|
شاعر الغربة والثورة مئة عام على ولادة ناظم حكمت
|
نقلا عن البيان26/5/2002 / بقلم بقلم: فتحي عامر
توزعت حياته من سجن الى سجن، ومن منفى الى منفى، ومن غربة الى غربة، لكنه في وحشه الترحال لم يفقد وردة الأمل، فتحولت قصائده الى رسائل ياسمين تحمل في طياتها الوعد والبشارة، كيف حمل قلبه كل هذه الجبال من العذاب وكل تلك الوديان من التفاؤل معا؟ لا أظن أن ناظم حكمت توقف كثيرا عند هذا السؤال، لا لأنه لم يطرحه على نفسه، ولكن لأن تجربة حياته، وتجربة شعره لم تكن تحتمل رفاهية التوقف والبحث عن اجابات فهذا التوقف قد يجتر من أغوار حزنه الدائم ما يعطل مسيرة الأمل المنداح أمل يرفرف بأشواق الانسان وأحلامه، في الخروج من سراديب العتمة والقبح الى براح النور والحرية والعدالة والجمال.. فقط سوف يتوقف ناظم حكمت الشاعر التركي الذي يحتفل العالم الآن بمرور مئة عام على ميلاده ليقول لنا.
ان أجمل الأنهار لم نرها بعد وأجمل أطفال العالم لم تولد بعد وأجمل أيام العمر لم تشرق بعد وأنا لم أهمس في أذنك أجمل ما أتمنى أن أهمس لك به وسوف يفاجئنا ناظم الذي قضى حوالي 20 عاما من حياته في السجون أنه قهر سجانيه بانسانيته، وتحول بين زنازين الغلظة الى ورقة ورد رهيفة بالغة الشفافية تقطر شعرا له رقة الندى .
وضمن احتفالات العالم بمئوية ناظم، احتفلت القاهرة، فاجتمع نفر من الكتاب والأدباء والمترجمين في مؤتمر اقامه المجلس الأعلى للثقافة، وقدموا أبحاثهم وشهاداتهم وتجاربهم مع شعر ناظم حكمت وحياته وأصدر المجلس ديوان أغنيات المنفى لناظم الذي ترجمه الشاعر والمترجم محمد البخاري وفي أعمال المؤتمر ما يسلط الأضواء على شعر ناظم وحياته،
وفيها ما ينقب في العلاقة بين تجربته السياسية الاشتراكية، وبين المنحى الشعري التجديدي الذي أسسه ناظم في مرحلة تاريخية كان الشعر التركي فيها منغلقا على نفسه ومحافظا، وفي الأبحاث أيضا تلك الوشائج الحميمة بين قصائد الشاعر وصوت شعبه، والتي جعلت شعر ناظم يمتح من معين صاف من الأغاني الشعبية التركية والسير والملاحم ويمزج هذا كله برؤاه الفكرية السياسية المنحازة للكادحين والفقراء والبؤساء من ابناء أمته.
لكننا سوف نبدأ مع ناظم من أول رحلته حيث يحدثنا الكاتب والمترجم طلعت الشايب قائلا : جاء ناظم حكمت المولود في سالونيكا في 7 فبراير عام 1902 الى الابداع من عائلة أرستقراطية مثقفة، كان جده ناظم باشا المولوي يكتب القصائد الدينية والتعليمية بلغة تركية بها قدر كبير من الكلمات العربية والفارسية، كما كان حكمت باشا قنصلا في هامبورج ومديرا في الخارجية التركية وواحدا من أبرز قيادات حزب الاتحاد والترقي،
وكانت أمه جليلة رسامه وقارئة جيدة ذات اطلاع واسع على الثقافة الفرنسية، يتذكر ناظم أنه كتب قصيدته الأولى في استانبول وهو في الثالثة عشرة من عمره، وكان حريق هائل قد شب في المنزل المقابل لهم، فتملكه الفزع، وبعد أن تحول المنزل الى رماد كتب قصيدة بعنوان(الحريق ) ، جاء وزنها مطابقا لتلك الأصوات الباقية في مسمعه من قراءة جده لاشعاره وقصيدته الثانية كانت وهو في الرابعة عشرة تقريبا وكانت عن الحرب العالمية الأولى التي مات فيها خاله ويمضى طلعت الشايب مع رحلة ناظم قائلا ومع احتلال استانبول من قبل دول الوفاق توالت قصائده ضد الاحتلال،
وكان ناظم قد بدأ نشاطه السياسي كمناضل تقدمي مسئولا في تحرير جريدة المطرقة والمنجل ودرس الاقتصاد والاجتماع في جامعة موسكو في الفترة من عام 1921 حتى 1924 وبعد أن عاد سرا الى بلاده عام 1928 تم اعتقاله ولم يطلق سراحه الا في عفو عام سنة 1935 ثم حكم عليه مرة أخرى سنة 1938 لمدة 28 عاما لقيامه بنشاط معاد للنازية ولفرانكو،
قضى منها 13 عاما في سجون مختلفة قبل أن يطلق سراحه على أثر موجة احتجاج عالمية وحملة واسعة للافراج عنه نظمتها لجنة في باريس كان من بين أعضائها بيكاسو وبول روبسون وسارتر وكانت التهمة المباشرة الموجهة اليه هي تحريض جنود البحرية التركية على التمرد عن طريق قصائده التي وجدوها معهم وبخاصة ملحمة الشيخ بدر الدين التي نشرت سنة 1936 وهي عن فلاح ثائر على الحكم العثماني في القرن الخامس عشر.
