لمياء شمت في رزنامة الجزولي جمال على جمال في كلب سراماغو!

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-06-2024, 09:45 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الرابع للعام 2007م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
09-29-2007, 06:51 PM

ابوهريرة زين العابدين
<aابوهريرة زين العابدين
تاريخ التسجيل: 12-28-2005
مجموع المشاركات: 2655

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
لمياء شمت في رزنامة الجزولي جمال على جمال في كلب سراماغو!

    تأملوا في جمال اللغة، تأملوا في العبارات، انه جمال على جمال وكلمات على كلمات غير التي نعرفها، كتابة تجعلك تحلق بخيالك في فضاءات اللغة ولغة الفضاءات. شكرا لمياء وشكرا كمال على هذا الارتقاء بنا في عالم الابداع واللغة السليمة الجميلة.
    أبوهريرة
    -----------------------
    ضيف على الرزنامة

    كلبُ سراماغو!

    لمياء شمت


    الثلاثاء:

    ذات يوم بعيد زار الموسيقار العظيم موتسارت مدينة فقيرة الثقافة، إستمع لشئ من موسيقاها الركيكة، وطالع بعض كتاباتها البائسة، فاكفهرت روحه ، واعتكر مزاجه، وانمحق صفو مشاعره، ولم يملك سوى أن يضع معطفه على كتفيه ويخرج هائماً على وجهه في الشوارع الغريبة عله يقع على ما يبدد طعم الرداءة المركزة التي انعقدت في لهاته وانصلبت على لسانه! وبالطبع لم يجد من ذلك شيئاً ولو يسيراً، فأخذ يدندن بينه وبين نفسه حالباً ذاكرته بحثا عن بعض شعر يحمله بعيدا عن تلك الاجواء الكابية. وعندما أسعفته الذاكرة المجهدة بحفنة أبيات، مضى ينشدها عالياً، مؤانسا بها وحشته، فبدا كما لو كان مشاءً فلكياً هبط لتوه من السماء! لكن أظفار الحنق والاشمئزاز المسننة ما لبثت أن نشبت في روحه الشفيفة فأعيتها وأثخنتها. ساعتها تملكه اليأس تماماً، وبدا له صفاء النفس ضرباً من المستحيل في تلك المدينة القاحلة فناً وفكراً، فلم يتوان في أن يهرول عائداً ليحزم حقائبه وهو يصيح حانقاً: "لو خرجت من هذه المدينة بذوقي سليماً لحمدت الله"!

    يستدعي ذلك إلى الذاكرة رسالة عثمان حسن احمد الساخرة إلى صديقه الأثير، وزميل دراسته، علي المك، رحمهما الله، يبثه شكواه المرة من بعض ما كان اشتكى منه موتسارت: "يدهشني هذا السيل العارم من الكتابات، البعض لا يكف عن تسويد الصحف دون أن يقول شيئاً"! ولم يجد عثمان عزاءً، من بعد، إلا في بضعة أقلام ذوات بلسم ينهل منه بعض جرعات مضادة لما أسماه، متندراً، بـ (داء السَّعَر الكتابي)! ثمَّ اختتم رسالته متفكهاً حدَّ السخرية اللاذعة التي لطالما برع فيها كلاهما: "أفكر جاداً في تكوين جمعية للرفق بالقراء"!

    وفي مقام قريب الصلة على نحو ما، تحضرني، أيضاً، حكاية ذلك السلطان المعتوه الذي أرهق رعيته غباءً ثقيل العيار، ورعونة لا يكاد يحيط بها خيال، بأطنان أوامره النزقة، وأرتال نواهيه المرتجلة! وفي غمرة هذيانه السلطاني هذا أصدر، ذات يوم، قراراً عشوائياً بحظر جميع الصحف والمطبوعات، رغم كونها داجنة لا تمثل سوى ظل سلطته نفسها، معتقداً أنه بذلك إنما يكدر الرعية المغلوبة على أمرها، ويسبب لها ضيقاً ما بعده ضيق! لكن كم كانت دهشته عظيمة عندما علم في اليوم التالي أن شعبه خرج على بكرة أبيه، لأول مرة، في مواكب أفراح صاخبة مجلجلة اهتزت لأهازيجها أركان قصره وركائز عرشه!

