هل للشُجيراتِ من إيراقٍ أكثرَ فاعليةٍ وحميميةٍ ، يا جميل ؟

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-06-2024, 03:59 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الثاني للعام 2005م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
08-12-2005, 01:27 PM

منوت
<aمنوت
تاريخ التسجيل: 03-18-2002
مجموع المشاركات: 2641

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: هل للشُجيراتِ من إيراقٍ أكثرَ فاعليةٍ وحميميةٍ ، يا جميل ؟ (Re: منوت)

    (9)
    شُجيراتُ السلامِ النابتةُ على أرضٍ
    عانقَ ثقافيُها اِجتماعيَها ..

    " … ليسَ مِن حقِّ العصافيرِ الغناءُ على سريرِ النائمين … "
    الشاعر الفلسطيني : محمود درويش

    ***
    " … حانَ الوقتُ لإيجادِ عولمةٍ جديدة تُقلّل من خدمةِ مصالح الأغنياء ، و تعملُ باطِّرادٍ لخدمةِ الأكثرِ فقراً من البشر . حان الوقتُ – بالنسبةِ لنا – للتأكّدِ من أنّ التنميةَ الشاملةَ قد دخلتْ مفاهيمُها قلبَ أجندةِ العالمِ كهدفٍ مبدئي … "
    د. مهاتير محمد ، رئيس وزراء ماليزيا السابق .

    ***
    الحلمُ ما زال يتمدد مُطمْئِناً – في سكونٍ مهيب و رهيب – حُرّاسَ مخبئِه و مخبرهِ الضارب الإيغال في أغوار أعماقهم القصية ، راقداً على سريرٍ عولميٍّ معموريٍّ ذي أُفقٍ ينداحُ ( تجدُّعاً ) على لحافٍ ( وهيط ) ، يرفدُ – دالقاً - منتظريه بالوعد و الثمرِ اليجيء . بينما عصافيرُ الصباح تُدندنُ مغرّدةً بالنشيدِ الصحوِ على آذان مَن نامَ ، أو تناومَ ، أو نُوِّمَ على أنغام ( الرَّاب ، و الطّبقِ الفضائيِّ المثير ) ، أو تثاءب واهناً – جائعاً عطشاً – يتناول ( الماك ) ، شارباً يتمتعُ ( بالكوكا ) ، متماهياً مع أيقوناتِ أحصنةِ طروادةِ ( الدنيا الجديدة ) ذاتِ الحوافر و الأظافرِ القواتلِ ، و مغاراتِ الدواخلِ المخبأةِ مدسوسةً – علناً - ، و الحالُ يا حبيبَنا ( ص ) في خَدَرٍ مخمليٍّ مهلكٍ لذيذ !! .
    و ها هو القلمُ في حياده ( السودا - إيجابي ) مازال يقطرُ - نازّاً – بوحاً يفتتُ كي يُمنطقَ راهنَ ( الوهنِ ) آنيِّ الحضور المعفّرِ بالفاني المفارقِ للدروب الواسعاتِ ( السمحة ) في أصالة و ازدهارِ مسلكها العاتي البهي ، وهجاً يبدد بل يُشتتُ ما استقرَّ تحكُّراً و تمكُّناً – ظلامةً أضحتْ ، أو غمامةً علُقت – على أجنحةِ ( الوزِّين ، و الغرنوق ، و الحباري و السمبر و ود ابرك و طير الجنة و الكحّالي و جداد الوادي و القمري و البلوم و الهدهد حتى ريش النعام ) ، و كامل ذواتِ المناقير سليلةِ العصافير السابحةِ – محلِّقةً - في فضاءٍ يسع مليون ميلٍ من آمالِ و هواجسِ أسرابِ الطيور – صابرها و طافشها - و أكثر ، و هي تحلم بهذا الغصن المآلي الوارف الظليل ( الوطن ) الذي كان ماضيه و قادمُ أيامه أخضر !! ، مداداً من الدفقِ الحميم يمهرُ وريقاتِ الذاكرةِ ( الزولية ) الأولى في نقائها المشيمي الآسر ، ببعض نزيفه الحارِّ المضني العتي والمنعش – في الآن ذاته - للدواخلِ العامرةِ بالحقِ ، و قطراتِ مُزنِ الفضاءِ الإنساني الصراح ، ومقولات فصيح الكلام في تمفصلها القارّ ببصيلات الأنفس الفياضة بالرواء ، و غائب الفعل الموالي لتواريخ الأتقياء ، أملاً و توقاً للذي يأتي هميماً واضحَ القسماتِ مثلما يتسرب – في رويَّة - فرحٌ يوشيه السعدُ و تدثره القناعة ، و توازنه معادلةُ ما يجب أن يسود عالمنا ( المُجَابَدِ ) بين أن يقول ، أو لا يحكي ما لفظته أرحامُ سودانيتنا – وهي تقاوم في استحياءٍ تيارَ النيلِ ( زوليِ الملامح ) في سريانه الأبدي - .
