أمير تاج السر ..... يحفر إسمه في عالم الرواية العربية

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-25-2024, 02:17 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف العام (2001م)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
04-12-2002, 05:32 PM

أبنوسة
<aأبنوسة
تاريخ التسجيل: 03-15-2002
مجموع المشاركات: 977

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
أمير تاج السر ..... يحفر إسمه في عالم الرواية العربية

    ، هذه محاولة لسبر أغوار هذا الأديب وأرشحه عضوا لهذا المنبر
    وأدناه مجموعة من لقاءات صحفية ولنوجه له دعوة لمشاركتنابالكتابة.

    القاء الأول - جريدة الخرطوم 1997م



    حوار مع الروائي أمير تاج السر

    جريدة الخرطوم



    1997



    حاورته : ليلى صلاح

    رواية السيرة الذاتية كجنس أدبي محل جدل كثير .. أين تصنفها أنت ؟

    رواية السيرة الذاتية كانت وما تزال منتشرة .. باعتبار أن المؤلف يكتب خبرته .. أي أنه يبدع في دائرة يتقنها، ولا أجد ضررا في ذلك ما دام في الأمر نوع من الإبداع . بالنسبة لي أكتب أشياء مررت بها ولكن لا أكتب سيرة ذاتية .. أيضاً أجد أن رواية السيرة الذاتية لا تلائم كتابتي .. وكتابتي لا تلائمها لأنني لا أكتب رواية واقعية بالمعنى الصلد للواقع ، وإنما أكتب واقع آخر مواز

    -بعيدا عن القداسة التي تتصف بها اللغة العربية .. ماذا تقول بموضوع ضرورة إصلاح اللغة وتشكيلها ضمن أنساق وأشكال جديدة تلائم التطور ؟

    لعلك تقصدين قداسة النصوص التقليدية .. نحن لسنا لغويين لنعدل في اللغة .. ولكننا نستطيع أن نعدل في كتابتنا بما يتوافق والتطور .. هناك جهود كثيرة في هذا المضمار .. في الشعر والقصة على الخصوص

    -لغة الحوار في العمل الروائي تخضع للكثير من النظريات .. كيف تتعامل أنت مع هذه الإشكالية ؟

    تقصدين كتابة الحوار بالفصحى المتعارف عليها ! أم العامية المحلية ؟ على أي حال أنا لا أتعامل كثيرا مع الحوار داخل نصوصي .. أنا أحتفي بالسرد أكثر باعتباره يتلاءم مع كتايتي أيضاً .. أنا لا أكتب رواية تقليدية ولست مضطرا لتدبيج نصي بالحوارات .. وإن كان لابد من وجود حوار فأنا أفضِّل الفصحى المبسطة بحيث تفهم بسهولة

    -إذا عجز القارئ عن فك شفرة العمل الفني .. فهل هذا خطأه أم عجز في أدوات الكاتب

    هذا سؤال غير لائق .. الكاتب .. أعني الكاتب الحقيقي ليس مطالبا بالكتابة وفقا لأهواء القراء وإمكاناتهم .. نحن ننطلق في كتابتنا من محاور عدة .. نكتب الفكرة كما هي في أذهاننا ونتوقع تواصل المتلقي ، فإن لم يتواصل معنا فذلك لا يعني أننا عاجزون . ولا أنكر هنا أن هناك نصوصا معقدة قليلا .. ومنها نصوصي التي تحتفي بالمحلي والغرائبي أحيانا.. هذه النصوص في رأي تحتاج إلى تلقي خاص بعيدا عن القراءة المسلية والقراءة قبل النوم

    كبف تكتب الرواية ؟ هل تخطط لذلك ؟ وأين يكون هاجسك عندها .. توصيل فكرة .. أم ماذا ؟

    أكتب الرواية بكل بساطة .. فكرة ما تلح علي .. وشخوص يتناوبون إقلاقي .. وعالم يتجرجر إلي أوراقي الملساء .. ليس هناك تخطيط ولا شئ ..أكتب النص في العادة ثلاث مرات خلال عدة أشهر وفي كل مرة أضيف وأحذف .. حتى أحس به أنيقا فأسمح له بالخروج . وكما تلاحظين أنا أهتم بزركشة النصوص ..وأكتب بلغة الشعر .وفي العادة لا أسمح لنفسي بالتورط في عمل جديد قبل أن ينتهي العمل الذي أكتبه .أيضاً القراءة أثناء كتابة عمل ما تشحنني

    - شخصياتك الروائية النسائية برغم حضورها المادي وجسارتها .. إلا أنها قليلة وغير مؤثرة ؟

    شخصياتي النسائية موجودة في حدود المساحة المتاحة لها سواء في الفكرة أو المكان .. ورأى أنها مؤثرة في حدود دورها .. أم تريدين حشو النص بنساء لا معنى لوجودهن . انظري إلى مستورة في ( كرمكول ) .. والمغنيَّة ( صفية عثمان ) في ( سماء بلون الياقوت ) و ( تماضر إدريس ) في روايتي القادمة ( نار الزغاريد) !

    - عالمك الروائي رغم واقعيته ينطق بالغرابة ويمتلئ بالصور الخارقة .. هل هي الواقعية السحرية ؟

    يحتمل . فكما فلت من قبل في حوارات سابقة .. إنني أكتب وفقا لمنهج وضعته لنفسي .. من أبرز سمات هذا المنهج هو الاستيحاء من الموروث الشعبي والأسطورة .. وإنشاء عالم مواز للواقع بأخذ من الواقع ويعطيه .. أيضاً للغة الشعرية التي أكتب بها دور كبير في جعل المذاق مختلفا .. هذه كتابة تعجب البعض ولا تعجب البعض الآخر .. لكنها كتابة على كل حال

    - ألا تعتقد أن الأبيات الشعرية المضمنة في رواية ( سماء بلون الياقوت ) زائدة ولا مبرر لوجودها ؟

    الأبيلت الشعرية في ( سماء بلون الياقوت ) تدخل في لحم السرد .. إنها تكمله ولا أعتقد أن الأمر كان غامضاً إلى هذا الحد ..كل مقطع من تلك الأبيات له مبرره ومبرره القوي ..

    مدينة ماركيز ( ماكندو ) هي كل المدن ولا مدينة .. فأين كرمكول

    كرمكول هي قريتي التي اخترت جغرافيتها لأرسم روايتي ( كرمكول ) وسماء بلون الياقوت ) .. القرية التي تضج بالتناقضات .. وتجسد روائح المجتمع .. أنا الآن اكتفيت من تلك القرية وأكتب عن أماكن أخرى

    سماء بلون الياقوت .. ألم تأت الغنائية في السرد على حساب الحبكة ؟ أعني اللغة الشعرية الممتعة وهناك صور لشخصيات متعددة لكن ليس هناك حدث يجمع بين كل تلك الشخصيات ؟

    ألم يكن موت ( سعد الأرباب ) الأب الروحي للقرية وما ترتب عليه حدثا كافيا ليجمع كل تلك الأنماط ؟ هذا من ناحية .. أما من ناحية أخرى فأنا كما قلت لا أكتب رواية تقليدية أو عادية تبدأ وتتوسط وتنتهي .. أنا أكتب رواية مختلفة فيها من تناقضات المكان وموسيقى اللغة أكثر مما فيها من الجري وراء حدث واحد ممل

    - المنفى فضاء روائي شديد الغنى والأهمية .. أقصد بالمنفى خروج الانسان عن وطنه لأي سبب بما في ذلك الضيق الاقتصادي ألم يوح لك ذلك بعمل روائي جديد تحدثنا عنه ؟

    تعبير المنفى لا ينطبق على حالتي .. أنا لست منفيا ولكنني انتقلت للعمل من وطن إلى وطن آخر .. مع الاحتفاظ بكل صلة لي مع وطني .. البلاد العربية ليست منافيا .. والخروج للقمة العيش ليس نفيا .. ولكنه اختيار . أما بخصوص عمل جديد ، فحتى الآن أعتبر نفسي كاتبا بيئيا ومحليا .. وأكتب وفقا لمخزوني في الذاكرة

    أخيرا هل هذا زمن الرواية؟

    نعم أعتقد ذلك



                  

04-12-2002, 05:49 PM

أبنوسة
<aأبنوسة
تاريخ التسجيل: 03-15-2002
مجموع المشاركات: 977

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: أمير تاج السر ..... يحفر إسمه في عالم الرواية العربية (Re: أبنوسة)



    أمير تاج السر وجنون الكتابة

    هاشم كرار



    صحيح انك شاعر اختطفته جنيات الرواية …. لكن رغم ذلك قل لنا من أين هذا الجنون فى العبارة أيضا ؟