    نذكر، من جهة أخرى، قصة أبي حيان التوحيدي، المفكر ذي النزعة الانسانية الشاملة المنفتحة، والذي كتب عنه أركون، بكثير من الامتنان، واصفاً إياه بأنه: "الفيلسوف الذي انتفض باسم الإنسان لأجل الإنسان"! أبو حيان هذا، المتلظي بالأسئلة القلقة المتشككة يُخضع بها البداهات المتجمدة والمرجعيات المتحجرة واليقينيات الجمعية العمياء لمبضع التشريح وأفق التحليل، عاش عصر فساد طال كل شئ، وطمست حلكته كل بادرة ضؤ ، وقطع فيه سارقُ السر كفَّ سارق العلانية ، وانطلق (أمراء) المساغب الروحية والفكرية يفتحون فوهات سخامهم ليسودوا واجهات الحياة! وحينما انتصرت على الجمر فلولُ الرماد ، أحرق الرجل كتبه القيمة النادرة ضناً بها على الناس، ومضى يتكئ على بعضه دامعاً، ملتاع الخاطر، يهمهم: "أمسيت غريب الحال، غريب اللفظ، غريب النحلة، مستأنساً بالوحشة، قانعاً بالوحدة، معتاداً على الصمت"! ولعلها ذات الاعراض التي جعلت داود الطائي يطرح مؤلفاته في البحر، وأبا عمر بن العلا يطمر كتبه في باطن الأرض ثم يقيم عليها مناحة لائقة، وأبا سليمان الذراني يضع كتبه في تنور عظيم ثم يسجرها بالنار قائلاً ما معناه إن الأمية ليست بالضرورة الجهل بالقراءة، بقدر ما هي الجهل بالقيمة!

    فإذا تأملنا الحال في مشهده الكامل، بواجهاته وخلفياته وزواياه كافة، ما ظهر منها وما بطن، لانطلقنا من فورنا نهمهم بالتساؤل الفاجع: أي أصناف يا ترى من الموسيقى والغناء في تلك المدينة الكابية جعلت موتسارت يهرب مستغيثاً من فجاجتها المبهظة؟! وهل عرف زمانه مأزق الابداع ينحشر حشراً بين قوسي لعاب (التجارة) السائل وثقافة (الاستهلاك) السائدة؟! وماذا تراه كان فاعلا لو كان أدرك زمان (الفن) المستنسخ بعضه من بعض، تسبغ (أشكاله) السخيفة على (مضامينه) الغثة، فما تكاد تميز أي الركاكتين أورثك الشعور بالقرف إلى هذا الحد!

    أما عثمان الرءوف بالقراء، المشفق عليهم من تراجيديا (الاجتياح الكتابي) العنيف غير المنقطع، فقد فاته ، رعى الله أيامه ، أن يتعزى أيضا بالفارق الهائل بين (كم) الصحف على أيامنا هذه و(كمها) أوان خط رسالته تلك إلى علي. أم تراه آثر أن يتركنا، قصداً، أسارى الحيرة اللغوية، لا نكاد ندري ما إذا كان من الممكن لعبارة (السيل العارم) أن تتسع، وإن نفخت حتى فرقعت أو مُطت حتى تمزقت، لتسونامي الخلط، والتخليط، والمجانية، والخطابية الفجة، والتقريرية الجامدة، والعيانية المباشرة، والترهل اللغوي، والتكرار الممجوج، ومجاعة الأفكار، وتعتيم الوعي، وإعادة إنتاج المسلمات، والدلالات الاعتباطية الفارغة، والتسطيح والتدجين الفكريين، و .. حتى لتكاد عبارة النِفرِّي تستدرك على بعضها، بل تنسخ نفسها، عياناً بياناً وعلى رءوس الأشهاد، لتخرج على الملأ، عارية، تصرخ في القِبَل الأربع: "كلما ضاقت الرؤية اتسعت العبارة"؟!

