الأسلحة الكيميائية وحقيقة استخدامها في السودان في منتدى ميديكس للحوار
|
مفصولون لوجه الله بقلم مصطفى عبد العزيز البطل..
|
مفصولون لوجه الله: تأملات في فقه التمكين غرباً باتجاه الشرق مصطفي عبد العزيز البطل قرر المفكّر المصري د. مصطفي الفقي التخلي عن وظائفه السياسية في البرلمان والحزب الوطني الحاكم في مصر، وتخصيص ما تبقي من سنوات عمره للقراءة والكتابة ومع الجة القضايا الفكرية. وفي مناسبة اتخاذه لهذه الخطوة استضافه النجم التلفزيوني محمود سعد الذي وجّه لضيفه، ضمن اسئلة اخري، السؤال التالي: اي الايام في حياتك المهنية يمكن ان تصفه بأنه كان أسوأ يوم علي الاطلاق؟ حدّق الرجل في الهواء ثم بذهن صافٍ وهدوء كامل اجاب: اسوأ يوم في حياتي كلها كان يوم فصلي من وظيفتي في رئاسة الجمهورية! و كان د. الفقي قد شغل منصب سكرتير رئيس الجمهورية للمعلومات. كانت تلك من المرات النادرة في حياتي، بل و لعلها الاولي والاخيرة، التي استمعت فيها الي مسئول مفصول من عمله يتحدث بمثل هذه الصراحة عن اسفه علي فصله من وظيفته. فلقد عاصرت و شهدت وسمعت عن مئات من حالات الفصل والاعفاء من الخدمة لمسؤولين سودانيين وفي كل الحالات، بلا استثناء، كنت اراهم يذبحون الخراف و يوزعون لحومها و يرددون عبارات من شاكلة: الحمد لله الذي اراحنا وخلّصنا من خدمة الحكومة. و الاصل عند الكثيرين هو ادعاء الزهد في المنصب او الوظيفة و اظهار الاستعداد الدائم لركلها بالقدم في اي لحظة وان كان الواقع والحقيقة يشيان بغير ذلك! الثابت ان الخدمة الاميرية ارتبطت منذ عهد التركية السابقة بالمقام الرفيع والامتياز الاجتماعي، وعلي طول التاريخ المعاصر للخدمة العامة في السودان كان تقلّد الوظيفة العمومية تكليفا يشْرُفُ به صاحبه. ومن الطبيعي والحال كذلك ان يكون لفقد مثل هذا التكليف اثره السالب، نفسيا و اجتماعيا و اقتصاديا، في حيواة من ركلتهم المناصب و الوظائف و ان تدثّروا بالادعاء بأنهم اسعد الناس بالتحلل من اعبائها! و اذكر في طفولتي الباكرة ان كلمة "التطهير" كانت هي الاكثر استخداما في توصيف حالات فصل موظفي الدولة. و كانت اللفظة فيما يبدو تنطوي علي شحنة سياسية معنوية هائلة، و آية ذلك الهتافات المدوية كالطبل: " التطهير واجب وطني" التي ما زالت تطن في اذني. و هو نفس الشعار الذي ردده مطربو الشعب محمد وردي و محمد الامين، بعد ذلك، ضمن اناشيدهما الاكتوبرية! وعلي توالي العهود، بدءاً من حقبة الحكم الاستعماري، اتخذت السلطة الحاكمة من الفصل و الاحالة الي المعاش تحت مسميات متعددة سلاحا ماضياً لتأمين الانظمة في مواجهة خصوم حقيقيين ومتوهّمين. و قد تباينت الممارسه في هذا الصدد نوعا وكماً، و احسب ان النظام المايوي كان اول نظام يستخدم هذا السلاح بصورة منظمة و ممنهجة و علي مراحل متعددة. و هو الذي ابتدع المسميات الادارية المختلفة مثل "الاحالة الي المعاش لصالح الخدمة" و" الاحالة الي المعاش للصالح العام" لموظفي الخدمة المدنية، و " الطرد من الخدمة" و ما شاكلها للقوات النظامية. و خلال الفترة الانتقالية التي رأس حكومتها د. الجزولي دفع الله احتلت مسألة "تطهير" الخدمة العامة من ذيول النظام المايوي مكانا متقدما في قائمة الاجندة، غير ان الفترة الانتقالية، التي كان الفقيد جون قرنق يطلق عليها "مايو الثانية" انقضت دون "انجاز" يذكر علي صعيد الفصل والاحالة الي المعاش. و لكن المؤكد ان الحكومة الجزولية كان لها