأ نثر جاك كورياك نجد إيقاعات الجاز حاضرة في نثره.

    - دون أي شك هناك إيقاعات الجاز والبلوز والايقاعات التي استقاها والت ويتمن من التوراة، إضافة الى الايقاعات التي استوحاها واستنبطها ألن غينيسبرغ من ويتمن نفسه ومن الشعر العبراني. واستنبط جاك كيرواك ايقاعات من موسيقى البلوز ومن ما يسمى بالبيب بوب في الجاز وايقاع الهايكو الياباني فهي تقنيات واشكال ساهمت في الخلق الشعري الحديث ما بعد إليوت والتي شكلت ما يسمى بما بعد الحداثة كحركة.

    * إذا أردنا أن نتحدث عن قصيدة النثر العربية فهل تمكنت من خلق إيقاعات موسيقية أخرى غير مصادر الموسيقى العربية التقليدية المتمثلة ببحور الخليل ؟

    -إن قصيدة النثر العربية الحاضرة هي قصيدة مغامرة انطلقت من عدم الاقتناع بايقاعات القصيدة التقليدية وايقاعاتها مستمدة من شكل القصيدة ومن التجربة الموجودة فيها. لذلك فإن الايقاعات غير ثابتة وغير ممكن أن تكون مقننة في قصيدة النثر، فكل قصيدة لها إيقاعها الخاص يضاف الى ذلك أن كل قصيدة لشاعر معين تمتلك إيقاعه الشخص الذي يدل عليه وهذا الشيء الذي لا يمكن لقصيدة الوزن أن تفعله على الاطلاق. بينما في قصيدة النثر ليس ثمة ما يقيد الشاعر سوى تجربته الخاصة وديمومة الصوت الذي تشتمل عليه القصيدة والتفاصيل الأخرى التي ليس لها أية نهاية والتي تنضاف الى مسألة الايقاع. فالإيقاع ليسر منفصلا في هذه الحالة عن التراكيب الأخرى في قصيدة النثر.

    * لنعد مرة ثانية الى تجربتك في الكتابة، في كتابك الأول «الوصول الى مدينة أين» نجد أنه يعتمد على الصورة حيث يبدو كل سطر صورة، في حين نلاحظ أنك تحاول أن تتخلص من الصورة في كتابك الثاني «الحياة قرب الأكروبول» وتلجأ الى السرد.

    - هذا صحيح ففي الكتاب الأول كان اعتمادي على الصورة بشكل مبالغ فيه، ذلك لآني كنت منذهلا بالصورة في ذلك الوقت، وبصورة مبسطة أكثر كانت الصورة المكثفة بالنسبة لي آنذاك هي جواز المرور الى عالم اللاوعي وكنت مندهشا وأفكر صوريا الى أن تجاوزت هذا الموضوع ووجدت نفسي في الكتاب الثاني اتخلص من الصورة قدر الامكان، وأبسطها حيث أن الصورة تخدم شيئا آخر هو الحالة أو المشهد الشعري الداخلي الذي ينظر اليه كمرجع للخارج أي في الحياة المدرة والمتدفقة. فالصورة كانت في الكتابب الأول سوريالية وحاولت أن أتخلص من آثار التصوير المباشر في الكتاب الثاني والثالث.

    * في الكتاب الأول تلجأ كثيرا الى أدوات وحروف التشبيه هل كان هذا لضرورة فنية ؟

    - لقصيدة النثر تقنيات وأساليب تعتمد كثيرا على المقابلة وعلى تقابل الأشياء وتصادمها، لذلك فالصدام بين الأشياء والصور هو الذي يخلق الوديان الكلامية في الكتاب الأول.

    * في «الأول والتالي » يبدو أنك تحررت كثيرا من أدوات التشبيه.

    - أنا في الكتاب الثالث أكاد لا أشبه الا بطريقة غير مباشرة. وهذا يعني أن عملية التشبيه تطورت الى حد أنها نفت نفسها فصار التقديم أو التجسيد هو الذي يحظى باهتمامي وهناك قصيدة في "الأول والتالي" تتكون من اكثر من عشرين مقطعا عنوانها «تجاسيم» وهذه الكلمة اخترعتها وتفهم بمعنى "التجسيد" للحالات، فصار التجسيد بدلا من التقابل الصوري واللجوء الى أدوات التشبيه.

    * مفردة «العالم» نكاد نجدها تقريبا في كل نصوصك الشعرية فلماذا هذا الاصرار على هذه المفردة ؟

    - منذ وقت طويل وعند بداية مسيرتي تأثرت بفكرة جاء بها فيلسوف ألماني اسمه ليبيتن وهي فكرة عن المونولودجيا أي أن العالم يتكون من وحدات شكلية سماها بالمونادات فكر شيء هو موناد، فالقنينة هي موناد والعين موناد والكأس موناد وكذلك الشعر والقمر والمصباح والنجوم. وهذه الفكرة تطورت الآن في الوقت الحاضر بالفيزياء الحديثة خصوصا في فيزياء اللايقين عند هاينزبورغ حيث أن هذا العالم لا قيمة ولا معنى له على الاطلاق، لم يكن هناك من يسمونه بالرقيب اي المشاهد الذي يقف في مكان ما من الكون ويقول هذا الشيء المعلق في الفضاء اسمه نجمة وذاك اسمه قمر وهذه هي مجرد اسماء ووحدات أو مونادات بالكون وهذه ببساطة فكرة الفيزياء الحديثة وأنا مؤمن بها ومنذ شبابي سيطرت على هذه الفكرة. وأغلب القصائد التي كتبتها مليئة بالعشرات وربما بالمئات من الوحدات الموجودة واقعيا في العالم التي تتركب مع بعضها البعض لتكون عالما كاملا مستقلا بحيث أن هذه الوحدات والمونادات تتصادم مع بعضها في حقل ميدان من الطاقة حيث تكون القصيدة في النهاية ميدانا حيا من الطاقة الفيزيائية وهذه الطاقة تقرر شكل القصيدة.

    * في المجموعات الأول نواك مشغولا بالفكرة كثيرا وربما هذا ما يفسرا للجوء الى الصورة في حين نشاهد في المجموعتين الثانية والثالثة ميلا نحو الحسية واستفادة من فنون الكتابة الأخرى كالرواية والمقالة.

    - ان قصيدة النثر هي التي تستغل وتغرف من كل الروافد ومن كل الانهار ومن طرائق الكتابة المقالية وتغرف من الكتابة الدينية ومن النص الصوفي ومن العلم ومن السينما والباليه والرقص وربما هذا الذي يشكل ايقاع قصيدة النثر. فالشاعر عندما يكتب يكتب بكل حواسه وبكل سعرفته ولا يكتب مثل الشاعر التقليدي الذي يحاول ان يطربنا ويهزنا أو يحاول أن يقنعنا بفكرة سياسية أو أيديولوجية، فالشاعر الآن الذي يقف في مركز الكون وفي مركز التجربة الحياتية حينما يكتب تكون السياسة والايديولوجية والموسيقى وكل الفنون مصبوبة في نظرة ورؤيا وفي موقف حسي وهدفه في النهاية ان يدخلك في هذا الحقل من الطاقة الحية وفي هذه العاطفة المطلقة كما قال عزرا باوند انه "لا شيء غير العاطفة ". والعاطفة هنا بمعنى (Passion) الوجد الوجودي والكوني فالشاعر هو كائن يحترق كي تبرز هذه الطاقة ولكي يكون وقودا لهذه العاطفة ولهذا الوجد. وانا لا أجد أي شيء يمكنه أن يقنعني بأن قصيدة النثر مجرد شكليات أو مجرد تقنيات أو ضرورة تاريخية كما يتحدث عنها النقاد أو كتقليد سخيف لقصيدة الغرب. فهذه القصيدة هي الضرورة وكان الشاعر العربي يتطور نحوها على الاطلاق منذ القرآن الكريم. وتكاد أن تكون كل الكتب الدينية مكتوبة بالنثر وهي الكتب التي مازالت تهز البشر.

    * في كتاب " الأول والتالي " ثمة استفادة من الشعر العربي القديم وحضور لشخصية النابغة الذبياني وللشاعر عمرو ابن أبي ربيعة، فهل تطمح في خلق علائق جديدة مع شخصيات من الشعر العربي القديم ؟

    - أحيانا أجد نفسي أفكر بشروط زمانية معينة وتعطيني حسا ثابتا لتواريخ معينة، وأحيانا ارتبط مع التاريخ والتراث بشكل اعتباطي وليس شرطيا أبدا. وهكذا يحدث أن أجد نفسي أتحدث وأعيش جوا خاصا يربطني بشاعر معين قرأته في فترة ما وبقي جزء من شعره يغذيني في الحاضر. إن بضعة أبيات للنابغة الذبياني قد بقيت في ذهني وهي تتحدث عن الكواكب وعن السهر والأرق في عهد الملك النعمان بن المنذر عندما كان النابهة شاعر البلاط بالحيرة. وجدت نفسي ذات ليلة في سان فرانسسكو أرفا في ليلة مليئة بالنجوم، وكنت قريبا من البحر ومن الحس التاريخي وبصورة غير واعية أحسست بارتباطي بهذا الشاعر.

    وحدث ان اكتشفت أن الأزمنة كلها متداخلة، وان الذبياني الذي عبر عن هذه الحالة موجود في كل الأزمنة، ومن بينها الزمان الذي أعيش، والذي ولدت فيه قصيدة " كواكب الذبياني" وبشكل واع ربطت الذبياني بمدينة سان فرانسسكو وبليلة معينة من أوا خر القرن العشرين وبليلة لا أعرف بأي تاريخ كتب عنها الشاعر الذبياني.

    وأما بالنسبة للشاعر عمرو بن أبي ربيعة الذي أعده من أعظم شعراء الغزل في العالم وهو من أندر الشعراء الذين استعملوا السرد الزماني لخلق جو معين فيه حركة وطاقة، وينوع من التلاعب والضحك وجدت نفسي أشكو له عن حالتي مع الحب والغزل والمرأة حيث كتبت له مرثية. والمرثية هنا فيها من اللعب لأنها ليست بمرثية على الاطلاق، لأنني أرثي لما أقول للموضوع الذي هو جرأة المرأة الحديثة التي تجرك للسرير بحيث تقطع امكانية الغزل كما كان الأمر في حياة وزمن عمرو بن أبي ربيعة. وأسمي هذه العلاقة مع التراث أحيانا بالعلاقة الشرطية وأحيانا بالعكسية والتي تتميز في بعض الأوقات باللعب وعدم الجدية، وبالترابط الحي الانساني وليس بتجربة الكتابة فقط.

    *هل تفكر بإعادة مثل هذا اللعب مع شاعر عربي قديم آخر؟

    - لدي الآن قصيدة عنوانها " الى امرىء القيس في طريقه الى الجحيم " وهي قصيدة أجري فيها حوارا مع امرىء القيس، وبالطبع في أمريكا وفي حالة معينة كانت تشبا حالة امرىء القيس عندما كان يهرب من المنذر بن ماء السماء الذي قتل أبده وحدث أن ذلك الزرد المسموم المشهور قد أهدي من قبل ملك الروم آنذاك الى امرىء القيس الذي كان سبب موته. جعلتني هذه القصة وقراءة معلقته ذات ليلة أحس به حيا ضمن إطار تجاوز الأزمنة وتداخلها، وأتحاور معه ليس كشخص وانما من خلال كوة الظل الشعري الذي نسميه امرأ القيس الشاعر. وعليك أن لا تنسى أن الشعراء حتى لو عاشوا في نهاية القرن العشرين فهم مسكونون بالأجداد والأشباح والأطياف الشعرية والتاريخية وهذا الأمر يردنا الى المونادات أو الوحدات الوجودية.

    * قيل عنك أنك كنت تقطع نهر دجلة سباحة من أجل اللقاء مع الكاتب الراحل جبرا ابراهيم جبرا.

    - «يضحك» ان جبرا كان بالنسبة لي ولشباب آخرين أبا حقيقيا. وكنت أسبح وأعبر جسر الجمهورية كل يومين أو ثلاثة من الاسبوع، كان بالنسبة لنا أيضا مصدر رزق حيث كان ينشر لي ولرهط من الشعراء المفلسين من بينهم جان دمو الذين كانوا يتوافدون يوميا على مكتب جبرا ابراهيم جبرا في مجلة،" العاملون بالنفط ".

    وكان جبرا أبا روحيا بالنسبة لي وكنت أتحدث معه لأنه كان واحدا من العقول النيرة التي استطيع أن أتحدث معها عن اكتشافاتي في الأدب العالمي التي كنت أقرأه بنهم وكنت مذهولا بالأدب الغربي. وكان جبرا ابراهيم جبرا الكاتب والمترجم والشاعر شخصية فذة، كأنه واحد من شخصيات النهضة الأوروبية العظيمة كدافنشي، التي لها إحاطة بالعلم والأدب والفن والتيارات الفكرية الأخرى، إنه ليس شاعرا أو كاتبا فقط وانما هو بالنسبة لي كان شخصية عالمية. وانا عرفته عندما اكتشفت انه يحرر مجلة «العاملون بالنفط» وكنت آنذاك في كركوك وعرفت أن المجلة تدفع مكافأة مالية كانت متواضعة غير أنها بالنسبة لي آنذاك غير متواضعة، فالدنانير الثلاثة أو الخمسة التي تدفعها كانت كافية لليلتين أو ثلاث في حانة مع عشرة شعراء مفلسين.

    * هل ساهمت تلك العلاقة مع جبرا في ترسيخ عملية الترجمة لديك ؟

    - كان جبرا بالنسبة لي المثال العظيم وهو الذي قام بترجمة شكسبير وآخرين وكنت معجبا بترجماته لشكسبير فهو كان مثالا للمترجم الحق. وأقول لك قصة أنه عندما تركت بغداد للذهاب الى بيروت والتقيت بجبرا ابراهيم جبرا في مكتبه ببغداد في كرادة مريم أعطاني مخطوطة الملك لير مطبوعة على الآلة الكاتبة كي أوصلها الى يوسف الخال ببيروت لغرض نشرها في دار النهار. وكان جبرا لا يعرف وأقول هذا للمرة الأولى بأنني كنت ماشيا عبر الصحراء على الأقدام وكان يعتقد بأني ذاهب كأي مسافر بالطائرة أو بالسيارة الى بيروت، ولم يدر بخاطره هذا الأمر حتى وفاته. ولم أقل له بأني حملت مخطوطة الملك لير معي في حقيبتي عبر الصحراء وفي أحقر الفنادق بحلب وحمص ودمشق وعبر الحدود السورية اللبنانية ومع مهربين مغامرين حتى وصلت بيروت وسلمت مخطوطة الملك لير الى يوسف الخال ونشرتها دار النهار.

    * انت تقول انك تكاد تمارس الترجمة يوميا وترجمت العديد من النصوص، ما هو اثر الترجمة على نصك الشعري؟

    - التأثير كان كبيرا جدا. والترجمة فن قائم بذاته وأنا عندما اترجم - خصوصا الشعر - أقوم بكتابة النص من جديد باللغة العربية محاولا أن أجد الصوت الكافل كما ينبغي أن يكون بالعربية لذلك الشاعر المترجم. وهذا امتحان قاس جدا، والترجمة اليومية المستمرة هي نوع من التمرين بالنسبة لي. وهذا التمرين هو ممارسة اللغة لكي أجد البدائل في العربية لأقصى وأدق التعابير في اللغة الانجليزية. والتحدي هو أن تجد في اللغة العربية التعابير الدقيقة والتراكيب المعقدة التي تجدها أحيانا عند كبار الشعراء. فمثلا أحيانا أقوم بترجمة أبيات من جحيم دانتي لأني أحب أن أترجم لنفسي المقاطع الصعبة لأمتحن اللغة العربية وأتساءل هل يمكن لهذه اللغة أن تعبر عن هذا الشيء أو ذاك كما أجده باللغة الانجليزية لأحد أعظم شعراء اللغة الايطالية. ويقود هذا التمرين أحيانا الى تجاوز نفسك واللغة لاختراع نوع جديد من التراكيب الشعرية وكل هذا طبعا يؤثر في النهاية علي كشاعر عندما أكتب.

    * الشاعر الامريكي ميروين مهووس بالترجمة، وقد تلقي نصيحة من الشاعر عذرا باوند في بداياته الشعرية الذي حثه على الترجمة، واكتشف الشاعر ميروين أن لغته قبل القيام بالترجمة كان فقيرة وخالية من الدلالات، فهل توفر لديك نفس الاكتشاف بعد ممارسة الترجمة ؟

    - عندما ترجم عزرا باوند للشعر الصيني أحدث ثورة كبيرة في اللغة الانجليزية على الاطلاق وما زالت أصداؤها تتردد حتى الآن، وفي كتابه " Cathay " الذي ترجم فيه لأربع عشرة قصيدة صينية معروفة،عن الحرب وظهر في عام 1915 حين كانت الحرب العالمية الأولى جارية أثر في الشعر الانجليزي بعمق، لأنه قدم التراكيب أو " Ideographs " الصينية، أي وحدات الفكر والتعبير بها في اللغة الصينية. وعندما وجد لها باوند البديل باللغة الانجليزية أحدث ثورة ومن هذه الثورة خرج شعراء مثل غيري سنايدر، الذي لولا تأثره بالشعر الصيني والياباني لما كتب كما يكتب الان وغيره من الشعراء من بينهم ميروين الذي هو مترجم عظيم، وعاش طوال حياته من الترجمة، وقدم العديد من شعراء الأسبانية والفرنسية والبروفانسية الى قراء اللغة الانجليزية. فالترجمة هي نوع من التلقيح، وهي نوع من الجسور التي تمتد عبر اللغات، وتجعل جميع اللغات والكتابات في النهاية تتشارك وتتداخل وتتلاحم لتخلق شيئا جديدا.

    * هل تنصح الشعراء الشباب بالترجمة ؟

    - أنا أنصح كل شاعر أن يعرف لغة أخرى بشكل جيد وممتاز اذا أمكن وأن يحاول الترجمة حتى لو كان ذلك من أجل لذته الخاصة كتمرين.


    --------------------------------------------------------------------------------

    http://www.nizwa.com/volume6/p185_192.html
                  

10-23-2007, 05:32 AM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20472

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سركون بولص يُغادر العالم من برلين (Re: osama elkhawad)

    • حاوره: عدنان حسين أحمد/ أمستردام
    • الشاعر سركون بولص ل ( الحوار المتمدن )
    - الشاعر كائن بدائي لديه معرفة عميقة بالأشياء
    - قضيت أكثر من أربعين سنة في كتابة الشعر، وملازمة هذا الهم الجميل

    في أواخر الستينات من القرن الماضي غادر الشاعر سركون بولص العراق بلا جواز سفر تثقل كاهله حقيبة ملأى بالقصص والقصائد وبعض النماذج المترجمة. وبعد رحلة مضنية عبر الصحراء العراقية- السورية وصل سركون إلى دمشق بمحفظة نقود خاوية لا تؤمّن له هاجس الطعام لمدة عشرة أيام، لكنه كان يعوّل على الصبر والمطاولة والتطلع إلى الأفق المفتوح. ومن هناك استطاع أن يتسلل في غفلة من حراس الحدود إلى ( العاصمة الذهبية ) بيروت. وعندما ضاقت به السبل قرر أن يهاجر إلى أمريكا بمساعدة السفير الأمريكي والشاعر يوسف الخال وبعض الأصدقاء الحميمين. وكان له ما أراد، إذ استقر به المطاف في سان فرانسيسكو، المدينة التي أحبها، وكتب عنها قبل أن يراها. وهناك تعرف على أشهر الأدباء الأمريكيين الذين يمثلون جيل البيتنكس أمثال ألن غينسبرغ، كرواك، غريغوري كورسو، بوب كوفمن، لورنس فيرلينغيتي، غاري سنايدر وغيرهم. ويعد الشاعر سركون بولص من المترجمين العراقيين المتمكنين من فن الترجمة، إذ رفد المكتبة العربية بالعديد من ترجماته الأمينة لإزرا باوند، أودن، ميرْون، شيللي، شكسبير، وليام كارلوس وليامز، سيلفيا بلاث، غينسبرغ، روبرت دنكان، جون آشبيري، آنا سكستون، روبرت بلاي، جون لوكان، فضلاً عن نيرودا، ريلكه، فاسكو بوبا وآخرين. أصدر سركون بولص عدداً من الدواوين الشعرية وهي ( حامل الفانوس في ليل الذئاب، إذا كنت نائماً في مركب نوح، الأول والتالي، الوصول إلى مدينة أين، الحياة قرب الأكروبول ). كما صدرت له مختارات شعرية مترجمة بعنوان ( رقائم لروح الكون ) ومجموعة قصصية تحت عنوان ( غرفة مهجورة ) وباللغتين العربية والألمانية، فضلاً عن سيرة ذاتية بعنوان ( شهود على الضفاف ). وقبل أيام حلّ سركون بولص ضيفاً علينا في مدينة لاهاي الهولندية، وبعد أمسية أدبية حافلة بالقراءات الشعرية والحوارات المعمقة اتفقنا أنا والناقد إسماعيل زاير أن نستضيفه في مكان هادئ، وهو منزل إسماعيل زاير نفسه، حيث تهيمن على فضاء صالة الاستقبال مكتبته الضخمة العتيدة، وينفتح في مقدمة البيت غاليري إيكاروس الذي يضم جزءاً كبيراً من لوحاته الفنية، وبعض لوحات الفنانين الأصدقاء. ولابد من الإشارة إلى كرم السيدة آنا فان آملروي، الكاتبة والصحفية الهولندية المعروفة، زوجة الفنان زاير وهي تغمرنا بكرمها المعروف ونحن الذين لا نكف عن الكلام الذي لا يعرف النهايات. هكذا دار بيني وبين الشاعر سركون بولص حوار طويل جداً هو في حقيقة الأمر مشروع كتاب كامل عن تجربة بولص الشعرية والحياتية، وقد نشرت حلقة واحدة منه في صحيفة ( الزمان ) وها أنا اليوم أخص موقع ( الحوار المتمدن ) بالجزء الثاني من الحوار الذي يسلط الضوء على آراء ومفاهيم أدبية تشغل بال الشاعر الآشوري الصديق سركون بولص. وفيما يلي نص الحوار:

    • هل تعتقد أنك أول من عرّف بحركة البيتنكس الشعرية في سان فرانسيسكو؟ وهل لك أن تتحدث لنا عن سطوة وتأثير قصيدة ( عواء ) على شعراء جماعة كركوك وبالذات على الشاعر فاضل العزاوي؟

    - عندما كنت في كركوك وصلت إلينا أخبار في الصحف والمجلات عن هذه الحركة، كما قرأنا بعض قصائد غينسبرغ والبيتنكس، ولكنها مجرد شذرات في صحيفة أو مجلة إلى أن أتيح لي عندما ذهبت إلى بغداد، واطلعت على قصائد غينسبرغ في المكتبة الأمريكية، ثم قرأت كرواك. ومن خلال القراءة حدثت بعض التأثيرات لأنهم كانوا الجماعة الطاغية في تلك الفترة ( 1965-1964 ) ولكننا لم نكن نعرف عنهم سوى هذه الشذرات أو القصائد المتفرقة المنشورة هنا وهناك. وحين وصلت إلى بيروت ذهبت مباشرة إلى المكتبة الأمريكية فوجدت هناك كتب غينسبرغ وكرواك وآخرين أمحضهم حباً كبيراً، فقلت ليوسف الخال أريد أن أعمل ملفاً خاصاً عن حركة البيتنكس لمجلة ( شعر ). وافق الخال مباشرة، وأعطاني مدة شهرين لإنجاز هذا الملف وقد صدر هذا الملف وفيه قصائد لغينسبرغ ومنكور وسنايدر وأغلب الشعراء المهمين في هذه الحركة، بل أنني ترجمت بعض أغلفة اسطوانات عملوها في تلك الفترة. كان عدداً جميلاً ومفيداً. أما عن تأثير قصيدة ( عواء ) فدعني أقول أولاً أنها قصيدة صعبة وعصية على الترجمة، وكان عليّ أن أنتظر سنوات طوال حتى أسبر أغوارها جيداً. وهكذا ظلت القصيدة معلقة إلى أن وجدت نفسي في اليونان واشتغلت عليها مدة طويلة فهي كما تعرف قصيدة مليئة بأسماء الأماكن، ولا يمكن لك أن تفهم هذه الأشياء ما لم تذهب إلى سان فرانسيسكو بالتحديد فهي مكتوبة هناك، وهو يذكر أنواعاً من الخمور والمخدرات كالماريوانا والأشياء الأخرى التي كانت شائعة آنذاك ولن يعرفها أحد إلا إذا عاش هناك. القصيدة محتشدة بأسماء الشوارع والأحياء والأشخاص وغيرها. وعندما ذهبت إلى أمريكا وعشت هناك عرفت كيف أترجم قصيدة ( عواء ) وهي قصيدة مهمة جداً، وربما يكون فاضل العزاوي قد قرأها في ذلك الوقت وتأثر بها. أنا هنا أتساءل منْ من العرب ترجم غينسبرغ؟ وجوابي هو لا أحد. ربما تأثر بعض الشعراء من خلال السماع أو قراءة شذرات متفرقة له في الصحف والمجلات. إن قصيدة ( عواء ) تركت تأثيراً ذهنياً كبيراً مذهلاً على قرائها. إن أي قارئ عندما يقرأ القصيدة أول مرة فإنها تصعقه بشكل لا يصدق من دون شك إذا كان يفهم الإنكليزية بشكل جيد. لهذا السبب كان عليّ أن أترجم قصائد هذا الشاعر المبدع، وفيما بعد تعرّفت عليه شخصياً، وأصبحنا أصدقاء حميمين. توفي غينسبرغ قبل سنتين، ولكنه عاش حياة جيدة، إذ كان في الثمانينات من عمره، بينما مات كرواك في خمسيناته بسبب السكر والكحول والمخدرات. وقبل سنة مات غريغوري كورسو، وهو من أفضل شعراء هذه الحركة. أما سنايدر فما يزال حياً، وقد أنهى قبل ثلاث سنوات قصيدة ملحمية اشتغل عليها أربعين سنة، ونال عليها جائزة ( كوتزار ).وفرلنغيتي أطولهم عمراً ما يزال حياً، وتراه أحياناً يمشي في شارع كولومبس أمام مكتبته وهو في طريقه إلى مقهاه الإيطالي المفضل مع كلبين أفغانيين كبيرين. وقد أصبح غنياً وبرجوازياً من خلال مكتبته المسماة ( أضواء المدينة ) التي نشرت قصيدة ( عواء )، هذه القصيدة التي أحدث نشرهاً دوياً كبيراً في المشهد الثقافي الأمريكي. وما تزال ( عواء ) تصدر في طبعات متواصلة لا تنقطع، ذلك أن الجيل الجديد في أمريكا بدأ يقرأ هذه القصيدة، ويحاول أن يجد فيها، كما وجد الجيل الستيني رموزاً معينة تدفعه إلى الإيمان بشيء ما. وهي قصيدة مهمة صدرت حتى الآن طبعتها الأربعون، أو ربما أكثر من ذلك. لذلك اغتنى فرلنغيتي من هذه القصيدة ( الكتاب ) الذي بيعت منه أكثر من مليوني نسخة، ولا أعتقد أن هناك كتاباً شعرياً في التاريخ باع هذه الكمية الكبيرة. غينسبرغ هو إنسان عظيم، وشاعر مبدع، وآخر مرة رأيته كانت في مدينة أوكلاند، عبر الخليج، وهي مدينة قريبة من سان فرانسيسكو. وقد اتصل بي ذات مرة، وقال لي أنه سوف يقوم بقراءة شعرية، وسيبعث المكافأة لأطفال فلسطين، وهو يهودي بالمناسبة. وقد اقترح عليّ ذات مرة أن نذهب إلى فلسطين، ونقرأ قصيدة ( عواء ) معاً، هو يقرأ النص الأصلي بالإنكليزية وأنا أقرأ الترجمة بالعربية أمام حائط المبكى أو أمام قبة الصخرة. فقلت له هذه فكرة شعرية عظيمة، لكنك سترجع سالماً إلى أمريكا، وربما أعلّق أنا على غصن شجرة هناك. الرجل كان شاعراً عظيماً، وعندما وافته المنية كنت في أبو ظبي، ألقيت محاضرة عن حياته وتجربته الشعرية. إذاً أن جيل البيتنكس هو جيل عظيم، وأثر فينا أخلاقياً من دون شك، وعلمنا أن نكون أحراراً، وأن نجرب الكتابة بأساليب جديدة من دون خوف. وعندما كنت في سان فرانسيسكو دخلت في معمعة الحرية والثورة الجنسية وحتى المخدرات. ولم لا فعلى الشاعر أن يجرب كل هذه الأشياء. فاضل العزاوي جرّب هذه المسائل في وقت مبكر، لم لا هنيئاً له.

    • اعتبرتَ قصيدة ( آلام بودلير وصلت ) نقطة تحول في تجربتك الشعرية. هل لك أن تتحدث لنا عن معطيات هذه القصيدة من الناحية الفنية؟

    - من الناحية الفنية كانت قصيدة ( آلام بودلير وصلت ) وثبة ثلاثية في تركيبها ومواجهتها للموضوع مباشرة منذ الكلمة الأولى ونزولاً إلى أعماق القصيدة. وكنت في حالة من الإنخطاف السحري الذي يحدث بشكل نادراً أحياناً، وتكتب في تلك الحالة وكأنك هذا الشيء يُنزل عليك من الأعالي. ومن دون مبالغة أقول إن هناك قصائد كتبتها مرة واحدة، ونشرتها كما هي من دون أي حذف أو إضافة أو تعديل أو مراجعة، وهذه الحالة نادراً ما تحدث. وأنت تعرف أنا من الشعراء الذين يشتغلون على القصيدة وعلى أمداء مختلفة من الزمن، لكنني أتذكر أن هذه القصيدة التي تسأل عنها الآن كتبتها في قرية اسمها ( شطين )، وهي القرية التي كانت يسكن فيها الصديق وديع سعادة. وقد قضيت هناك عدة أيام في تلك القرية الجبلية المطلة على وادي مدهش. إنها بالضبط مثل عش يطل على الوادي. كان الهواء النقي يغمرني، ومن فرط التجلي وجدت نفسي في الليل أكتب قصيدتين، قصيدة ( آلام بودلير ) وقصيدة أخرى ضاعت مني كتبتهما من دون توقف، وأعطيت الأولى إلى يوسف الخال في اليوم التالي. وقال لي بالحرف الواحد أنه سينشرها لوحدها في مجلة ( شعر ) دون أي قصيدة أخرى. وإذا راجعت ذلك العدد فستجد أنها فعلاً قصيدة العدد الوحيدة، أما بقية القصائد فهي قصائد مترجمة. كان يوسف الخال يقرأ القصائد التي تأتي إلى بريد مجلة ( شعر ) ثم اقرأها أنا. وكان بيننا ما يشبه الاتفاق، فعندما ينظر إلي نظرة خاصة ويقول ( فالصو ) فإذا أومأت له بالإيجاب كانت تلك القصيدة تذهب إلى الأرشيف. كانت قصيدة ( ألام بودلير ) تقول كل شيء عن مواجهة الألم من الأحشاء، ذلك أنني كنت في بيروت بعد سنة من خروجي من العراق. وكنت قد جرّبت الحب الحقيقي لأول مرة مع صديقة لبنانية درزية مازلت أحبها. كانت جميلة جداً، وهي أيضاً كاتبة وصحفية معروفة، لا أحب أن اذكر اسمها، كانت جميلة جداً بحيث أنني أحببت من خلالها جميع الدروز( أي والله هكذا ) لذلك كنت في حالة حب وفي حالة انفعال عميق محترق. كنت في الحادية والعشرين أو في الثانية والعشرين من عمري، وهو ، كما تعرف، عمر التهابي. هكذا كنا في حالة التهاب ثقافي وفلسفي وفكري، نقرأ، ونبحث، ونغامر، ونحب، ونعشق، ونمارس كل الأفعال الإنسانية الضرورية. وبيروت كانت مكاناً عظيماً كما تعلم، مكان يكاد يكون أسطورياً لعراقي قادم من كركوك أو بغداد، فجأة يجد نفسه منقذفاً في العاصمة الذهبية كما كنا نسميها آنذاك. من هنا انبثقت هذه القصيدة التي أعدها نقطة تحول في حياتي الشعرية أو في الحالة الإلهامية التي مررت بها بسبب قصة حبي العاصفة.

    • قلت ذات مرة أن توفيق صائغ هو أعظم شاعر قصيدة نثر على الإطلاق. هل لأنه حاول أن يأتي ببديل للوزن أم لأسباب أخرى؟

    - مازلت أرى توفيق صايغ شاعراً فهم الشكل المعمّق لقصيدة النثر أو قصيدة الشعر الحر من حيث التكثيف والتركيز والتركيب. كيف نفهم شكل قصيدة النثر؟ هذه أشياء مبكرة كتبها توفيق صايغ. ثلاثون قصيدة نثر مبكرة كتبها في بداية الخمسينات من القرن الماضي. ترى من كان يكتب قصيدة النثر في ذلك الوقت وبهذا الفهم وهذا العمق؟ وإذا نظرنا إلى قصائده الآن لوجدناها تصمد أمام القراءة صموداً ممتازاً. هناك قصائد كثيرة موزونة لم تصمد أمام الزمن، وإذا قرأناها اليوم لوجدنا فيها ثغرات وأخطاء كثيرة تقع عند جميع الشعراء المعروفين، لكن توفيق صايغ لم يُقرأ جيداً لا أعرف لماذا؟ هناك أسباب طبعاً، هناك العداء المعلن وقتها حتى ضد قصيدة الوزن التي كانوا يعتبرونها خروجاً على العمود، وكانوا يهاجمون البياتي والسياب وعبد الصبور فكيف بتوفيق صايغ، لكنني سأكون صريحاً معك أن هناك نقطة مهمة جداً وهي أن النقاد العرب أهملوا توفيق صايغ بسبب رموزه المسيحية. وتعرف أن الشعر القومي كان هو السائد آنذاك وحتى إلى وقت قريب إلى أن جاء الشعراء الجدد وأزاحوا هذه المومياء من صفحات الجرائد والمجلات وهذا شيء إيجابي وجميل. أنسي الحاج كان يمتلك منصة رائعة وهي ( دار النهار ) لذلك لم يكن يحتاج إلى شيء من أحد لكن توفيق صائغ مر بتجربة ماحقة ولذلك فقد قُتل كشاعر وإنسان فيما بعد، وهذا عيب على النقاد والشعراء العرب أن يتجاهلوا توفيق صايغ، فهو شاعر عظيم كرّس نفسه لخلق شعر حقيقي قد يكون غريباً قليلاً، ولكن كل شعر عظيم قد يبدو غريباً أول الأمر إلى أن تألف أذناك إيقاعاته، وإذا دققت رموزه وكان لك صبر كبير كدارس للشعر لذهبت إلى التوراة أو الرموز الموجودة فيه أو حتى إلى القرآن لتكشفت لك الأمور العميقة، فتوفيق صايغ ليس مسيحياً بهذا المعنى الضيق، إنه متصوف، روحاني، باطني يريد أن يكتب قصيدة عميقة عن الحب أو الأضحية أو فكرة القربان، وهو بهذا المعنى فلسطيني، ولكن على مستوى الفلسفة والباطنية والتصوف، وهذه أشياء عميقة وغنية في شاعر مثل توفيق صايغ. أنا لست دارساً لهذا المعنى لأنني مشغول بأشياء أخرى، ولكن إذا أتيحت لي فرصة ذات يوم فقد أدرس توفيق صائغ دراسة يستحقها وأرجو أن أحقق هذا الأمر.

    • في أوقات معينة كنت تشعر بأن الثقافة غير كافية لتفسير العالم والقبض على متاهة أسراره اللامتناهية. هل لهذا السبب اتجهت للدراسة في أكاديمية الفنون السينمائية، مثلما درست قبل ذلك الرسم والنحت؟

    - أنا دائما أفكر بأن الثقافة شيء جميل لكنها غير كافية لتفسير التجربة البشرية. هناك نواحٍ كثيرة وفنون أخرى كالرسم الذي أحبه كثيراً والذي كنت أساوم بينه وبين الكتابة، وقد فكرت بأن أترك الكتابة من أجله ذات يوم، والتمثيل الذي كان يسكن مخيلتي أيضاً، لكن رغبة التمثيل قد انتهت في داخلي بعد أن إرمّد شعري. والتمثيل كما تعرف هو حلم الشباب. ومع ذلك فالسينما فن عظيم له مكانة كبيرة في نفسي. الثقافة مكونة من كل هذه الأشياء، وأضيف إليها أسلوبي في الحياة، أو طريقة سيري في هذا العالم، أو اختياري لوظيفتي، أو انتقائي للأشياء التي تستحق الاهتمام في هذا العالم. هذه الأشياء كلها أعتبرها ثقافة، لكن الثقافة قد تبدو أحياناً أنها موجودة في الكتب فقط أو في المدرسة أو في الأكاديمية، لكن الأمر ليس كذلك، فأنا أحياناً لا أقرأ ولا أكتب لشهور وبعد ذلك أقضي سنوات في القراءة والكتابة. هذه موازنة داخلية لأنك تعرف تركيبتك وما تحتاج إليه. أحياناً أرى أفلاماً كثيرة ثم أقرف من السينما. أما في الرسم فالأمر مختلف فاللوحة تظل جميلة جداً ولا تنزل من عليائها لتسقط في فخاخ القرف. عندي دائماً رسامين معينين إذا نظرت إلى لوحاتهم أشعر بالراحة والتوازن، فاللوحة كنز بصري يملؤني بالرغبة في متابعة الكتابة من جديد. المسألة هي حالة يأس عند المثقف، عند الشاعر الذي يمضي حياته من جبل إلى واد، ومن وادٍ إلى جبل. هذه القفزات الروحية والخيبات والانكسارات التي تبعث على اليأس، ونحن العراقيين عندنا ما يكفي من الأثقال بحيث تحني ظهرنا ونشعر باليأس. حياتي في الثقافة تتحرك بهذا الشكل. في أمريكا وأوربا هناك الكتب والسينما والمسرح وكل ما تريد، لكن الشاعر لديه نظرة خاصة فهو يختلف عن المثقف، فالشاعر هو كائن بدائي لديه معرفة عميقة بالأشياء، هذه محاولة للتعريف، والشاعر الحديث هو شخص يختار أشياء معينة في الثقافة، وكثير منها يبدو نوعاً من العلف المكتوب والمصنّع من أجل الماشية، من أجل القطيع، لكي تتواصل المسيرة ولا تتوقف القطعان عن المشي، لذلك أنا أرى العالم مثل كتل بشرية مدفوعة إلى العبودية ليل نهار، ولكي تشغل ماكنة المجتمع عليك بمواصلة فكرة التصنيع. حتى طلبة الجامعات أراهم مجرد مادة خام لتخريجهم كأطباء ومهندسين ومحامين وسياسيين يولدون من هذه الماكنة. الشاعر وحده يقف خارج الماكنة ويراها من الخارج، وهذا ضروري جداً، وقالها بريشت ذات يوم بأن الشاعر يقف دائماً خارج الأسوار، ولا يمكن له أن يكون داخل هذه الأسوار إلا إذا كان شاعراً يلتحق بالدولة أو المنظمة أو المؤسسة. هناك شعراء من هذا النوع، لكن الشاعر الحقيقي هو الذي يرى كل شيء من الخارج، ويقف على مسافة جمالية ضرورية بحيث يرى الأشياء، ويحتفظ بحرية أن يقول عنها ما يريد. هذه نظرتي الفلسفية أو موقفي كشاعر ينبغي أن يمتلك حرية الاختيار.

    • كانت لديك مجموعة شعرية بعنوان ( عاصمة آدم ) نشر أدونيس أجزاءً كبيرة منها في مجلة مواقف. أين أصبح مصير هذه المجموعة؟

    - قبل ثلاث سنوات كنت في الأردن، وقد قابلت بعض أفراد أسرتي الذين تركوا العراق متأخرين وقد جلبوا معهم صندوقاً صغيراً فيه كتاباتي الأولى وهي عبارة عن ست أو سبع دفاتر، أحد هذه الدفاتر مليء بالقصص القصيرة، والبقية تحتوي على قصائدي التي كتبتها منذ سنة 1961 وهي القصائد المبكرة التي كتبتها في كركوك إلى سنة 1965 ، وهناك دفتر يحتوي على قصائد تمتد من سنة 1965 إلى سنة 1966 وفيه قصائد آدم، وبعضها منشور في الصحف العراقية وبعض المجلات اللبنانية مثل ( شعر ) و ( مواقف ) ومجلات أخرى. بالمناسبة نشرت في مجلة ( شعر ) حوالي أربعين قصيدة لم أجمعها في كتاب لحد الآن. وأفكر الآن أن أنتقي مختارات من قصائدي المبكرة التي أسميتها عاصمة آدم، وهذا العنوان سيتغير حتماً لكن عاصمة آدم هي سلسلة قصائد في هذا الكتاب. أتمنى أن يُتاح لي العمل لإنجاز هذا الكتاب ونشر قصائده كما هي، فهي تمثلني في تلك الفترة، وأكثر هذه القصائد موزونة، وفيها قصائد نثر أيضاً، وهي تبيّن كيف كنت أشتغل، وبماذا كنت أهتم. هذه القصائد لها نكهة خاصة، وفيها جمالية معينة أشعر بها تعيدني إلى أيام الستينات.

    • ( غرفة مهجورة ) هي مجموعتك القصصية الأولى، ولديك عشرات القصص المنشورة وغير المنشورة كيف يتجاور القاص والشاعر في أعماق سركون بولص؟ هل يتصادمان أحياناً أم أنهما متصالحان على الدوام؟

    - أنا أعتقد أن القصة والقصيدة هما شيء واحد بالنسبة لي، وأكتب القصة عندما أريد أن أكتب قصة، أو عندما يكون لي موضوع قصصي. وأنا كما تعرف أحب كتابة القصص كثيراً، وعندي قصص منشورة وأخرى غير منشورة. أنا أشتغل على عدة جبهات، أترجم، وأكتب الشعر، وأكتب القصة، وأشتغل على كتابين أو ثلاثة كتب في أنٍ واحد. ولابد من الإشارة إلى أنني أفكر بإصدار مجموعة قصصية كبيرة تمثلني بشكل حقيقي، ولكنني أرجئ هذه الفكرة دائماً إلى فترة قادمة، وأرجو أن أنتهي هذه السنة من إصدار هذه المجموعة التي تشغلني منذ زمن طويل. هذه القصص مطبوعة وجاهزة وموجودة عند ناشري الصغير في ألمانيا ( نشاكسه قليلاً ) الذي بدأ يتكاسل ويتهمني بالكسل. فهذه المسألة يجب أن تحل، وإنشاء الله سوف ترى هذه المجموعة القصصية النور في السنة القادمة. أما ( غرفة مهجورة ) وهي المجموعة القصصية التي صدرت باللغتين العربية والألمانية فهي مجرد مختارات تحمل نكهة خاصة من نفسي القصصي.