    حقاً إن بعض المدن تدفعك للهتاف من اعماقك ، وبحرارة: طوبى، طوبى، طوبى لأصحاب النفوس التي تقاوم الصدأ، والعقول التي تتأبى على .. الجنون!



    الأربعاء:

    سؤال لطالما حاول النقاد أن يبذلوا له بعض التفاسير: لماذا يتجه الأدب، بمثل هذه الكثافة والتعمد الملحوظين ، نحو (أنسنة) كل الموجودات والكائنات ما دون البشر، على إطلاقها، بل وإسباغ أنبل الصفات الإنسانية عليها بلا أدنى تحفظ؟!

    يتصدى للاجابة الروائي البرتغالي التسعيني جوزي ساراماغو، الحائز على جائزة نوبل للآداب للعام 1998م كأول كاتب في البرتغالية ينال هذا التقدير العالمي الرفيع، والذي يُعرِّف نفسه بأنه ينتمي لشجرة العائلة الفكرية التي تضم غوغول وفرانز كافكا. ومن أشهر رواياته (دليل الرسم والخط) و(الوضوح) و(الإنجيل يحب يسوع المسيح) التي أقامت الدنيا ولم تقعدها، حتى أن السلطات البرتغالية قررت وقف الجدل بنفي ساراماغو نفسه إلى جزر الكناري! يقول هذا الروائي، بعبارات جريئة وصادمة، إن العثور على خصائص إنسانية في أمم الحيوانات والحشرات ببراءتها الروحية وفطرتها السليمة وغرائزها السوية وحريتها المحببة ، بات أسهل بما لا يقاس من العثور عليها في عالم الانسان! ويضيف أن روح الانسانية قد نزعت من البشر نهائياً، بينما بثت في سائر الموجودات، بما في ذلك حتى .. الحجارة الصماء!

    ويمضي ساراماغو يؤكد بحماسة بالغة ولغة مشتعلة لا تعرف المجاملة أن أوقع وأفضل شخصياته الروائية على الإطلاق هي شخصية (الكلب) الذي يمثل عنده الانسانية في أرفع درجاتها، والصفاء الروحي في أنقى ينابيعه، حتى أن (الكلب) ليتفجع من مآل البشر، فيرق، بل ويبكي أحيانا حتى تتخضل فروة وجهه! ويستطرد ساراماغو بان جل ما يتمناه، عندما تذوي كتاباته، وتذهب طي النسيان، أن يبقى (الكلب) شاخصاً في وجدان قرائه كشخصية خيرة عميقة الإنسانية! ويختم الروائي البرتغالي إفادته بأنه، في لحظة الكشف التي تعطي النص عمقه و رؤاه، وجد نفسه يختتم روايته بعواء (كلب)، لتكون تلك الصورة الرامزة إشارة طاوية للسؤال الذي يطرحه في جل رواياته عن ماهية الحياة ومعناها، وليفتح ذلك العواء الحزين باب التأويل على مصراعيه.

    من يدري ، فلعل (كلب ساراماغو) المحزون الكظيم يدعو البشرية في أوابد حضيضها أن تبدأ جديا في البحث عما يعوض عن انسانيتها المسفوحة في زمن انتصار القبح والخواء والجدب والعبث. وبما أن العقل البشري يبدو وكأنه يوشك أن ينزل عن سدته، لتفوز بالسلطة وتحكم البشرية أعضاء أخرى، فما ضر هذا (الكلب) أن يتناسى أساه ومكابداته، فلا يجد حرجاً في أن يفخر ويباهي بما خلع عليه الروائي الكبير من صفات، وما أسبغ من مكرمات، من وقف ميراث لا مُطالب به. لكنه لا يفعل، بل يتلفت مشفقاً حسيراً كسيفاً وهو يرى الانسانية في عبثها المتقن تأخذ أنفاسها بعمق قبل أن تقفز في سقوط حر صوب القاع!



