مسلسل أمير الشرق عثمان دقنة : ليس بالإمكان أفضل مما كان ..

Quote: قذاذات وجذاذات وقفات مع مسلسل أمير الشرق د.عمر شاع الدين كُتب في: 2007-10-23 * طيلة ايام الشهر المبارك تابعنا في وئام اسري وبشغف تام مسلسل «أمير الشرق» الذي يحكي قصة الامير عثمان دقنة، وقد شدتني اليه امور، فالرجل من تستهوينا سيرته الاسطورية وقد لفها الغموض.. قد اكتنف اصله وذهب به بعيدا عن جذوره، اقاويل اغراها ما للرجل من صيت داوٍ ونجاح مضطرد.. تسعى لكسبه كأنما هو بهذا (كثير) على تراب الارض التي انجبته. * اول ما استرعى انتباهي مذاهب (المصرنة) التي احاطته، وكادت تطيح به .. واجد في مثل هذا انتصارا لاحد الاقول، ارى ان مثل هذه الاشكالية كان من الاحرى حسمها مباشرة بالاشارة لقبيلته السودانية، وقد ساعد في هذا التضليل قيام الممثل المصري القدير جمال عبد الناصر بدور عثمان دقنة، بل ساعد ايضا اسناد كل الادوار ذات الاثر لممثلين مصريين. * لا بد من إشارة الى ان الامام المهدي لم يظهر الا عرضا، مرة واحدة مما نحسبه لم يجد احتفاء كريما، من النص، بل حتى في (شكله) فقد ظلم، ونحن نعلم انه كان وسيما قسيما قمحي اللون مثلما سمعت هذا من كثر فوق ما تواتر من التاريخ.. لقد رأيناه في المسلسل اسود اللون فاحما.. وليس في السواد عيب. انما العيب في نقض الحقائق ونقصها. * لقد كنت أرغب قويا بقدرات (المكيجة) الآن ان تأخذ وجوه الشخصيات التاريخية سماتها الحقيقة قدر المستطاع تحريا للصدق.. وسدا لمنافذ الكيد.. * مما استرعى انتباهي أن المسلسل حرص في ذكاء مريب لمسعى جعل اسباب ثورية الامير عثمان لا تتجاوز ردة الفعل، ذلك عندما سلبتهم الحكومة اموالهم، وحاربت تجارتهم في سواكن فغضب وثار، مثل هذا السبب شخصي موغل في ذاتيته ويفصل الرجل الثائر عن وطنه بل يصب في خانة نكران سودانيته. وهنا نذكر مما نعلمه قويا من اثر دعاة الثورة وسط انصار المجاذيب.. فقد تلقوها طازجة مباشرة عند اندلاعها من منبعها.. وهنا نرى النص يجعلهم كأنما تلقوها من الأمير عثمان دقنة، اعتقد هذا يحتاج لمراجعة التاريخ. هذا الترتيب مهم فهو استقاها منهم قبل (ردة الفعل)! واحسب هذا مما يقلل من قدر الاستجابة، كأنما هو ليس مهدويا عقيدة.. ما يعود بنا لردة الفعل. * في المسلسل تواترت اشارات لذلك الحنين الطاغي الذي غمر عثمان دقنة شوقا لسواكن التي تم طرده منها منفيا، لقد صدرت عنه اقوال كثيرة يبدو فيها حزينا لهذا السبب، وقد رأيناه يكرر مرارا انه سيعود لسواكن سريعا (كما اخرجنا منها). اعتقد ان هذا يضيق ساحة القضية العريضة ويذوبها في الذاتية .. مثلما سمعنا إشارات هامسة تتوارد (ان سواكن شغلك الشاغل). نرى أن هذا يجعل الطرد هو السبب الباعث للغضبة والثورة، ونحسب ان مثل هذا يفصل الامير عن جوهر القضية الكبرى بقسوة ووصمة، هنا انا لا ارفض ان يكون لهذه الاحداث اثرها عليه.. هذا وارد .. بل داعيه قوي .. لكنه يجعل القضية وطنية ثم دينية، والراجح انها دينية ثم وطنية. * ترى أن النص لم يحرص على اظهار صورة العلاقة ما بين المهدي والامير عثمان، في قوة علاقة الامراء الذين يعتقدون مهدية الامام.. نراها هنا لسبب ما ليست وشيجة. * أيضا