    • ما هي اعتراضاتك على ( الروح الحية ) للشاعر والروائي فاضل العزاوي. هل أقصى أسماء شعرية مهمة من المشهد الشعري الستيني. كيف تعامل العزاوي من وجهة نظرك مع الشعراء الستينيين في الداخل والخارج. هل همّش أحد من الشعراء أو غمطه حقه؟
    - مشكلة كتاب فاضل العزاوي أنه يخفي حقائق معينة، ويحاول أن يعطي بديلاً لا أجد له أي أساس لتلك الحقائق، ومثله مثل سامي مهدي فهو منحاز منذ البداية إلى طريقة مسبقة لتصوير جيل الستينات، أو إلى شكل مسبق كان موجوداً في ذهنه قبل أن يراجع الحقائق، ويتكلم عن الشخصيات التي كانت فعالة آنذاك بشكل صادق. مشكلة سامي مهدي أنه منحاز كبعثي، وكموظف مسؤول في تصنيع الثقافة العراقية، ولكن مشكلة فاضل أنه أنا متضخمة تريد أن تهيمن على كل شيء. كتابه ينضح بنوع من التزييف الخطير، خصوصاً وأنه غمط حق الكثير من الشخصيات، وله طريقة معينة في تتفيه مواقف معينة لشخصيات معروفة آنذاك، وبالمقابل فإنه كان يضخّم دوره ودور شعراء غير مهمين على الإطلاق لكي يغطي على الشعراء الآخرين. وهذا هو كل ما يمكنني أن أعلق على كتاب فاضل العزاوي.
    • هل تعتقد أن الشعراء الستينيين من جماعة كركوك كانوا أكثر إطلاعاً على المنجز الشعري العالمي أو على الحداثة تحديداً بحكم سعة إطلاعهم ومعرفتهم باللغة الإنكليزية؟
    - هذه نقطة تسجل لجماعة كركوك لا عليهم، ولكن هذا لا يعني أنهم كانوا متفوقين بهذا المعنى على الشعراء الآخرين، ذلك أن أدباءً وشعراءً آخرين في بغداد ومناطق أخرى من العراق كان لهم سعيهم أيضاً في هذا المجال، لكن أن تعرف لغة أجنبية في الستينات من القرن الماضي عندما كان الجو الأدبي شبه جاهل بما يجري في العالم فهذه نقطة تحسب لصالحك. إن قراءتي باللغة الإنكليزية على الصعيد الشخصي قد عجلت في نمو معرفتي وتطوري بأساليب جديدة، كما عجلت في معرفتي بأسماء أدبية عالمية مهمة. نعم، كنا نشعر بنوع من التفوق لأننا كنا نعرف كيف نقرأ كتباً معينة لا يعرف الآخرون كيف يستدلون عليها.

    • بعض الشعراء الذين يشكلون حلقة الوصل بين الجيلين الخمسيني والستيني خدمتهم السياسة، ورسخت أسماءهم بشكل شبه قسري في ذاكرة الناس، بينما أنت لم تخدمك السياسة، ولكن مع ذلك فقد حققت حضوراً مهماً في المشهد الشعري العربي المعاصر. كيف تفسر لنا هذا الإشكال؟

    - قد يكون هناك نوع من الإشكال، لكنني أعتقد شخصياً أن الشاعر الذي يتصفح بحماية أي حزب هو شاعر قد يتضرر في النهاية عندما ينحسر مد التأثير الإيديولوجي في الأدب كما حدث للكثيرين. وأنا لم أكن سياسياً بالمعنى الذي تقصده عندما نتكلم عن شعراء الحزب، سواء أكان هذا الحزب الشيوعي أو حزب البعث أو أي حزب آخر. الكثير من الشعراء العراقيين وُجدوا يكتبون بلسان الحزب أو يتظاهرون بأنهم يكتبون باسم الشعب أو باسم هذه الجهة أو تلك، وفي النهاية قد يكون الشيء المهم في كتابة الستينيين هو معرفتهم لهذا الشيء أو انتباههم إلى أن الشاعر الحزبي قاصر، وخصوصاً أن المرحلة كانت مرحلة أفكار وصرعات فكرية ووجودية، لذلك وجدت نفسي لا أهتم بالكتابة التي لا تخضع لأي جهة أو لأي أسلوب مسبق، وقد يكون هذا ناجم من قراءاتي للشعراء غير الحزبيين رغم محبتي لنيرودا وناظم حكمت اللذين كانا نوعاً من المثال للشاعر الحزبي. أنا لم أفكر أبداً بأن شعري يمكن أن يُقبل أو يُرفض إذا لم يكن تابعاً لهذا الحزب أو ذاك أو لهذه الجهة أو تلك. هذه الأشياء لم تكن واردة إطلاقاً، ولا تزال غير واردة.
    • ما هي المساحة التي تحتلها المرأة في شعر سركون بولص. كيف تتعامل معها شعرياً. أعني كيف تُدخلها إلى نسيج النص؟

    - المرأة هي الكل في الكل رغم أنني لا أنشغل بها طوال الوقت، لكن لها حضور دائم في قصائدي. وعندي موقف معين من المرأة، أو لنقل من شعر الحب. إن موقفي يختلف مع الكثيرين من الشعراء. المرأة بالنسبة لي ليست مجرد جسد، وليست كما يقال رفيقة درب أبداً. المرأة بالنسبة لي هي نوع من المخلوق الأسطوري، أحياناً في قدرته على أن يكون دليلاً فلسفياً للرجل في العالم ، ولكن على الصعيد الواقعي المرأة هي تلك الصديقة والحبيبة التي يمكنها أن تضيء حياتك إذا التقيت بالمرأة الحقيقية أو المرأة الملاك، أما إذا التقيت بالمرأة الخطأ فعليك أن تعد عدة الهرب وتجد طريقاً تنقذ بها رقبتك من مخالبها التي لا تعرف الرحمة.
    • هل تعتقد أن ذائقتك النقدية الصارمة قد أضرت بعلاقاتك الشخصية بجماعة كركوعك من جهة، وبجيل الستينات عموماً، فلديك آراء سلبية ببعض أسماء الجيل الستيني ومنهم على وجه التحديد لا الحصر فاضل العزاوي وعبد الرحمن مجيد الربيعي وغيرهم؟

    - أنا قد أكون صارماً في آرائي، وحاد في مواقفي، لكن هذه الحدية تبرز أكثر عندما أرى البعض منهم يلعب لعبة التلفيق، وتزييف الحقائق الأساسية التي كنا نعرفها جيداً، وأغضب كثيراً عندما أجد كاتباً يعتمد على الكذب، ويزور تجربة الآخرين. وأنا مع الأسف اذكر الأسماء حياناً، لكنني أجد نفسي مجبراً على ذلك. أنا أؤمن بأن الساحة الأدبية ينبغي أن تكون نظيفة عندما نرى جميع الساحات الأخرى مليئة بالقذارة والزيف والكذب. ترى لماذا يكذب الشعراء؟ لماذا يكذب الكتاب؟ الربيعي بسبب شعوره بالمنافسة مع الآخرين زيّف حقائق كثيرة، لكنه مازال صديقاً ورفيق طريق. وعلينا أحياناً أن ننتقد بعضنا البعض بهذه الطريقة الصريحة لكي نصل إلى نوع من العالم الأدبي خالٍ من التلوث. فاضل العزاوي هو صديق، ورفيق في مجموعة معينة، وكلانا من مدينة واحدة، لكنه مع الأسف خيّبني في كتابته عني بشكل غير عادل وغير منصف تماماً، وهذا هو المؤلم في الأمر، لذلك ينبغي أن أكون صريحاً معهم. أنا لم أكتب عن أي صديق آخر بشكل أحاول أن أؤذيه فلماذا يحاول الآخرون إيذائي؟ هناك نوع من العقدة النفسية التي حدثت لسبب ما، وفي مكان ما، وزمان ما، لكن على هذا الكاتب أن يكون رحب الصدر، لا أن يكون ضيّق الأفق بهذا الشكل بحيث يصبح أسيراً لتلك العقدة النفسية، وهذا كل ما أستطيع أن أقوله عن الصديقين الربيعي والعزاوي.

    • هل شرعت في كتابة مذكراتك الشخصية، أم أن هذا الموضوع مازال مؤجلاً. وهل تنوي أن تكتبه سيرة ذاتية روائية تغطي فيه تجاربك ومغامراتك الحياتية؟

    - أنا أصدرت آخر كتاب لي بالألمانية وهو عبارة عن سيرة ذاتي، وقد أترجمه إلى العربية، وأضيف إليه، وأنقحه. وهذا الكتاب عنوانه ( أساطير وتراث ) إنه سيرة ذاتية لكنها مكتوبة بطريقة جديدة فيها سرد وحوارات ومنولوجات وصور فوتوغرافية. السيرة تهمني جداً، وأنا أعد الآن كتاباً مؤلفاً من شذرات وذكريات ولقاءات وأنواع كثيرة من الكتابة كلها تصب في خانة السيرة وأرجو أن أنتهي منه هذه السنة.
    • هل تعتقد أن على الشاعر أو المبدع عموماً أن يحتفظ بأسراره الشخصية، أم أن عليه أن يبوح بها بوصفها تجربة متاحة للذاكرة الجمعية لقرائه ومحبيه؟

    - الشعراء أنواع مختلفة، وأمزجة متباينة، فهناك شاعر إعتراف يحب أن ينشر غسيله على حبال الجرائد، وهناك الشاعر الذي يدون سيرته الشخصية الكاملة في قصائده، ولكن في قالب فني حقيقي. إذاً لكل شاعر طريقة في البوح أو في كشف الأسرار. أنا أفعل ذلك بطريقة غير إعترافية، وبصورة غير مباشرة، لكن الأسرار موجودة هناك، وإذا أراد القارئ أن يعرفها فعليه أن يقرأ القصيدة جيداً، ويتعمق في تفاصيلها وبنيتها الداخلية، وسيجد كل ما يبحث عنه من أسرار.

    • ما جدوى الكتابة، وهل يستحق الشعر أن تكرس له حياتك الشخصية، وأن تتحمل من أجله كل هذه العذابات؟

    - أنا أعتقد أن سؤالك ينطوي على نوع من الشك في أهمية الكتابة وجدوى النصوص الشعرية التي نكتبها. بالنسبة لي يستحق الشعر أن أكرّس كل حياتي من أجله. فالكتابة بالنسبة لي إجمالاً هي نوع من العذاب الحقيقي واللذة النهائية أيضاً. اللذة هي أنك تقضي سنوات طوالاً وأنت مستغرق في أسرار الكتابة، وبالذات أسرار الشعر لتخلق لنصك قوانين خفية تشدك إلى هذا المكان الغامض أو المنحى الباطني الذي تكون مستعداً لأن تضحي من أجله بكل شيء. أنا قضيت أكثر من أربعين سنة في كتابة الشعر، وملازمة هذا الهم الجميل، ومع ذلك فأنا لا أريد أن أتظاهر بأنني قد كرّست حياتي للشعر أكثر من غيري لأنني موقن تماماً بأن هناك شعراء في هذا العالم ضحوا من أجل الشعر بأشياء كثيرة لا تصدّق. هناك شعراء يمكن لنا أن نعتبرهم شهداءً حقيقيين ضحوا بأنفسهم من أجل الشعر أمثال سيزار فاييخو، وهو أعظم شعراء العالم، مات في باريس من الجوع. وهناك شعراء آخرون كبار أمثال ناظم حكمت، ونيرودا عرفوا منذ البداية حجم المسؤولية الكبيرة الملقاة على عاتقهم، لأن اختيار الشعر مسألة غير هينة على الإطلاق. الشعر عالم له أسرار لا تنتهي، ورهان خطير، لكن مع ذلك فهناك شعراء كثيرون قبلوا بهذا الرهان ومنهم شعراء الرومانس البريطانيين على سبيل المثال لا الحصر أمثال ووردزوورث، وكيتس، وشيللي، وبيرون، وكوليريج. وكل واحد من هؤلاء بالمناسبة يعتبر عالماً كاملاً قد يستغرقك سنوات عديدة إذا أردت أن تدرس عالمه، وتفهمه بعمق. جون كيتس مثلاً أثّر في السياب بشكل عميق بحيث أننا لا يمكن أن نفهم السياب بشكل دقيق ما لم نفهم كيتس جيداً، لذلك ترى أن الشعر متداخل ببعضه، وأن حيوات الشعراء متداخلة ببعضها أيضاً. فالشاعر الذي مات قبل ألف سنة أو أكثر كأمرئ القيس ما زال مفعوله سارياً في شعرنا. السياب ما يزال هاجساً بالنسبة لي، وقصائده ما تزال تشدني وتثير فيّ غابة من الأسئلة. فالشاعر الحقيقي الذي يؤمن بالشعر، ولم يأت إليه عابثاً من أجل كتابة بضع قصائد عابرة ينبغي أن يكرس نفسه وحياته للشعر، ويجب أن يعتبر نفسه ذا مهمة كبيرة في التاريخ. وأن يقدّس الكتابة، ويخلص لها من كل قلبه.
                  

10-23-2007, 02:44 PM

أبوذر بابكر
<aأبوذر بابكر
تاريخ التسجيل: 07-15-2005
مجموع المشاركات: 8610

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سركون بولص يُغادر العالم من برلين (Re: nassar elhaj)

    يذهبون أولا

    ليجلسوا فى مقدمة الصفوف

    أعزيك يا نصار ونفسى وكل محبى سركون

    وسيظل فينا
                  

10-23-2007, 02:47 PM

عادل عبدالرحمن
<aعادل عبدالرحمن
تاريخ التسجيل: 08-31-2005
مجموع المشاركات: 634

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سركون بولص يُغادر العالم من برلين (Re: nassar elhaj)

    * فاروق سلوم عن
    سركون بولص الحزن المستحيل:
    من الحبانية، سان فرانسسكو، روتردام، الى برلين


    ان تحصي خطوات الساعة العاشرة صباحا نحو مقهى البيضاء
    في الصباح البغدادي ذاك، وان تتأبط عزرا باوند. وترافق اليوت؛ يعني انك تؤثث يومك.
    لكنك كنت تمشي في الطريق البغدادي الظليل. ويمضي سرك من خلفك كما قالت العرافة لك يوما؛ كنت تضيق بكل شيء والعالم يمور بخطى لاتحصى من الحداثة والجنون والجاز ميوزك الى الوود ستوك وصحبة الهبيز. الى شعراء البانك. خطوات لاتحصى مثل خطاك نحو مقهى اليف وطيب. ابتكره جيل من شعراء حالمين هم اسماء الذاكرة التي لديك في بغداد الحانية يومذاك والذين شتتهم لعنة البلاد.

    سركون بولص في بار "فيسيفيو" في سان فرانسيسكو، تصوير صموئيل شمعون

    فجأة تفرغ زاويتك التي كنت تجلس فيها كل صباح عند حوش مقهى البيضاء، تذكر كنت تتفادى الشمس وتنحشر نحو الحائط محدقا في البرادايس لوست. التي التقطتها من عربة هاشم او فرشة بناي للكتب؛ اعرف ستقول لا من مكتبة مكنزي.او كورونيت او مكتبات بغداد الأليفة بغدادنا نحن؛ والأورفلية. وفسحة مقهى مجيد رغم كل ضيق في المكان مثل حدقتي عبد الرحمن طهمازي خلف نظارتيه القزحيتين. قل ماتشاء فقد كانت بغداد التنوع والممكن الكوزموبوليتاني.

    فجأة يختفي سركون من زاويته الظليلة في حوش مقهى البيضاء. وحسين حسن الصديق والشاعر والمترجم وزميل الدراسة في قسم اللغة الأنكليزية. ذو العينين الزرقاوين يكذّب اي خبر عن رحيل مجهول.... عدا انك ذهبت الى كركوك لأكمال المعاملة، اية معاملة يا سركون بولص – ثمة همس يؤطره الشاعر مخلص خليل بكثير من السرية والأيحاء. لا هوه ما ينطو جواز ممنوع من السفر – ياألهي. نسكر ذاك النهار.
    نبحث عن بار يؤوينا.
    لدينا حزن مضاف. ميلانكوليا غرائبية
    نجد بارا ابيض ايضا – لماذا كانت كل الأشياء والمسميات بيضاء ياسركون بولص - ميلانكوليا غيابك المفاجئ الأبيض. حيث يخلو مقعدك في واجهة المقهى الأبيض. وتغيب مثل راهب اختاره يسوع لصحبة طريق الجلجلة.
    نسكر تلك الظهيرة لأننا نحبك. هكذا محبة من الرب. ومن الشعر
    نسكر في صحة غيابك وحضورك. ويطوف علينا عبد القادر الجنابي. وشريف الربيعي. ورفقة من اسماء اختارت ان تسكر ذلك النهار من عام 1966 يوم غبت فجأة.
    هل مشيت الصحراء وحيدا.؟
    هل عبرت عاريا حدود البلاء العربي الغادر.
    هل نجوت من دوريات شرطة الصحراء. والجمارك والرقباء؟
    لقد سكرنا ذلك النهار وكأنا نقيم قدّاسا من المحبة. خوفا عليك من رفقة الطريق. وغدر الرحيل. يا إله الرزايا وإله الجنون.
    انت ومؤيد الراوي. وانورالغساني. والعزاوي. وابراهيم زاير واسماء اسماء نحبها حتى الساعة. كنتم مثقفي الحرية العراقية المأمولة قبل ان توأد!!!
    كنا نحبكم لأنكم لم تكونوا مثقفي النمط في ماكنة الأحزاب. وكنا نعتقد انكم ستبدلون يأس البلاد، وتمنحون حياتنا فرصا أوفر للشعر والحب والحداثة والجنون والحرية..
    وحين انسللتم واحدا اثر واحد.
    بين مقاتل في جبهات التحرير. وعازم على الرحيل البعيد. وباحث عن طريق. كثرت مناسبات التنمل النهاري الذي اخترناه في بار البيضاء. على اطلالة ابي نؤاس.
    ألم اقل لك ان كل شيء كان ابيض.. ابيض.
    ألم يكن العرق ابيض. وليس بلون الدم
    لماذا لم يلوّح احد منكم لنا بمنديل لماذا لم تقل – وانت الصموت – ان احملوا دفاتركم وامضوا كل يحمل كتابه حيث يشاء في يمينه اويساره.
    لماذا.. لأننا نعرف. كل سبب للسكوت العميق في ظلمات الروح. في تلك الرافدينية الجميلة المرّة !!
    طفقت ايامنا تمضي بأيقاع الخوف المر وتتغير الخريطة.
    وبدأت تغلق مقاهي المحبة. وتنفتح مقاهي الكراهية. نبحث عنك في رسائل الأصدقاء. في اخبار بيروت. في "شعر" و"حوار". في لمحة من يوسف الخال او اشارة من ادونيس او ترجمة او قصيدة. لكن الزمن كان يصعب كل يوم.
    صرنا ندخل في جنون الحروب غير الخلاّقة. وتتعرض ذاكراتنا لأنماط المحو. وعواطفنا. للألينة والأقتلاع.
    صرنا لم نعد نعرف كيف نحب. وكيف نكره. كنا مخلوقات خرجت للتو من مزرعة الحيوانات لجورج اورويل.
    تغيرت الحبانية يا سركون. واستبدل الحشيش بألأسفلت والاسمنت الكريه.
    وتحولت كركوك الى لعبة لامخرج لها ( Puzzle ( لملاحقة الجواسيس المقترحين في تقارير رجال الأمن لمجرد انهم عملو في آي بي سي. او محلاتها او نواديها وحتى. مجلة "العاملون في النفط".. تحولت الى مقبرة للنصوص البائرة والأسماء التي صنعت الخراب الثقافي وقتلت حلم الحرية الأبيض
    لم يعد اي شيء ابيض يا سركون بولص
    وانت في السجن. هناك كما سمعنا انهم سجنوك لأنك بلا اوراق.من اين تاتي بألأوراق يا سركون. كان يقلقنا مصيرك وانت دونما اوراق. هل ستسلمك السلطات اللبنانية؟. هل ثمة أمل. كانت بيروت بالنسبة الينا. نمطا من المستحيل في المسافة. والممكن.من الأمل البعيد وقد منع السفر. حيث كانت تضيق فرص البلاد وتغلق كوة الحرية الى الأبد.
    ها.. سركون في نيويورك
    ها سركون في سان فرانسيسكو
    ها انه صديق فلاهيرتي، صديق جيل البانك، الشاعر الهيبي الغارق في "مدينة اين"..... "النائم في سفينة نوح" المتأمل مقابل الأكرو. بولس، اكرو بولص..
    نسكر في صحتك كلما قرأنا لك نصا او ترجمة او كلما نسمع خبرا عنك. ألستم انت وجيلك املنا في بناء بلاد حديثة وثقافة مستحيلة.
    لنسكر اذا اليوم. دم صخر في رقبة امرؤ القيس. صغيرا وكبيرا !!
    حتى عبد القادر الجنابي غادرنا. حاملا كل عدة الأصابع الرهيفة وهي تلتقط الكتب من مكامنها.. متسربلا في ذلك القبوط - الكوت دازور - الجميل عند تقاطع السان ميشيل.
    نحب. لأن بلادنا بلاد محبة. وليست بلاد للكراهية كما كل وقت. يدهشنا اليوم.
    مضينا اليك في سان فرانسيسكو وفي مشاويرك وترجماتك وشغلك النظيف المتعالي عن كل نرجسية فاجعة، الممتلئ اطمئنانا الى شغله الشعري دون ادعاء براءة اختراع الشعر. او الخلائق العجائبية. او النصوص. المصنعة من امصال اللغة والترجمات !!
    مضينا اليك وانت تمثلنا املا ومحبة وتواضعا.
    وحين اختارت روتردام ان تستضيفك في حزيران 2007 ضمن اكثر من مائة شاعر في مهرجان الشعر الدولي. قالوا ليكن مهرجان الشعر الدولي هذا العام عن حزن سركون بولص العصي التفسير.
    الحزن المستحيل.
    قالوا لنناقش الشعر والجنون.
    لنستمع الى كلمة من كل شاعر ونطلق غنائية الى العالم في مطلع المهرجان. هل قلت كلمة: ملانكوليا
    هل قلت كلمة : أسى
    هل قلت كلمة: ابسوليوت. سايلنس!
    كان على كل شاعر في افتتاح المهرجان ان يقول قصيدة على هيئة كلمة. ولم تكن لديك غير كلمة: صمت العميقة. لأنك عبرت كل الأختبارات الحمقاء ولم تعد تراهن على اي شيء غير الجوهر.
    هل قلت كلمة: سابستانس !!
    نعم هذه هي قصيدتك فيما يروج الآخرون لقصيدتهم النرجسية الحمقاء
    احتفت بك روتردام هذا الصيف وكنت على بعد امتار منك كنت على حافة النهر المجنون الراين وهو يهدد روتردام بغرق قائم. وكنت تمضي وسط اكثر من مائة شاعر لتقول حكايتنا بكل لغة. تقرأ قصائدك بلكنة آشورية.
    وتطلق صوت الأعماق. صوت الجوهر
    لأننا نحبك الآن ومن قبل. فأننا نقيم معك في دفتر برنامج برلين الثقافي.
    حيث تقيم الساعة. نشاركك النزهة المستحيلة والحزن المستحيل.
    والأمل الممكن لأنك ابيض!!
    كم صفحة في دليل برلين الثقافي.
    كم ( A Bridge over troubled water) سنسمع الليلة.
    كم ( ِ A lot of water had passed under the bridges ). سنغني.
    لكنك ستصفح عنا لأننا نحبك الى حد العذاب.
    وستعتذر لأنك لاتريد هذا الأحتفاء الذي اقول به الساعة
    انت لا تريد حتى اسمك ان يذكر بهذه الكثرة؟
    الملانكوليا هي الخصوصية هي الأهم لأنها نص الأبداع ونص الخلق.
    وكل يوم تشرق فيه برلين بروحك هو تاريخ للمحبة.
    تاريخ لأبداع.