    الخميس:

    ما زال الرائعون في هذا العالم ينسلون خلسة من بيننا، يتركون فينا طاقة أحلامهم ورؤاهم، وبريق عقولهم وأرواحهم، وأشعة قناديلهم المسرجة بالحق. هؤلاء الاماجد، أصحاب النظر العميق، والفكر المتدبر، والفعل المؤثر في عصب الحياة بجرأة مقدامة، وصدامية لا تنزلق إلي فخاخ العنجهيات التي أوسعت التيوس حلباً، تشهد سيَرُهم الزكية بأن حيواتهم كانت حقولاً وفيرة الطرح لأطيب ثمار الرؤى والمواقف ومنبهات الوعي. أقوى ما يشدنا إليهم أنهم ديموقراطيون بلا جعجعة، وصادقو الاحترام للآخر، والتوقير لمشروعية الاختلاف. ما ركنوا يوما للشعارات الباردة، ولا للأيديولوجيات الخاوية، ولا للمسلمات المكلسة، بل خددوا صخرها ثلماً، حتى تداعت بين أيديهم، وانسبر غورها .. لآلئ هي أم محض أصداف قذف بها موج الصراع الاجتماعي إلى شواطئ الفكر!

    وها قد انقضى، مثلاً، عام على رحيل علياء الصلح، الكاتبة الحاذقة، المصادمة، الجسورة، عميقة الثقافة، واثقة الخطى، بنت أبيها بطل الاستقلال اللبناني رياض الصلح، وما يزال ملء الخاطر انحيازها لشعبها، واحتجاجها القوي، فكراً وعملاً، ضد من يجعلون المواطن "إنساناً كامل الحقوق في مواسم الانتخابات، مبتورها ومعدومها في الأيام العادية"! رحلت بصمت أسيف، مخلفة الحسرة للبنانها الغارق في وحل المزايدات والمناقصات التي لا يكاد ينماز ، وسط ضجيجها ، صوت العدو من صوت الحبيب!

    وما كادت تنقضي بضعة أشهر على موتها الفاجع حتى رزئت الثقافة الانسانية كلها برحيل أب السينما الأفريقية الناطقة بالفرنسية، الروائي والسينمائي السنغالي عثمان سمبينا، صاحب مدرسة أدب المواجهة والتصحيح وسينما القضايا. سمبينا المؤرق الأبدي بالأسئلة الملحاحة، وغصص الحفاة المتعثرين في الأشواك، ووجع الأجنحة الحبيسة عن فضاءات التحليق، وذل القامات الفارهة ترغمها الأسقف الواطئة على الانحناء. سمبينا المفكر الغواص جسارة لا تعرف التردد في بحر الاقتصاد السياسي لقضايا التطور الوطني والاجتماعي الأفريقي، والفنان المتوغل خلقاً لا يعرف الوجل في أكمات دغلها الشائك ، والداعية صاحب النظر المتفرد في تكريس الابداع نضالاً سياسياً جهيراً لاستنهاض الوعي الاحتجاجي الفصيح ضد أوضاع وظروف التخلف البالية. سمبينا صديق المرأة الصدوق ، ونصيرها النبيل ، والمصارع الباسل معها لأجل انتشالها من جوف رمال الوصاية الأبوية الخادعة ، والاستغلال الفصامي الخبيث ، يصرخ في أذنيها محذراً من مكر ولؤم وسوء طوية (أصدقائها) الزائفين يتكسبون من التشدق بحقوقها ، أكثر من توجسه من (أعدائها) الصريحين!