فضل لا ينكر في مراجعة و توفيق اوضاع الالاف من كوادر الخدمة العامة والقوات النظامية التي انطبقت عليها معايير الفصل التعسفي ابان الحقبة المايوية اذ احتسبت الحكومة الجزولية سنوات الفصل بالنسبة للكثيرين لاغراض تقدير الفوائد المعاشية و اعادت الي الخدمة الفعلية كثير من المفصولين. ثم جاء السيد الصادق المهدي علي رأس الديمقراطية الثالثة، فأطلق من داخل البرلمان قولته الشهيرة: (انني ملتزم بكنس مايو كنسا تاماً)، ثم خاطب بعد ذلك قادة الخدمة المدنية من وكلاء الوزارات و رؤساء الوحدات و المصالح المستقلة في لقاء جامع قائلا: (ان من حق اي مسئول صعد الي منصبه بغير كفاءة او اهلية ان يقلق علي موقعه)، و لكن القلق فيما يبدو لم يساور اياً منهم فقد بشّرتهم الديمقراطية و تعقيداتها بطول سلامة، و انتهي الامر بالسيد المهدي نفسه، في خاتمة المطاف، ان رأس حكومات ضمت تشكيلاتها اعدادا غفيرة من قيادات و كوادر النظام المايوي بما فيهم النائب الاول للرئيس المخلوع! و لا يعني ذلك ان حكومات المهدي لم تمارس الفصل للصالح العام، فلقد قام بعض الوزراء الحزبيين باصدار قرارات بالفصل والاحالة للمعاش للصالح العام، ولم تكن اغلب تلك القرارات فوق الشبهات، بل ان كثير منها املته الاهواء الشخصية و التقوّلات. و كان من ابطال الفصل التعسفي ابان العهد الحزبي المرحوم صلاح عبد السلام الخليفة وزير شئون الرئاسة وعبدالله محمد احمد وزير الثقافة و الاعلام، و قد طوي الموت صلاحا و اصبح في ذمة العداله الكبري، اما عبدالله محمد احمد، و قد كنت اتحدث اليه كثيرا بحكم موقعي كمسئول للشئون السياسية والاعلامية في مكتب رئيس الوزراء، فقد حيرتني اسبابه الممعنة في الغرابة التي كان يقرر بموجبها فصل العاملين في الاجهزة التابعة لوزارته. و اذكره ذات صباح هائجا مائجاً يأمر وكيل الوزارة آنذاك، محمد علي دليل، بفصل موظّفة، فلما اجابه الوكيل بأن هناك صعوبات قانونية تحول دون ذلك، امر بنقلها الي جوبا فرد الوكيل بأن قانون الحكم الذاتي الاقليمي لا يجيز نقل الموظفين الاتحاديين الي الجنوب. ثم عندما سنحت لي الفرصة سألت الوزير عن اسباب الفصل و لدهشتي رد قائلا: "هذه الموظفه شيوعية وانا لدي معلومات مؤكدة في هذا الشأن"، و لم تكن حالة الوزير الذهنية تسمح لي بأن الفت انتباهه الي ان الحزب الشيوعي حزب مصرّح به و ان له نوابا في البرلمان! و قد قام بعد ذلك و في احدي غضباته المضرية، بفصل ستة من قيادات التلفزيون بقرار واحد. و لكن اغرب ما رأيت من قرارات الفصل عند عبدالله كانت مذكراته المتلاحقة الموجهه الي رئيس الوزراء تطلب الموافقة علي احالة احد المديرين بالوزارة للمعاش للصالح العام، و كان المدير يشغل وظيفة قيادية عليا تستوجب احالة شاغلها للصالح العام موافقة رئيس الوزراء. و كان رئيس الوزراء بدوره يتجاهل تلك المذكرات فقد كانت ثقته في وزير اعلامه، علي اخر عهده بالموقع، قد تضعضعت. و ذات يوم، و في حضوري، سأل الاستاذ ابراهيم علي ابراهيم، مدير عام مكتب رئيس الوزراء عبدالله عن الاسباب الحقيقية لطلب فصل الرجل من وظيفته اذ كانت الاسباب التي توردها المذكرات عامه و غامضة بعض الشئ. رد الوزير بالقول: ان ذلك الشخص له علاقة متينة بأحد اقطاب الحزب الاتحادي كما انه ينحدر من اسرة ختمية عريقة و متزوج من ابنة احد ابرز معاوني السيد محمد عثمان الميرغني وان هذه المعلومات مؤكدة!!! و من عجب ان مثل هذا السخف ظل يلاحق ذلك