    و ها الآن يخرج ( العباد و البلاد ) على أرضِ الفصح المقاوم للسكوت ، معلنين أن ما بين الناس أقوى من الذي بين القبائل و أشباهها ! و لكن ؛ هل آن للقبيلة القيامُ بدورها الأساس في بلورةِ الحسِّ التعايشي المسالم والمعولم سودنةً بهيةً كما كانت قُبيل تواترِ الفعل و القصدِ ( المُشاتِرِ ) و المفارق لأقوال حزمةِ الأنقياءِ و مقاصدِ مُجملِ الأنبياء ؟ .
    ترى من أين يبدأ الحكوُ بعد هذا الانقطاع ( الأبستيمو – عاطفي ) !! ؟ . و هل مازالت نافورةُ الأحزان تضخُ حِممَ الرصاصِ ناظمةً ( نيالا ) عروسَ الجنوبِ الدارفوري بخيوط ( واو ) فاتنةِ نهر الجورِ في تدفقه البهي ، واصلةً ( الفاشر ) أبا زكريا بعصب ( جوبا ) وهي تتحلى بزينتها الإستوائية ؟ أم أنّ ( كسلا ) و نهرها المتمرد شموخاً في إباءِ توتيل يتحرّك في أحشائها جنينُ ( مروي) بأهراماتها التي تحكي تواريخ الأزوال ؟ ، و ما ( بورتسودان ) و جارتها – ثغرياً – على سواحل الأحمر ( سواكن ) سوى وليدٍ شرعي لأحلام ( دنقلا ) العجوز ؟. و هل المدينةُ ( سنارُ ) مرجعيةُ اِلتفافنا حول كبرياتِ الموائل المشتهاة مازالت تتوسط ( كوستي ) مدينةَ تجسير الشروق بالغروب و مُشْرَع أحلام شريانِ الجنوب بالشمال ، و ( ود مدني ) فاتنةَ الذهب الأبيض ، حاضنةً في مراقدها و أطرافها الريفية ( ود حبوبه ) و سيدي الشيخ ( فرح ود تكتوك ) ، و جموع الصالحين ، و هي تنازعُ في صبرها ( الأيوبي ) المثير مناطحةً – شكلاً و عمقاً و بعض أحلامٍ – حاضرةَ البلاد ذات البطن الخرافي الحاوي لثلثِ سكان أرض المليون ميل ، هذي ( الخرطوم التي كانت مثلثة ) ! ؟
    إنها مدنٌ تحلمُ بانقطاع سيولِ نزيف التمزّقِ و الانشطارِ و التشرزم الذي بدأ دخانُ أعماقه يظلل ( زولية ) الإنسانِ في وطنٍ يتعولم متخصخصاً على المستوياتِ جميعها ، حتى القبيلة و البطن و الفخذ و العائلة و الأسرة و الفرد !!. وإذا كان ذلك كذلك حادثاً ينتظمُ المدن و قاطنيها ؛ فما مصيرُ القرى ، و البوادي ، و الفرقان و معدميها !!؟ . السؤال الحق هو بُؤرةُ التساؤل الذي لا يبحث فقط عن إجابات، بل يطمح في حلٍّ جذري يُبقي وجه الوطن متماوجاً – في تناغم – بين ألوان سحنته الزولية السودانوية الجامعة لأطيافِ مسبحته المليونية !!