    ثم سرعان ما غيب الموت أيضاً ذلك الهين المعطاء، صاحب الرؤى الإبداعية المتميزة التي تحول جلها إلى محض مشاريع مرجأة لا تجد غطاءً كافياً من الموارد يكفل لها شق طريقها إلى حيز التحقق. المسرحي والكاتب والناقد والشاعر العراقي عزيز عبد الصاحب، أحد مؤسسي الفرقة القومية للتمثيل التي أوقدت شعلتها في عام 1968. عزيز الإنسان سخي البذل الإبداعي والفكري الذي رسَّخ فنه ورؤاه ، بأناة وتجويد ، في عقل ووجدان قطاعات واسعة من الناس الذين حملت أعماله الرصينة على عاتقها أرتال همومهم ومواجدهم وانكساراتهم، كما في مسرحيتيه (رغيف على وجه الماء) و(الباب العالي). وكان عبد الصاحب أحد أهم المسرحيين الذين وهبوا وقتهم وجهدهم ورحيق أفكارهم لمسرح الطفل، كمدرسة ابداعية للتوجيه القيمي غير المباشر على صعيد الحب والخير و الجمال. ويقول صديقه علي حسين في نعيه: "لو عاد عزيز إلى الحياة لوجد مفاجأة من العيار الثقيل .. فالدولة .. سارعت تستبق الآخرين بنعي مؤثر للرجل الذي مات ليلاً وحيداً في فراشه! لم يدر المريض المعوز، بجسده النحيل وصحته الهشة، أن الدولة ستذكره بنعي، وهو الذي ظل يزحف دهراً بجسده المعتل خلف المواصلات العامة، ليحمله باص متعب إلى عرض مسرحي أو ندوة أدبية، ويتحسس متوجساً جيب سترته ليطمئن على أن الدنانير المتبقية تكفي أجرة باص آخر متهالك يحمله إلى بيته. سيضحك حتما من النعي المطول، فخيم اللغة، وهو الذي باع مكتبته الضخمة القيمة التي كانت مبذولة للباحثين وطالبي المعرفة، ليسد رمقه، وينفق ما تبقى لأجل المشاركة في نشاط فني هنا أو هناك، يؤجل شراء دوائه مرات، مؤثرا إنفاق ثمنه في خلق محاضن لتشجيع واحتواء البوادر الإبداعية، كي يتحقق حلمه بأن يصبح المسرح خبزاً يومياً لكل الناس".

    هكذا موعودون نحن ، كلَّ مساء ، برحيل مثل هؤلاء السوامق خلسة، ومثلهم كثيرون في بلادنا. يذهبون ولكن يبقي تصاهلهم النبيل دليلاً ومرشداً وهادياً ، وسط كل هذا الليل البهيم، والظلمات المطبقة ، والعواء الذي يصم الآذان!



    الجمعة:

    جلسة تلفزيونية (عامرة) بدا فيها ضيوف البرنامج وكأن بينهم رهان أناقة مضمر، بهندامهم البهي، وبزاتهم نسيقة الألوان، وربطات أعناقهم البراقة تكسف الأضواء الباهرة، حتى تخدرت الكاميرا، فصارت تدور بين هذه الأزياء الفاخرة، غافلة، أكثر الأحيان، عما فوق ربطات الاعناق!

    تناوب أولئك السادة على المايكرفون، في تلك الأمسية، مستعرضين عضلاتهم اللفظية، يحدثوننا بما نعلمه سلفاً عن أن الاتجار بالبشر سقطة مخزية، وعار وبيل في تاريخ الإنسانية، وجريمة شنعاء تطارد لعنتها أصحابها حتى درك قبورهم! وانبري أحدهم يخبرنا عن تاريخ الرق المرذول، وما ينوء به من تسليع للبشر، وإهدار لكرامتهم، ولقدسية إنسانيتهم.