لفت نظري في الأمير انه لا يضع الطاقية الرمز الانصاري على رأسه، بينما رأينا كل الامراء من الانصار يضعونها، هذا يوحي بالانعزال الذي نرى النص سعى اليه حثيثا منذ البداية في ريبة خدمةً لغرض نجهله. هنا سألت نفسي كثيرا هل اخذ شكل الامير في المسلسل من تلك الصورة التي اخذت له بعد اعتقاله، والتي لا أشك انها خضعت لاعتبارات المعالجة الفنية والسياسية. ولا استبعد مرادات عزل الطاقية الرمز عن الامير، ونعلم قويا ان الطاقية والجلباب جناح ام جكو المرقع، من مظاهر الانصارية الكاملة. * أيضا ما لفت نظري أن سائر الانصار والامراء يجعلون (عزبة) تتدلى وراء ظهرهم من عماماتهم، ما يجعلها رمزا انصاريا اضافة للطاقية الطويلة والجلباب المرقع. * لقد لفت انتباهي في جلابيب الانصار في المسلسل، انها كلها كانت متوافقة الشكل في رقعها على شكل هندسي واحد متكرر، كأنما قام به مصمم ازياء يتحرى جمالية النسب .. كأنها ما جاءت على كيفها مثلما تقتضي احوال الزهد والتقشف... يا ترى كيف جلس الانصار وسط معمعان الحراك والعراك يفعلون هذا (التنسيق). هذه العزبة لم نر الامير يفعلها، فقد رأيناه مقتعطا مثل الامام المهدي.. لا ادري هل في هذا خروج عن الجادة؟ * انقل من المفارقات أن كتشنر كان يتكلم العربية بطلاقة الفصحاء... ناصعة .. بينما رأينا حاكم سواكن يلوك لسانه بالعجمي واللكنة. * ومما لفت انتباهي تلك التقريرية الساذجة التي تجعلنا نتلقى جسام الاحداث المتواترة والمتوترة .. من افواه الشخصيات السطحية في برودة نشرات الاخبار. * جملة مشاهد المعارك التي من المفترض أنها طاحنة.. كانت باردة وساذجة في إخراجها حد السخف والافتعال المغيت، تدفعك لأن تقهقه طربا لا ترتعد فزعا. في واحدة من المعارك رأيت اثنين من الانصار يحملان غنيمة صندوق ذخيرة .. كان خفيفا في يديهما يتأرجح يمنة ويسرة كأنه صندوق ريش.. واشير الى ان مشهد الحمل الثقيل يفيدنا قدر ما غنمنا .. يبدو هذا مفيدا كسبا. * الهجوم على سنكات كان مستكينا في معركة باردة الانفاس، ثم مفتعلا في سذاجة .. مثلما معركة القلعة التي ذكرتني بمسرحياتنا ايام المدرسة الاولية وصورة المبارزة بالعصي. * أيضا لفت نظري من المفارقة أن زوجة عم عثمان دقنة الشريرة عقب وفاة زوجها وقد كانت في حداد، رأيناها تلبس الثوب الابيض.. لكنها وسط أحزانها نسيت أن تخلع الفدوة الذهبية الكبيرة التي تدلت من اذنها . هل هذا مقصد تجريح حتى نرضاه... * في مشهد آخر رأينا رئيس الجند وهو يخاطب عثمان دقنة بأدب جم: يا سيدي... هكذا بينما يخاطبه عثمان بيا رجل.. هكذا. * في مشهد اعتكاف عثمان دقنة رأينا نافذة الحجرة ينبعث منها ضوء النهار ساطعا، بينما رأينا امام عثمان دقنة الجالس (لمبة) موقدة.. مما يوحي ان الوقت كان ليلا، وهذا ينفيه ضوء الشباك الساطع. * في مشهد آخر رأينا عثمان دقنة يستلم رسالة من الشيخ الطاهر المجذوب موجهة للامام المهدي، رأيناه يستلمها بيده اليسرى ... وهذا لا يخدم صلاح وفضل الرجل ولا حتى علمه. * قد لفت انتباهي أن الامير في المسلسل يكثر من رفع اصبعه السبابة اثناء الكلام، وقد سمعنا تواترا ان هذا من المنهي عنه.. وحقيقة لا علم صدق ما