المسئول، حتي بعد سقوط الديمقراطية الثالثة علي يد العصبة المنقذة، فركب الرجل طيات السحاب الي الولايات المتحدة، مهاجرا بعلمه و خبراته، و تفرغ للعمل الاكاديمي وبلغ فيه شأوا بعيدا و طاب له المقام في حمي نجاشي اليانكي الذي لا يظلم عنده احد! غير ان فكرة احالة موظفي الدولة للصالح العام شهدت في عهد الانقاذ تطورا نوعيا مذهلا من وجهة التنظير وتفاحشاً كميا طاغياً علي صعيد التطبيق، ذلك ان العصبة المنقذة اتت الي السلطة بنظرية فقهية متكاملة هي نظرية التمكين (و الذين ان مكّناهم في الارض)، وهي نظرية ثقيلة ذات حمولة دينية عالية، فلأول مرة في تاريخ السودان اصبح الفصل للصالح العام عبادة يتقرب بها الحاكمون الي الله زلفي، و قد كانت قبل ذلك صراعا علي حرث الدنيا وعصبيات السياسة. و من ابرز ملامح التمكين، نظرا و تطبيقا، انها تتصف بالشمول النطاقي حيث ان مجال سريانها، بخلاف كل تجارب الماضي، لا يقتصر علي اجهزة الخدمة العامة والقوات النظامية، بل تتسع مظلتها افقيا لتغطي كل الاصعدة والمناشط المعاشية وغير المعاشية للافراد والجماعات من اقتصاد وتجارة و ثقافة و رياضة وتنظيم اهلي. و استثناءً من العديد من اجندة الثورة المنقذة التي اتسمت في بداياتها بالضبابية والتغبيش المتعمد، فقد كان الوضوح المطلق صفة لازمة لفقه التمكين فقد جاءت اشاراتها و نذاراتها مع شعاع الفجر، و كان اصرح تعبير عنها هو ما جاء علي لسان احد القيادات التاريخيه للحركة الاسلامية (الاستاذ احمد عبدالرحمن محمد) حيث ادلي بتصريح لصحيفة (ظلال) في اول بدايات عهد الانقاذ جعلت منه الصحيفة مانشيتها الرئيسي: ( التمكين العسكري و المدني لا يكفي، لا بد من التمكين الاقتصادي)! و في التطبيق فقد اتسق الاخلاء المنظم لاجهزة وهياكل الخدمة المدنية والقوات النظامية من ساكنيها و احلال سكان جدد، من كوادر الجبهة الاسلامية مكانهم، بهدف السيطرة علي مالية الدولة ووسائل الاعلام و اجهزة الخدمات و مؤسسات القمع المادي، مع الاجلاء الممنهج لكبار التجار و رجال الاعمال من مواقعهم الاقتصادية و التجارية بغرض تمكين عناصر الكيان السياسي الاسلامي الحاكم من السيطرة علي مفاتيح التجارة الداخلية و الخارجية. و كان من مؤدي ممارسات التمكين، في مجال الخدمة العامة، انه اصبح مطلوبا من كثيرين ان يغادروا مواقعهم، لا بسبب التشكك في ولاءاتهم و انتماءاتهم ولكن لمجرد الحاجة لاحلال اخرين في هذه المواقع احلالا منظماً. ثم ارتبطت سياسات الفصل التمكيني بممارسات يصعب استكناه حكمتها واستبطان دواعيها، فبينما كانت الانظمة التي مارست الفصل التعسفي في الماضي تخلّي بين المفصولين و خشاش الارض بعد ابعادهم من مواقعهم، بمعني ان من طالتهم قرارت الابعاد كان بامكانهم ان يبحثوا عن وظائف اخري داخل و خارج اجهزة الدولة اذا وجدوا من يرغب في توظيفهم، فأن سلطة الانقاذ سلكت في معاملة المفصولين نهجاً لم تسبقها عليه سلطة، اذ طاردت المفصولين و قعدت لهم كل مرصد، وبذلت جهودا مضنية لمنعهم من الحصول علي اعمال بديلة و استنت لذلك تشريعات و قرارات غير مألوفة، بل ولعلها غاية في الغرابة كإلزام المنظمات غير الحكومية، بما فيها هيئات الاغاثة الاجنبية، بعدم توظيف المفصولين تحت طآئلة سحب تراخيص هذه المنظمات، كما منعت اعدادا كبيرة من هؤلاء من مغادرة البلاد للعمل بالخارج بحرمانهم من الحصول علي جوازات سفر او تأشيرات مغادرة، بل لاحقت الكثيرين في المطارات والموانئ فأنزلتهم من الطائرات والسفن واعادتهم الي منازلهم. و بلغ افتراء السلطة و كيدها لهؤلاء حدودا عزّ ان يكون لها نظير، حتي لقد ظننت انها ستصدر ذات صباح منشورا يلزم الناس الا يبادروهم بالسلام واذا لقوهم في عرض الطريق ان يضطروهم الي اضيقه! و خبر ما كان من خطط التمكين و تدابيره الذي كان سرا مهولا في امس قريب، اضحي اليوم "ببلاش" كما يقول المصريون. فلعله من علم الكافة في يوم الناس هذا ان المغفور له مجذوب الخليفة، تغشّت قبره الشآبيب الرطاب، كان هو الشخص الذي اسندت له العصبة المنقذة مهمة الاشراف علي وضع و انفاذ مشروع اخلاء الخدمة المدنية من سكانها واحلال كوادر الجبهة الاسلامية مكانهم، برغم انه قضي الشهر الاول من حكم الانقاذ حبيسا علي ذات نسق الحبس الترابي الاحترازي الماكر. وأجد نفسي، و انا في النصف الاخر من الكرة الارضية، اذكر و بعد ما يقرب من ثمانية عشر عاما، ذلك الكادر الانقاذي، الذي لمع نجمه بعد ذلك في سماوات الحكم و السلطة حتي بلغ الجوزاء، و قد جاء الي رئاسة مجلس الوزراء، والانقاذ في بداياتها، باوراق فلوسكاب كتبت عليها اسماء وزارات و تحت كل وزارة عدد من الاسماء، سلمها وزير الرئاسة الي الاخ مختار علي مختار، رئيس القسم الكتابي في المكتب الوزاري لطباعتها بنظام الرونيو و توزيعها علي الوزارات. ثم اذكر جلوسنا، انا و الاستاذ حسين صديق، الامين العام الاسبق لمجلس الوزراء، بعد ذلك في مكتبه نتملي في تلك الصفحات التي ضمت نحوا من مائه و خمسين اسما، نحاول ان نقرأ ما بين السطور وان نستنطق تلك القوائم البكماء بغير جدوي. كانت تلك اول القوائم ثم اذا بها تتري و تتوالي، مجملة و منجمة، ما اذن الله لها ان تتري و تتوالي، حتي بلغت ارقاما تنِد عن الحصر واصبح ضحاياها، كضحايا المهالك في دارفور، تتقاطع احصاءاتهم و تتضارب بتقاطع المصالح و تضاربها. تلك صفحة سوداء حالكة تؤرق كل صاحب ضمير حر، ويكفي ان من كتبوا سطورها بالامس اضحوا اليوم في ضيق من امرهم، ينشدون التنصّل من عارها و يلتمسون الخلاص من وزرها. و ان كان رأس الدولة قد خرج علي الناس اخيرا بما يقرب من ان يكون اعترافا مغلفاً و اعتذارا ضمنيا وأبدي النية الحسنة حيال تهيئة المناخ لتحوّل مأمول يرد الحقوق و يصون الكرامات فإننا نبادر، بغير تردد، فنشد علي يده مهنئين، ذلك ان الاعتراف بالخطأ فضيلة توجب القدح المعلي وشجاعة تستنهض الاكبار، ولعلني امضي قدما فاناصر النداء الذي توجه به عبر هذا المنبر الاسبوع الماضي الكاتب الصحفي الاستاذ فتحي الضو حين دعا قيادة الانقاذ، وقد اصابت قوما بجهالة فأصبحت علي ما فعلت نادمة، ان تتأسي و تترسّم بعض النماذج الاكثر اشراقا في عالمنا اليوم (المغرب و جنوب افريقيا)، فتخرج بنفسها من ضيق التردد والاحراج الي فضاء الاسماح والافراج، فتعترف باخطائها علانية وعلي رؤوس الاشهاد بغير شروط و لا قيود، وتقدم اعتذارها، علي ملأ من شعبها، لالافٍ مؤلفة من ابناء هذا الوطن خاضت الانقاذ في اعراضهم ظلما وعدوانا، حين قذفتهم واذاعت عنهم دون بينة او دليل ذائعات الفساد المقذعات، وترد عنهم كل همز او لمز او وشاية او نميمة اشاعتها في حقهم بين الناس بالباطل. ان الله يغفر الذنوب جميعاً الا ان يُشرك به.
http://www.alahdathonline.com/Ar/ViewContent/tabid/76/C...tID/715/Default.aspx
|
|
 
|
|
|
|
|
|
Re: مفصولون لوجه الله بقلم مصطفى عبد العزيز البطل.. (Re: Yasir Elsharif)
|
وهذا مقال سابق..