    وكي يصبح للأمر تأثيره المرجو عرض مخرج البرنامج علينا لقطات مجتزأة من فيلم (جذور Roots)، ليرينا البشر المسلعين ترهقهم قترة الذل، يرسفون في أصفاد الهوان بلا حيلة ولا أمل. عندها طاف بذاكرتي كدح اليونيسكو للتذكير بضحايا العبودية عبر التاريخ والجغرافيا، وتخصيصها يوم الثالث والعشرين من أغسطس من كل عام لهذا الغرض، والجدل المتشعب حول ضرورة الاعتذار للشعوب المغدورة، مما تمخض بعضه عن اكتفاء رئيس وزراء بريطانيا السابق بلير (بلير الدوبلير كما هي سجعتي المفضلة) بالتعبير عن أسفه الشخصي لذلك التاريخ الأسود .. لاحظ أسفه (الشخصي) لا الرسمي! وللمفارقة، عندما تم اكتشاف سفينة للفايكنج غارقة قرب الشواطئ الدنماركية، وتبين أنها مصنوعة من أخشاب الغابات الايرلندية، سارع وزير الثقافة بتقديم اعتذار (رسمي) لإيرلندا، وأصدرت الدولة على الفور قراراً بترميم السفينة، ولو تطلب الأمر معجزة، كي تبحر وعلى متنها مئات ممثلي الشعب الدنماركي، من مختلف الفئات، حاملين رسائل الاعتذار المؤثرة للشعب الإيرلندي عما تجرأ عليه أسلافهم!

    ما يكاد المرء يلتحم بمشاهد الانسانية المستباحة في فيلم (جذور) المأخوذ عن رواية أليكس هيلي الشهيرة، حتى تتملكه الدهشة والحيرة من اصرار الاعلام المرئي غير المبرر على استهلاك هذا الشريط وحده، تعييناً، كلما تعلق الأمر، من قريب أو بعيد، بالرق والاتجار بالبشر، فلكأن ثمة ندرة في صور التسليع والمسلعين! أم ترى الخدعة انطلت على الخادع، فتعملقت دوامة الكذب المائجة حتى ابتلعت ضفافها، لينسي سحرة الإعلام حيلهم اللفظية ومهارتهم اللغوية التي تحول هلام الكلام إلي ديباجات مرقشة، تطرب لها الآذان، وتقر لها النفوس، وتنام على هدهدتها العقول، فيديوكليبات، وعروض أزياء، ومسابقات جمال، وهلم .. دحرا، ولا أحد يولي التفاتاً للمفارقة الرائجة بين صور التسليع العبودي القديم يُستبشع على الأثير، وبين صور الهدر الحديث لكرامة شعوب بأسرها لا تستوجب جريمة استرقاقها كلمة اعتذار (رسمية) تبذل بأريحية وزيادة في حق أخشاب الغابات الايرلندية!



    السبت:

    المكان: معرض تشكيلي أنيق. الزمان: أمسية خريفية تتلامح في ثنايا دكنة غمامها بعض أنجم. لوحات نسيقة مصفوفة بعناية. مائدة بصرية عامرة تختال بتنوعها ما بين زيت على قماش، واكريليك على خشب، وسيليلوز. شئ واحد أفسد علي متعة النظر، وسلاسة انسيابيته على فضاء اللوحة، وتلمظه لحلاوة انسرابه بين تفاصيلها. جسم غريب متعلق، كالزائدة، بأسفل الإطار يحمل عنواناً ما!