    ليس فى الأمر جنونا ولا شئ ، هى مجرد كتابة خارج الصف المدرسى ، الرواية لم تختطفنى فقط ، لكنها اختطفت لغتى أيضا ، كانت لدى لغة خاصة ، ولدى مخزون من التجارب ، واكتشفت أنني يمكن أن( أشعِّر ) الحكى … وحدث الأمر ببساطة أكثر مما توقعت

    ما بين ( كرمكول ) و(سماء يلون الياقوت ) ، مسافة فى الحكى ومسافة في المكان ، ومسافة في بناء الشخصيات … لنتحدث الآن عن تلك المسافات ؟

    أوافقك القول أنه توجد مسافات .. في كرمكول كانت اللغة خشنة بعض الشئ ، وحادة ، وكانت الشخصيات أكثر بساطة ، وأكثر فوضى ، بمعنى أنه كانت توجد ( هرجلة ) ما ، ربما هى أزمة النص الأول حين يود أن يثبت وجوده بشتى الطرق ، وأنا أعتقد أن كرمكول نجحت …. نجحت فى بناء جسر عبرت عليه تجاربى الأخرى ، أيضا انزواؤها عما هو مطروح فى الساحة فى ذلك الوقت جعل الكثيرين ينظرون إليها بعين الاعتبار . أما في سماء بلون الياقوت ، التى كتبتها بعد توقف طويل ، فقد انتظم الإيقاع بعض الشيء وتعقلت الكتابة

    لا تشابه بينك وبين ماركيز .. إذن ما هو الفرق ؟

    فى كلانا يلعب الإدهاش دورا كبيرا .. أنا أعتمد على الصورة الشعرية والتكثيف الشديد فى بناء عالمى ، أيضا أنا لازلت أجرب ولم أصل إلى نصى النهائى بعد .. التجارب التى أحوم حولها ليست تجارب ماركيز … واللغة التى تأتينى ليست لغته.. هو ألحق بما سمى بالواقعية السحرية … وأنا لازلت طفلا ( كتابيا ) لا أعرف بأي مدرسة سألحق

    أعرف أنك هنا ستتردد لسبب أو لآخر، لكن وفقا للكثيرين أنك بدأت من

    حيث يجب أن يتوقف ( الطيب صالح ) فى القرن المقبل … دع الآن التردد

    أخالفك الرأى ، أنا بدأت من حيث يجب أن أبدأ شخصيا … أيضا أنا لا أقر بتسمية( الإمتدادات ) أو غرس مبدع فى آثار آخر … كل له تجاربه ورؤيته للأمور

    أنت تتفصد إعجابا بكل شخصياتك الروائية إلي درجة التلاشى ، هكذا تقول طريقة بنائك لكل شخصية ، لأى شخصياتك تسجل انحيازا مطلقا .. وما هو السبب ؟

    سؤال فيه كثير من الفوضى !! كل شخصياتى التى أشركتها فى كتابتى المتواضعة انحزت إليها فى فترة من الفترات سوى على مستوى التعايش قبل كتابتها أو أثناء الكتابة ، لكن لو سألتنى أى أعمالك أقرب إلى نفسك لقلت لك كلها.

    مثل الشعر تبدو الرواية العربية الآن فى أزمة … هكذا يرى البعض … كيف ترى المسألة؟

    لا أعتقد أن الرواية الآن فى أزمة … بل أعتقد أنها مزدهرة وقد تفوقت على سائر الفنون الكتابية … فى الماضى كانت ثمة أسماء وثمة رموز .. الأن يوجد جيل من الروائيين كل يحاول التميز

    عفوا إنها تعانى أيضا من (أزمة فهم.). هكذا يقول كتاب الرواية الجديدة وفى مقدمتهم أمير تاج السر؟

    - أزمة فهم .. نعم … نحن نبذل مجهودا خارقا فى تربية أعمالنا .. ونقذف بها إلى المتلقى ناضجة حسب ما نفهم … ونفاجأ بأن كثيرين لم يتواصلوا معنا أو تواصلوا جزئيا .. فى رأى أن الرواية الجديدة لازالت تعامل باستخفاف .. وتبذل جهود كبيرة لإبقائها كما هي

    الأزمة كما يبدو طالت النقد أيضا … كيف ترى المسألة ؟

    هذا صحيح .. للأسف لم تخلق الحركة الأدبية سوى نقاد قليلين من نفس الجيل مما أبقى النقد متخلفا كثيرا عن الإبداع فى الماضى كان الكتاب يقرأ بمتعة ويسلط عليه الضوء ويناقش بمتعة أيضا وبالتالى يظل حيا … الأن ليس أكثر من موت الكتب التى لو منحت قابلا من الاهتمام لعاشت

    المكان في روايتك هو .. وليس هو !! لماذا تهرب إلى مسميات جديدة ؟

    في الواقع أنا آخذ ما يهمنى من المكان الجغرافى .. أى الركائز التى أبنى عليها عالمى . ودائما ما أكتب عن أماكن عرفتها … ثم يأتى دور الإضافات … الفنتازيا تروقنى أو بالأحرى تناسبنى كتابيا

    نار الزغاريد .. روايتك التى تحت الطبع .. أين هى فى طريق الوصول الروائى لديك؟

    نار الزغاريد .. تجربة جديدة كليا .. تغوص فى موضوع ( الإغاثة ) وتتخذ من شرق السودان فضاء للتحرك … هى واقع .. هى فنتازيا … هى لغة … هى خارج الصف المدرسى بمئات الكيلومترات … على أى حال نتركها تخرج إلى النور ثم نرى

    1996

                  

04-12-2002, 05:59 PM

أبنوسة
<aأبنوسة
تاريخ التسجيل: 03-15-2002
مجموع المشاركات: 977

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: أمير تاج السر ..... يحفر إسمه في عالم الرواية العربية (Re: أبنوسة)

    غثيان الصعاليك

    (فصل من رواية)

    يوم مغاير في البلدة ..توجار ..أم القرى الريفية .. مطرقة الحزن،والمواويل.. مضخة اللظى ،و غبار (الإيتاب ) ,والموت والحياة الوعرة وسفاهات حراس الحدود..حيث عاد ( الأصلي ) من رحلة انبهار طويلة ، شم فيها الحضر ..قضم من لقم الشوارع، لمس حرير البيوت .. تمطى في أسرة غامضة ، وليالي أكثر غموضا ،وأعتاد في حماقة ملحوظة على لبس حذاء ( الكبك ) الرباضي، وقميص ( التحرمني منك )،المزركش ، والتنرفز من دعابات بعوض ريفي كان فيما مضى صديقا و أخا عزيزا للجلد.. عاد بعد أن حل لغز التقاء النيلين في المقرن، ومحطة السكك الحديدية ، وأفلام ( كوداك) الملونة ، وطحينة ( سعد ) ، و امتلأ ضغينة على عفاف الريف وعذرية دمائه ، وتمنى في فورة انفعال مهووس لو هرست المدن عذرية القرى دون رحمة .. وزرعت في أحشائها شوارع وأزقة ، ومطارات ..وسفهاء متأنقين ، وعساكر مرور ،ومكياج ، و( م########ير ) ، ومقاهي في شياكة ( الأوبرا كافيه).. كان وجهه العائد مثل وجه زعيم يختنق .. ممتلئا بخدوش لا ترى ، وجروح ترى بالقلب أكثر .. ومطبات من صنع سهر غرائزي ، تتسع وتضيق . كانت في حلقه بقايا علكة (فراولية ).. في أذنه بقايا همس مجهول ، وفي يده التي كانت خشنة فيما مضى .. رائحة تأزم طبقي .. امتدت إلي عجينة دخن ساخنة .. وعادت مذعورة .منذ الوهلة الأولى تذوقوه ، لاكوه بألسنة ، وشموه بأنوف ، وقضموه بأضراس ومشوا بسيرته خطوات كثيفة في لهاث الريف .. كان أعمامه قساة بشهادة توتر وجوههم , وعصبية أمعائهم ،وأكتافهم التي كسر عظمها العراك .. أخواله يعشقون سراويل القرى..وحنائها ، وملابس الريف ذات الرائحة الصنوبرية ..نساء عائلته صغيرات في الحياة يعشن في عمرها الرضيع لا يزلن ،وأهل البلدة كانوا غبارا يتجمع وينفض وينفض ويتجمع .. غربلوا احتراق عينيه ، وتواطؤ انفعالاته، وقيدوه إلى جلسة حكي محكمة سردت توافه البلدة منذ خرج جحشا وعاد كائنا لم يصنف حتى الآن ..سموه العاشق بمبرر لا يرقى إلى مستوى المبررات .. وقالوا لأمه التي كانت تتنفس بأنفاس آخر العمر ذات الرقة والشفافية .. الأصلي القديم مات .. وحين أبدى ملاحظة تمس شرف التمباك ..وتتهمه في سلوكه ،وأخلاقه .. أخرج عدد من الجلساء سكاكين حادة وكادوا يذبحون ملاحظته ..