Last Update 12 سبتمبر, 2007 07:20:08 AM
غرباً باتجاه الشرق:
انتهازيون بلا حدود!
مصطفي عبد العزيز البطل [email protected]
صديقنا طلحة جبريل، مدير مكتب صحيفة (الشرق الاوسط) بواشنطن، لا يحلو له العيش الا وسط الزوابع و العواصف! هکذا كان منذ اول يوم عرفته قبل اكثر من ربع قرن و نحن في اول مدارج المرحلة الجامعية. ومن المعالم اللامعة في سجل طلحة انه، حين كان رئيسا لإتحاد الطلاب السودانيين في المغرب، تسبب عبر معركة حامية الوطيس اشعل نيرانها بنفسه مع السفير المرحوم الرشيد نورالدين ومع السلطات المغربية في آن معا، في ادخال جمعيته العموميه - بربطة معلًمها- سجن الرباط العمومي. ومن لا يخشي اهوال السجن وهو علي كتف العشرين لا يهاب ردود افعال الرأي العام وهو علي عتبة الخمسين!
قبل اسابيع قليلة شغل طلحة بعض المنابر الاعلامية بمقولة خرج بها عبر مقاله الاسبوعي بجريدة (الصحافة) مؤداها ان السودان، في حضَره و مدَره، لا يعرف فضلا لجامعة الخرطوم سوي انها كانت مصنعا لتفريخ الانتهازيين من المنظرين والكوادر السياسية و التنفيذية و القانونية التي اقامت النظم الشمولية علي سوقها وجهدت، ما وسعها الجهد، لمدها باسباب الحياة والديمومة وهيأت لها من امرها رشدا. ولم يكن غريبا، والحال كذلك، ان تنهض ثلة من خريجي الجامعة للتصدي لتلكم الاطروحة، وسال بين يدي حملة التصدي المجيدة مداد غزير تراوح بين الانفعال والموضوعية، ولعل افضل ما قرأت في هذا الصدد المقال الرصين للاديب الدبلوماسي علي حمد ابراهيم، الذي رأي ان قضية ميل قطاع عريض من المثقفين و المتعلمين السودانيين و استعدادهم التلقائي للوثوب الي سفائن النظم الشمولية اوسع مدي و اعمق جذرا، في خصائصها و تجلياتها، من ان يستوعبها ربط متعسف بمؤسسة تعليمية بعينها وحقبة زمنية بذاتها.
الذي شد انتباهي حقا هو تلك القائمة الطويلة من العلماء والاكاديميين الذين تسنّموا مناصب القيادة في العهد المايوي التالف، والتي استند اليها طلحة في تعضيد حجته. بدا لي انه لم يمر مديرللجامعة الا وانتهي به الامر وزيرا او شاغلا لمنصب دستوري، حتي المدير الوحيد الذي يبدو انه حالت بينه و بين المنصب الدستوري حوائل ذكّرنا الكاتب انه كان اول من افترع بدعة ارسال مدير الجامعة البرقيات الي الرئيس المخلوع مهنئا بحلول ذكري" الثورة"، وذلك فضلا عن الصفوف المتراصة من عمداء الكليات والاساتذة الذين تدافعوا الي ارائك السلطة، المُقعد علي ظهر الاعمي، عند اول صفارة!
ولكن الحديث عن انتهازية المثقفين و المتعلمين السودانيين قديم قدم السودان نفسه! واجد نفسي دائما اقرأ أو اسمع مثل هذا الحديث ثم اتجرعه مع شئ من الملح، كما يقول تعبيرامريكي تعذرت علي ترجمته علي وجه الدقة. ذلك انني اقرب الي الظن ان لفظة "انتهازي" و مشتقاتها في التداول العام الشفاهي، كما في المدونات الموثقة علي مدي تاريخنا السياسي و الاجتماعي المعاصر، قد بلغ بها الاستخدام المكرور مبلغا انتهي باللفظ الي ما يشبه الابتذال! و لقد كانت هذه الفكرة وما زالت تلاحقني كلما وقعت علي عبارة (الانتهازي عوض عبد الرازق) الشهيرة، التي تكررت بثبات محيّر ولافت للنظر في بعض ادبيات الحزب الشيوعي، حتي اصبحت لفظة "الانتهازي" لازمة من لوازم الاسم لا يستقيم الجرس بدونها رغم ان من شهدوا الوقيعة، التي الحقت الصفة بالموصوف، أنبأوا بأن الامر في طويته اقرب الي تداعيات المبدأ التاريخي الاشهر: الويل للمغلوب، منه الي الانتهازية!