    لم أستطع المتابعة، فخرجت. وفي الطريق إلى البيت تزاحمت برأسي أسئلة ملحاحة. كيف يزحف (المنطوق) ليفرض وجوده الثقيل، بتفسيراته الزائدة، على (المرئي)؟! لقد رفض جبران تذييل أي من اللوحات التشكيلية العديدة التي أنجزها بتفسيرات (منطوقة)، وعندما سأله متحذلق عن ذلك، أجاب بقوة: "إن الرؤى لا تعنون، الرؤى يجب ألا تعنون"، فبهت الذي سأل! وكذلك الكثير من كبار التشكيليين لم يطلقوا أسماء على لوحاتهم. فدافنشي مثلاً لم يقترح عنوانا ولا إسماً لتلك السيدة روية الأنوثة، بجذعها المائل، ويمناها المرتخية عذوبة ورقة، حتى جاء جورجو فازاري، أحد مؤرخي فنون عصر النهضة، فأطلق عليها اسم (الموناليزا)! فازاري، إذن، وليس دافنشي نفسه، هو من اطلق الاسم على اللوحة، وربما كان لدافنشي رأي آخر! فهل صدفة تعمد جل مبدعي اللوحات الكبار رفض الاذعان لسيطرة (الإنشائية)، وأحجموا عن جر لوحاتهم، قسراً، محلولة الشعر، إلى جوف بيت الطاعة (اللغوي)، وطمس إبانتها الساطعة برطانة معتمة تختزل كل فصاحتها الثرية وتعبيريتها القوية إلى محض عنوان إنشائي (منطوق) يفرغها من دلالاتها (البصرية)، ويحرمها من رصيدها الرمزي وحساسيتها الإبداعية، ويجردها من شموخ ترفعها على قامة (الحرف) وتجاوزها لسقف (العبارة)، ويقصقص أجنحتها الغيبية ليجمدها في قالب (لغوي) يحجب أكثر مما يكشف، كونه ليس من جنسها؟! وهل يستقيم تفسير اللغة (البصرية) باللغة (المنطوقة) ، وبإملاء مؤسس على السلطة المبدعة ذاتها؟! بعبارة أخرى: هل يحق لمبدع اللوحة أن يسعى بتفسيراته لامتلاك الإحاطات التذوقية خارجها، تماماً كما يمتلك المنجز الإبداعي داخل إطارها؟! وفي كل الأحوال، هل يلزم المتلقي، أيا كان مستوى ثقافته البصرية، أن يطابق حسه وحالته الشعورية وانفعاله الخاص باللوحة مع التفسير الانشائي الجاهز أسفلها؟!

    ولعل نبرة هذه التساؤلات المشروعة تصبح أكثر ارتفاعا وحدة عندما يتعلق الأمر بالأعمال التشكيلية ذات الطابع التجريدي، كونها مبذولة، بطبيعتها، للتأويل الطليق.



    الأحد:

    لا يطل أغسطس أو ينصرم دون أن تتغشانا ذكرى "الصوت الذي هطل سعادة على كل شبر في الوطن، مطرة الفرح الأولى لأرواحنا المكتظة بالأحزان الجافة، صاحب الوقفة الشامخة في المسارح .. والناس آذان وعيون"! عبد العزيز أبو داود كما يصفه خله الوفي علي المك في سلسلة مقالاته عن ذكرياته معه، وهل أقرب أو أعذب من قلم علي المك ليحدثنا عن (وطن وجدانه) فيقول: "رأيته أول مرة واقفاً على الطريق الكبير، شارع الموردة، وحده، يلفت النظر إليه بطوله الفارع، وسواد بشرته النبيل، على أقل تقدير كان أطول إنسان عرفه الصباح في ذلك الشارع"!

    ونتطوف معه، وحاسة ابو داود وحساسيته الجمالية الحدسية تجعله يرخي سمعه في مدرسة الخرطوم الابتدائية ليلتقط صوت كرومة يأتيه من فونوغرافات المقاهي المجاورة. و يسعى على أقدامه لمسافات طوال وحيدا، متقفيا صوت زنقار في ظلام الأزقة المتعرجة غير مبال بالكلاب تنوشه من هنا وهناك! و يبذل كثير جهد ووقت وإصرار حتى يجد من يدله على بيت عمر البنا ليستأذنه في غناء (نسايم الليل)، بعد أن يتأكد من صحة النص، ويراجع معه سلامة نطقه للكلمات ـ عرف هكذا، بالفطرة السليمة، كيف يراعي (الملكية الفكرية)، قبل أن تقوم لها منظمة عالمية وتنص عليها القوانين، فأين من ذلك قراصنة الحقوق اليوم ـ "لتنتشر الأغنية علي حنجرة الذهب، سخية الوقع والإيقاع واللحون".

    وعلاقة ابو داود بجمهوره تستحق وقفة، فقد عرف، بدربة معلم محنك، كيف يغويه هوناً على مدارج فن الاستماع وأدب الاصغاء، بالقفشات والملح أحياناً، وبالرمية المتوجدة الآسرة فاتحة الطرب أحياناً أخرى "الجَّرحُو نوسَرْ بَيْ/ غوَّرْ في الضَّمير فوق قلبي خلفَ الكَّيْ/ يا ناسْ الله ليْ"، فتنسكب خمرة الطرب المعتقة في دن الأرواح. ويصعد ابو داود المسرح، فلكأنه فضاء الاوركسترات العالمية العظيمة، بجمهورها المترف نخبوي الذائقة، لا تكاد تسمع إلا تهدج الأنفاس تستهتن، بصبر نافد، فيض عذوبة الصوت الشجي. رحم الله أبو داود وعلي المك.