    ***
    " جبل مرّه جاب لِي مَرا ، أسكُت ساي !!! "
    هكذا كانت ألمع أغنيات ( الفور ) و هم يشاركون في مناسبات القرية الاجتماعية بهذا الغناء الجماعي الكورالي المترع شوقاً ؛ مرجعيتُه العاطفيةُ هذا الجبلُ الشامخ وعداً بالحنين إلى المنشأ ، حاملاً بين قممه المسترجعة خيالاً يرثه القادم من أبناء و أحفاد . و كان الراقصون على أنغام بُنيّاتِ و فتياتِ الفور ، شباباً و كهولاً من قبائل السليم و الجعليين ( علياب ) و الشلك و الملكيه و الفور و النوبه و البرقو و بني هلبه و الزغاوه و الكواهله ، جمعت بينهم ( ود دكونه ) ، فصاروا يماسكون دنياهم ( حلوها و مرها ) بخيوط التمازج ، و التصاهر بل الاندغام في أُلفةٍ أسُّ منبتها التعايشُ على أرضٍ تَعِدُ الجميعَ بالخير الذي يفتح كنوز أنهاره الثمينة لكل شباك صائدي أرزاقه الوفيرة على قدر اِجتهادهم و قدرتهم و حدود معارفهم المعيشية !! .
    زكريا إسحاق ، الذي يعرفه أهل ود دكونه و ليلو أماره ب ( زكريا تيسه ) ، رجلٌ تجاوز الأربعين من عمره بسنوات . كان من أوائل الذين درسوا القرآن و تفسيره بأول ( خلوةٍ ) بالقرية و ما جاورها ، و التي قد أنشأها أحدُ أعمامه من الفور الكنجاره ، وهم يلبون نداءات ( ود تور شين ) آن قهقره ( أولاد جون ) جنوباً نواحي أم دبيكرات ، فكانت الهجرةُ – شرقاً – نواحي ( بحر أبيض ) ، لتصير ديار جنوب النيل الأبيض مستقراً لمَن بقي منهم ، و منبتاً للأولاد ، و موطناً للأحفاد . حفظ ( تيسه ) القرآن – عن ظهر قلب – كحالِ أقرانه و أترابه ، و لكنه تميّز عنهم بملازمته لتلاوة آي الذكر الحكيم ليل نهار ، أينما حلَّ ، و حيثما استقرَّ . كما اُشتُهر بإيثاره للمشي على رجليه الحافيتين ، حتى صار باطنا قدميه أمتن و أقوى من ( تموت تخلي ) هذا الحذاء المصنوع من إطارات السيارات البالية ، ليُعادَ استخدامه إنسانياً وهو ينتسب – تلازماً – إلى عوالم الفقراء و المعوزين و المحتاجين ، و هم يحاولون سدّ ثغرات و ثقوب مقومات حياتهم – كبشر – بالتحايل على ما يلفهم من فاقة ، و لكنهم أسعدُ من طفل وجد أمه بعد طول فراقٍ و حنين !! ، أو كما تنتعشُ – مفرهدةً – قناديلُ الذرةِ حينما تلامسُ حُبيباتِها قطراتُ أمطار ( التِّلْوي ) ضاخةً فيها إكسير الحياةِ إنضاجاً لها بعد طول غياب .