    يوم مغاير في البلدة .. توجار .. مقبرة المطر والسيول ، وطيور ( ود أبرك) ، قلعة الأقاويل المنيعة .. مأوى تجار الحدود ، ومهربي سلع الإغاثة والأخت غير الشقيقة لقرى (عدوبة ) ، و(عيتابة) و(عيت ) ..و(عيتاب) حيث جردت من ثيابها الساترة وارتدت ثيابا شفافة .. اخترقها الأعراب .. وصانعو خامات الشائعات .. وعشرات من صبايا الرحل كن يبحثن عن ( طرزان ) متأنق.. مفتول الكلام وسط أنوثتهن العشائرية ..كان العائد محط تجزئة تجار التجزئة، .. و خياطة خياطي عمائم التوتل .. والعمد .. والمشايخ والمغنيات اللائى تغزلن فيه دون رحمة ، ودون خوف من كسر الخواطر ..اعتدى على ليلة طرب ريفية كاملة وتحكر في وسط أغنياتها .. اعتدى على تحية غير موسمية من عمد الأدارسة ..بعد أن تغطرست تحاياهم منذ عهد واقتصرت على مواسم الأعياد والحصاد وهطول المطر . لفه العيال سجائر عيالية ، والكبار تحلو بالعطش وصوبوا نحو بئر لابد ممتلئة .. وحين سمعوه في تجل مفتعل ، يذكر اسم ( الطيب ود جفون ) صانع المشاريع العاصمي الشهير ..والذي مر ذات يوم بالبلدة منقبا عن ثروة النفط ، وخلاصة الأعشاب التي تقضي على برود العواطف ، وشلل الرغبة وخرج من جراء طعنة شوكة من أشواك نبات ( الكتر).. أيقنوا بلا أي مبرر لعدم اليقين .. أن أحمد داريت .. الملقب بالأصلي حتى تلك اللحظة .. قد أكل شيئا من التفاح ، وشيئا من الكمثرى ، وخلطة الدجاج بالأرز على مائدة لن يتخيلها أحد .

    كان النهار مهددا بشلل الرزق .. الليل مهددا باغتيال ظلمته ..زهور زنابق الصحارى مهددة بانقراض مفاجئ ، وإصرار فرقة ( جاكو ) التراثية على التخييم في معسكر مفتوح أمام بيت العائد دون سبب معقول لكل تلك الحفاوة وذلك الكرم..قد عقد كثيرا من جداول الضرب ، ومسائل الجمع والطرح ..وحساب التفاهات ..جعل عددا من الولادات تتعثر ،وعددا من العواطف تبرد ، وعددا من الدكاكين تغلق بيعها ،وعددا من جروح الختان تنز منفعلة .. وعددا من أشجار المسكيت عديمة الجدوى ، تبحث عن جدوى طارئة ..وعددا من لواري السفر تركد خامدة ، لم يكن للفقر دخل في موت إحدى عجائز البلدة ، ولا لحليب النعاج دخل في إسهال عدد من المستقيمات ، ولا لدقيق الإغاثة المصفر أي بصمة في تشوه أجنة سيولدون ،وأنكر اتحاد تجار لحم الصيد بشدة أي ارتباط له بتزوير انتخابات رئاسية أو ما شابه ذلك .. كان الليل قد تحطم بالفعل .. ضربته سياط فرقة جاكو التراثية .. وعكاكيز حنجرة أمونة المغنية .. وركل حاقد من صنادل ،و (مراكيب) صعاليك وقطاع طرق أتوا من ( عدوبه ) و( عيتربة) و(عيت ) و (عدوات ) ..وكفوف على الخد من طهاة مخنثين كانوا يطهون رقصات نسائية ممرغة في التوابل .. حتى الرضاعة الطبيعية تصنعت فجأة، الأظافر المطلية بحناء ( القرود ) .. تلفتت بحثا عن طلاء ( م########يري ) ، وسفاهات ( ساري الليل) التي كانت قد تأزمت منذ جلد من قبل فتيان نحيفين في حفل عرسي بعيد ، برئت من جراحها ، وعاد الفتوة الريفي عاري الصدر .. واللسان ،بذات سيجارته البرنجي ، وذات خنجره الملتوي،وذات ارتدائه للباس الكنغولي .. ليخطف لقمة من لقم ذلك الليل المفتت .كان العصب البصري مستعدا.. العصب السمعي مخلصا ، والعصب الحائر ما عاد حائرا .. وفي ساعة متأخرة جدا ، ربما كانت الساعة التي تلقح فيها البهائم ،أو يموت فيها الأعزاء .. أو يولد فيها المواليد .. أو يتجول فيها الجن في دروب البلدة دون خوف من بسملة المبسملين ، وصلت ( قافلة جالوص ) التي كانت فيما مضى فرقة للزار ، وعلاج اكتئاب النفس ، أنشأها مهندسو ري سابقون سكنوا البلدة منذ عهد بعيد . أنشئوها كملهاة رطبة ، ودرع وقائي يغنيهم عن ممارسة العذاب .. كان ( نوري دنقلا ) هو قائد الفرقة في تلك الأيام ، وكانت ضفائره الطويلات وعينيه اللتين أرهقهما الكحل.. كفيلة بتمزيق سراويل أي خلل نفسي ، وعندما رحل المؤسسون من جراء تنقلات أو تقاعدات أو هجر لمهنة الري ، سلموا الفرقة لعمد الأدارسة ذوي السطوة ، وطالبوهم بتقصي الحقائق فيما يتعلق بتسرب خربشات من الفالس الأوروبي، والنزيف الحبشي ،وروحانيات أبالسة بريطانيين إلى شرايين الفرقة .. سربها حدوديون مخمورون دون أي وازع من ضمير.كان العمد جادين في تقصيهم للحقائق ، تقصوها بعنف ، وجمدوا حنجرة الفرقة أعواما طويلة حتى كادت تندحر. الآن قافلة جالوص فرقة جديدة ..جددتها ( رفيعة مرسال ) التي كانت( إريترية) شديدة الفخامة ،وعريضة العينين ومترفة في انتقائها لثياب الفجيعة..عملت في دروب الهوى زمنا واعتدلت في النهاية ..حقنت الفرقة بأصوات رضع ، وبالغين ، ونائحات، وتجلت بها في ليل ( توجار ). بركت القافلة أمام بيت العائد وطوقته بعصارة جهد أربعين سنة ..وكانت رفيعة حسناء في ذلك اليوم ، كان حسنها بعيدا عن أي تبرج أو خلل ، وعزى الكثيرون تلك الهيئة إلى جملة قالتها وهي حديثة العهد بالهوى الضال .. في يوم ما لن تسيل ريالة لحسني ..

    انضبطت شعائر الوقت على تركيبة غريبة ، وبدأ انفعال البلدة يدخل في مجال النهي عن المعروف ، والأمر بالمنكر .. نام مفتو ديار الريف ملء أعينهم ، وخيم البرد على أشد القلوب حرارة .. وكان المتعقلون يلاحقون السيل عن بعد دون خوض في غثيانه، خرج العائد من جلسة الغربلة العائلية مأخوذا .. كانت لحيته العائدة معه مزروعة بشعر أسود ، وكانت شديدة الشبه بلحى أبطال غابرين..كانت عيناه الآن في قمة مجدهما الملتقط ، وأذناه اتسعتا حتى صارتا حواسا متكاملة . وجد بلادا من الفوضى ترعى أمام دهشته.. وسمع اسمه يقوم ويقع .. ويغازل ويتغازل .. ويمسك بملابس الليل .. يساهم في تفتيتها .. سأل عن دواء للصداع .. فجاءوه بخرقة ممزقة لخنق الرأس .. سأل عن مناسبة الخلل والفوضى.. قالوا .. عودتك يا أصلي..نقب في عودته التي كانت حتى الآن عادية لم تبح بسرها، ولم تنز أي لحن متفرد عن عودات الكثيرين ممن عادوا قبله ، فلم يعثر على شي .. بحث عن قلبه بين ضلوعه ، فعثر على قلب شديد التوهان ينسى وظيفته بين حين وآخر ..كان ( جوكو ) محرض الفرقة التراثية مدلوقا في كل شبر من مزع الليل .. كان صوته بقياس عدة أمتار تمددها أصوات من حلوق ناعمة.. وكان التراثيون قد أدخلوا تعديلات جوهرية على رقصة ( حمام الأيك ) القديمة ، وحولوها إلى رقصة حمام مفزوع .. وكانت أمونة المغنية التي اكتسبت شهرتها من تلحين صوت الريح ، ونفرة الغبار.. وصرخات المرأة في المخاض قد مهدت إلى مجد غامض باستلاف نقيق لضفادع مهمشة ، ونعيق لبوم مريض .. وعدة استفسارات من سائحين أفارقة كانوا يسألون عن معنى ( نعال البقر ) ذلك الصرح السياحي الريفي الذي تعتز البلدة بإيوائه .. استلفت حتى نواحها الشخصي في يوم وفاة زوجها .. وأسهمت في قتل الليل بأغنية عدت في ذلك الوقت من روائع أغنيات البنات .