    الإثنين:

    نقلت صحيفة الحياة السعودية، في عددها بتاريخ 22/8/07 عن رويترز، خبر فوز سبعة شعراء عراقيين بجوائز (ديوان شرق ـ غرب)، ومقره العاصمة الألمانية برلين، والمعروف بلجنة تحكيمه المهيبة التي تضم قامات نقدية وشعرية معروفة، وأساتذة كبار في الأدب العربي والأدب المقارن. الجائزة الأولى تقاسمتها داليا رياض عن ديوانها (عشرة آلاف لمحة بصر)، وحميد قاسم عن ديوانه (وهذا صحيح أيضا). وتقاسم الجائزة الثانية احمد عبد الحسين عن (جنة عدم)، وحسن النواب عن (من يجيب البلاد إذا دعته). أما الجائزة الثالثة فقد نالها ثلاثة شعراء: راسم المرواني عن (ليلة احتراق القمر)، ونجاة عبد الله عن (مناجم الأرق)، وخضر حسن عن (أرسم أسئلتي لسواي وأمضي).

    سبعة شعراء، جميعهم عراقيون. وبلا تعليق أترك صوت الفيتوري لينشد: "لمْ يتركُوا لكَ ما تقولْ/ والشِّعرُ صَوتكَ حينَ يَغدو الصَّمتُ مائِدَة/ وتنسَكِبُ المَجاعَة في العقولْ/ لمْ يعرفوكَ وأنتَ توغِلُ عارياً في الكَّوْن إلا من بنفسَجَةِ الذبُولْ/ لمْ يُبصِروا عينيكَ كيفَ تقلبان ترابَ أزمِنةِ الخُمُولْ/ لمْ يسكتوا شفتيكَ ساعة تطبقان على ارتِجافاتِ الذهُولْ/ لمْ يَشْهدُوكَ وأنتَ تولدُ مِثلَ عُشْبِ الأرض/ مِن وَجَع الفصُولْ"!

    *باحثة وناقدة وأستاذة اللغة الانجليزية بجامعة الملك سعود.
                  

09-29-2007, 09:07 PM

Nasr
<aNasr
تاريخ التسجيل: 08-18-2003
مجموع المشاركات: 10839

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: لمياء شمت في رزنامة الجزولي جمال على جمال في كلب سراماغو! (Re: ابوهريرة زين العابدين)

    يا للجمال
    يا للبهاء
    بالله في سودانيين/ات بيتكبوا زي كدا
    إذن ما زال السودان بخير
                  

09-29-2007, 10:54 PM

ابوهريرة زين العابدين
<aابوهريرة زين العابدين
تاريخ التسجيل: 12-28-2005
مجموع المشاركات: 2655

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: لمياء شمت في رزنامة الجزولي جمال على جمال في كلب سراماغو! (Re: Nasr)

    نعم نصر انه جمال ما بعده جمال
                  

09-30-2007, 04:09 PM

ابوهريرة زين العابدين
<aابوهريرة زين العابدين
تاريخ التسجيل: 12-28-2005
مجموع المشاركات: 2655

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: لمياء شمت في رزنامة الجزولي جمال على جمال في كلب سراماغو! (Re: ابوهريرة زين العابدين)

    --
                  

09-30-2007, 04:38 PM

رشا سالم
<aرشا سالم
تاريخ التسجيل: 08-24-2006
مجموع المشاركات: 2605

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: لمياء شمت في رزنامة الجزولي جمال على جمال في كلب سراماغو! (Re: ابوهريرة زين العابدين)

    keep z nice work lamia...........ramadan kareem
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de