    * شاعر وكاتب مقيم في السويد
    [email protected]

    خاص كيكا

    (عدل بواسطة عادل عبدالرحمن on 10-24-2007, 07:26 AM)

                  

10-23-2007, 04:48 PM

فتحي البحيري
<aفتحي البحيري
تاريخ التسجيل: 02-14-2003
مجموع المشاركات: 19109

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سركون بولص يُغادر العالم من برلين (Re: عادل عبدالرحمن)

    Quote: يذهبون أولا

    ليجلسوا فى مقدمة الصفوف

    أعزيك يا نصار ونفسى وكل محبى سركون

    وسيظل فينا


    ...نصار


    ... رحم الله سركون
                  

10-23-2007, 04:55 PM

zumrawi

تاريخ التسجيل: 08-31-2002
مجموع المشاركات: 0

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سركون بولص يُغادر العالم من برلين (Re: nassar elhaj)

    كل التعازى فى الفقيد
    انه فقد للحركة الشعرية والفكرية فى الوطن العربى
                  

10-23-2007, 11:28 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20472

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سركون بولص يُغادر العالم من برلين (Re: zumrawi)


    سركون بولص بصحبة أدونيس
                  

10-24-2007, 06:30 AM

Giwey
<aGiwey
تاريخ التسجيل: 09-03-2003
مجموع المشاركات: 2130

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سركون بولص يُغادر العالم من برلين (Re: osama elkhawad)

    سركون ...

    كان فينا (مظلّة) من هجير
    أو....
    تكأة من عناء....

    له الرحمة..

    ولكم العزاء...

    يا أصدقاء الشعر .. واللغة النديّة...


    نصّار
    الخواض
    إشراقة
    أبوذر
    عادل


    لكم الود


    عبد الرحمن قوى
                  

10-24-2007, 08:18 AM

Saifeldin Gibreel
<aSaifeldin Gibreel
تاريخ التسجيل: 03-25-2004
مجموع المشاركات: 4084

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سركون بولص يُغادر العالم من برلين (Re: Giwey)

    الاخ نصار سلام وتحايا مليئة بالحزن فالرحمة تتقشى سركون بولص فلقد كان لى شرف التعرف عليه فى Coffe Shope اى مقهى صغير فى ضاحية هيت اشبورى فى مدينة سان فرانسيسكو كان مالكه الصديق زهير مبارك سنادة حيث كان الشاعر سركس وثلة من اصدقائه يلتقون كل مساء اربعاء ينثرون الشعر فى ذاك المقهى وازكر جيدآ انه اعطانى رقم هاتفه وكان ملم وعارف بالكثير من شعر محمد المهدى المجذوب ومحمد عبدالحى بل وادهشنى عندما اخبرنى انه يحتفظ بكتاب للمرحوم الدكتور شرف الدين الامين عبدالسلام عن الهمبتة فى السودان وبدا يحلل لى فى مغذى ومبادئ الهمباتة ونصرتهم للضعفاء والمساكين ولكن للاسف لم اعرف قيمة هذا الرجل الا من خلال هذا البوسط فعليه الرحمة.
                  

10-24-2007, 05:19 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20472

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سركون بولص يُغادر العالم من برلين (Re: Saifeldin Gibreel)
                  

10-24-2007, 07:03 PM

nassar elhaj
<anassar elhaj
تاريخ التسجيل: 05-25-2003
مجموع المشاركات: 1129

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سركون بولص يُغادر العالم من برلين (Re: osama elkhawad)

    الصديق أسامة الخواض
    اضافات باهرة عن سركون بولص
    وهذه السيرة الشعرية والحياتية الحافلة عبر الكتابة
    والشعر والحياة وممراتها وتجاربها
    التي أضاءتها هذه الحوارات التي رفدت بها مسار الحزن والإحتفاء بسركون بولص
    وأيضا هذا الملف المتعددالإتجاهات والتجارب والأجيال والتقاطعات مع سركون بولص
    الذي نشر بجريدة الحياة، والذي أطلعت عليه من خلال اضافتك له هنا عبر رابطه ..


    الأصدقاء

    اشراقة مصطفى
    أبوذر بابكر
    عادل عبدالرحمن
    أبوذر بابكر
    عبدالرحمن قوي
    سيف الدين جبريل

    في محراب سركون بولص كتابة شعرية فذة وبديعة وها نحن نجتمع على نداءاتها
    وعلي رحيله الحزين
    له الرحمة أبداً
    والمحبة له دائما ولكم ...
                  

10-27-2007, 03:31 AM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20472

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سركون بولص يُغادر العالم من برلين (Re: nassar elhaj)


    سركون بولص بالزي العراقي
    ******************
    قصائـد لسركـون بولـص


    عَظمـة أخـرى لكلـب القبيـلة ([)
    الكرسي
    كرسيّ جدّي ما زالَ يهتزّ على
    أسوار أوروك

    تحتَـهُ يعبُرُ النهر، يتقـلّبُ فيهِ
    الأحياءُ والموتى

    الملاك الحجري
    حتى ذلك اليوم الذي لن أعودَ فيه
    إلى قصدير الأيام المحترقة، والفأس المرفوعة
    في يد الريح، أجمعُ نفسي، بكلّ خِرَق الأيام ونكباتها، تحتَ
    سقفِ هذا الملاك الحجري.

    هذا الحاضرُ المجَنَّح كبيتٍ يشبهُ قلبَ أبي
    عندما سحَبتهُ المنيّة من رسغه المقيَّد إلى جناح الملاك
    في تـُراب الملكوت.

    حتى ذلك اليوم، عندما يصعدُ العالمُ في صوتي
    بصهيل ألف حصان، وأرى بوّابة الأرض مفتوحةً أمامي

    حتى ذلك اليوم الذي لن أعودَ فيه
    مثلَ حصان مُتعَب إلى نفسي، هذا الملاكُ الحجريّ:
    سمائي، وسقفي.
    إلى سيزار فاييخو

    «من بين أسناني أخرجُ داخناً،
    صائحاً، دافشاً، نازعاً سراويلي...»

    سيزار فاييخو، «عجلة الإنسان الجائع»

    يا سيزار فاييخو، أنا من يصيح هذه المرّة.

    إسمح لي أن أفتح فمي، وأحتجّ على الدم الصاعد في المحرار
    دافعاً رايةَ الزئبق إلى الخلف. لتصطكَّ النوافذ، لتنجَرَّ ميتافيزياء الكون
    إلى قاع الأحذية الفارغة لجنديّ ماتَ بحَربته المعوجّة.

    «عجلةُ الإنسان الجائع» ما زالت تدور...
    من يوقفُ العجلة؟

    قرأتـُك في أوحَش الليالي، لتنفكّ بينَ يديّ ضماداتُ العائلة.

    قرأتُ عواصفكَ المُتململة حيثُ تتناوَمُ الوحوشُ في السراديب
    حيثُ المريضُ يتعَكّزُ، على دَرب الآلام، بعَصا الأعمى الذي رأى...

    وفي هذا المساء، يا فاييخو، تعلو الأبجديّاتُ وتسقط. المبنى ينهار، والقصيدة
    تطفئ نجومها فوق رأس الميّت المكَلـَّـل بالشوك. ثمّة ما سيأتي
    ليسحبَ أجسادَنا على مَجراهُ الحجريّ كاندفاعة نَهر.

    ثمّة حجر سيجلسُ عليه شاعرُ الأبيض والأسود في هذا الخميس.
    واليوم، أنا من يصيح.

    يدا القابلة
    ومن غير أن نولد، كيفَ نحيا مع الريح
    دونَ كفالات: يدُ النوم مُدْلاةٌ على مَهد الوليد حتّى
    تأتي الظلال.

    الصدى يعرفنا، آتياً من وراء العالم.

    تعرفنا خادمةُ اللـّه
    هذه التي تمدُّ جسراً بين دُنيانا والآخرة.

    الريحُ، والظلُّ، والجسر
    وبيوتٌ خشبيّة تترنّحُ قبل مجيء الإعصار.
    مَسقط الرأس هذا...

    وجهُ الحياة القَلِقُ، حيث ترتعدُ الولادة
    ويسقطُ الجنينُ صارخاً بين يديّ أمّ يوسف، القابلة.

    من الصُدفة
    منَ الصُدفة، من اصطدامها بالوقيعة
    أن تنتهي الحكمة مستقيمةً كشاقولٍ بباب الريح
    والعَقلُ نَقّارُ أسمالٍ في صندوق زبالة الفيلسوف.

    ومن الصُدفة، من انصدافها، أن أكون، أنا
    السائرُ بلا هدَفٍ محَدَّد، دائراً هنا كثـَور الطاحون
    حولَ محوَرٍ أشبه بالسارية، مرفوعةً، بلا عَلمٍ، وسطَ حياتي.

    في الليل وحده أستطيع أن أنادي
    من أريدهُ أن يُنادمَني، إلى هذه المأدبة الصغيرة في عَراء أيّامي.

    الطينُ، والجلدُ، هنا. طينٌ يغوصُ فيه زُعنفُ تيامات
    جلدٌ يَتسلّخُ عن صلعةِ إنليل. أنا المنتظرُ في بيت الخراب
    هنا حيث تجتمعُ الغربانُ والبيارقُ السوداء والعماماتُ واللـّحى
    في شجرة الأنبياء اليابسة.

    هنا ينفتحُ البابُ على شَذرةٍ من عُماي.
    أهذا يعني أنّ ناري ما زالت تَلهو بالخشَب؟
    أنا كنّاسُ السماء، ومكنستي المضلَّعة، من ريش أوهامي
    المختبَرة بالنار، وقشِّ جنوني المُتَذَرّي في كلّ هَبّة من هذه الريح
    هل من الممكن أنني أنسيتُها سرَّ القُمامة؟
    ينفتحُ الباب، وأرقدُ بكلّ حجمي في قلب الليل المريح مثلَ سرير.

    الناجي
    قاموسُ الندى، مُعجَمُ الأنداء الساقطة
    عبرَ الأفق المجَمَّرِعلى وجهي: أنا قَيلولة ذاتي.
    أنا ظهيرةُ أيّامي. أنا لستُ سوى هذه الصفحة المحترقة بنظرتي.

    الريحُ وحُنجرتي: أنا من يُنادي بين سارية المستقبل، وراية
    الماضي.

    أنا العَبدُ. أنا العاجز، بعُكّازينِ تحتَ إبطيَّ أعرجُ نحو المنتهى

    يتبعني الموتُ بأرجُلِ عنزةٍ سوداء.

    تتبعُ رأسي حربةُ الساحر ذاتُ الرأسين
    وأعرفُ أنني، رغمَ هذا، سأنجو لأروي الخبَر على الأحياء.

    لحظة الجندي
    تلك اللحظة التي أشِكُّ فيها حَربتي الصدئة
    جانبيّاً، بلا هِـمّة، في جَنب المسيح
    هو الذي يحتقرُ إمبراطوريّتي، وروما، كلَّ روما، بنظرة
    أنا الجنديّ التافه الذي قد يذكرهُ التاريخ بكلمة أو كلمتين
    لأنهُ أهانَ النبيّ، ألبَسهُ تاجَ شوكه، سَقاهُ خَلاًّ...
    أنا الدودةُ الحيّة في تُفّاحة العالم.

    تو فو في المنفى
    «دُخانُ الحرب أزرق
    بيضاءُ عظامُ البشَر».
    تو فو

    قرية يَصلُ إليها تو فو
    دَسكرةٌ فيها نارٌ تكادُ تنطفئ
    يَصلُ إليها عارفاً أنّ الكلمة
    مثل حصانه النافق، دون حَفنة من البَرسيم
    قد لا تبقى مُزهرةً بعدَ كلّ هذه النـَكبات!

    كم ساحة معركة
    مرّ بها تصفُرُ فيها الريح
    عظامُ الفارس فيها اختلطتْ
    بعظام حصَانه، والعشبُ سرعانَ ما أخفى البقيّة!

    نارٌ تتدفّأ عليها يَدان
    بينما الرأس يتدلّى والقلبُ حَطب

    هو الذي بدأ بالتـِّيه في العشرين
    لم يجد مكاناً يستقرّ فيه حتى النهاية.
    حيثما كان، كانت الحربُ وأوزارُها.
    ابنتهُ ماتت في مجاعة...

    ويُقالُ في الصين إنه كانَ يكتبُ كالآلهة!
    قرية أخرى يصلُ إليها تو فو
    يتصاعدُ منها دُخانُ المطابخ
    وينتظرُ الجياعُ على أبواب مَخبَز.
    وجوهُ الخبّازين المتصبّبة عرَقاً، مرايا
    تشهدُ على ضَراوة النيران.

    تو فو، أنت، أيها السيّد، يا سيّد المنفى.

    محمود البريكان واللصوص في البصرة
    حَبلُ السُرّة أم حبل المراثي؟

    لا مَهرَب: فالأرض ستربطنا إلى خصرها
    ولن تترك لنا أن نُفلتَ، مثلَ أُمّ مفجوعة، حتى النهاية.

    كلّ يوم من أيامنا، في هذه الأيام، جمعةٌ حزينة!

    ويأتيني، في الجُمعةِ هذه، خبَرٌ بأنّ البريكان
    ماتَ مطعوناً بخنجر
    في البصرة
    حيث تكاثرَ اللصوص، وصارَ القـتـَلة
    يبحثونَ عن... يبحثون، عَمَّ صارَ يبحثُ القتـَلة؟

    حتى هذا الشاعر الوديع لم يَنجُ، هو الذي
    كان يعرفُ منذ البداية لونَ القيامة، وهجرةَ الفراشة
    نحو متاهة العالم السفلي، حيثُ الليل، واللّـه، واحد.

    أكانت هذه معرفتك، هل كان هذا سرّك؟

    كنتُ أراك، أنتَ الملفَّع بغشاء سرّك
    بين حين وآخر، في مقهى «البرلمان»
    حديثنا عن رخمانينوف، عن موتزارت.

    واليومُ الذي أتذكّركَ فيه
    اليومُ الذي فيهِ بالذاتِ أراك:
    كنتَ اشتريت «صُوَر من معرض» لموجورسكي
    من «أوروزدي باك »...

    واللـّه أعلـَم كم كلّفتكَ تلك الأسطوانة
    من راتبك الضئيل!

    (سأُسمِعُها، في ذكراكَ، اليومَ، نفسي.)
    سأصغي... وها هو الخبَرُ يأتيني.

    حبلُ السُرّة انقطع، وامتدّ حبلُ المراثي.
    إنه الليل. نـَمْ، أيّها الشاعر. نـَم، أيّها الصديق.

    وصلت الرسالة
    قُلتَ
    أنك تكتب والقنابل تتساقط، تُزيلُ تاريخَ السقوف
    تَمحقُ وجهَ البيوت.

    قلت
    أكتبُ إليك بينما اللّه
    يسمحُ لهؤلاء أن يكتبوا مصيري. هذا ما يجعلني أشكُّ في أنه الله.

    كتبتَ تقول:
    كلماتي، هذه المخلوقات المهدَّدة بالنار.
    لولاها، لما كنتُ أحيا.
    بعد أن يذهبوا، سأستعيدها
    بكلّ بَهائها كأنها سريري الأبيض في ليل البرابرة.

    أسهرُ في قصيدتي حتى الفجر، كلَّ ليلة.

    قلتَ: أحتاجُ إلى جبَلٍ، إلى محطّة. أحتاجُ إلى بشَرٍ آخرين.

    وبعثتَ بالرسالة.

    الكمّامة
    اليوم أريد أن تصمتَ الريح
    كأنّ كمّامة أطبقَت على فَم العالم.

    الأحياءُ والأمواتُ تفاهموا
    على الإرتماء في حضن السكينة.

    لأنّ الليل هكذا أراد
    لأنّ ربّة الظلام، لأنّ ربَّ الأرْمِـدَة

    قرّرَ أنّ آخرَ المطاف هذه المحطّة
    حيثُ تجلسُ أرملة وطفلتها على مصطبة الخشب

    بانتظار آخر قطار ذاهب إلى الجحيم، في المطـَر.