الانتهازية في المصطلح تمتُّ لتدليل الذات و تلبية الشهوات بنسب وثيق، وتدور وجودا وعدما مع نزعات بشرية اساسية جوهرها الرغبة في اختزال المسافات علي حساب المبادئ و القيم المستقرة، والارتقاء بأهواء الفرد خصما علي حقوق المجموع. و ليس ثمة شك في ان بريق السلطة وصولجانها يظل، و كما كان دائما علي مدار التاريخ الانساني، العامل الافعل و الاكثر خطراً في حفز كثير من المتعلمين السودانيين لاهتبال كل سانحة للولوج الي ابوابها. و من قبل قال العلامة ابن خلدون في توصيف السلطة و توظيفها ( الوزارة منصب شريف ملذوذ)! ولاغرو ان اجيالا كاملة من المتعلمين اقامت عقيدتها في الوظيفة العامة، لا علي انها التزام بخدمة المواطن، بل علي ان الوطن كله بستان لها، فتغزّلت بالوظيفة العامة غزلا حسيا فاضحا و غنّت لها هي تضع اولي خطاها علي ابوابها:
خلاص يا ادارة جيناكي..
حلاوة القدلة بالكاكي..
والعربية ملاكي..
الحقبة الزمانية التي صوّب طلحة النظر اليها و ما تلاها من حقب، تقدم شواهد في حب السلطة والتمسك بأعنّتها، جديرة بالاستبصار و التأمل. احدي هذه الشواهد تتجلي في تجربة اختيار السيد الصادق المهدي نفراً من اخلص خلصائه لتولي مناصب دستورية رفيعة ابان العهد المايوي في اطار تعاقد سياسي استوعبه برنامجه للمصالحة الوطنية آنئدٍ، و كان الظن، تبعاً لمقتضيات العرف السياسي، ان استمرارمشاركة هؤلاء الخلصاء في السلطة رهن بانفاذ شروط ذلك التعاقد. غمرت الدهشة كل المراقبين حين نكص النميري و ارتد علي عقبيه فلم يحترم ميثاقا و لم يف بعهد، فقرر الحزب المُصالح الانسحاب من السلطة. لم يكن مصدر الدهشة وقائع الخلاف ولا قرار الانسحاب، بل التخاذل ثم الرفض الصريح من قبل ابرز ممثلي الحزب لمغادرة مقاعد السلطة رغم انتفاء مسوغات شغلها. ثم ما كان من تشبث هؤلاء النفر بأهداب الحكم و ركلهم بين عشية و ضحاها تاريخا طويلا من المدافعة السياسية تحت رايات الحزب العتيد، ثم التحاقهم بالمعسكر المعادي بغير تردد و دون ان يطرف لهم جفن، و كأن مشاركتهم في السلطة في الاصل و المبتدأ لم تكن رهنا بمعطيات و مبادئ وشروط و اهداف معلومة، فكان التكالب علي المقاعد (الشريفة الملذوذة) بمثابة اعلان صريح بأن: تباً للمبادئ والاهداف، و "والله لا اخلع قميصا كسانيه الله!". ثم اذا بالتاريخ يعيد نفسه حين ادعي السيد مبارك المهدي دعاوي ما انزل الله بها من سلطان حول حزب الامة و ضرورات تجديده و تطويره ثم اقام كيانا جديدا تحت راية "الاصلاح و التجديد" سرعان ما فتحت له السلطة ذراعيها، فدفع باقرب معاونيه الي قلبه الي مناصب الوزارة و الولاية و ديوان الرئاسة. و الذي حدث بعد ذلك خبره عند الكافة. غضب دهاقنة العُصبة المنقذة علي قائد المصلحين والمجددين ذات صباح أغبر فأنزلوه من صياصه و سحبوا البساط من تحت قدميه، فنادي من فوره علي رفاقه و اتباعه ان اتركوا مناصبكم و الحقوا بي نتفكّر بليلنا ونتدبّر ثم نقرر ما عسي ان يكون الموقف عند صياح الديك. ولكن هيهات. واذا بالمجدد الاكبر وحيداً مستوحشا و قد لفظه اقرب الاقربين من اساطين التجديد و آثروا عليه طنافس السلطة وصحاف الفالوذج، و کأنهم ما تعاهدوا بالامس علي مبدأ ولا اقسموا علي كتاب! غير ان انشطارالعصبة المنقذة نفسها، قبل ذلك، بين معسكر مفكّرها و ملهمها و باني نهضتها الحديثة، ومعسكر حملة السلاح، القابضين علي رقبة السلطة، وانحياز السواد الاعظم من كادراتها وهرولتهم – خفافا و ثقالا - الي معسكر "السيف و الذهب" تحت شعار: سِماط البشير ادسم، يبقي بلا جدال المثال الاكثر تعبيرا والاجود تصويرا لظاهرة التنصّل عن المبادئ و تمحّك المعاذير لهجر الحلفاء والاحباب طلباً لصولجان الحكم.