    زكريا تيسه ، يُعادُ إنتاجُه إسطورياً في مخيلة و واقع أهل ود دكونه و ما جاورها من قرى و فرقان ، على صورة الرجل الصالح ، صاحب الخطوة و الباع ذي الطول الناظم – ترطيباً – لدافئ الآمالِ القروية و هي تبحثُ عن نموذجٍ يُحيلُ واقعها إلى حلمٍ يتحقق . حيث ظلَّ ( هضلول بلل ) هذا الشابُ السِّليمي المفارق لدروب القبيلة في مساراتها الرعوية التقليدية ، منتمياً لعوالم الاستقرار جوار النيل ، تاركاً مهنةَ الأجداد ( المَسِير ) و ( الضَّعاين ) في هجرتهم الرعوية الجنوبية – حتى تُنْجَه – جنوب فشوده حاضرة أولاد المك ( رث الشلك ) ، جنوب غرب ملكال أوان الصيف ، لتنقلب راجعةً – بواكير الخريف – منهيةً رحلة المسير جنوب غرب كوستي ( بدايات الدرت ) نواحي الوساع و ما جاورها من بوادي و مراتع ، لتستريحَ البهائمُ ( أبقاراً و ضأناً و ماعزا ) و قبْلَها يُلقي مالِكُوها و ( ساعُوها ) بعصا ترحالهم – مؤقتاً - من رحلةِ ( الجنو- شمال ).
    هكذا ظلّ هضلول يذكر – دائماً - ذلكم الحدث أوان ( المغربية ) عندما شارف مقابر القريتين التي تفصل بين ود دكونه و ليلو أماره ( المامور ) ، و قد كان يدندن ببعض ( الجرداق ) هذا النمطِ الغنائي المترع بالتطريب و كامل نداءات الحنين لدى بطون قبيلة السليم بأفرعها جميعاً ؛ من ( أولاد تاير ، و أولاد سليم ، و أولاد براهيم و ناس عطيه و ناس بلل ، إلخ … ) ، حيث شقّ صوتُه المثخنُ بالجراحاتِ الحميمة فضاءاتِ مساماتِ وريقاتِ شُجيراتِ ( العُشرِ ) اللّدنةِ ، لِتنتصب أمامه في شكل ( بعاتي ) وهي تتمايل – يمنةً فيسره - . و العُشَرُ كما تقول أدبياتُ علم الغابات ( الفوريستُوري ) ينتمي إلى فصيلة ( الخيار و العجور)!! فأي الدوزناتِ تحتقنُ بِفونيمات و مُورفيماتِ ( جَرْدَاقِه ) السّخي ؟ .
    هضلول ، َتلبَّستْهُ حالةُ خوفٍ خرافي من هذا الهُلامِ الذي داهمه بغتةً فأطاح به أرضاً ، و كلما حاول التغلبَ عليه ، يجده كاتماً على أنفاسه .. توالى الصراع بينه و البعاتي حتى خارت قواه ، و تمكّن منه الشبح الهلامي ( والدنيا مغارب ) ، فاستسلم صائحاً : " يااااا أبو داووووود ، تلحقني و تفزعني " !!! ، و بدأ تشهُّده و استعداده لملاقاةِ ربه . و فجأةً ، خفّت قبضةُ الهلام من على رقبته ، و دوّى صفيرٌ صارخٌ كالريح .. ليجد ( تيسه ) ممسكاً بكتفه ، رافعاً إياه ، و هو يتلو آية الكرسي !!! أفاق هضلول ، و بين أشعةِ المغارب ذات الحمرة تراءى له شبحُ البعاتي و هو يجتازُ شُجيراتِ ( العُشَرِ ) مخلِّفاً بعضَ روائحه و اهتزازاتِ هروبه التاريخي من آي الذكر الحكيم التي كان يتلوها الشيخ إسحاق تيسه !!! ، و من حينها ظلّت الحكايةُ – حكاية هضلول و البعاتي و العشر و تيسه – حاضرةً في أذهان و مُخيِّلاتِ ( الود دكوناب ) جميعهم و مَن جاورهم ، تتنقلُ مُورّثةً للأبناء و مَن يخلفهم . و للمفارقات العجيبة ، يرتبطُ العُشرُ في المخيلة الاجتماعية السودانية و تجلياته البعاتية بالمقابر في معظم أنحاء السودان !! ، ليكون من حقنا التساؤلُ : تُرى ما سرُّ هذه العلاقة ( البعاتي –عشرية ) بالمقابر !! ؟