    كان الشاعر ( دقاق ) قد عاد لتوه من وادي عبقر الريفي ، الذي كان خورا ضحلا.. بين صفين مالحين من أشجار المسكيت .. تغذيه أمطار خفيفة الوطأة و،تنسى إناث طيور الرخم في كثير من الأحيان بيضها مطمورا على ضفتيه . اكتشفه صدفة حين أراد أن يحب زنوبيا ملكة الشام القديمة كما قرأها في كتاب تاريخي ممزق..بحث في ضواحي البلدة من عيتربة إلى عدارات ، ومن ( جنجنة ) إلى ( سهول الحبش ) عن طبيعة .. وأزهار .. ودجلة .. وفرات..وقوافي منسقة القامة .. تلائم مديح الملكات .. وحين عثر على ذلك الخور الضحل.. تهللت معانيه .. واستفرغ قصيدته المحبة التي رشحته بعد ثلاثين عاما من كتابتها لجائزة العمدة ( أوهاج دريري ) عمدة قبيلة ( الأريقا ) المحلية ، والتي كانت صدقة مستحقة ، يدسها العمدة في حلوق الشعراء بدلا من إلقائها في أحضان المتسولين ..سمى الخور وادي عبقر ، واعتاد على الخوض في ضحالته ، كلما كلمته امرأة ، أو سبه سفيه ، أو طالبه دائن ، أو قرصته بعوضة من بعوضات الريف ذات النزعة العدائية .. عاد الشاعر في ذلك اليوم وفي حلقه نص طازج كان يحتفي ب( زليخة ) عجوز التكارنة التي تعمد شعراء حقب ماضية ألا يؤرخوا لسواد عينيها الذي كان مرموقا في زمانه.. واستلحفته بشدة أن يؤرخ لذلك السواد جنى لا يغيبه الموت دون ذكر .كان دقاق يترنم بنصه ويتراقص..حين واجهه الراطنون بعودة ( داريت الأصلي ) أوسم من أي وقت مضى ..وصفوا يدا سخية .. وعينين احتفاليتين .. ولحية من لحى المرشحين الانتخابيين وإصرار على تبديد ثروة التوهان التي عاد يحملها من العاصمة دون حتى أن يستشير عميد المحاسبين الريفيين .. ( عبده عبد العال ) ..الذي كان يعرف معاني الثروات دون أن يقتني ثروة . اندهش الشاعر بشدة ،كانت توقعاته منذ أن اختفى داريت الأصلي عن تراب البلدة مغموسة في سوء النوايا ، تخيله لا يعود ، أو يعود من سجن ، أو تشرد أو مرض طويل .. أدخل نصه عن سواد عني زليخة في جيب بعيد في أقصى الحلق ..دار حول الليل دورة ملتهبة .. وعاد إلى وادي عبقر معتزما إنشاء فخ للعائد ربما لن يخرج منه أبدا .. حين رجع بفخه الممجد كان الليل وركا مشوها .. وعظاما نخرة .. ولم يكن في وجه جوكو التراثي ، أو عمد الأدارسة .. أو أمونة المغنية .. أو ساري الليل الفتوة . ما يوحي بأنهم اقتسموا كعكة .. أو حتى شريحة خبز . كانت وجوههم نائمة .. وعيونهم محمرة .. وصنادلهم ملطخة بطين ورمل .وكانت قافلة جالوص ممزقة من عواء مجنون عوته في تلك الليلة .

    كان حليمو صاحب المطعم المفخخ في البلدة ، هو الوحيد الذي ما اندلقت دهشة في حسائه ولا حامت علامات من العجب حول ملامحه ... كانت عاصميته التي أكلتها المحلية منذ عهد لا زالت ببقية من روح ترفس بين حين وآخر .. يعرف منابع الصعلكة التي عاد منها الأصلي، جيدا.. يعرفها من شباب وطيش ومن هواية قديمة كانت تمشي جنبا إلى جنب مع هواياته في لعب الكرة ، وتسطير رسائل الغرام الملتهبة ..يتخيله طريحا في شراك شارع النيل يراقب الحياة النهرية وهو يزفر ..يتخيله مساعدا في باص شعبي .. مراقبا لعربات السادة في فوهة الميريديان .. وبالاس .. يتخيله ببذاءة الريف يسطو على جحر متسخ في سكن أعزب في حواري( القلعة) ، و ( الرديف ) و( أبو آدم ) ..وفي أشد حالات التخيل مروءة يتخيله بلا شئ . كان العائد صديقا سطحيا لصاحب المطعم المفخخ.. أحد المغرمين بحليمو بوصفه وتدا اندق في البلدة بمهارة .. وكان يمكن أن يندق في أي غربة أخرى ويحيلها إلى وطن .. يحب شواء حليمو .. وفوله المطهو برائحة حضر بعيدين ..يحب اختياره للحم ، وتدقيقه في مؤخرات البطاطس ، وشعيرات رأسه القليلة التي تمنحه تميز الثعالب ..وحين كان يسمعهم ينادونه بالأسطى ، وأبو (خرتاية )، كانت مفاهيمه تتأكد، لأن أسطى بجيب في مقام خرتاية ، ما كان يتواجد في توجار إلا مرة في القرن .. وحين أراد أن يتصعلك لعدة سنوات بعيدا عن عطور البلدة الرخيصة .. لم يسع إلى مخيلة فقيرة ينحتها ، ولا متفلسفين محليين ، ولا مسافرين موسميين يصفون له العاصمة كما وردت في ملصقات السياحة .. كان يريد عاصمة حيةوعارية يدخلها كما يدخل بيته.. استعان بحليمو بالذات ، كلمه في أذنه ،وعينيه ، وعلى مرأى من الناس .. أغراه بغسل أوعية ستين يوما عشائية ، وتنظيف فوانيس مطعمه وحشوها بالجاز ، جلب له دهنا للشعر ، ومضربا للبيض ، وثوبا مطرزا من جلب مهربي الحدود .. وبالغ في الإغراء حين نط إلى حراس الحدود اليابسين في حاميتهم المرابطة بعيدا عن البلدة، وسلمهم عشاء حليميا كانت نفقاته على حساب عائلة داريت .. استجاب حليمو لنغزات الأصلي الممرغة في العسل .. اجتمع بإصراره لنصف ساعة فقط،وأسس له خط سير معوجا يكتظ بالحفر والمطبات وإشارات المرور الحمراء.. وفي نهاية خط السير المعوج .. رسم له مستشفى الطوارئ .. وبوابة السجن ..ودله على عدد من كتاب العرضالات ..وبائعات الهوى ..وموردي التمباك العماري ، وعارضي غش اليانصيب ،وأرباب سوابق يملكون مفاتيح للرزالة ، وألحفة لضراوة البرد ، وأنعش في ذاكرته اسم (الطيب ود جفون ) ..صانع المشاريع العاصمي الشهير .. قال قد يفيدك المشاريعي .. فقط ادفع الثمن.

    اغتبط المتصعلك بجريرة حليمو التي اعتبرتها زوجته في ذلك اليوم .. أقسى جريرة يرتكبها صاحب مطعم في حق ريفي .. حللتها بتمعن ،و قدمتها على عدد من الجرائر انتعشت في البلدة في سنوات متعاقبة .. جريرة ( عطا ) عامل البناء الزبالي حين تقدم للزواج من عضو في اتحاد نساء البلدة دون حتى أن يخفي ابتسامة عمال الطين عن وجهه .. جريرة عدد من عمال الحدود حين سيروا مظاهرة تطالب بانضمامهم إلى دول عدم الانحياز دون حتى أن يقدموا تفسيرا لهتافهم المعقد .. جريرة طيور السمبر حين خالفت مشيئة الخريف وجاءت مبكرة.. وجريرة حسان حسن الموظف في المجلس البلدي حين أقلع عن تعاطي ( التمباك ) ، وامرأته في لحظة المخاض.. ذلك الليل نام حليمو .. مشوها ..كثير الاستيقاظ ..كان يحس ببوادر تهتك في الحوض ، وثقب في الرئة ،وانفصام في الشخصية، وتأكد في كثير من الكوابيس ..أنه استشهد في الحرب الأخيرة ..انتظر حتى طلوع الشمس، وانفلت قبل أن يتأكد من طلوعها تماما ليلحق بالمسافر ويستعيد خط السير المعوج الذي رسمه.. كان متأكدا أن قراءة زوجته لمستقبل الطبقات الكادحة كان أكثر إتقانا من قراءته ،فطوال سنواتها في التدريس التي جاوزت الخمسة عشر عاما لم تقرأ تأريخا لشعب منكود إلا استحال إلى مستقبل ولا ينسى قراءتها لازدهار التاريخ الصومالي الموجود في الكتب حين ألقت بالكتاب في عنف وصرخت في وجوه تلميذاتها .. هذه الدولة ستتمزق ..أيضا حين هبت في عيالها الفوضويين وصرخت .. يا صرب .. يا كروات ..ولم يمض وقت طويل حتى كان الصرب والكروات في فوضى عيالها . وحده حليمو منعها من أي تعليق على التاريخ الوطني للبلاد.. جادلها برجولة البيت ،وكتم أقوالها ، وقال لها بالحرف الواحد المجرد .. أنت طالق إذا أضفت حرفا لما كتبه البروفيسورات.. كان خائفا من فجيعة ما.. وأن الوطن الذي جاهدت ثوراته وانقلاباته ، وجيوش مستعمريه في إبقائه خادما ذليلا ختى الآن، قد يتمرد فجأة من جراء قراءة غير منصفة من مدرسة ابتدائية .كان الآن متأكدا أشد التأكيد أن جريرته في حق( داريت الأصلي ) تستحق موقعا مميزا في سلسلة جرائر الريف، وأن بوابات الطوارئ وأسوار السجن المركزي وإشارات المرور الحمراء التي وضعها كرسومات احتياطية في خط سير المسافر .. قد ترتدي سحنة أساسية ويبدأ بها زحف الصعلكة .. استخرج زكاة للفطر كان قد نسي استخراجها في عدة أعياد متعاقبة ..تأكد من لياقة سراويله ، ونظافة نعليه.. وضع قليلا من ما ء الكولونيا على رقبته ، وكثيرا من بخار النشادر على أنفه،وذهب إلي بيت داريت ..كانت كلاب الريف لا زالت طليقة النباح ..عصافير ( ود أبرك ) الهزيلة لا زالت تحلم بغد مشرق .. ومزارعو الدلتا .. لا زالوا يعاندون النعاس .. استقبلته التباشير المريبة لفقدان عضو في البيت .. نفس التباشير التي تخيلها مرارا في بيت أسرته في حي ( الوابورات ) في العاصمة حين انقاد متهورا إلى توجار بعاطفة متأججة، وبقايا ثروة من يانصيب ( التوت ).. كانت أوعية الدموع أكثر من أوعية البن والشاي ،وكانت أسرة داريت مكومة حول رامية للودع تبدو في وجهها علامات سهر متعمد .. كانت تقرأ طريق المسافر تماما كما ورد في رسومات حليمو عشرات المرات دون أن ينهها أحد .. وكانت نقود النحاس التي يسحقها الصدأ تتقافز حول قراءتها بلا انقطاع .. كان المسافر قد سافر بالفعل .. سحبته عربة متعجلة دسها الليل في أحشائه ،وكان خط السير المعوج قد بدأ . توغل حليمو في زيارته إلى أبعد مدى ، شارك في قراءة خط السير ، وبعثرة النقود النحاسية ،وألقى بعدد من التمنيات في ذعر العائلة انتظر حتى تأكد من جفاف كل ينبوع للدمع ، وعاد إلى ثلاثة عشر ليل مؤرق مشؤوم بلا ذرة من نعاس. كان يستبدل حجارة الراديو مرتين في اليوم، يستمع إلى نشرات الوفيات ، وأوصاف خرج ولم يعد ، يتمنى لو طلب المسافر أغنية ، أو شارك في بث مباشر أو حتى شتم معدي برامج الجماهير التي كانت تلوع البطن .. كانت مثانته تتلوى بعنف و رأسه يلتهب حرا كلما توقفت عربة .. أقلع عن كثير من عادات مؤاخاة الزبائن والضحك لنكاتهم، وصار طهوه رسميا خاليا من أي سحنة أخوية .. كلم أفرادا في الجيش والشرطة كان يعرفهم ، وراسل أصدقاء قدامى ومسعفين، وخدم للوزراء ، وجرسونات في مطاعم في العاصمة.جاملهم بالتحية والسلام ،وكلمهم عن ريفي من غجر توجار له وجه طفل وقامة نخلة ، وفوران أخدود ربما يلتقيهم جائعا أو شحاذا أو سجينا ..أو ضائعا ..أو مبقور البطن .. سد أذنيه كثيرا بفلين الأجهزة الكهربائية حتى لا يسمع جريرته تتكرر على لسان زوجته المدرس كحصة تربوية ، بحث عن كتب في تحليل الشخصية عند مثقفين توهتهم الحياة في الريف ، وانقاد في إلى نظرية عظيمة ، كانت تحلل شخصا كأحمد داريت تحليلا أراح أمعائه من كثرة النفاخ .. كانت تقول أن أشخاصا كهولاء لا يمكن أن يساهموا في أي نفع لأحد .. لن يساهموا في ترقية لعسكري مغمور، ولا تدريب لطبيب حديث ،ولا ظهرا لسياط أفراد أمن معذبين ، ولا حتى إكمالا لعدد الشوارعيين الذين قد يصطفون لتحية الرئيس في تجواله .. استرخى صاحب المطعم المفخخ لتلك النظرية الخالدة ، ادعى تأليفها ، سردها أمام زوجته بتأن حتى أسكت حصصها التربوية ، ونام في اليوم الرابع عشر نوما استفزازيا مطرزا بالشخير والغازات ،لدرجة أن زبائنه المواظبين على المطعم تغدوا في ذلك اليوم بكسرة الماء .وفيما تلى ذلك من سنوات وصلته عشرات التقارير من أصدقائه.. ومسعفيه وجرسوناته .. كانت تنفي بحدة تورط ريفيه المسافر في أي انبعاج أمني أو طبي ..أو تسولي .. كان بلا وجود في نطاق تخصصاتهم . وبعد عدة سنوات أخرى وبناء على تقرير مفصل من مهرج في السيرك الحكومي ، عرف حليمو أن الأصلي ، كان هو نفس الشخص الذي عبر إشارات شارع الجامعة في يوم تعطلها عن العمل ولم يصب بأذى ، ونفس الشخص الذي لم يستجب لنداء الوطن ويتبرع بدمه ، ونفس الشخص الذي اختارته إدارة الهجرة والسفر مواطنا ساذجا لأنه لم يتقدم بتأشيرة للسفر .وأضافت التقارير ، أن الأصلي ربما كان ذلك الشخص الذي ضحك في سينما( البلو نايل ) أثناء عرض فيلم ( لدراكولا ) .أو ذلك الذي استخدمه فريق ( الجوكر ) الكروي حارسا بديلا إثر إصابة حارسه بمرض مفاجئ .احتمل حليمو تلك الطمأنينة بكثير من رباطة الجأش .. حمل تقاريره المفرحة إلى مطعمه المفخخ، علقها على حائط المواجهة، وحرض عددا من الناس على نسخها وتوزيعها في البلدة كممحاة أكيدة لجريرة كان قد ارتكبها .. كان مغتبطا إلى أقصى حد ، وجاءته هدية من أسرة داريت .. كانت قلامة للأظافر بحواف مذهبة .

    انهار حليمو في يوم وصول الأصلي انهيارا تاما .. انهار من عناق مؤجج من زوجته..التي كانت تمحو السطر الأخير من جريرة صاحب المطعم المفخخ بمذهب متفرد.. انهار من فرار زبائنه إلى لجة الحفل ناسين أجرة شوائه ، وانهار من خفقانه شخصيا حين ضخ قلبه دماء غير مطلوبة أبدا .. احتاط من حرارة الصيف بقميص من الساكوبيس، ومن حرارة العواطف بتبريدها بالجمود ، و اندلق إلى بيت داريت حيث عانق الأصلي عناقا سطحيا كان أتفه عناق لمتعانقين في العالم كله .

    كان الكردي هو الحلاق الذي قص للأصلي كثافة شعره في يوم سفرته البعيدة .. خصاه بتسريحة ( المارينز ) التي وصلت إلى البلدة طازجة في ذلك الوقت يتقافز منها البخار .. أحضرها حدوديون ضالون كانوا يطالعون القصف ( المارينزي ) في شاشات بعيدة ، واعتبرها المحليون جريمة من جرائم قانون الجنايات أسوة بجرائم النفس والمال، وأفتى ( سباتو ) قاضي قضاة قبيلة ( التكارنة) ذو الكلمة المسموعة ،بجلد كل مارينزي محلي يطل بشعره في البلدة، وجلد كل فتاة تتمايل أمام شوارعيين بتلك الحلاقة .. كان الأصلي متعجلا ، وكان خط السير المعوج ينغزه في جلده .. جلس أمام مرآة الكردي ، دون أن يلهو بشاربه ، ودون أن يضع ساقا على ساق ، وحين أنجزت حلاقة الشعر المسافر .. منح الكردي ولاعة من ولاعات رونسون المنقرضة ، قبلها الحلاق ذو الجذور الأسطنبولية بترفع الأتراك ، وحشرها في جيبه بلهفة أبناء البلد المحليين ..