    ([) عنـوان كـتاب يـوزع قريــبا عـن دار الجمـل
                  

10-27-2007, 05:36 AM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20472

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سركون بولص يُغادر العالم من برلين (Re: osama elkhawad)

    العالميــة بــدون بدعــة
    عباس بيضون
    *****************
    بدأ سركون في مجلة شعر، قصائده فيها باتت بعيدة ولن يغامر أحد بضمها الى مؤلفه. لكن الأمر يستحق عودة ما الى سركون العراقي، على الأقل، لاقامة نصاب تاريخي. لا بد ان شيئا كهذا سيردنا الى مراهقة خصبة. يمكن القول انه بدأ مبكرا جدا، لكن انظر ماذا بين يدينا، الآن، ست مجموعات شعرية لا غير. لقد عاش للشعر تقريبا فهل كان مقلا الى هذا الحد. بعض عشرائه يجزمون بالنفي. يقولون انه كان يكتب بوفره لكنه لا يأبه بالنشر. جاد الحاج نجح في ان ينتزع منه مجموعته الأولى... «الوصول الى مدينة أين»، لولا ذلك لما كان ليبادر. في كل مرة نشر تحت الحاح آخرين. ثم ان النشر ما كان في الغالب ضمن أي تسلسل زمني، آخر مجموعاته او ما قبل الآخر «كنت نائما في مركب نوح» يضم قصائد شبابه الاول (الأميركي) المدهشة. والأرجح ان «الوصول الى مدينة أين» اختير بدون أي حساب زمني. لا نعرف ماذا آخر سركون عن قصائد شبابه ولماذا تآمر عليها حتى ذلك الحين، لم أسأل سركون عن ذلك حينما التقيته مؤخرا في لوديف. كان منهكا للغاية وكنت أشفق عليه من كل شيء، بل اشفق على نفسي من ان أراه على هذه الحال. لا أذكر اني تبادلت معه حديثا طويلا (سوى مرة واحدة)، كان شاحبا ونحيلا للغاية كأنه رجع بهذه الهيئة من الأهوال. لم نعرف انه يحتضر تقريبا، لكننا شعرنا انه برئتيه الخربتين اللتين يمكن، لدى أي هفوة، ان تمتلآ ماء، ليس سوى سركون مختصر للغاية، سركون بحجم رئتيه. سركون في خط الدفاع الأخير. بعيد قريب حاضر غائب. وليس علينا ان نخوض معه في أي كلام يلهيه عن المعركة الصغيرة التي تدور في جسده. كنا نراه يطيل السهر ولا يطيل الكلام، يصغي غالبا لجار يصب كلامه في أذنه ولا يكاد يصغي الى الحديث الدائر حوله. لم نطلب منه حضورا اكبر، لم نستغرب سهره كأنما هذا الجسد الذي يرق اشبه بالسهر منه بالنوم. لم نحتج على شربه، لم نر في ذلك جناية على نفسه، كان رغم كل شيء يبدو محتاطا، لربما شعرنا انه بهذا الاحتياط والبعد يحمي نفسه، أم انه الشعور بأننا لا نستطيع شيئا بعد. قال سركون للبعض إنه مولّ، لكن الأمر لم يكن دراماتيكياً. لقد كان على الباب بدون ان ننتبه، تمهل كثيرا على المدخل. لم نكن، رغم كل شيء، نعرف ان الأمر هكذا، انه اطال الوقوف على المدخل لكي لا يقول وداعاً.
    لم نسأل سركون بولص عن مؤلفه، والأرجح انه ما كان يعترف باهماله. كان يريد ان يبدو دقيقا في حياته دقته في كلماته، مع كل ما يقتضيه ذلك من تمويه. لكن سركون مثله مثل السياب كتب لما بعد رحيله. لم يخف مؤلفه فحسب ولكن أخفى بالتأكيد حياة كاملة وعلى الذين يهتمون حقا ان ينبشوا عنه. لقد ترك وراءه في كل مكان شيئا ما وعلى من يهتم ان يسير على آثاره. ذلك ان سركون الذي كان ابن وقته اكثر من أي شخص لم يكن في وقته. كما لم يكن في أي وقت ولا في أي مكان، كان عابرا متخفيا لهما، كانت قراءته شبه مستحيلة على ضوء ظرف ما. يستحيل تقريباً ان نوازن بين شعره وبين تطلب ظرفي قد لا يكون اقل ترديا من الظرف نفسه. كثيرون من الشعراء، بل الكتاب، تكونوا في هذه الموازنة بل في ذلك التبادل. لقد اشبعوا في الغالب ظرفا بائسا وبدوا ناجحين بهذا المقياس. تفاعلهم مع زمنهم، وان بدا فعالا في لحظة، الا انه سرعان ما بدا تجارة اوهام، لقد أشبعوا أكاذيب ظرف وما كانوا لينجوا هم، بسبب ذلك، من الكذب. سركون الذي عاش في الأطراف ما كان حاضرا في هذه السوق، كان في الأغلب عند تقاطعات كبرى ووسط انجدال ظروف كثيرة ومتباينة فأجاب تقريبا، ان يكن أجاب، على هذه الكبكبة الزمنية المكانية، على هذه التقاطعات والتجاذبات المتفاوتة ولم يكن جوابه لذلك واحديا ولا مستقيما ولا ظرفيا، لقد احتاج الى كل هذه المسافة ليخلق ظرفه الخاص، احتاج اليها لكي لا يكون مطابقا ولكي لا يكون صنيعة وضع. شعره لذلك بدا وكأنه يكوّن دوامته الخاصة في كل الاتجاهات، بل بدا وكأنه يتخذ كثافته بل ومساحته من هذا التقاطع. انه شعر متقزح يمور من الداخل ويسطع كمنشور ضوئي من كل تكسراته. انه ايضا شعر مركب من عناصر شخصية وسردية وفكرية لكنه دائما، ومن الجملة الأولى، ينشئ مكانا، ومكانا حاضرا لدرجة اننا ننتقل فورا اليه. فالقصيدة عند سركون هي مساحة وطقس ومعالم، انها جغرافيا كلامية اذا جاز التعبير. قراءتها اشبه بتأمل مشهد، بل أشبه بالدخول الى مدينة جديدة، وحالما ندخل نترك ما وراءنا، نترك انفسنا لهذه الفرجة اذا جاز القول. يمكننا ان نتذكر هنا ما تفعله السينما فينا، اننا نجتاز الظلمة لنسلّم انفسنا لهذا العالم الذي يصلنا متشظيا لكن يجتمع بسهولة نسبية في مخيلتنا. شعر سركون بولص يتطلب فورا منا ذلك القطع، ذلك الانتقال، ثم انه ايضا يملك ذات السحر، ذات
    الحضور البصري والضوئي، ذات المدى والحيز والحجم والوضعة والترتيب والفضاء. بوسعنا ان نتخيل احجاما ونحن نقرأ سركون، هناك احجام عملاقة، ذلك يعني اننا هنا في عالم جيلفري، ثمة عين هائلة عندئذ تتجول في عالم من مردة وناطحات سحاب. لكن هنا ايضا عالم المصغرات. عالم منمنم او مخرم بالتفاصيل والايقاعات الثانوية. يملك شعر سركون بولص مقابلا فوريا مجسما الى حد ما. ان قراءته لا تعني تلك الصلة الصماء بكلمات وايقاعات مجردة، قراءته تبدأ فورا بهذا التحول الى ضوء ومدى وخليقة. ثمة هذا المعادل الذي ليس دائما واقعيا لكن ثمة أبنية ووجود وحركة حتى للمجرد. اذ تقال الأشياء بهذا النفس المحيي، تقال بهذا الصراع والعنف والمزاج والمفاجأة فلا تكون البتة مجردات. انها في أصعب القصائد وأكثرها غموضا تتلبس تلك الدراما وتدخل في شقاق عارم وتصرخ وتلهث وترن بالدهشة وتسطع بالمفاجأة فكأن في خلفية الكلام تلك الحكاية الغامضة التي تلتقط فقط تردداتها واصواتها وفواصلها العاطفية.
    كانت العالمية هي حلم الحداثة الشعرية العربية ولنقل ان كل الشعر يومذاك كان، في جانب منه، تخييلا لتلك المواكبة التي يلتحق فيها بالمسيرة العالمية المتخيلة. لنقل ان هذه العالمية كانت موضوع الشعر الخفي ومعناه الضمني، لكننا كنا نجازف هنا بنوع من النمذجة المتعسفة، بنوع من الكليشيه، بنوع من المحاكاة الفجة، بنوع من «البيان» العالمي. لقد حشي الشعر «الحديث» بمديح الحداثة وحشي بالتظاهر العالمي، مثل هذا النزوع كان غالبا ما يرينا الفرق واسعا وشاسعا بين ما نعرفه من شعر غربي وبين ما يجاريه في شعرنا. كان في الغالب اكثر من فرق تقني او شكلي رغم ان الهوة كانت واسعة في هذا المستوى، فالفرق كان في النهاية بين روح وروح وبين رؤيا ورؤيا. اذ تحويل العالمية الى هدف كان يجعل منها ضربا من البناء الفوقي للشعر، ضربا من الايديولوجيا الشعرية. هكذا تغدو الحداثة والتجديد شعارا يقال احيانا بحرفية، او يغدو ان موضع اعلاء وحض ومبايعة، بين اليوت والاليوتيين، وبين بيرس والبيرسيين، وبين نيرودا والنيروديين وبين بريفير والبريغيريين وبين... وبين... هذا الفرق الواسع او المزري احيانا. سركون بولص لا يخفي مثالا عالميا، لا يباري او يوازن شاعرا معروفا في الغرب، ولسنا بحاجة على كل حال الى نبحث له عن مرجع أو إلى ان نقارنه بأحد. شعر سركون لا يحتاج الى جواز عالمي، انه في الأساس داخل هذه العالمية. نقرأه فلا يدلنا الى شاعر بعينه لكنه يدلنا الى فكرتنا عن الشعر التي تكونت من تفاعلنا مع الشعر العالمي. لسنا نجد شاعرا معينا وراء سركون لكننا نجد تجربة اخرى تناظر وتقف في مصاف هؤلاء الشعراء، نجد هذا التركيب الخاص الذي يحمل لا بصمة شاعر فحسب ولكن تجربته بل وعالمه. انه سحر آخر ومغناطيس آخر وخيال آخر وقدرة أخرى على التحويل والدخلنة. انها سردية خاصة ومغامرة قائمة بذاتها. لسنا أمام مباراة ولا مواكبة ولا مديح للحداثة ولا تقربا منها، اننا أمام مد جارف آت من كل مكان لكنه يستقر احيانا في نقش سومري وفي لحن عراقي.
                  

10-27-2007, 06:09 AM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20472

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سركون بولص يُغادر العالم من برلين (Re: osama elkhawad)
                  

10-27-2007, 08:44 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20472

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سركون بولص يُغادر العالم من برلين (Re: osama elkhawad)



    سركـون بولـص فـي مجموعتـه الشعريـة الجديـدة


    «فظاعــة المحتــوى ونصاعــة الشــكل»