سمعته. * قلت: مما يستطاب في مثل هذه الاعمال (حشو الفالوزج) يجعل وسط الاحداث الصعيبة كيما يخفف حدتها هنا، ربما ارادوا بسرد وقائع جنون زوجة عم الامير عثمان، نكاية بها لمواقفها من الامير ومعاداتها له. ولكن نرى ان هذا لا يتم في السذاجة والتكلف الذي رأيناه فاضحا ومصطنعا... ثم هو استغرق وقتا طيبا من مشاهد ما كان أغنانا عنها. * هذا يقودنا لمرجانة التي هي من (الرقيق) وهنا نحار كيف جعلها النص عنوة تقع في حب الامير، هذا يدعونا للسؤال هل مرجانة حقيقة ثابتة تاريخيا ام هي (حشو الفالوزج) ايضا، ولا غضاضة فقد اختاروا لها وجها جميلا. ونشير الى ان مدخلها في النص انها سرقت خبزا وقت الجوع. هذا (الحشو) يذكرنا ما تواتر من قصة عشق المهدي في قصة (فاتنة المهدي) ذلك العمل الكائد الذي يذهب بقصة الثورة الناجحة الى مهاوي ساحات الغرام..!! ونذكر ان المؤرخ جورجي زيدان في روايات تمدن الاسلام، قد فعل هذا كثيرا، مما يخلف حرجا بل غضبا. * قد كنت اريد من النص وضوحا جليا عندما صرح ان كسلا قد تعصى فتحها لوجود قبائل موالية للحكومة، يبدو هذا مهما، ناحية الشرق، وفي نص آخر سمعنا عثمان دقنة يمتدح في حماس جنود الحكومة المصريين فقد (حاربوا ببسالة) مثل هذا القول يبدو من وراء انتماء الجهة التي صاغته، ثم هو دخيل على جوهر النص، ولا يخلو من التعاطف الذي رأيناه كثيرا خلال المسلسل، مع انه ذكر في حالة اخرى: (ان في قواتي جنودا مصريين) وربما مثل هذا يحتاج للتوثق. * في مفارقة اخرى لا تخلو من الضحك لرؤيتنا مرجانة تصيح عاليا في حدة وهياج داعية لاطفاء حريق قد شب مما يوحي بجسامته.. ثم نرى النار لا واقدة ولا تناسب ضخامة الصياح.. مما جعلها تنطفئ بحفنة تراب. * في الناحية اللغوية لفتت انتباهي الفاظ تحتاج الى التحقيق اذكر منها كلمة (مظاهرة) بمعنى القيام باحتجاج جماعي، احسبها بمعناها هذا ليست عريقة متداولة في ذلك الوقت، ذلك انها مما ادخله الشدياق في معجم العربية بهذا المعنى، مثلما فعل بغيرها: الجامعة - الجريدة - الاشتراكية.. إلخ، لا اعتقد ان الامير عثمان دقنة كان على دراية تجعله ملما بالمستحدث من مفردات الحضارة وهي طازجة، حتى تكون في لسانه سائرة يعلمها الناس. * كذلك لفتت انتباهي مفردة (قواتي) للجنود، وقد قالها الامير، انا لا اعتقد رسوخها بمعناها هذا الدقيق في ذلك الوقت، ثم هناك مفردة (بالكاد) اعتقد انها مستحدثة بمعناها السائر الآن، ثم وردت كلمة (يتواجد) بمعنى الوجود، وهي مما يقع فيه الناس كثيرا. * هذا يدفعني لذكر رغبة ملحة كانت تراودني طيلة المسلسل، ان يكون النص باللهجة العامية إمعاناً في سودانيته، ثم صدقا في اللسان، لكني اجد عذرا في انهم جعلوا شخصياته الفاعلة غير سودانية ممن يصعب على لسانها عاميتنا. * مما أحزنني جدا في الاعلان المصاحب للمسلسل، رؤية حصان جياد الذي بدأ ضئيلا هزيلا مستكينا لا جامحا متوثبا مثلما هو حقيقة، وكما نريد له ابدا اذ هو يمثل طموحنا. * هذه وقفات عجلى عند عتبات المسلسل الشائق «أمير الشرق»، ولا أغمط الحق لقد كانت ايام متابعته حميمة وممتعة، وحسبها أنها افلحت شديدا في لمّ شتاتنا وشدّتنا الى قناة التلفزيون بشغف وحرص.