    كان الكردي في ليلة عودة المسافر مشتاقا إلى شيئيين .. أجرة حلاقته البعيدة عدا ونقدا ..وتفاصيل وافية عن حلاقة ( السدنة ) التي شاهدها على رءوس عاصمية زائرة ، دون أن يلم بتفاصيلها .التقى متعمدا بحليمو وهو يركل نفسه ، عائدا من عناقه التافه للعائد .. ناداه بنداء الحلاقين الذي يزداد حدة كلما كبروا في الصنعة .. كان حليمو أصلعا ، وزبونا غير مألوف للكردي ، ويأبى حتى استعارة خبرته في تهذيب شعيراته القليلة . قال .. كيف عاد أحمد داريت يا أسطى ؟ .

    تخطاه حليمو بمساحة تسمح لصوته المكدود ألا يسمع أبدا ، ثم همس..أبيض من غير سوء .

    كان بالبلدة التي تعد من بنات الريف الكبيرات في السن والمساحة سبعون شحاذا مطابقون لمواصفات التسول التي وردت في لائحة الشئون الاجتماعية ، وحاملون لرخص للتسول سارية المفعول ، استخرجوها من رئاسة الإقليم .. وتخول لهم التسول في نطاق محدود .كان تسولهم منطقيا ، ومواكبا للبيئة ، يتسولون الطماطم ، والعجور ، والتبش ، وعصائد الدخن ، والتمباك والمهور الممكنة لزيجات فقيرة .. وفي مواسم حصاد القطن كانت تأتيهم نقود وسجائر ، ووسادات للنوم ،وكانت السلطة الراصدة لحركة العمل التسولي شديدة اليقظة ، تراقبهم باستمرار ، وتلغي أي ترخيص لمتسول يمد يده إلى طفل ، أو سائح ، أو عسكري في أثناء تأدية واجبه .وفي الفترات التي تغزر فيها السياحة ، كذكرى مولد الشيخ ( العاقب ود قماش ) المدفون في ضريح عند مدخل البلدة ، وانتعاش موقع ( نعال البقر ) القريب من البلدة بالغزلان ، وأبقار الوحش ، ويصبح من العسير على سائح أن يمر بالبلدة دون أن يلقي بصدقة ، كانت السلطة تستورد متسولين أكثر وجاهة ، يرتدون أزياء ( فرساتشي ) و( لوران).. يدخنون سجائر الهانوفر والدافيدوف ،،ويفهمون في الين والدولار ، والمارك الأوروبي..كان عيسى هو كبير أولئك المتسولين ..وأكثرهم مطابقة للائحة التسول الإقليمية..كانت في جسده ست عاهات عظيمات وكان الوحيد الذي سمحت السلطة لفاعلي الخير أن يعطونه دون أن ينطق بالعبارة المنصوص عليها في القانون .. لله يا محسنين ..استمع عيسى لتداعيات عودة الأصلي استماعا فيه أنانية ، وفيه دناءة نفس .. كان راقدا في بيته في غير موعد العمل الرسمي حين خبره محسنون كانوا يجبرونه على الشحذة كعمل إضافي، انتظر حتى تأكد من مطابقة جيوب الأصلي العائد للائحة .. ثم اختفى في لجة الحفل ..قال لله يا محسنين .. وفوجئ بالعائد يعلمه الأدب بألفاظ يسمعها لأول مرة وهو في السبعين .

    كان الصباح الآن سلة مهملات مشرقة .. اعتبره حليمو صباح خير أزاح آخر غلالة للإثم من قلبه ، واعتبره الذين شاركوا في التحية الضالة صباحا مقلوب الوجه قد تعقبه صباحات مقلوبة الوجه أكثر ..انحاز المغنون إلى غلهم ، والعمد إلى انكسار هيبتهم ، أقسم المتسولون بزعامة عيسى ألا يشحذوا من عائد قط ، وجاء دور نساء البيوت المحترمات .. اشتعلن نشاطا .. رتبن بناتهن ، ألبسنهن الحلقان والأساور ،والفساتين اللماعة، وزججن بهن في مسيرة ماكرة مضت حتى استقرت في عيني العائد ..ومن بيت ريفي مزده على طريقته .. أعلنت ( زهرة مبروك ) ..كبرى بنات مبروك العتال في سوق توجار ، والتي كانت مخطوبة إلى صبي من صبيان قبيلة ( الأريقا ) المقيمة في البلدة ، وفسخت خطوبتها لسبب غير معروف .. أعلنت أنها ستنتظر الأصلي حتى يأتيها دائخا غزير الدمع .. كان الصباح متجاوبا في إنارته ، أتاح للبلدة كلها أن تمص العائد دون مط للأعناق أو دعك للعيون ..أتاح لها أن تحترمه ، وأن تزدريه ، وأن تستغرب ، وألا تستغرب من كل شئ فيه . وخلال تجوله السريع ، و الذي استغرق نصف ساعة فقط ، استطاعوا أن يلحظوا مشيته ، ويعدوا سبيب لحيته، وذرات الرمل في اتساخ أظافره ، ..وبالغ البعض حين عثروا في داخل كليته اليمنى على حصاة راكدة ، لم يشرب من أي سبيل للماء من جملة ( السبايل ) التي نصبوها كشرك لاصطياد عطشه ..لم يلتقط قرشا ألقوه على الأرض لم يشارك في لعلعة ، ولا صدام عشائري ، ولم يصب بمغص عندما لفقوا مأساة عن موت طفل وهو يعدو للمشاركة في حفل استقباله .. وفي الوهلة الأربعين لملاحقته .. بدا شديد الاهتمام بنبات ( العوير ) الذي كان يتسلق حوائط أحد البيوت ، وأشواك نبات ( الكتر ) المتناثرة عشوائيا ، وتسوس في أسنان أحد الأطفال كان يبتسم ...كانت الوهلة الثمانين كافية لاستنباط الخلاصة.. التي أصبحت فيما بعد أهم الخلاصات التي استبطنها البلدة في تاريخها الطويل .. أحمد داريت الأصلي ما عاد أصليا.. وعودته بعد تلك السنوات .. إنما كانت هجرة غريب إلى البلدة .