    كاظم جهاد
    *******
    المجموعة الشعريّة «عظْمة أُخرى لكلب القبيلة»، التي تصدر هذه الأيّام عن منشورات «الجمَل»، هي من أضخم أعمال الفقيد سركون بولص الشعريّة من حيث الحجم والامتداد في الزّمن والاشتغال على المعالجات الشعريّة الكبرى السّائد بعضها في سابق أشعاره. تزيد المجموعة على مئتي صفحة مطبوعة بالحرف الصغير، بلا تلاعب طباعيّ وبلا نيّة في إيهام القارئ بالضخامة أو الامتداد غير الفعليّ. قصائد يختلط فيها الذاتيّ بالموضوعيّ أو الفرديّ بالجماعيّ، ويتكافلان بما لا فكاك فيه. فالذّات الشاعرة تمّحي أمام خطاب التاريخ، والتاريخ يجد في صوت الشاعر أحد أهمّ هيآته الخطابيّة ومحلاّت تمظهره وامتحانه لذاته. والصّوت الذي يضطلع في القصيدة بضمير «الأنا» على نحوٍ معلن تارةً، ويمّحي وراء أقنعة أو تماهيات أو أمثولات دالّة طوراً، هذا الصّوت يوحي باعتلال لا شكّ أنّ الإحساس به ومكابدته قد سبقا تجربة المرض بسنوات عديدة. إنّ ثمّة دلائل على أنّهما كانا هنا منذ البداية، يشاطران في شعر سركون إحساسه المضادّ بالعافية وخروجه إلى العالَم واعتناقه تجربة العيش والحبّ والتّيه انطلاقاً من إرادة سائرة ومنفتحة، دون أن تكون، كما لدى البعض، اجتياحيّة أو غازية. عافية كانت، كما لدى رامبو وبعض كبار الشّعراء العرب والأجانب، لا تنفصل عن نقيضها التامّ المتمثّل في الوعي بهشاشة الذّات المغامِرة أمام فساد الأشياء، وهشاشة العالَم نفسه أمام قواه المناوئة التي تتولّد من صميمه ثمّ تروح تُطْبق عليه حصارها الأليم. وإذا ما أردنا أن «نُسقط» على سركون نفسه ما قاله لي ذات يوم في حوار معه منشور من أنّ «مرض السيّاب الأصليّ كان هو الشّعر»، فإنّنا لَواجدون في شعر سركون، وفي عالَمه الإدراكيّ كما يتمظهر في هذا الشعر، ما يشجّع على أن نرى فيه هو الآخر واحداً من كبار «المَرضى بالشعر»، وعلى أن ندرجه في سلسلة أولئك الفنّانين الذين كان جيل دولوز يرى فيهم «معتلّين كباراً» هم في الأوان ذاته «نطاسيّو حضارة مريضة».
    يمنح سركون في قصائده الأخيرة أشكالاً وصوَراً متعدّدة لهذا الاعتلال، بوجهَيه المتكافلَين، الاعتلال الأصليّ للحسّاسيّة الشعريّة وبها، والاعتلال المكتَسب من آلام التجربة وجراح الصّيرورة وانعطاب الجسد في لحظة مظلمة من تاريخه. بهذا التعدّد، وبإصراره الفريد على دوزنة العبارة الشعريّة وإخصاب الصّوَر والتشبيهات والكنايات والطباقات وسواها من حيل بلاغيّة تعمل لديه بخفاء وحنكة في آنٍ معاً، بهذا كلّه يحوّل سركون شعريّة الألم إلى مأثرة فنيّة ويُنقذ خطابه الشعريّ من كلّ نواح هستيريّ وسوداويّة عاجزة. كان ريلكه يقول إنّه يتمنّى أن يصبح «أستاذاً في الألم»، أي معلّماً في تطويعه وقوله. وعندما قرأ صامويل بيكيت نصّ جان جينيه «أربع وعشرون ساعة في شاتيلا»، المكتوب فورَ معاينة الرّوائيّ الفرنسيّ لآثار المجزرة، وصفَ شعريّة جينيه في نصّه المذكور كالآتي: «فظاعة المحتوى ونصاعة الشكل. كما لدى كافكا». هذه الموازنة، صانعة الفنّ العظيم، بين فظاعة التجربة الموصوفة ونصاعة اللّغة الواصفة هي ما ينتظره القارئ المثاليّ، أي تاريخ الأدب، من كلّ كاتب. بلا مازوخيّة وبلا ارتعاب، لا عن خوف من الألم ولا عن هيام مرَضيّ بالمرَض نفسه، يتعهّد شاعر من طراز سركون بالرّعاية تجربة الألم والانكسار التاريخيّ والذاتيّ ولا يجد بدّاً من أن يسوق هذه الحصّة من الآلام التي «عرَضتْ» له وألفاها في جسده يوماً، مثلما ألفى في داخله «آفة» الغناء وموهبة الشّدو، أقول يسوقها إلى شكلٍ يتمظهر ويسطع في توهّجه الخاصّ، «فردوساً عائمة فوق الأنقاض» كما يعبّر عزرا باوند، أو ملاذاً حصيناً في قلب الهاوية.
    بصورة مفارقة وبطوليّة بلا شكّ، يتعهّد شاعر كسركون بالعناية، إذَنْ، مرضَيه، الأصليّ والطارئ، الموروث والمكتسَب، «الطريف والمُتلَد» كما يقول طرَفة في معلّقته. يُثقّف من أجلهما صوته وعبارته. هذا التثقيف الحاذق، الذي يعرب عن عمق ثقافة وقوّة إرادة شعريّة، يتجلّى في مجموعة من «المهارات» الأسلوبيّة و«المناورات» اللّغويّة يتمكّن فعل القراءة النقديّة من تسميتها والتأشير على ما يصْلح منها لأن يكون قدوةً لممارسات شعريّة آتية. سركون نفسه ورثها من كبار شعراء الغرب والشرق وأضاف إليها من لدنْه. دائماً ينبغي أن نتذكّر أنّ سركون كان شاعراً كبيراً بقدر ما كان قارئاً كبيراً أيضاً. وأنا أتذكّر كيف خاطبَ هو ذات يوم، في أحد مقاهي باريس، صديقاً لنا كان يريد كتابة الشعر دون أن يمرّ بمحنة القراءة. قال له سركون، بذينك الحدب والتواضع اللذين كانا يغلّفان خطابه كلّما اضطرّته المناسبة إلى أن يفارق سجيّته ويقرّر أن ينصح أحداً: «إقرأ يا صديقي كلّ يوم وسترى كيف ينهمر الشّعر من كيانك ويخرج من مَنابت أظفارك».
    لاجتراح شعريّة (بمعنى «فنّ شعريّ») قادرة على المواءمة بين ما يدعوه بيكيت «فظاعة المحتوى ونصاعة الشكل»، يعمد سركون في هذه المجموعة إلى تجنّب الخطاب التصريحيّ والإيداع بعمله كلّه إلى الصّوَر والتشابيه والكنايات الدالّة. وبعمله على هذه الشاكلة فهو لا يقوم بما هو أقلّ من ردّ الاعتبار إلى بلاغة شعريّة هجرها الكثير من الشعراء العرب المُحدثين، مُفقرين بذلك، في اعتقادنا، لغتهم الشعريّة ومتسبّبين بشيوع هذه القصيدة النمطيّة والضامرة التي بات يشكو منها القرّاء والنقّاد ويتصوّر البعض ويُصوِّر أنّها من نتائج قصيدة النثر أو مجمل ما أسمّيه «الشعر الحرّ غير التفعيليّ». سركون، بالعكس من هذا كلّه، وكما لا يقدر عليه سوى شعراء قلائل من الناطقين بالضادّ، جاء ليُثبت أنّ العيب ليس في الأنواع الشعريّة الممارَسة، بل في شاكلات عمل ممارسيها. وبصنيعه هذا يُرينا هو أنّ الفنّ، إذا ما أراد أن ينال عمقاً معيّناً وقوّة إيحائيّة مؤكّدة، لا مناص له من أن يجرّب نوعاً من «الكلاسيكيّة» الإبداعيّة. بهذا المعنى يمكن القول إنّ سركون من أكثر شعرائنا جدّة لأنّه أيضاً من أكثرهم «كلاسيكيّة».
    صورة الأب
    لكي أبين عن عمل سركون هذا على إعادة إحياء بلاغة الصّورة والخطاب الشعريّين عبرَ أمثلة ملموسة، سأستغلّ هذه الحلقة التمهيديّة لاستعراض أواليّات القول في قصيدته الوجيزة «أبي في حراسة الأيّام» (ص 10). أشير، من أجل موقعة القصيدة في تجربة الشاعر، إلى أنّ سركون كان شديد التعلّق بأبيه. فهو من مادحي آبائهم حيثما ينصرف شعراء آخرون لتكريس صورة الأمّهات (وهناك بالطّبع من يعنون بصورة الأبوين بالتزامن وبالعدل، ولعلّهم أقلّ عدداً). مراراً عديدة توهّج سركون أمامي بالكلام على مآثر والده البسيطة والمكتنزة بالمعنى. فهو، أي أبوه، كان مثلاً يخلب ألباب جيرانه بالكلام، بصورة مسحورة وساحرة، على أحلامه التي يقول إنّه كان يتلقّى فيها زيارة السيّد المسيح ويحظى ببعض نصائحه وتوصياته. بهذه الإضافة الرّوحانيّة والرؤياويّة كان والده يستعين إذَنْ ليطوّع عناءه، عناء العامل اليوميّ المجهَد الذي تصوّره القصيدة. وللفائدة أضيف أنّ المرّة الوحيدة التي خاطبني فيها سركون بشيء من الحدّة أو الغيض طيلة صداقتنا الباريسيّة حدثتْ في مطعم تونسيّ في الحيّ اللاتينيّ ذهبنا لنتغدّى فيه يوماً. كنتُ من مرتادي المطعم وأعرف أنّ نادله ثقيل السّمع وأنّه ينبغي الكلام عالياً ليسمع هو طلبات الزبائن. بحكم كونه زائراً للمكان جديداً، ما كان سركون يعرف هذا التفصيل الضروريّ. ما إن رفعتُ صوتي ليفهمني النّادل الشيخ حتى صرخَ بي سركون بشراسة كان هو، خلافاً لما أشيع عنه (ولي إلى هذا عودة) قادراً عليها تماماً: «ما لكَ تصرخ به؟ إنّه بعُمر أبيك». وما إنْ عرفَ حقيقة الموقف حتّى غاص في ذكرياته وأمسكَ عن الكلام. أدركتُ في تلك اللحظة أنّه كان يراجع تاريخه وأنّ الصّمم النسبيّ للنادل أعاده إلى ماضيه، هو صاحب أحد الأبيات الأكثر انغراساً في ذاكرة العراقيّين الشعريّة، البيت الذي يقول فيه، في خاتمة رائعته «آلام بودلير وصلتْ»: «أيّها الماضي أيّها الماضي ماذا فعلتَ بحياتي؟». الحال، في هذا التدوير للعبارة البالغة الوجازة، في هذا الإطلاق للسؤال الجارح والمجروح بعدَ تكرار صيغة النداء مرّتين، أرى أنا أثر بلاغة مبرَمة. لا يهمّ أنْ تكون عفويّة أو مدروسة (ولدى شاعر كسركون هي عفويّة وفي الأوان ذاته منطلقة من ثقافة عالية: أوَ ليس الشاعر الحقّ هو مَن يحوّل معارفه المكتسبة إلى أداء غريزيّ؟). المهمّ هو أنّها لا تخطئ طريقها إلى هدفها المتمثّل في إحداث الأثر أو الرجّة. والمهمّ أيضاً هو أنّ أغلب ممارسي الشعر لا يقتدرون عليها. فليس معطى لكلّ كاتب أن يكون قادراً على العمل بوجازة فاعلة وعلى اجتراح ما يدعوه دولوز «ترنيمة».
    «أبي في حراسة الأيّام»، يقول عنوان هذه القصيدة التي يراجع فيها الشاعر مسيرة أبيه أو محنته. عنوان هو نفسه، وبادئ ذي بدء، إشكاليّ. على أنّها إشكاليّة مضيئة، أي تتيح ثراءً للمعنى وتعدّدية تأويليّة. بباعث من القراءة المزدوجة التي يتيحها منطق الإضافة في «حراسة الأيّام»، لا تدري هل الأب هو «المحروس» من لدن الأيّام أم هو «حارسها» (لا شكّ أنّ القراءتين تتكافلان وتدعم إحداهما عمل الأخرى). في القراءة الأولى، يكون الأب هو كائن الطّيبوبة، المتطامن، بالرّغم من فداحة فقره وكثرة عنائه، إلى «حراسة الأيّام» له وشفاعة الزّمن أو المصير أو عُمره هو نفسه (تعدّدية معنى «الأيّام» في العربيّة)، أقول شفاعتهم له. في القراءة الثانية، يكون الأب هو مَن يمارس هذه المهمّة شبْه الملائكيّة أو القدّيسيّة، المتمثّلة في أن «يحرس» الأيّام ويوصل الزّمن إلى قراره. في جميع الأحوال، إنّه يندرج في فئة أولئك الأفراد الاستثنائيّين الذين يدعوهم رنيه شار تارةً «الصباحيّين» وطوراً «الشّفافين»، أفراد يلخّصون بحضورهم الوجه الأنقى للحياة ويزيلون الفواصل بين المرئيّ وغير المرئيّ. رنيه شار نفسه الذي يتكلّم أيضاً عن «تحيّة البسطاء» (حرفيّاً: «صباح خير البسطاء»، «بونجور البسطاء»).
    حتّى يصّور سركون عناء الكائن «الصباحيّ» الذي كانه أبوه، يلجأ إلى تشبيهات واستعارات أليفة وبارعة الاختيار يستدعي انتقاؤه لها ورصفه إيّاها في عبارته الشعريّة تحليلات بلاغيّة طويلة (ومن أسفٍ أنّ النقّاد العرب طالما عزفوا عن التحليل البلاغيّ، وإذا ما مارسوه سقطوا في فخاخ الخطاب الأكاديميّ أغلب الأحيان). كتبَ سركون:
    «كان أبي، في حراسة الأيّام
    يشرب فنجانَ شايهِ الأوّل قبلَ الفجر، يلفّ سيجارته الأولى
    بظفر إبهامه المتشظّي كرأس ثومة.
    تحتَ نور الفجر المتدفّق من النافذة، كان حذاؤه الضّخم
    ينْعس مثلَ سُلحفاة زنجيّة»
    بين العناصر الأربعة الأساسيّة («ظفر الإبهام» و«رأس الثومة» من جهة، و«الحذاء الضخم» و«السلحفاة الزّنجيّة» من جهة ثانية)، ترتسم إحالات متبادَلة وأواصر بلاغيّة ودلاليّة ينبغي تسميتها بدقّة مهما كان من مبلغ البساطة التي يفرضها الشاعر على المقطع، بساطة هي في الحقيقة ثمرة تفكير وعناء وعمل واجتهاد. لا يكتفي الشاعر بالنّعت (ظفر الإبهام متشظّ، وهنا بيان أوّل عن آثار كدح الأب اليوميّ على جسده نفسه)، بل يردفه بالتشبيه البليغ: يشبّهه برأس ثومة، صورة آتية من عالم الأب اليوميّ ذاته، وفي هذا تعبير عن «طبيعيّة» الشيء أو قربه من المنال أو واقعيّته (لا حاجة للإغراب أو التغريب في عالَم هو نفسه شديد الغرابة)، وكذلك عن كونه مهمَلاً وغيرَ ذي بال (هل أقلّ تواضعاً وتعرّضاً للنسيان وتفكّكاً من رأس ثومة؟). بفضلِ منطق كنائيّ شديد الحضور في قصائد سركون، تفيض دلالات «رأس الثومة» هذا على صاحب الإبهام نفسه: هو مركون في ظلمات واقع يتخطّاه ويسحقه كما يكون «رأس ثومة» مركوناً في مطبخ بسيط أو في حجرة هريٍ متربة ومظلمة. من علاقة ثنائيّة بسيطة (الأب وإبهامه المتشظّي المستدعى ككناية عن انسحاقه أو اعتلاله)، يرقى بنا خطاب سركون الشعريّ إلى ثالوث بلاغيّ يشحذ فيه كلّ من «الأب» و«الإبهام» و «رأس الثومة» القوّة التعبيريّة للعنصرَين الآخرَين.
    أواليّة التشبيه نفسها وقوّة العمل الكنائيّ عينه تسريان في الصورة الثانية التي يتلقّى فيها «الحذاء الضخم»، حذاء الأب، توصيفاً مزدوجاً هو أيضاً. فلا يكتفي الشاعر، كما كان سيفعل متدرّب في صنعة القصيدة، بالفعل «ينْعس»، بل يشبّه الحذاء بـ «سلحفاة». ولا يكتفي بهذا أيضاً، بل ينعت السلحفاة (التي هي الحذاء) بـ «الزنجيّة». ثمّة في البيت، إلى ذلك، طباق فعّال وتعارض قويّ: «تحت نور الفجر المتدفّق من النافذة» ما يزال الحذاء «ينعس»، ملتحفاً ببطئه أو تكورّه الخاصّ (السلحفاتيّ)، مفصحاً، على سبيل الكناية مرّة أخرى، عن تململ صاحب الحذاء وضآلة الرّغبة لديه في مواجهة أعباء يوم آخر سيجابه هو فيه «وحوش النهار»، وهو ما نقرأه في المقطع التالي من القصيدة.
    التناص
    هناك أيضاً قوّة الاستلهام أو التناصّ التي تجعل تراثاً واسعاً يعمل في النصّ. إنّ قارئاً هو على درجة من الاطّلاع الفنيّ لا يسعه إلاّ أن يتذكّر أمام هذا «الحذاء الضخم» الذي «ينْعس» لوحة فان كوخ الشهيرة التي تصوّر حذاءين فلاّحيّين مركونين في زاوية، وينطقان، على سبيل الكناية، وفي ما وراء خرس الأشياء، بعناء حاملهما الغائب والذي لا نعرف عن مصيره الخاصّ أكثر ممّا يقوله لنا حذاءاه هذان. وإذا كان القارئ على درجة من الاطّلاع الفكريّ أيضاً، فقد تعود إلى خاطره مقالة هايدغر الشهيرة التي أحال فيها حذاءي فان كوخ هذين إلى تجربة الكائن بعامّة. كما قد تنبثق في ذاكرة القارئ مقالة دريدا عن العمل نفسه، يفارق فيها قراءة هايدغر ويقرأ اللوحة من منظور مُغاير. لا يهمّ بالطبع أن يكون قارئ ما أو عدد من القرّاء غافلاً عن هذا التراكم الفنيّ والثقافيّ، فالمقطع الشعريّ لا يستند إلى هذا وحده، وتظلّ عناصره الأخرى عاملة بامتلاء. أمّا قوّة التناصّ فتبقى (كما في العادة) مبثوثة فيه بما هي وعد بقراءة مركّبة ودعوة إلى تأويل متعدّد. لكنّ قوّة التناصّ تبدو أكثر جلاءً في تشبيه سركون للحذاء الضّخم بـ «سلحفاة زنجيّة». لم يقل «سوداء» ولا «كالحة»، بل اتّجه اختياره إلى «زنوجتها». هنا تلتمع إحالتان ممكنتان. تحيل الأولى إلى قول المعرّي في إحدى أشهر قصائده في الأرَق: «ليلتي هذه عروسٌ من الزّنج...»، فيضيف التراث قوّتة الشعريّة إلى رصيد الشاعر الجديد. وتزّجنا الثانية في واقع الزّنوج، هذه المجموعة الأثنيّة التي طالما التقاها سركون في معيشه الأميركيّ وتماهى ولا شكّ وشرطَها المهمَّش وحفظَ صرخات تمرّدها. التراث والواقع هما إذَن المنبعان اللذان ينهل منهما الشاعر لتفجير صورة «ملتبسة» بين الليل والفجر، ويزيدها السّياق الذي يُدخلها هو فيه، كما لاحظناه أعلاه، ديناميّة وتعارضاً وقوّة.
    بعد أواليّات «الإنشاء» الشعريّ هذه يمارس المقطع قبل الأخير عمله «الإخباريّ» بمنتهى الطبيعيّة، ولا يخدشنا ما نرى فيه من مباشرة تقريريّة ما دام الشّاعر مهّد لها بمقاربة إيحائيّة وتصويريّة. تقرأ في المقطع المذكور:
    «كان يدخّن، يحدّق في الجدار
    ويعرف أنّ جدراناً أخرى بانتظاره عندما يترك البيت
    ويُقابل وحوش النهار، وأنيابها الحادّة»
    مشكلة الشعر السّهل أنّه يكتفي بالأسلوب التقريريّ أو الخبريّ الذي يميّز هذا المقطع. «الخبر» لدى سركون وبقيّة الشعراء المجوِّدين هو بالعكس جزء من كلّ. ومن تضـافر «الإنشاء» و«الخبر» يستمدّ التقرير النهـائيّ المعبَّر عنه بصيغة نفي مزدوَج مضاءه ويضــطلع بوظيفة اختتام القصيدة:
    «لا العظْمة، تلك التي تسبح في حساء أيّامه كإصبع القدَر
    لا، ولا الحمامة التي عادتْ إليه بأخبار الطوفان.»
    يلاحظ القارئ قدراً من الاقتضاب كبيراً في هذا المقطع الختاميّ. فلا فعلَ يأتي ليوضّح دلالة النفي المزدوج هذا. لكنّ القارئ الذي يدرك أنّ الإيحاء هو إحدى وسائل الشاعر التعبيريّة، وأنّ عناصر القصيدة يضيء بعضها البعض ويفيض بعضها على البعض بمجرّد تجاورها (منطق البدليّة الشعريّة)، يفهم بلا عناء أنّ «وحوش النهار وأنيابها الحادّة» هي ما سيلاقيه الأب في رحلته اليوميّة وليس كفاف يومه (العظْمة الهيّنة السّابحة في الحساء اليوميّ في فقرها الفاضح الذي يجعلها، في استعارة هي الوحيدة في هذه القصيدة التي يسود فيها منطق التشبيه، أقول يجعلها شبيهة بإصبع القدَر الحاملة وعيداً وتهديداً). لا كفاف يومه إذَنْ، لا ولا الحمامة التي عادتْ له ذات مرّة بأخبار الطوفان، والتي ترمز إلى أفقه الرّؤياويّ وصبوات روحه ومبعث تفاؤله (سبقَ أن قلتُ إنّه أب يؤمن بأنّه كان ذات يومٍ صاحب رؤى ومشاهدات). هنا أيضاً، وبصورة أكثر وضوحاً، يعمل منطق التناصّ والتبادل الكنائيّ: عبر حكاية الطوفان، ينتصب الأب الفقير باعتباره الأب ـ النبيّ، أبا الإنسانيّة جمعاء، ويضطلع بفداحة شرط نوح نفسه عندما خاض محنة الغرق والبحث عن اليابسة وملأه بالرّعب إمكان زوال النوع البشريّ. كلّ يوم كدحٍ وعناء وفقر وانسحاق هو كمثل تجربة طوفان قاسية يخوضها بكامل جسده ووعيه نوحٌ جديد. هكذا، وعلى وجازته، يمتلئ النصّ بالإحالات الواقعيّة والتاريخيّة والأسطوريّة والأدبيّة. يبقى أن نضيف أنّ البيتين الأخيرين يأتيان ليحلاّ لغز نفي مزدوج كان الشاعر قد وضعه بصيغة مقتضبة أو مبتورة (ومغايرة نوعاً ما) في بداية القصيدة. فهذا النصّ بيته الأوّل هو التالي: «لم تكن العظْمة، ولا الغراب». بتر متعمَّد يدفع القارئ إلى انتظار إضاءته في بقيّة مقاطع النشيد. بتر يشحذ رغبة القارئ ويتواضع معه على لغز تمهيديّ سيجد ولا شكّ حلّه. سوى أنّ ابتداء القصيدة بـ «الغراب» الذي أرسله نوح للبحث عن اليابسة ولم يعدْ، واختتامها بـ«الحمامة» التي تعود حاملة في منقارها غصن زيتون، إلى كونهما يحميان القصيدة من خطر التكرار، إنّما يموقعانها هي ومعيش الأب خارج حدّي التفاؤل والتشاؤم. فلا الغراب ولا الحمامة، لا نذير شؤم ولا بشير خير، لا شيء سوى معاناة مكرورة و«عاديّة» لم يعد وراءها ما يُختشى ولا ما يؤمَل. هذا ما أراه في تجاوبات هذه القصيدة، وهناك بالطبع قراءات أخرى ممكنة.
    ألفتُ أخيراً الانتباه إلى إصرار سركون، إصراراً يميّز عمله الشعريّ كلّه، على استخدام «التشبيه» حيثما يعمل شعراء معاصرون كثيرون بمنطق «الاستعارة»، متوهّمين أنّها هي السبيل الوحيد لاجتراح صورة شعريّة. التشبيه متواتر الحضور في شعر الماغوط أيضاً، سوى أنّه أقلّ اكتنازاً بالمفاجآت والإحالات الدّالّة منه لدى سركون. والتشبيه لدى هذا الأخير يتجلّى في أشكال عديدة. ذلك أنّ «كاف» التشبيه و«مثْل» و«كأنّ...» وسواها يمكن أن تظهر لديه كما يمكن أن تعمل بالإضمار، وفقاً لما دعوناه منطق «التجاور» و«البدليّة». سوى أنّ الحضور الملحّ لأدوات التشبيه هذه ينطلق من إرادة في إجبار القارئ على التحديق جيّداً بالمفارقة التي يتفتّق عنها التشبيه. فكأنّ الأداة هي هنا لإلجام وعي قارئ القصيدة ومنعه من كلّ استعجال قد تسقطه فيه سهولة بعض الاستعارات الشعريّة.
    في فقرة قادمة (أو فقرتين قادمتين)، سأحاول الإبانة، أوّلاً، عن ممارسة سركون لمقاومة شعريّة وثقافيّة تطبع في اعتقادي بالبطلان نعت الشاعر أدونيس له بـ «المُحايد»، وكذلك نعت صديقي الشاعر سعدي يوسف له بـ«غير السياسيّ». سأبين عن كينونة سياسيّة أو سياسة شعريّة تتخطّى سياسية السياسيّين وبلاغة الشّعارات ومنطق الانضواءات الحزبيّة أو المذهبيّة. وثانياً، سأسعى، مخالفاً السّائد، إلى توضيح كيف أنّ تدخّل سركون الحاسم والخطير في الشعر العربيّ لم يتمثّل في إنعاش «قصيدة النثر» (وهو لم يمارسها إلاّ لماماً)، بل في تجذير إيقاع «القصيدة الحرّة غير التفعيليّة» وشروط كتابتها. وسأكتب في هذا الاتّجاه لا لأنفي إسهامة سركون في تطوير قصيدة النثر العربيّة، بل لأثبت أنّ الاستمرار في الخلط بين الأشكال الشعريّة وإطلاق تسمية «قصيدة النثر» على كلّ نصّ شعريّ لا يأخذ بإلزامات العروض الخليليّة، حرّة كانت أو مقيّدة، هذا الخلط الذي لستُ أوّل من يشير إليه، يحرمنا من فرصة تقييم فعل سركون الشعريّ نفسه وتقديره حقّ قدره. فليكن رصد مجموعته الشعريّة الجديدة مناسبة لتجاوز سوء فهمٍ باتَ شديد الإضرار لعلاقتنا باللّغة وبالقصيدة.
    (باريس)
                  

10-28-2007, 02:13 AM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20472

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سركون بولص يُغادر العالم من برلين (Re: osama elkhawad)



    عوليـس عراقـي رحـل خـارج المتـن الشـعري العربـي

    عابد اسماعيل
    *********
    إن ميزة سركون بولص الأقوى هي تطويع الوجد الرومانسي، الذي ورثه شعراء الستينيات عن بدر شاكر السياب، متأثّرين جميعاً، وإن بدرجات متفاوتة، بحساسية هذا الرومانسي المتأخّر، المتأثّر بدوره بالقصيدة الإنكليزية الحديثة. لكن بولص آثر أن يتكتّم على الكآبة السيابية، فأبقاها مطمورة تحت رماد ثقافته الغربية، الأكثر رصانة وقوة. ترك بولص بلاغة السياب وذاتيته القاتمة، واحتفظ بذاك الحدس الفجائعي الهادئ، الذي يشكل جوهر رؤياه الشعرية للعالم. هذا الحدس جعله يروّض العاطفة السيابية، ويصقلها لتظلّ منحرفة عن نموذجها الأعلى، ولتسدّ فراغاً تركه غياب التفعيلة من قصيدة النثر الحديثة. لكن بولص لم يترك الإيقاع بتركه التفعيلة، وبدل أن يكتب قصيدة النثر «َُِّْم ُِمٍ» بمفهومها الحديث، اختار الشعر الحرّ «نْمم ًّمَّْم»، الخالي من الأوزان والقوافي، لكنه الغني بالإيقاع، والمموسق بمكائد البلاغة وحيلها الرّمزية. وقصيدة بولص موقّعة أيضاً بتلك العاطفة الصامتة، ذات النبرة الخافتة، والحياء التعبيري، فهي تختزن عذابات وجودية بكماء، ذاتية وكونية معاً. وهو، إذ يهجر الموقف الذاتي الغنائي، يختار الموضوعية التعبيرية، القائمة على التضادّ والمفارقة «ِفْفلٍُّ»، ويقيم عند تخومها، لكي يدوّن ألم الكينونة، الفجّ والعاري، مثله مثل العديد من أبناء جيله، كفاضل العزّاوي، المولع بسرد العدم، أو عباس بيضون المفتون بجماليات القطيعة، أو وديع سعادة الشغوف بفلسفة الهباء. لكنّ بولص يكتب من وحي تلك الفجوة «الإليوتية» التي يراها تتّسع وتمتدّ أمامه، والتي تفصل الذات عن العالم، واللغة عن الواقع، وتقذفُ باليقين إلى مهب الحيرة. وككل الحداثيين الكبار، يركّز بولص في شعره على معنى اللا نتماء، وقسوة الإقامة في التيه الوجودي، ما يعني بالضرورة حيرة اللغة إزاء دلالاتها، وتأرجحها الدائم بين الغياب والحضور: «هذه الكلمات، أبداً، تهبّ في مفترق الطرقات/ بين النوم واليقظة».
    متأثراً بجيل البيت «قمفُّ» الشعري، وحساسية الثورة الثانية في الحداثة الأميركية، التي رسم معالمها آلن غينسبرغ في ديوانه (عواء)، وجاك كرواك في روايته (الغداء العاري)، في مطلع الستينيات من القرن الماضي، تعلّم بولص أن يصطاد لحظته الجمالية بشغف المتصوف، وحذر العدمي، غائصاً في عمق اللاوعي الكوني، مستخرجاً صوراً ملغزة وصادمة، فائقة الرّوعة، ومدوناً أحلام ذات تنبذ ذاتيتها، وتصير هروباً. فالأنا المتكلّمة في شعره هي أنا هاربة، فارّة من تقليد رومانسي أعلى، لا تبوح بقدر ما تتكتّمُ، ولا تُظهِرُ بقدر ما تُخفي، وربما لا تكشفُ بقدر ما تحجبُ. إنها تلك «الأنا» التي تقدّم نفسها دوماً كقناع، كما في مجمل شعر الحداثة. ففي قصيدة (سقط الرجل)، مثلاً، يكتب بولص عن تراجيديا وجودية فردية، كونية الأبعاد والدلالات، لرجل انحنى فجأةً على ركبتيه، في ساحة عامة، كأنما بسبب ألم مفاجئ، أو بسبب قوة عليا غامضة، إلهية أو شيطانية، أو ربما بسبب ضربة حزن مباغتة: «هل قضى عليه الحزنُ بمطرقةٍ يا تُرى؟» لكنّ بولص، في هذه القصيدة المكثفة، المنسجمة بنيوياً وتعبيرياً، يؤكّد ثيمة السقوط بإطلاق، ربما سقوط آدم من الجنة دينياً، أو سقوط الإنسان من إنسانيته داروينياً، أو سقوط الوعي الفردي فرويدياً، وربما سقوط اللاهوت الجمعي نيتشوياً، لكنّ الرّجل ـ القناع، في النهاية يسقط، ونكاد نسمع صوت ارتطامه الخافت في هذه القفلة الرائعة للقصيدة: «سقط الرجلُ فجأةً مثل حصانٍ/ حصدوا ركبتيه بمنجل».
    في استرجاع صورة سركون بولص المنسي في منفاه، استرجاعٌ لصورة الشاعر المفتون بالسفر دائماً، منذ مغادرته كركوك إلى بغداد، ومنها إلى بيروت ثمّ إلى سان فرانسيسكو، التي احتضنته لأكثر من ربع قرن. وفي هذا الاسترجاع تحضرني بغرابة تلك الكلمات الختامية لتنيسي ويليامز في مسرحيته (الحديقة الزجاجية) التي يسوقها على لسان بطله الشغوف بالسفر، توم، والتي تقول: «تنقّلتُ كثيراً. كانت المدنُ تتطايرُ حولي كأوراق ميتة، أوراق ساطعة الألوان، سُلِخَت عن أغصانهِا وتطايرت. كان يمكن لي أن أتوقّف، لكنّ شيئا ما كان يلاحقني. يهبطُ عليّ في غفلتي، ويباغتني. لعلّها مقطوعة موسيقية مألوفة. لعلّها مجرّد نثرةٍ من الزّجاج الشفّاف». لا أتصوّر أنني أتذكر هذه الكلمات عبثاً، ففيها الكثير مما يصف حياة وشعر سركون بولص، حتى ليخيل للمرء أن بولص وليس ويليامز، هو من كتبها. والقارئ لقصائد بولص يجد أنها مكتوبة حقاً عن مدن هاربة، أبطالها جوّابو أحلام، يتنقّلون كثيراً بين الموانئ والمحطّات، مطاردين بأشباح وأطياف شتّى. حياة مشدودة إلى وتد، تتحول بين يدي بولص إلى منحوتة زجاجية، تتناثر لحظاتها إلى أسرار شتّى: «ها هي حياتك مشدودة من شعرها/ إلى وتدِ الأيام، كأنهّا امرأة/ تريد أن تبوح لكَ/ بأوّل الأسرار/ وآخرها». ووراء هذا البوح، يكمن ألم وجودي عميق، مردّه الشعور بعبثية الأشياء، وسقوط الكائن فريسة للضياع واللا جدوى: «ثم كانت الأيام/ ودسّ أحدهم بين يدي/ هذا العود، وعلّمني كيف أغنيّ/ بهذا الصوت الجريح».
    ولأن بولص يجيد الإصغاء إلى بوح الحياة، نراه يبحث عن معادل موضوعي لها في تلك القصيدة الحرّة، الشرسة والحزينة، التي تطارده ويطاردها. القصيدة التي تشبه الحياة ذاتها. القصيدة الشفافة، الحية، الغنية بإيقاعات العالم. لا ذهنية ولا فلسفية. قصيدة رشيقة، غنية بالإيقاع الداخلي للتراكيب، إيقاع النثر الذي تحوّل بين يدي هذا الشاعر، بوجه خاص، إلى ندّ حقيقي لإيقاع التفعيلة. وهي قصيدة متحركة، تنام على حلم وتستيقظ على حلم. أقصد أنها ليست قصيدة دوغمائية ساكنة. أي ليست رهينة مقولاتها النظرية أو النقدية. ففيها الكثير من رغبة التجريب والمغامرة، على صعيد البنية والموضوع. ولعلّها القصيدة ـ الرحلة (يَُِّْمۖ ُِمٍ) بامتياز. القصيدة الزورق التي تهب عليها الريح، ويأخذنا المدّ إليها، وتأخذنا، نحن قرّاءها، إلى شواطئ مجهولة، بعيدة وآسرة. ولأن بولص مدمن سفر، يتحوّل المتكلم في قصيدته إلى عوليس آخر، لا يهمّه الوصول إلى ميناء أو محطّة، بل تغويه الرحلة ذاتها، فالسفر غاية لا وسيلة. في إحدى قصائده يسأل: «هل أغرتكَ السفنُ إلى هذا الحدّ/وسرتَ كما قلتَ/ على الماءِ؟» كأنما للتدليل على شفافية الرحلة وصفائها، وربّما على عبثيتها وخفّتها، أي خلوها من كلّ هدف أو غاية، تماماً مثل هذا السير الخرافي فوق موج المجاز. وما العنوان الأخير (إذا كنت نائماً في مركب نوح)، الذي خصّ به مختاراته الشعرية الصادرة عن دار الجمل، قبل سنوات، سوى تأكيد إضافي على شغف بولص بالرحيل والارتحال والسفر. هذا إذا لم نذكر كتابه الشعري الأول، (الوصول إلى مدينة أين)، المفتون بالموانئ والمدن والترحال، والذي يبدأ، بكلمةِ «وصلتُ»، وينتهي بكلمة «ذهبتُ»، وبين الوصول والذهاب رحلة مفتوحة على المجهول، تبدأ ولا تنتهي.
    وإذا أردنا أن نبحث عن مرجعية جمالية للشاعر، فإننا لن نجدها في شعر أدونيس مثلاً، المفتون بالرؤيا الميتافيزيقية، أو في شعر سعدي يوسف، الشغوف بالسّرد الزماني، أو في قصيدة أنسي الحاج المائلة إلى عذوبة إنجيلية نادرة، أو في كآبة محمد الماغوط المتضورة وحيدةً في عراء المفارقة. ربما كان بولص، من دون أن يدري، يقيم خارج المتن الشعري العربي كلّه، ليس بفضل إقامته الطويلة في منفاه الاختياري، واحتكاكه المباشر بالثقافة الأميركية فحسب، بل ربما بسبب رؤيا فريدة للشعر، تمثل خلاصة فهم عميق لتقليدين شعريين قويين، غربي وعربي. وهي رؤيا المقيم المهاجر في منفاه وثقافته ولغته، المنتمي واللا منتمي في آن واحد. وهذا المكوث بين لحظتين حضاريتين ولغويتين مختلفتين جعلت الصوت الشعري أكثر تفرّداً واختلافاً، وربما أقوى حضوراً وتأثيراً. ونعلم أن بولص ليس بشاعر بلاغة إنشادية ملحمية، مثلما هو حال أغلب معاصريه. لكنه نحّات الومضة الشعرية الخاطفة، وصاحب الضربة المجازية الرفيعة، التي تجعل الشكل توأماً للمضمون.
    هي، إذاً، قصيدة سركون بولص وحده. القصيدة المسكونة بألحان خفية، ونثرات زجاج شفّافة ومشعّة. نثرات مضيئة، تؤلف شعراً طبيعياً «كالدّم والكحول وورق الشجر»، على حدّ تعبير عباس بيضون، تتأمّل ذاتها في مرآة اللغة وتحلم بالديمومة: «أجمع نفسي/ عارضاً وجهي للبرق/ وأنا أهذي بانتظار أن تتركني الموجةُ/ على شاطئ مجهول/ مقيداً إلى حجر». من هذا الحجر تولد تلك النثرات الوجدانية والشعورية والفكرية واللغوية، ثم تنصهرُ وتنصقلُ تحت مطرقة المجاز الرفيع، لتنطلق وتطير مثل شهبٍ في ليل دامس.
    (دمشق)
                  