ومن تجربة حياة ناظم حكمت الى تجربة شعره التي يحدثنا عنها محمد البخاري قائلا اتسم شعر ناظم بالشعبية، وليس معنى هذا أنه تبنى أسلوب الشعب فحسب بل أنه ارتقى بأسلوب الشعب الى الصياغة الفنية التي تتسلل الى قلب الرجل المثقف ورجل الشارع، فقد أخصب ناظم لغة الشعر بما تزخر به لغة الشعب من تغييرات وصور وأساطير وبما يمتلئ به التراث الشعبي من حكمة عميقة رسبتها التجربة الطويلة على مر الأجيال. وكتب ناظم شعره ببساطة يتعانق فيها المثل الأعلى بالزوجة المحبوبة بثرى الوطن، فلا تكاد تعرف أيهما يعني حين يتحدث : زوجته أم مدينة اسطنبول بل لا تستطيع أن تفصل الانسان عن الوطن عن فكرة وقضيته، فلم يكن احساسه بالواقع احساسا سطحيا أو فوريا، بل كان احساسا عميقا متأنيا ذكيا، فقد لمس المنابع التي يستمد منها الشعب غذاءه الروحي، وأدرك عمق احساسه بالحرية، غير أن ارتباطه بقضايا الشعب وبالدعوة الى العدل والى الثورة على الظلم قد أشاع في شعره نبذا انسانيا جعل منه شعرا عالميا.
ويتوقف بنا الروائي ادوار الخراط أمام قصيدة (جون كيشوت) لناظم حكمت ليستخلص منها صورة فارس الشباب الأبدي التي رسمها ناظم وهي صورة مغايرة تماما للصورة التي اجهدت أجيالا كاملة من النقد الأكاديمي، فدون كيشوت عند ناظم ليس هو تلك القامة الكاريكاتورية المضحكة أو المؤسسية، وقد استبدت به نوبة من الهوس المفاجئ وليس هو الفارس القديم الذي طرحته أمواج زمن غابر ولكنه في قصيدة ناظم ذلك الذي يتبع طريق العقل الذي كان يخفق في قلبه انه حمى العقل التي تقترن بحر الصيف أو العقل الذي يتوهج بحرارة القلب.
واذا كان العقل هو فارس العصر الجديد كما يراه ناظم حكمت، فان الفقر هو عدو الانسان الأول ومعطل طاقاته ومواهبه، وقدراته، ومكافحة الفقر من أهم القضايا التي رهن لها ناظم قصائده كما يقول الدكتور الصفصافي أحمد مرسى أستاذ اللغة التركية فقد كان ناظم يرى في قضية الجوع مأساه تلف الشعب التركي كله فبلده تركيا هي بلد الجوعى الذين عضهم الجوع وحطمهم الحزن ونال منهم الهزال الذي ينم عن قسوة تلك المجاعة ويستخدم المقابلة بين حياة المعدمين وحياة المترفين ليجسد فداحة الظلم الاجتماعي على سطح الكره الأرضية.
ويتذكر الدكتور مرسى سعد الدين الرئيس الأسبق لهيئة الاستعلامات تلك الزيارة التي قام بها ناظم حكمت الى القاهرة عام 1962 وكانت بدعوة من اتحاد كتاب آسيا وأفريقيا في مؤتمره الثاني، وكان سعد الدين مسئولا عنه، جاء ناظم الى القاهرة وكانت أشعاره قد سبقته بسنوات طويلة كواحد من أهم شعراء العالم في ذلك الزمان، واحتفى به الأدباء المصريون احتفاء كبيرا، وطلب ناظم زيارة مدينة بورسعيد تلك المدينة التي صمدت في حرب السويس أمام جيوش انجلترا وفرنسا واسرائيل وردت الغزاة على أعقابهم، وكتب هناك قصيدة عن بورسعيد رمز المقاومة، كتبها عن عامل أسمر نحيل صغير حافي القدمين لا يزيد عمره على عشر سنين اسمه منصور.
أصدر ناظم أكثر من 15 ديوانا شعريا وعدة مسرحيات تعبر كلها عن شوق الانسان للخلاص من قيوده وحلمه بالعدل والحرية، ومات ناظم غريبا عن وطنه مات فارس الأمل الحزين في موسكو أول مارس سنة 1963 لترثيه البلابل والسوسنات والوديان التي حلم بها.
|
|
|
|
|
|