    اهتم حليمو بتلك التفاصيل ، وبتفاصيل أخرى أكثر مخاطا استقاها من استياء البهائم ، وزمجرة الريح ، وعدد من قطاع الطرق ، ومعارضين للنظام الفدرالي.. شموا في الأصلي رائحة سلطة .. كان مطعمه بمثابة منتدى أخلاقي زينه بصور القادة والمراهقين والرضاعة الطبيعية ، وفتحه لهواة المشاكل ، يتصارعون بداخله، كان لا ينتمي لأي جهة، ولا بجرؤ على كرمشة الوجه أو الغيظ أو حتى إجبار زبون على غسل لسانه .. ومنذ أن اقتحم توجار زوجا عاشقا.. ورائدا في تأسيس المطاعم المفخخة .. لم يشهد في زواج ولا طلاق ، ولا نهر قطة جاءت ترتزق من فضلات شوائه .كان حليمو في ميزان البلدة معلما شديد التعصب لمنهجه .. وفي ميزان السلطة المحلية يساريا قد تشرع في ملاحقته إذا انقرض عدد الملاحقين بفعل الموت أو التوبة أو كبر السن..وعلى مدى سنوات طويلة تفنن في التفخيخ ..جرب شواء الزراف ، وخلطة الفول بالتوابل وحتى لحم البط والأرانب البرية .. زار مطعمه وزراء ووكلاء وزارات .. وموردو إغاثة ، ومناديب ساميون .. وعسكريون ،و ناشطون في أحزاب التحريض ..واستدعي عكاشة البرعي الذي كان من خيرة جرسوناته ذات يوم إلى العاصمة ليمنح وسام النيلين من الطبقة الثانية تشجيعا لجهوده المضنية في غسل الأطباق .كان اهتمامه بتفاصيل عودة الأصلي في يومها الرابع عشر بالذات قد اشتد بناء على رسالة عاجلة جاءته ، واستلمها من مكتب البريد المتداعي في البلدة .. كانت من مالكي مطعم ( الحطيئة ) الشعبي في العاصمة .. تخبره بقبول طلبه عضوا في لجنة التذوق القومية لمطابخ الفول والشواء بناء على توصية من الوجيه أحمد داريت .وبات بإمكانه الاشتراك في أي نشاط يخص أعمال تلك اللجنة ، بما في ذلك استقبال المواليد ، وتشييع الجنائز .. وتجهيز عشاءات الضيافة لأي حفل حكومي يقام في توجار.. انشغل حليمو بتلك الرسالة انشغالا مطولا .. ظنها في البداية شركا سلطويا للإيقاع بتوجهاته .. حام حول حروفها ، وخطها الرصين ، واستفسر فرع الأمن الوطني بالبلدة عن أي نية متعمدة لتخليد ذكراه .. كان موسى هو الأمني المعين بالبلدة .. كان مراهقا من إحدى ثبائل ( الأتمن ) الحدودية مشحونا بوجه مهووس ، وطاقة استفزازية ..وإصرار على إبقاء المناخ العام في البلدة في وضع التهيح.. وكانت تقاريره التي يستقيها حتى من ثرثرة ماشطات الشعر.. وعواء الكلاب ، وبقايا اللحم في تسوس الأضراس ، محل تقدير لدى رئاسته .. ومنذ أن قدم إلى البلدة في ذلك الصيف المؤذي بات من المستحيل على حمار أن يعشق حمارة ، وثعلب أن يلهو بدجاجة ، و صناع الأقاويل البيئية أن يصنعوا أقاويل دون أن يعدل فيها أو يعيد صياغتها بما يتماشي والتوجه العام ، ولا ينسى أحد صياغته للأقاويل التي قرنت ( رفيعة ) زعيمة فرقة ( قافلة جالوص ) للزار من حليمو نفسه ،بعد أن استبدل كلمة وردت في النص الأقاويلي، والتي كان من جرائها أن حليمو نام شهرا كاملا في الطريق العام ، ورفيعة كانت تقود فرقتها وهي تستفرغ سبعمائة قبلة ( حليمية ) حشرتها صياغة موسى بين شفتيها . وفي إحدى حفلات العرس الجماعي في البلدة ، والتي أقامها وجهاء على نفقة الوجاهة ، تدخل موسى ، وبدل في اختيار العرائس .. وأغنيات الزفة،وحناجر المغنيين ، وذلك لضرورات أمنية ، وكانت النهاية أن العرس انقلب إلى احتفال وطني له سمات أعياد العلم والوحدةويوم الزحف الكبير .وكان أكثر ما أساء إلى البلدة في تذوقها لتضاريس موسى ،تلك النظرة التي ابتكرها وكانت قاحلة من أي معنى .

    كان موسى معقدا في لقائه بحليمو .. تلقاه بنظرته القاحلة ..وحاوره بلسان سلطة إقليمية تفوق سلطات العمد والمشايخ ..ذكره بعدد من عاداته تثير استياء لواءات مقاتلين في الحرب ، وعمداء مرابطين في الحدود.. وبعض برلمانيي حزب ( الخلاص ) الحاكم . سأله .. من أين لك هذا ؟ .. لا تقل من فضل ربي.. وأعاد على مسامعه مقولة الأمن المأثورة في حقه.. ( لن نلاحقك إلا إذا مات ، أو كبر ، أو تاب الآخرون ). وأضاف من عنده جزءا شفافا حين قال..أضف إلى قائمة مطعمك حساء ( البواسل ) فأعفيك حتى من تلك الملاحقة الاحتياطية .. أكرمه بكوب من الشاي ، وقطعة من كيك ( القرنفل )، وأوصله حتى باب حجرته الأمنية ثم عاد إلى تقاريره ..خرج حليمو من عند الأمني مشوشا للغاية ..استعمرته جحوش البذاءة .. وتبولت على قميص وقاره .. لم يكن في وجاهة المسئول .. من أين لك هذا ؟ ، ولا طمأنينة القائل .. هذا من فضل ربي . ولم يكن يعرف شيئا عن خلطة حساء البواسل الوارد في المساومة .. افترض أنه ربما كان ذلك الحساء الذي استخدمه ( الجهاديون ) حين حاربوا المستعمر الإنجليزي ..ووسخوا ثيابه الاستعمارية ولو صح افتراضه فسيموت بالسكتة القلبية.. فكر أن يعود إلى الأمني ويسأله.. لكن خوفه من عدم توفر حامات ذلك الحساء في البلدة .. أنهى تردده .. رضى بالملاحقة الاحتياطية.. وأسرع في الطريق.كانت أمامه البلدة كلها ، أمامه بيوت الطين السفيهة ، وشوارع التراب المغلوبة على أمرها .. كانت أمامه الشقاوة والتعب ، وصعوبة العثور على ظل .. وتلك الرائحة التي انحشرت في أنفه منذ أتى .. هو الآن قطعة في لحم توجار . ولو ساومته السلطة أكثر لصار جزءا من ترابها أيضا .. تنازل عن جزء مهم من رجولة البيت ، واستشار زوجته .. ماذا أفعل ؟..كان رأي زوجته عواطف المجذوب .. عاديا ، وخاليا من أي فطنة ..ولا يمت بصلة لتعقيداتها الدراسية.. لا تقف كتلميذ أبله.. اذهب إلى الأصلي وأسأله ..

    كان الطريق إلى بيت داريت هذه المرة مختلفا .. سلكه حليمو ملوثا بفجيعة الخائف على مصيره شخصيا ..لم يكن أبدا من رواد مطعم الحطيئة الشعبي العريق ، وطوال وجوده في العاصمة ..لا يذكر أنه مر من أمامه أبدا .. وحتى لجنة التذوق الوطنية التي ورد ذكرها في الرسالة لم يسمع بها من قبل . وكانت جملة ( الوجيه )التي وصفت الأصلي هي أكثر ما أعاد إلى أحشائه نفاخها القديم.. كان ثمة غموض يغلف الأشياء ..وثمة فوضى في ريادة الألقاب .. ولولا العناية الإلهية التي كانت تعينه حتى تلك اللحظة ، لنبت في رأسه الأصلع شعر جديد .. اهتم بتصعيد التوتر هذه المرة ، وبات من الممكن لشاغلي الطريق والعابرين ، أن يقسموا أن صاحب المطعم المفخخ كان يكلم أناسا غير مرئيين ، يضحك من نكات ، ويبكي من مآسي ، وربما يعقد صفقات غير مجدية ، لأن صوته كان يغضب بين حين وآخر ..اهتم حليمو بأجزاء معينة في جسد، وغير من نسقها المألوف .. جعل عينيه خامدتين ، وأنفه شديد الفلطحة .. جعل قدميه تنثنيان إلى الخارج، وأحاط رقبته بعرق غزير ، وعندما طرق على باب داريت ..طرق هاجس كبير على قلبه شخصيا .







































































                  

04-12-2002, 06:15 PM

أبنوسة
<aأبنوسة
تاريخ التسجيل: 03-15-2002
مجموع المشاركات: 977

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: أمير تاج السر ..... يحفر إسمه في عالم الرواية العربية (Re: أبنوسة)