10-29-2007, 04:27 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20472

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سركون بولص يُغادر العالم من برلين (Re: osama elkhawad)

    تذهب الأغاني تجيء المراثي


    حين استولينا على المقاعد في المقهى، كان سركون بولص قد غادر الوطن كله إلى غير رجعة. لم يكن كسواه من المسافرين، كانت لديه الكثير من الرقى الشخصية التي تدلنا عليه غير أنها كانت تخفيه عنا في الوقت نفسه. قصائده تلك أنكرت كل سلالة عراقية ممكنة. بطريقة أو بأخرى، تخيلنا سركون بولص هذا شكلا من أشكال الإنقاذ الرسولي الجاهز الذي لا يخضع لأي وصفة شعرية مسبقة. كان حضوره نوعا من الغياب الذي يبعث في الناظر شعورا هادئا بالخريف. جعلناه موجودا بصورة مختلفة، لا يدانيه فيها أحد من جيله الستينيين، ولا من جماعته الفتية القادمين من كركوك. كان الشاعر فيه يعدنا أكثر مما تشي كلماته التي كانت تصلنا حائرة، ملتفة بترددها، ومصوغة بطريقة تقبل اللبس دائما، هناك نوع من الغموض قد صنع هالة هذا القديس الهارب من الدير بدفاتر الآباء الموتى. كنا نضع تحت كل كلمة منه خطاً، كما لو كنا نقرأ رسالة مشفرة من ملاك. ليس لأن قصائده كانت غامضة، ولا لأن عوالمه كانت مركبة، بل لأنه لم يكن يستعمل اللغة بقدر ما كان ينظفها وينقيها من الشوائب ليكتفي بمادتها اللينة التي ينحت منها كلماته. مثل الألم، يحضر يسر لغته مكثفاً، وهو ما لا يفعله إلا القلة من الشعراء، أولئك الذين لا يرغبون في صناعة المعجزات البلاغية، ولا ينامون بين صفحات المعاجم.
    "أقل ممّا يكفي، أكثرُ ممّا نحتاج"، يقول لنكفّ عن الوصف.
    "تنزل الفأس، وما من حطّاب/ لا الغابة، بل الشجرة/ وحدها، تتلقّى الضربة". منذ قصائده التي نشرها في مجلة "شعر" بداية الستينات وقف سركون بولص خارج كل حماسة شعرية محتملة. شعره غير العراقي (وفق التصنيف المعادي لمفهوم الشعر المطلق)، وضعنا إزاء تحدّ مختلف، كنا نرى فيه سلوكا شعريا قائما على التمرد من خلال صياغة الجملة الصلبة، غير المائعة، المكتفية بذاتها، المراد منها لا يغادرها. تلك الجمل كانت تهبط على ألسنتنا لتستقر هناك زمنا طويلا من غير أن تلحّ على تفكيك معانيها أو تتخلى عن عذوبتها، ذلك لأنها لم تكن تعيننا على فهم الواقع، بقدر ما كانت ترسم أقداما فوق خطوات شعراء لم يولدوا بعد. لذلك أعتقد أن لا أحد يمتلك الحق في أن يلحق شعر سركون بولص بحشد من الشعراء، كثروا أم قلّوا. فهذا الشاعر الفذ عاش كما يشاء ومات بالطريقة التي كان يتطلع إليها منذ زمن بعيد: "تذهب الأغاني. تجيء المراثي./ لا شيء منذ آدم غير ملحمة التراب".


    فاروق يوسف


    ملحق النهار البيروتية
                  

11-01-2007, 04:58 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سركون بولص يُغادر العالم من برلين (Re: osama elkhawad)

    أولئك الذين حاربوا سركون بولص في الوطن والمنفى
    بغداد - ماجد السامرائي الحياة - 28/10/07//



    مع أن الدراسات التي كتبت عن الشعر العراقي الحديث في الثلاثين سنة الأخيرة لم تتناول شعر سركون بولص، إلا أنه واحد من الأسماء الشعرية البارزة في الشعر العراقي. لا سيما في الستينات. ولعله بثقافته التي تأسست على ما هو غربي أصلاً والتي حوصرت ولم تظهر على النحو الذي كان ينبغي أن تظهر فيه، وبقصيدته التي صاغت نموذجها المتفرد بين قصيدة أقرانه بغرابة عوالمها، استطاع سركون أن يكون شاعراً متفرداً في التجربة، واللغة الشعرية، والعالم الشعري.

    ومع أنه لم يطلب العزلة لحياته التي عاشها في بغداد خلال الستينات، قادماً اليها من كركوك ومغادراً إياها الى بيروت، فإن هذه العزلة فرضت نفسها عليه جراء الحرب غير النظيفة التي تعرض لها حتى من أقرب الناس إليه: «جماعة كركوك» التي كان من ضمنها. وكأنهم بعد انتقالهم الى بغداد، وتفرقهم على أنفسهم، بحثوا عن ضحية، فلم يجدوا أقرب من سركون في متناول سكاكينهم القاسية، فأعملوها في جسده، لا في شعره وثقافته فقط.

    وحاربه اليساريون أيضاً، أو من كانوا قد خرجوا، يومها، مهزومين من تجربتهم النضالية، فراحوا، جراء الخيبة والانكسار، يبحثون عمن يتمركسون عليه، فلم يجدوا يمينياً أقرب منه الى متناول ألسنتهم فأطلقوها فيه، حتى بلغ الكلام حدود التشكيك! لكن سركون كان، في براءته الشعرية، لا يتكيء على شيء أو أحد إلا على نفسه وشعره وموهبته وثقافته. وحاربه غير هؤلاء وأولئك وقد وجدوا فيه شاعراً مختلفاً، ومثقفاً مختلفاً، وإنساناً كذلك: لا يدنو الى الصغائر، وصعب الانتظام في قطيع.

    يوم كثرت مشكلاته، على هذا النحو مع الواقع، وفي هذا الواقع، قرر بشجاعة أن يغادر. ووجد بين المثقفين من تمكن من تيسير سبيل المغادرة غير القانونية أمامه الى سورية، فلبنان - لأن الحصول على جواز سفر كان بالنسبة اليه، يومها، أمراً بالغ الصعوبة بسبب عدم أدائه خدمة العلم. ثم استقر في بيروت بعد أن وصلها من دون أوراق ثبوتية. لكنه كان استقراراً قلقاً، إذ لم يجد العمل الذي يناسبه ويضمن له الحياة والعيش.. ولم يتمكن حتى من توفير سكن دائم، ليظل شبه مشرد، يحتضنه ليلاً «شارع الحمرا» الذي كان يحتضن مثقفين مشردين من بلدانهم، وآخرين من البلد نفسه.

    ولعدم العثور على استقرار هنا وهناك، راح يحلم بالهجرة ثانية. لكن هذه المرة، الى اميركا. وظلّ يحمل حلمه بالهجرة والاستقرار في مهجر جديد، وهو يعاني التشرد، والجوع أحياناً كثيرة. إلاّ أنه مع هذه المعاناة القاسية كان، كما رأيته يوم إلتقينا ثانية في بيروت آخر الستينات، أقل قلقاً مما كان عليه في بغداد، واكثر اطمئناناً الى محيطه. فلا أزمات مع الآخرين. إلاّ أنه، مع ذلك، لم يحظ بالاهتمام الذي يستحق: شاعراً مجدداً، ومثقفاً، وحتى مترجماً عن الانكليزية يكتب ما يترجمه بلغة صافية، نقية وجميلة، هي لغة الشاعر فيه.

    ثم غاب سركون عنا طويلاً، وصرنا نقرأ له القليل في سنوات هذا الغياب. وكان من بين ما قرأناه خيبته بأميركا التي هاجر إليها، وإنكسار حلمه على أرضها التي وصفها بالصحراء، وكأن حلمه بها وتشكلاتها في خياله كانت أكبر من واقعها الذي وجدها فيه، فصدم. ولم نلتق سركون إلاّ في واحد من مهرجانات المربد آخر الثمانينات، هنا في بغداد. يومها أخذته في جولة على بعض الأماكن التي كنا نؤمها، فتذكرها لكنه كان قد نسي الأسماء. ثم زرنا الموصل، وهناك، في جلسة شعرية في جامعتها، قرأ قصيدة حب وحنين للعراق، وكم بدا العراق يومها كبيراً في روحه ونفسه. وفاجأنا، نحن أصدقاءه، أو من تبقى منهم، أنه لم يتغيرّ كثيراً – وإن بدا لنا، في تلك اللقاءات، أنه أصبح أكثر إنسحاباً الى الداخل، وأشدّ استغراقاً في نفسه وميلاً الى العزلة.

    تعمّق هذا الانطباع عندي اكثر يوم إلتقينا في أيام «مهرجان جرش» في عمان آخر التسعينات. كان سركون هو نفسه الذي عرفته قبل ثلاثين سنة واكثر، إلاّ أنه مال الى السمنة مودعاً ذلك الجسد الناحل الذي كان يمنحه خفّة الحركة. ووجدته قليل الكلام، كثيراً ما يستغرق في الصمت، كأنه يفكر بأشياء باتت تشغله على الدوام. يومها حدثني عما كتب، ونشر من أعمال شعرية (كنت قرأت بعضها)، وماذا يفعل الآن وقد انتقل من أميركا الى لندن، معتبراً مشروع مجلة «بانيبال»، التي صدرت من هناك، مشروعاً كبيراً يتحقق في حقل النشر، جاعلاً للثقافة العراقية ووجوه الابداع فيها فسحة يمكن أن تعقد الصلة من خلالها بين هذه الثقافة واللسان الآخر في الخارج. لكنه، مع هذا، لم ينقطع عن عادتين متحكمتين به: الكتابة، والتسكع. فالتسكع الذي أدمنه منذ أن كان في بغداد لم يكن ليأكل من وقت الكتابة لديه، إن لم يكن، بالنسبة الى حالته، عاملاً مساعداً فيها!

    في حياته التي امتدت بين كركوك وبغداد وبيروت.. ثم في المنافي، لم يدخل سركون حلبة المنافسة، أو الصراع مع أحد.. ولا شعر يوماً بأن أحداً يمكن أن ينافسه، لا لشيء إلاّ لأن ميدانه كان الكتابة، والكتابة وحدها، ولأن الشعر، في تصوره، وحده الذي يجترح الموقع لصاحبه. لكن، مع هذا، فإن منافسيه حولوا منافساتهم الى خصومات متخذين مما كان يتاح لهم طريقة للنيل منه، والحط من أهميته الشعرية، ومن قصيدته التي ظلت، الى النهاية، تحلق بجناحي التفرد، والتي لم تكن بالنسبة اليه مطروحة للمنافسة، بقدر ما هي نموذج آخر للحداثة. فقد كان شاعراً، وكان هو نفسه على ثقة كبيرة بكونه كذلك، وأن قصيدته لا تشبه سواها من قصائد الأجيال.

    سركون بولص الشاعر والانسان لم ينتم، لا الى حزب او جمعية واتحاد، بل كان وظل، يؤمن أن شعراء الواجهات لا يمكن، تاريخياً، أن يقدموا شيئاً للشعر والعصر، وان الاحزاب والتجمعات لا تصنع شعراء حقيقيين وأدباء حقيقيين. قد تصنع سياسيين ورجال سلطة. أما الشعراء والادباء فيصنعون أنفسهم بأنفسهم، بجهودهم الخاصة ومواهبهم. لذلك ظل بعيداً من تلك المجالات غير الشعرية، مستقلاً في فكره وآرائه ومواقفه، لا يحمل قبل اسمه سوى صفة الشاعر، ولا يتبع اسمه بتعريف مضاف، من خارج الشعر.

    لكن ثمة سؤال يستوقفنا اليوم أكثر من أي وقت مضى: لماذا لم يتناوله النقد شاعراً، أو يتوقف النقاد والدارسون عند شعره؟ بل لماذا عزلوه من حاضر الشعر العراقي، على رغم انه مثل حضوره الشعري بعدد غير قليل من المجاميع الشعرية؟

    لعلني أقول إن قراءة الشاعر سركون بولص ليست بالقراءة التي يمكن أن تتم بسهولة. فلا أجواؤه الشعرية قريبة من عالم النقد والدرس الدارجين في ما يعتمدان من نظريات جاهزة ومقاربات سهلة، ولا عالم قصيدته قريب أيضاً من الأجواء السائدة شعرياً، بل كان، في هذا وذاك، ينطوي على شيء من الغرابة، وعالمه الشعري قد لا ينفتح لأي قارئ. هذا من جانب. ومن جانب آخر فالشاعر نفسه لم يكن مهتماً، أو معنياً، بتسويق نفسه، أو بالتوجه الى بناء علاقات تخدمه على صعيد النشر والاهتمام بما ينشر، بل قد يكون الشاعر الأقل اكتراثاً بذلك. كان يكتب، مكتفياً بالكتابة وحدها برهاناً على كونه شاعراً.


    http://www.alhayat.com/culture/10-2007/Item-20071027-e2...69c0989d8/story.html
                  

11-01-2007, 11:55 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20472

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سركون بولص يُغادر العالم من برلين (Re: عبد الحميد البرنس)

    أوروك تصعد من جديد في شعر سركون بولص
    رحيل حامل الفانوس في ليل الذئاب غزاي درع الطائي