ولأمر ما استقر في العقل الجماعي، وغير قليل مما استقر في العقل الجماعي يفارق المنطق، ان داء الانتهازية يشبه داء النقرس الذي يصيب الملوك وعلية القوم ومن يليهم من وجهاء وعلماء. ولكن الحقيقة تبقي ان العقل و السلوك الانتهازي اوسع مجالا واعمق وجودا في حيواة الناس، فهو لا يقتصر علي الطليعة الفاعلة في مدارات السياسة والمال والعلم والثقافة، بل يسري في ثنايا المجتمع من مخامص القدمين الي محاجر العينين. كما ان الانتهازية كظاهرة سوسيولوجية لا تقف حصرا – من حيث المُعطي والمضمون - علي طلب السلطة والارتهان لاستحقاقاتها، اذ انها في افقها العام اكثر سعةً و شموليةً بحيث انها تستوعب انماطا متباينة من السلوك المُشاهد في الممارسة اليومية، كالاستغلال غير المشروع للقدرات والموارد والمواقع لخدمة المآرب الذاتية، الي جانب انها تستغرق و تفسّر في ذات الوقت ضعف التربية الوطنية التي ترفد الشعور العام بمعانٍ راكزة كضرورة مراكمة العطاء الفردي المتجرّد باتجاه منجزات و اهداف و قضايا عليا و الايمان بدور كل من تلقي حظا من التعليم بدوره في تقديم مقابل من عمل طوعي.
و الحال كذلك فان الشواهد علي انتشار السلوك الانتهازي في مناطق و زوايا متباينة تتعدد و تتمدد فلا يكاد يبلغها الاحصاء. والا فما قولك في في الالاف المؤلفة تنهل علمها وتبني مهاراتها من عرق الكادحين ودموعهم، عبر عقود من الزمان، ثم تفر من خدمتهم فرار السليم من الاجرب عند اول بارقة للثراء. وما قولك في الالاف من الكوادر الدنيا و الوسيطة في مرافق الخدمة المدنية و قد اتخذت من سلطة المنح و المنع، مهما تضاءلت، اداة للمحاورة و المداورة والتربّح و الاكتناز. و ما قولك في الاف المصرفيين وموظفي المؤسسات العامة، ائتمنتهم الامة علي مقدراتها فلم يؤجلوا عمل اليوم الي الغد واضحي انتهاب المال العام تحت ابصارهم و مباركتهم و مشاركتهم سنةً ماضية ترسّموا خطاها خلفاً عن سلف، حتي تفاحشت الاختلاسات و بلغت ارقاما استعصت علي الحساب. و ما قولك في معلّمين يضنون بالعلم شُحّاً علي ابناء الفقراء في قاعات الدرس، فما يبذلونه الا في حلقات دروس خصوصية ضيقة تقصر قصرا علي ابناء و بنات الموسرين ايثارا للدرهم و الدينار علي امانة العلم و رسالته، و ما قولك في تسعين الفا من موظفي الدولة عصفت بهم رياح "التمكين" عصفاً فباتوا بين عشية وضحاها في قارعة الطريق، ثم يأتي ليحل محلهم تسعون الف "متمكّن" يتقافزون بين الوظائف والمناصب والحزن الذي ران علي عيون الاطفال من حولهم يدمي القلوب و الجزع الذي اغرق نفوس من فقدوا كرامتهم و موارد رزقهم يملأ كل بيت. ثم ما قولك ايها القارئ الكريم، اصلحك الله واصلح بك، في هذه المجاميع التي رأيتها وخَبِرتها في طول امريكا الشمالية وعرضها، عبر سنين طويلة، و قد كان مدخلها و طريقها الي البطاقات الخضراء و الجنسية يمين غموس وادعاءات كاذبة بالتعذيب في بيوت الاشباح و روايات صفيقة مختلقة بالانتماء الي اسرة المرحوم مجدي محجوب و المرحوم د. علي فضل، و اخري بلهاء عن