    النوع الأدبي/ هوية النص ومرايا ساحلية
    اعتاد النقد ان يبدأ بعد التصنيف، أي تحديد النوع الأدبي الذي يندرج فيه النص على اعتبار ان تحديد الهوية النوعية للنص يمكّن الناقد من معالجته نقديّا في ضوء معايير وقواعد النوع الذي ينتمي اليه.اذ ان تحليل النصوص الأدبية لم يعد ممارسة فوضوية وانطباعية لاتهتدي بشروط تنظّم العملية النقدية، انما على العكس فمنذ فترة طويلة اشتق النقد له جملة من المعايير يقترب في ضوئها الى النصوص ليقوم بفحص النظم الأسلوبية والبنائية والدلالية لها،وذلك جزء من التنظيم الداخلي الذي يقتضيه كل نقد يطرح نفسه بوصفه حوارا مع النص، واشتباكا معه، ووسيلة لإستكشاف المستويات المضمره فيه،ودلالاته المخبأة في تضاعيفه.ولكن هل التصنيف النوعي والإجناسي للنصوص أمر يسير أم انه بمواجهة نصوص تهجّن نفسها من انواع كثيرة قد اصبح مهمة عسيرة ؟ أضع هذا السؤال أمامي وأمام القرّاء وانا أحاول ان اقدّم مناقشة نقدية- نظرية لنص غامض الهوية للروائي السوداني أمير تاج السر،وهو نص جديد وسمه مؤلفه بالعنوان الآتي: (مرايا ساحلية:سيرة مبكرة ). وكما هو ظاهر من دلالة العنوانين الرئيس والشارح فإن أمير تاج السر يضع نصّه في قلب الإشكالية التي أشرنا اليها،فهو من جهة أولى يعتبر نصّه مرايا تنعكس فيها تجربة الطفولة المبكرة في احدى مدن الساحل الشرقي للسودان، وبهذا فهو يكتب منطلقا من الرؤية القائلة بأن الأدب مرآة عاكسة للتجارب البشرية، وهذا موضوع خلافي عالجته نظرية الأدب،وشغلت به منذ أرسطو الى الآن. وهو من جهة ثانية يصرّح بأن النص ( سيرة مبكرة ) أراد به ان يصف التكّون المبكر له، وهذا يقتضي ان يكون هو المحور المركزي فيه، بمعنى أن التسمية تشترط ان يكون المؤلف هو البؤرة التي تصدر عنها وتتجه اليها كل مكونات النص، واقصد بمكونات النص هنا أمرين: عناصر البناء الفني من حدث وشخصية وخلفيات زمانية ومكانية،والمكونات السردية العامة من راو وأساليب سرد ومنظور ورؤية وموقف وطريقة تشكيل للعالم المتخيّل في النص.والواقع فإن التدقيق في قضية مرآوية النص كما يريدها المؤلف،وقضية الهدف التوثيقي له باعتباره سيرة مبكرة سينتهي بنا الى نهاية مغايرة تماما لكل الإيحاءات التي يثيرها العنوان . ذلك ان القول بالوظيفة المرآوية للنصوص الأدبية نُقض منذ اكثر من قرن، حينما اكتشف النقد عمق التباين بين العالمين: العالم الواقعي المعيش والعالم الخطابي المتخيل، مع انهما يوحيان بالتماثل الى درجة يبدوان فيها متماهيين ببعضهما لدى المتلقّي العادي، الاّانهما شديدا الأختلاف فيما بينهما من ناحية المكونات والعناصر، فالعالم الخطابي محض تشكيل لغوي يتكوّن في مخيلة المتلقّي بالقراءة ولاوجود له قبلها، بل انه عالم خامد داخل الكتاب تقوم القراءة بتنشيطه وبعث الحياة فيه، فكيف يمكن اعتباره مناظرا للعالم الواقعي !؟. أما القول بأن النص سيرة مبكرة فيصطدم بعقبات اكثر، وفي مقدمتها المكون الحاسم وهو غياب شخصية المؤلف-الطفل إذ يعدنا النص بانه سيرسم لنا سيرتها كما هو مدون على غلاف الكتاب،وحضور رؤيته فقط وهي تستكشف ملامح منتقاة من الماضي.
    كيف لنا اذن ان نتخطّى كل هذه المشكلات النظرية الخاصة بهوية هذا النص دون ان نلحق به ضررا يخفض من قيمته الأبداعية؟ وقبل ذلك هل تحتاج القراءة النقدية الى إثارة كل هذه الأسئلة قبل ان تصل الى هدفها ؟ أما السؤال الأول فجوابه في رأينا انه لابد من تجاوز ماقرره المؤلف من ان كتابه سيرة ذاتية مبكرة، وهنا ينبغي علينا ان نطرح تصورنا النقدي حول هوية النص كما نراه في ضوء جملة من المحددات والمعايير لنتمكن من خلالها استكناه أهميته وقيمته الأدبية. أما جواب السؤال الثاني فمؤداه ان القراءة النقدية تحتاج فعلا الى اثارة الأسئلة، لأنها تراها جزءا من استراتيجيتها في التعامل مع النصوص السردية. إذ لم يعد من المقبول ابدا تقديم قراءة ساذجة وسطحية لنصوص تقوم بتشكيل تصوراتنا عن انفسنا وعن العالم بوساطة التمثيل السردي الذي تقوم به، وليس عكسه كما يظن الكثيرون. في الحقيقة ليس ثمة مجال لقراءة بريئة ومحايدة ووصفية، فالقراءة التي نحتاجها ونحن نقترب الى النصوص الأدبية يلزمها ان تكون تحليلية وكشفية واستنطاقية تهدف الى ابراز القيم الجمالية، وتأويل المستويات الدلالية،واضفاء معنى على الأشارات التي توحي بها النصوص ولاتقررها.

    د. عبدالله إبراهيم
                  

04-13-2002, 06:40 AM

Abamna


للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
أمير تاج السر -- الشاعر (Re: أبنوسة)

    أبنوسة

    تحية وسلام
    وشكر وتقدير على إشراكى وبقية الزملاء هنا فى هذه المساحات المضيئة النيرة مع المبدع أمير تاج السر محمد نور

    أود فقط أن أوضح جانبا خفيا آخر من إبدعات هذا الأمير

    أمير تاج السر صديق عزيز جدا وزميل دراسة فى المرحلة الجامعية، وكنا نتقاسم حجرة واحدة معا
    الشى الذى ربما لا يعرفه الكثيرون، هو أن أمير كان قد بدأ شاعرا ينظم أعذب الشعر وأجمله، كتب جميع الأشكال الشعرية، وكان منذ البدء مهووسا بالإبداع وعاشقا لكل كلمة عطرة
    أمير شاعر فذ ومجيد وقطع شوطا طويلا وحافلا ومثمرا فى عالم القصيدة، وقد تفاجأت به ، بعد أن فرقت المسافات بيننا، أنه قد ارتاد آفاق الرواية وكعهدى به ايضا بلغ فيها الزبى واعتلى أعلى شرفات الإبداع، فلا غرو فى ذلك أيضا، فحقيقة أخرى لا يعرفها الكثيرون، هى أن أمير تاج السر هو إبن شقيقة عبقريينا ومبدعنا الطيب صالح، ولعل، بل من المؤكد أن بذرة الإبداع تسير منهم جميعا مسرى الروح والدم

    كنت أتمنى أن يواصل أمير كتابة الشعر ليمتع أرواحنا بشعر هو الشعر الحقيقى، ولكنى أراه قد سبح وانجذب فى بحر الرواية المحيط اللا متناهى ، وأنا على يقين من أن سيكون له القدح المعلا فى عالم الرواية العربية والسودانية، بل والعالمية

    والجنا خال، كما يقولون

    ودمتى مع تحياتى
                  

04-13-2002, 07:16 AM

Elkhawad

تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 2843

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: أمير تاج السر -- الشاعر (Re: Abamna)

    اليك عزيزي ابوامنه وكل الاحباب

    ابتديـــــــــــــــــــك


    نسقتني الهجرة فيكي
    وانفرد طولي وقفت
    بالعطر حنتتي قلبي وفي فضاتك رحلت
    جيتي في الطل التمدد
    وخلف احضان الزوايا
    وجيتي في الريح البتفرد
    قامتا وتهتف معايا
    وابتديتك خط مؤكد
    فيهو تتعانق خطايا
    وقلت لليل الممدد
    لحظه الاشراقه جايه
    في اشتهاك الحلم بنزف
    مشهد اللقيا البعيده
    وفي اشتهاك الصحو بكتب
    خاتمه القصه السعيدة
    دقي باب القلب تتفتح الف انشوده وقصيدة
    وفتشى العين تلقي دنيا حلوه رويانه وجديده

    كلمات :امير تاج السر
    الحان : المعز عبد المنعم
                  

04-13-2002, 07:38 AM

wadazza
<awadazza
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 5386

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
أمير (Re: أبنوسة)

    أبنوسة..أبو آمنة...الخواض
    أمير تاج السر يعبر عن حالة ابداعية سودانية خالصة..تتغلغل فى هذه الدياسبورا الحانقة...قرأت له كثيرا بجريدة الخرطوم التى كانت تصدر من القاهرة ...ومن خلال قراءاتى له تلمست دربا موجعا للإبداع المعبر عن قضايا ويوميات ..ويتجلى ذلك العمق البعيد فى التشخيص الروائى عندما يكون ذلك الطبيب الشاب قادرا على مماحكات التجارب القادمة فى فتح روائى جديد...واستنطاق شهوده فى تحريات الحالة العامة دونما الحاجة الى اثبات شهادات العصر...إن ما يمر به السودان من بطش وتجبر وسقوط مريع لنظامه الحاكم..هو شهادة ميلاد لأمير ومبدعين كثر تتقاذفهم موانىء ومدن الشتات فقد ظل ابداعهم صوتا صادحا بأجمل أغنيات الشعب ومدلولات طلوعه الشمسى النزعة..
    تحياتى للمقتدرة أبنوسة وهى تدلق على وجهنا ماء باردا توقظنا فيه من سبات عدم القراءة لأمثال هؤلاء ...ونحن المغيبون قسرا عن وطن ولود أنجب أميراً ..وسينجب غيره ممن أرادوا مسارا جماليا...وتكثيف تجربة لا ملحها...
    وارتياد خلاق لمسالك المجهول
    تحياتى
    ود عزة
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de