    غزاي درع الطائي
    ولو تابعنا رحلة سركون بولص في هذه الدنيا ليتبيَّن لنا أن في حياة سركون بولص وداعين لا وداعا واحدا، الوداع الأول كان في عام 1968م، وفيه ودَّع كركوك وجماعة (كركوك) والنار الأزلية لكركوك، ولكنه لم يودِّع (هريرة)، لم يودِّعها لسبب بسيط جدا هو أنه لم تكن هناك (هريرة) أصلا، ولم يكن هناك (رَكْب)، كان هو وحيدا ومنفردا لا يحمل جواز سفر كالمسافرين الآخرين، ولذلك ركب طرق الصحراء صعودا إلي ما يريد، الآخرون بعضهم اختاروا مُقاماتهم وبعضهم اختاروا منافيهم، هو اختار حريته، ولقد حمله ذلك الوداع وذلك الإختيار إلي دمشق فبيروت ـ التي توقَّف فيها قليلا وتعرَّف فيها علي مجلة (شعر) وساهم في تحريرها ـ ثم باريس ولندن وبرلين، وأخير فرانسيسكو بأميركا حيث استقر به المطاف وأقام، وظل يحمل أثقاله الشعرية حيث مضي، لم يكلَّ ولم يتعب، حتي النهاية المعروفة، أما الوداع الثاني فكان وداعه الأخير، وشاءت الأقدار أن يكون برلينيا حزينا، وفيه قال سركون وداعا لكركوك وبغداد ودمشق وبيروت وباريس ولندن وبرلين وفرانسيسكو، وللشعر والمهرجانات، ولكل شيء... كل شيء، ويبدو أن سركون حين قال في قصيدته (توفو في المنفي):
    (هو الذي بدأ بالتيه في العشرين
    لم يجد مكانا يستقر فيه حتي النهاية
    حيثما كان كانت الحرب وأوزارها)
    إنما كان يقصد نفسه، وأن (توفو) هذا، الذي سمّاه بـ (سيد المنفي)، هو سركون بتيهه وعدم استقراره في منافيه، ولكن تيه سركون لا يشبه أي تيه آخر، إنه التيه الذي يأخذ بعقولنا إلي بساتين التأمل، وبعواطفنا إلي مدارات الآلام العصيبة، توفو هذا أو سركون، سركون الذي حينما سألناه عما يحدث أجاب:
    (ما يحدث
    ليس سوي ما يحدث في المعمورة
    وما من معني لما يحدث
    في حدوثه
    إلا بالنسبة لمن يشهد الحدث).
    سركون بولص والسيد الأميركي
    سركون بولص: شاعر جدير بالتقدير العالي والمحبة الكبيرة، جدير بحمل مشعل الشعر بمعناه الحقيقي والعميق في مهرجانات الشعر العالمية، إنه شاعر قدَّس الشعر وأحبَّه وأخلص له وكرَّس له حياته، وقصائده استضاءت منذ البداية بأنوار النار الأزلية التي كانت وما زالت تلتهب علي أطراف كركوك، وظلت تحتفظ بحرارة تلك النار في المَهاجر كلها، وستظل كذلك دائما.
    وما قاله عنه الشاعر الكبير سعدي يوسف وهو ينعاه إلا معني من معاني تلك الجدارة، قال عنه: (إنه شاعر العراق الوحيد)، ووصفه بأنه (ذو موقف مشرِّف ضد الاحتلال، علي خلاف معظم المثقفين العراقيين) وأضاف: (هو لم يكن سياسيا، لكنه كان أشجع من الشعراء الكثار الذين استعانوا برافعة السياسة حين ترفع، لكنهم هجروها حين اقتضت الخطر، وقف ضد الاحتلال، ليس باعتباره سياسيا، وقف ضد الاحتلال لأن الشاعر بالضرورة يقف ضد الاحتلال... سموُّ موقفه من سموِّ قصيدته... وقصيدته عن السيد الأميركي نشيد للمقاومة الوطنية في العراق المحتل)، والقصيدة المقصودة هنا عنوانها (السيد الأميركي)، وهي قصيدة قصيرة متألفة من أربعة مقاطع، تضمَّنت (51) كلمة فقط توزَّعت علي (22) سطرا شعريا، وهي تمتليء بالمرارة والألم، وتتفجَّر باللوعة والفجيعة، وتعلن أن الموت سيد أميركي جائع وعطشان ويشرب الدم، والقصيدة هي:
    السيد الأميركي
    الموت
    هذا سيّدٌ
    من أمريكا
    جاء ليشربَ
    من دجلةَ
    ومن الفراتَ.
    ûûûû
    الموت
    هذا سيدٌ عطشان
    سيشربُ كلَّ ما في آبارنا
    من نفط، وكلَّ ما
    في أنهارنا
    من ماء.
    ûûûû
    الموت.
    هذا سيَّدٌ جائع
    يأكلُ أطفالنا بالآلاف
    آلافاً بعد آلافٍ
    بعد آلاف.
    ûûûû
    هذا سيّدٌ
    جاء من أمريكا
    ليشرب الدم
    من دجلةَ
    ومن الفرات.
    ولو انتقلنا من قصيدة (السيد الأميركي) إلي قصائد سركون الأخري التي تضمَّنتها مجموعاته الشعرية الخمس، لتوقفنا معجبين عند الكثير من الجمل الشعرية اللامعة التي تهزُّ القاريء هزّا وتنقله إلي منطقة الإعجاب والمتعة الراقية وتحجزه فيها:
    ـ لا شيء منذ آدم سوي ملحمة التراب.
    ـ كم من حياة تُسحق كل يوم!.
    ـ كالطيور في الصحراء
    نغنّي من أجل لا أحد.
    ـ حفنة بعد حفنة يتذرّي العمر
    كأنَّه الحصاد
    والمذراة في اليد
    والريح مقبلة.
    ـ تطفح عزلتي مثل جرَّة تحت حنفية الصمت.
    ـ آلامنا طعم التراب.
    ـ أنا من باع حياته
    واشتري عينين وفيَّتين.
    إبداعات حامل الفانوس في ليل الذئاب
    أصدر سركون بولص المجموعات الشعرية الآتية:
    1. الوصول إلي مدينة أين ـ 1985م.
    2. الحياة قرب الأكروبول ـ 1988م.
    3. الأول والتالي ـ 1992م.
    4. حامل الفانوس في ليل الذئاب ـ 1996م.
    5. إذا كنت نائما في مركب نوح ـ 1998م.
    وله مجموعة قصصية واحدة عنوانها (غرف مهجورة) صدرت باللغتين العربية والألمانية، وله أيضا كتاب منشور باللغة الألمانية تحت عنــوان (أساطير وتراث) وهو عبارة عن سيرة ذاتية، وقد أصدر الأديب الآشوري روبين بيت شموئيل عام 1988م عنه كتابا جاء بعنــــوان (سركون بولص: حياته وأدبه).
    ولسركون بولص عشرات القصائد التي لم تُجمع بعد في مجموعة أو مجموعات شعرية، منها ما يقرب من أربعين قصيدة منشورة في مجلـة (مواقف) البيروتية، ويبدو من التواريخ التي صدرت فيها مجموعات الشعرية أن سركون قد تأخَّر كثيرا في نشر شعره في مجموعات، فلم تصدر مجموعته الشعرية الأولي إلا في عام 1985م، علما بأنه بدأ بنشر شعره منذ عام 1961م، ومن الأمور الجديرة بالذكر أن سركون بولص كان يتميز بالنشاط والفاعلية، وكان بعيدا كل البعد عن الكسل الذي تدير طواحينه رؤوس الكثير من الأدباء والشعراء، ويقول هو عن نفسه: (أنا أشتغل علي عدة جبهات: أترجم واكتب الشعر وأكتب القصة، وأشتغل علي كتابين أو ثلاثة في آن واحد)، وإضافة إلي كل هذا، كان سركون بولص حريصا علي أن يكون موجودا في العديد من المهرجانات والفعاليات الثقافية التي كان يُدعي إليها، وكمثال علي هذا مشاركته في حزيران الماضي في مهرجان الشعر العالمي الذي انعقد في روتردام بهولندا وإلقائه فيه قصيدته المعروفـــة (السيد الأميركي)، ومشاركته في تموز الماضي في مهرجان لوديف الفرنسي، وكتابته كلمة في اليوم العالمي للشعر في العام الماضي، وكما هو معروف فإن المنظمة العالمية للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) قد قررت منذ عام 1999م أن يكون يوم الحادي والعشرين من آذار من كل عام يوما للشعر العالمي.
    ولا ننسي ما قام به سركون بولص في مجال الترجمة من اللغة الإنكليزية، فقد ترجم عشرات القصائد للشعراء الأميركان والبريطانيين، منهم: إزرا باوند وأودن وشيلي وشكسبير ووليم كارلوس وليمز وسيلفيا بلاث وجون أشبري وروبرت بلاي، كما ترجم عشرات القصائد الأخري لبابلو نيرودا وريلكه وفاسكو وآخرين.
    وكان له السبق في التعريف بالحركة الشعرية الأميركية المعروفـــة بـ (البيتنكس) وفي ترجمة قصائد أبرز شعراء تلك الحركة، مثل: ألن غينسبيرغ، كرواك، غريغوري كورسو، وفرلنغيتي، وغيرهم، ويُشار إلي أن قصيدة ألن غينسبيرغ (عواء) التي ترجمها سركون قد وصل عدد طبعاتها إلي الأربعين.
    جماعة كركوك
    من المهم أن نذكر أن سركون بولص كان عضوا مؤثرا وفاعلا في جماعة (كركوك)، وهي جماعة أدبية نشأت في مدينة كركوك في ستينيات القرن الماضي، وكان أعضاؤها من أبرز شعراء وكتاب القصة والمسرح المنتمين إلي الجيل الستيني المعروف في العراق، وأعضاء تلك المجموعة، إضافة إلي سركون، هم:
    1. الشاعران فاضل العزاوي ومؤيد الراوي، اللذان كانا إلي جانب سركون في برلين في أيام مرضه الأخيرة.
    2. الشاعر والمترجم جان دمو ـ الذي توفي في استراليا في 8/5/2003م.
    3. القاص والكتب المسرحي جليل القيسي ـ الذي توفي في كركوك في 27/7/2006م.
    4. القاص يوسف الحيدري ـ الذي توفي في بغداد قبل عدة سنوات.
    5. القاص والناقد أنور الغساني، والشاعران: صلاح فائق، والأب يوسف سعيد.
    وقد وقفَتْ، كما يبدو، وراء اجتماع هؤلاء الأدباء المبدعون في (جماعة كركوك) ثلاثة أسباب هي: انتماؤهم الجغرافي إلي مدينة كركوك، وتطلعاتهم التجديدية في الشعر والقصة والمسرح، وإطلاعهم عن كثب علي التجارب الأدبية العالمية بلغتها الأصلية وخاصة اللغة الإنكليزية التي كان يتقنها اغلبهم.
    وقد أصدر الكاتب فاروق مصطفي كتابا عن تلك الجماعة، كان بعنــوان (استذكارات عن صحبة جماعة كركوك).
    تأمَّلوا في ما شعر سركون من تأمُّل
    كان للتأمُّل حصة واضحة في معاني قصائد سركون بولص، فاختلف في هذه الخصوصية عن الكثيرين من الذين جايلوه أو سبقوه أو جاءوا بعده، والمجموعة الشعرية عنده ليست عبارة عن قصائد يتوالي بعضها بعد بعض، بل هي عمل كلي له بداية وله نهاية وما بين البداية والنهاية كلٌّ مترابط لا متناثر ويؤدي إلي ذات الغاية، من حيث البناء والجَمال والمعني والقيمة الفنية، وقد كشف سركون عن بعض أسرار صنعته في مجموعاته الشعرية، إذ تحدث عن مجموعته (الوصول إلي مدينة أين) فقال:
    (إن أول كلمة في المجموعة هي: وصلت، وآخر كلمة فيها هي: ذهبت، وبين هاتين الكلمتين: وصلت، وذهبت، تجد مدينة (أين) محتجزة، ففي البداية ـ تصل ـ ولكنك في النهاية ـ تذهب ـ).
    ومدينة (أين) هي ليست مدينة وحسب، إنما هي الدنيا التي نصل إليها ونذهب منها، فتكون حياتنا محتجزة بين وصول وذهاب، أي أنها رمز وليست مدينة فقط.
    ولقد أفصح سركون عن بعض آرائه في الشعر والأدب فقال:
    ـ الشاعر الحقيقي هو الذي يؤمن بالشعر ولم يأت إليه عابثا.. ينبغي أن يكرِّس نفسه وحياته للشعر، ويجب أن يعتبر نفسه ذا مهمة كبيرة في التاريخ، وان يقدِّس الكتابة ويخلص لها من كل قلبه.
    ـ إن كل شاعر، تاريخيا، سواء بوعي أو لا، في الواقع يُكمل عمل من سبقه من الشعراء، إنه شيء يشبه قصيدة لامتناهية أو سلسلة حروف تمتد إلي الأبدية أو إلي نهاية الزمان.
    ولو تفحصنا شعر سركون بولص، لوجدنا أن فيه سلاما وراحة وطمأنينة، ولوجدنا أن سركون يقول ما يريد قوله دون أن يحس بالخوف من رقيب، أخارجيا كان ذلك الرقيب أم داخليا، ولم يكن يقول كلمته ويمضي، بل كان يقولها ويتحمل مسؤولية ما بعد القول بكل شجاعة.
    ليس هناك انفعال في شعره وليس هناك غضب، وربما كان الهدوء الذي يبدو علي سطوح كلماته هو الغضب عنده.
    لنقرأ قصيدة (مرثية إلي سينما السندباد) التي كتبها بعد أن وصل إليه خبر هدم السينما، سنكتشف أن سركون لم يكتب قصيدة (غضب) كما هو متوقع بل كتب (مرثية)، وشتان بين قصيدة الغضب وقصيدة الرثاء، لقد حوَّل الغضب بفنية عالية إلي حزن، وجعل من حادث هدم سينما السندباد رمزا لكل ما تهدَّم ولا يزال يتهدَّم:
    (إنَّهم هدموا سينما السندباد!
    يا للخسارة.
    ومن سيبحر الآن ؟
    من سيلتقي بشيخ البحر ؟
    هدموا تلك الأماسي
    حجرا علي حجر،
    قمصاننا البيضاء، صيف بغداد
    حبيباتنا الخفراوات حتي التجلّي
    سبارتاكوس، شمشون ودليلة
    فريد شوقي، تحية كاريوكا
    ليلي مراد،
    وهل يمكننا أن نحب الآن ؟
    كيف سنحلم بعد اليوم بالسفر ؟
    إلي أي جزيرة ؟
    هدموا سينما بغداد!).
    وسركون يُنذرنا نحن الذين تسرقنا أوقاتنا ولا نعلم إلي أين نسير والي أين يسير البلد:
    (ذات يوم يفرغ البلد
    ذات يوم لا تبقي سوي الأسلاك
    التي مدَّها الغزاة،
    ذات يوم تبدأ الصحراء بالاقتراب
    الريح وحدها تنزل
    وتنزف كالأم، وتصرخ، وتلد).
    وليس لكل من يقرأ شعر سركون بولص ويتأمَّل معانيه وخصائصه إلا أن يقف طويلا عند قصيدته (بورتريه للشخص العراقي في آخر الزمن) التي يجب أن توزن بميزان الجواهر، فكل كلمة فيها هي جوهرة من الجواهر، إنها صورة شخصية دقيقة جدا وعميقة جدا وصادقة جدا عن شخصية العراقي التي تألَّقت عبر الأزمان وتظل تتألَّق إلي آخر الزمان:
    (أراه هنا، أو هناك:
    عينه الزائغة في نهر النكبات،
    منخراه المتجذِّران في تربة المجازر،
    بطنه التي طحنت قمح الجنون
    في طواحين بابل
    لعشرة آلاف سنة...
    أري صورته التي فقدت إطارها
    في انفجارات التاريخ المستعادة،
    تستعيد ملامحها كمرآة
    لتدهشا في كل مرة،
    بمقدرتها الباذخة علي التبذير،
    وفي جبينه الناصع، يمكنك أن تري
    كأنما علي صفحات كتاب
    طابورَ الغزاة يمرُّ
    كما في فيلم بالأبيض والأسود:
    أعطه أي سجن ومقبرة
    أعطه أي منفي
    أي هنا أو هناك،
    ورغم ذلك يمكننا أن نري المنجنيقات
    تدكُّ الأسوار
    لتعلو مرة أخري
    وتصعد أوروك من جديد

    http://www.azzaman.com/index.asp?fname=2007\10\10-31\679.htm&storytitle=
                  

11-01-2007, 11:58 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20472

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سركون بولص يُغادر العالم من برلين (Re: osama elkhawad)

    نازلاً من مركب نوح

    حاتم الصكَر
    بمقبرةٍ خلف برلين يرقد طفلً من النخل .قيلَ استراح ..
    حسب الشيخ جعفر- الاقامة علي الأرض

    رحيلٌ آخر اذن..سركون بولص هذه المرة.لاحظوا أننا -العراقيين- مدمنو موتٍ منذ جلجامش وصراخه عن مصير خِلّه وأخيه وسؤاله عن مصيره هو نفسه،.. نلاطف الموت ونسمّيه بأرقّ أسمائه وبألطفها وقعاً: فيغدو رحيلا والموتي راحلين ، كأنهم مبحرون أو ركابي ينزلون حيث تشاء المشيئة أو يشاءون..أو يجعلهم الآخرون ينزلون (أكتب هذه الكلمات بينما بدخل غياب ابني أو تغييبه هذا اليوم عامه الثاني بالضبط ، وحيث بدأ ابنه الذي ولد بعد - رحيله الغامض- يشكّل حروف الأبوة السلسة ويرددها بلا معني..الا ليزيد وجع القلوب.. ويعمّق الجراح والأسئلة).
    تتعدد أسباب موتهم لكنهم يرحلون: بطلقة محتل ..أو خنجر أخ عاق ، قريبا من الموت اليومي أو حتي بعيدا عنه، تصل أحدهم الأسباب ليغمض عينيه في أية أرض ..لا فرق..ببرلين هذه المرة ..تتذكر قبر ابن جودة الذي رثاه حسب الشيخ.. مفارقاً نخيله ينتظر وبلا جدوي السيدة السومرية التي لم يعد يغريها التحول أوالعودة بمسمّي آخر حيث لا مكان للحلم..
    أتذكر أيضا آخر اللقاءات مع سركون بعمّان ــ في مهرجان جرش ــ وبصنعاء في لقاء شعري عربي ــ ألماني. وهو نفسه يكابر مرضه ويتحامل علي رغبته في العزلة، والفرار من حصار الأصدقاء والأهل.. يهمس انهم يريدون تزويجي وأنا لا أطيق نفسي لا سواي ، يقرأ شعره بنبرة هادئة ويشكو من موقف الالقاء، ويناقش حول الشعر وكينونته الجديدة وصلته بالنثر والسرد تحديداً..يجالس الجميع ولا يرفض لقاء أو مقابلة، ويسهر بلا شكوي..ويسأل عن الناس الذين بَعُد به عنهم الزمن منذ اقامته النهائية في أمريكا وأوربا..ودعاباته التلقائية بلا لؤم لا تفارق أي حديث..
    كان لسركون بولص حضور خاص في الشعرية الجديدة لا يتمتع به أي من أبناء جيله الستيني منذ نزوله الي بغداد..أفاد بحريّة من حريته ولم يجعلها لافتة للتعارض فحسب: تعارض مع الزمن والمكان والأشياء حوله ، بل أعطي حريته بعداً معرفيا ..لا يقلد ولا يتابع الا نداء ذاته وهي تعاني وسط لجة بحر سيصعد لعبوره في مركب نوح الذي ظلت مخلوقاته نائمة-كما يقول-الي أجل آخر غير مسمي!
    بهذه الروح تنقل بين الشعر والقصة القصيرة التي سألته لماذا لا ينشر بعض ما كتب منها ببغداد قبل هجرته، فأجابني باشارة تشي بعدم قناعته بجدوي ذلك، رغم أنها كانت مميزة ومعبرة عن مزاج الستينيات وأسلوبيتها ، وتمثل خلاصة تجربة ورؤي الستينيات القلقة وأبطالها المأزومين..
    وتذهب به حريته الي الترجمة وبعربية تنقص الكثيرين، فهو كجان دمو لا يعرف الآخرون حرصهما علي المفردة والتركيب وبراعتهما في العربية بين المترجمين.
    منذ كتابه الشعري الأول( الوصول الي مدينة أين) يؤسس سركون لمناخ خاص في قصيدة النثر العربية لا تتمثل مراجعها ببلاهة وانسحاق تحت اغراءات الشكل وشطحات المعني واغراءات الاسترسال النثري ، بل تحاول أن تتعين وتتجذر بجسدية واضحة حتي وهي تتناص مع جبران خليل جبران (قصيدة :هذه ليست أورفليس )-ديوان حامل الفانوس في ليل الذئاب ــ
    اذا بنا هنا نعيش
    لكننا نحيا هناك
    أعطني الناي
    أو لا، لا تعطني الناي
    ..هنا تشتري المغني
    بدولار
    وهذه ليست أورفليس
    كما يستحضر المراجع الصوفية ، البعيدة معرفيا عن الانشغالات والهموم المعاصرة ، لذا فان سركون في ملاحظاته الهامة في خاتمة ديوانه(اذا كنتَ نائماً في مركب نوح) يعلن أن يوسف الخال سخر من صوفياته الأولي ببيروت ونصحه بأن يترك ذلك لأصحابه! لكن سركون يواصل قراءاته ويلتقي بأشعار جلال الدين رومي مترجمة الي الانجليزية ويهدي له ديوانه أيضا الذي عنونه من وحي شطحة لرومي ،هو يواصل اذن تجربته دون وصاية رغم أنه متأثر بيوسف الخال ويعدّه مع أدونيس شعريا وانسانيا (قدوة نادرة وضوءا كنت وما أزال أقتدي به).
    المكان الذي تنقل فيه لم يبهره ، بل صرّح أنه حين كتب قصيدته الشهيرة (حانة الكلب) الموجودة علي طريق بين مدينتين أمريكيتين- كان يقطعها بسيارته ــ مثلت له التسمية (اكتشاف سر أمريكا أخيرا) فهي حانة مضافة للكلب تقع علي طريق الملوك التي سلكها الكهنة المكسيكيون الي أديرتهم المقدسة في كاليفورنيا ، فهم ملوك الروح..(ذلك المعني المتأرجح بين الكلبية والقداسة ،بين حضارتين متضاربتين، عالمين بينهما فروقات شنيعة كتلك التي بين أمريكا الشمالية والجنوبية ، أو بين الغرب والشرق.)
    هذه الملاحظة ستهز سركون وتعيده للكتابة بعد سنوات صمت طويلة ، ولعلها هي التي جعلته يتوقف عند شطحة جلال الدين حول النائم في مركب نوح فما يهمه وهو سكران بالمصطلح الصوفي - لو أتي الطوفان؟ ويعيد الي ذاكرتنا المركب السكران في الشعر الغربي:

    وجدت نفسي نائما في الجانب المظلم من العالم
    أنقّب كل صباح في مكتبة الآلام العامة عن جذرٍ
    يربطني بك، أنت، دائما وحتي
    أنني أتردد في أن أسميك ، لأنك لست امرأة
    أو الأرض أو الثورة، شجراً،أو فقيرا حذّاءً في الطوفان
    لا أسمي أحدا بالضبط ...
    وقد لاحظت ذلك حين درست ديوانه (الحياة قرب الأكروبول) نهاية الثمانينيات ، فالمكان عنده مناسبة لرؤية ذاته بتشكلاتها ومعارفها لا بمجرد قشرتها الجسدية التي يؤطرها المكان .
    هذا الحنين للمجهول سنراه في ديوانه الأول حيث المدينة المتوهمة ، مدينة (أين) التي ليست يوتوبيا ضائعة أو جغرافيا حقيقية، بل هفو لخلق بقعة آمنة من الذئاب الذين سيحمل الشاعر الفانوس ــ كمصباح ديوجين ــ ليبدد الظلام الذي يبثه ليلهم ، ويجعل ذلك محور تجربته في ديوانه (حامل الفانوس في ليل الذئاب) -1996 حيث ثمة صحو أيضا ولكن من نوم آخر تجسده قصيدة (الملاك):
    (يظهر ملاك اذا تبعته خسرت كل شيء، الا اذا تبعته حتي النهاية..حتي تلاقيه في كل طريق متلفعا بأسماله المنسوجة من الأخطاء ..في جبل نهاك عن صعوده كل من لاقاك... لكنك صحوت من نومك العميق في سفح من سفوحه، وكم أدهشك أنك ثانية عدت الي وليمة الدنيا بمزيد من الشهية: الألم أعمق، لكن التحليق أعلي) .
    ليس من قصيدة لسواه تؤاخي بين الأسمال البالية برتابة التركيب وبساطة العبارة ، وبين الحكمة التي ختم بها نصه القصير عن التحليق والألم.
    عن أي ملاك يتحدث سركون بولص؟وأي جبل ؟ وأي نوم؟ وما تلك الوليمة الدنيوية التي يعود اليها من نومه؟
    أسئلة تحتشد بها قصائد سركون بنثرها المشع واشتباك مراجعها ، وتسري عدواها الي قراءتنا حتي وهو ينزل من مركب نوح ليواصل اغفاءة الأبد ..:
    (يستيقظ المخلوق النائم علي وجهه ومن ظهره تنمو أشجار باسقة ولكنني الآن خفيف كأنني تخلصت من عظامي وفي داخلي فضاء يلمع ويستدير علي نفسه كسكين).

    http://www.azzaman.com/index.asp?fname=2007\10\10-30\698.htm&storytitle=
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de