اغتصاب نساء و مصادرة اموال و قتل اطفال! ثم ما ان يستتب للواحد منهم امر في "بلاد الكفر"، بعد ان تجوز خديعته علي محققي سلطات الهجرة، حتي تراه و قد مد ساقيه و اخذ يجادل في المجالس، بغير علم ولا هدي ولا كتاب منير، بإن نظام الانقاذ نظام مبروك، و ان اهل السودان يحتاجون الي وصاية و الي من يحملهم علي الحق حملا! و قد بلغ تزاحم هؤلاء المتكذّبين و نهّازي الفرص علي مراكز اللجؤ مبلغاً حرم ضحايا التعذيب الحقيقيين من كل حق اصيل هم به اجدر الناس؛ و لكأني بهم يشكون الي ربهم ظلم من اتخذ من محنتهم و مأساتهم سلماً و مطية لاغراض الدنيا، وقد تكسّرت علي صدورهم نصال السلوك الانتهازي الذي لا يعرف خلقاً و لا مبدأً، فوق نصال التعذيب الذي لم يرقب إلاّ ولا ذمّة.
كلنا في هم الانتهازية شرق، ومن كان منكم بلا خطيئة فليرجم جامعة الخرطوم بحجر!
نقلا عن صحيفة ( الاحداث)
انتهازيون بلا حدود!... بقلم مصطفى البطل..
| |
 
|
|
|
|
|
|
Re: مفصولون لوجه الله بقلم مصطفى عبد العزيز البطل.. (Re: Yasir Elsharif)
|
شكرا د. ياسر على إيراد هذا المقال الممتاز ..
وهذه واحدة من مآسي السودانيين المتعددة والمتشعبة
قد بدأها نميري وهو مدعوم من الشيوعيين 1969 - 1971
وخرب بيوت وضيع رجال ..كانت كارثة من كوارثة التي لا تعد
Quote: كان من ابطال الفصل التعسفي ابان العهد الحزبي المرحوم صلاح عبد السلام الخليفة وزير شئون الرئاسة وعبدالله محمد احمد وزير الثقافة و الاعلام، و قد طوي الموت صلاحا و اصبح في ذمة العداله الكبري، |
والحكاية مستمرة .. وستستمر لأن العقلية السودانية تسيطر عليها روح الإنتقام بصورة من الصورعند بلوغها السلطة..
Quote: غير ان فكرة احالة موظفي الدولة للصالح العام شهدت في عهد الانقاذ تطورا نوعيا مذهلا من وجهة التنظير وتفاحشاً كميا طاغياً علي صعيد التطبيق، ذلك ان العصبة المنقذة اتت الي السلطة بنظرية فقهية متكاملة هي نظرية التمكين (و الذين ان مكّناهم في الارض) |
صحيح هنا قد فاقت كل المنطق ... خربت البيوت وحرم الشباب من الخريجين من العمل
الشريف في أي مستوى كان .. لأنه ما عنده تزكية .. وكأن حق المواطنة الذي يكفل حق
العمل لكل إنسان أصبح وقفا على أهل الحظوة فقط..
وأنت تعلم د. ياسر بأن العاصمة زادت فيها نسبة الأمراض النفسية بصورة لم يسبق لهامثيل
بسبب الضغوط النفسية الرهيبة التي مارسها النظام على الناس .. شباب اتجه للمخدرات
وكل ذلك بسبب سياسة التمكين ...
من منا نحن الآن يستطيع أن يرجع للسودان ويتحصل على وظيفة تستر حاله ؟؟ رغم المؤهلات
العالية والخبرات الطويلة والمتنوعة والتي لا شك يحتاجها الوطن..لن ينظر لك أحد...
ونسمع من وقت لآخر بمناداتهم للمغتربين بالعودة لبلادهم للمساهمة في دفع التنمية للأمام
شئ مضحك ومؤلم...
لن ينصلح الحال يا دكتور ياسر الأ بتغيير جذري يبدأ بالإيمان الكامل بمعنى المواطنة
واحترام حقوقها..وإحترام الإنسان في إطلاقه كخليفة لله في الأرض بغض النظر لدينه أو لغته
أو لونه
والسلام
| |

|
|
|
|
|
|
|