    نهاياتُ سبعينات القرن المنقرض ، و الدنيا تلهجُ ألسنتها – سياسياً – بالحرب الباردة بين آلِ ( يانك ) صنّاعِ الدنيا الجديدة ، و أسرةِ ( كوف ) حرّاسِ الكرملين ، و تنتعشُ أذواقها العاطفية الغنائية بدفقِ شيخِ ( الجامايكيين ) رائدِ و معولمِ موسيقى الريقي ، هذا البوب مارلي و هو يسقي أحلامَ و آمالَ الهوامش بالرواء المتجاوز للحروبِ المستعرةِ ( عولمياً ) – باردها و حاميها- ، ضاخاً دماً جديداً في أوردة العالم ، داعياً نائميها و ناعسيها بالنهوض لأخذِ و انتزاعِ حقوقهم المستلبة ( قيت أب ، إستاند أب ، إستاند أب فور يور رايت … ) ، حينها كانت ود دكونه و رصيفتها ليلو أماره غارقتين في مداراتِ طبولِ و أنغام ( الفرنقبيه ) ذات الأصول ( الدارفورية) ، حيث يتبادل الرجالُ و النساء ملابسهم / هن في مفارقاتٍ مازحة .. ، و الفرنقبيةُ إحتفالية دائمة الحضور في مناسبات ( الختان ) لمعظم أبناء قادة أطياف قبائل قاطني ود دكونه و ما جاورها ، و بالطبع أبناء الفور ، حيث يمتطي الصبي جواداً مزيناً ( بالجرتق ) ، و هو – أي الصبي المختون – يتحلى بكامل الزينة ، رافعاً ( الحريرة ) و ( السعفة ) بينما تتبختر الفوراويات في أزهى ملابسهن – رجاليةً كانت أم نسويه - ، حاملاتٍ ( للبرتال ) و هو الطبق ( السعفي ) الموشى بالألوان – التي تحكي سحنة الوطن - . و ( أب قزّه ) ضاربُ ( النُّقارة ) في تماهٍ نوراني يحلق في سماواتٍ تلامسُ غائب الأحلام ِ في سرحانها الآسر ذي النكهة الصوفية الغارقة في عوالمَ ، بل فضاءاتٍ من الإشباعِ للروح العتيق :
    " مِريسلي ، مِريسلي ، مِريسلي بشفي برتال سَمِح … "
    و تواصلُ الحناجرُ المسكونةُ طرباً إرسالها لما تختزنُ من أنغامٍ عبر الأزمنةِ متجاوزةً واقع الأمكنةِ بالغناء الحر ، مخاطبةً هذا الوادي ( سَيْلَي ) جوار الفاشر :
    " سَيْلَي ، ودّيني دار بَلْدِي قمح ..
    بَرْكَب القَطر أخلِّي الدار للصرمان !!!… "
    إنها مناسبةُ ختان الابن الوحيد لأحد أعيان ليلو أماره ، سليل أحد بطون قبيلة السليم ( أولاد سليم ) ، و الذي قد أصاب ثراءً خارج مظان دروب الثروات التقليدية للقبيلة من أبقارٍ و ضأن و أغنام . حيث إنه ظهر – فجأةً – و الدنيا يُدثّرها (الدَّرت ) و في معيته جرّاران ( تركتران ) من ماركة و فصيلة فورد الأمريكية ، و سيارة ( ميريكوري ) أمريكية الصنع ، وطّنها أهالي ود دكونه بإطلاق اسم ( ميركن ) عليها ، واصفين إياها بأنها ( ربع طياره ) دلالةً على سرعتها .
    تقاطرت القبائلُ زرافاتٍ و وحدانا من ود دكونه و البشاره و بر كدوك و الكويك و أم جلاله و الدبكرايه و الرشيدي شمالاً ، لتلتقي في ليلو أماره ( المامور ) بجموع القرى الجنوبيه ملولو و كوع المنقو و قردود ناما و فلوج حتى المطيمر جنوباً . تدافعت في سخاءٍ تضامني احتفاءً بختان نجل ابن السليم الذي ذاع صيته بامتلاكه بعض أسلحة ( الكاوبوي ) الزراعية ذات الذراع العولمي ( اللاقف ) لأحلام صغار المزارعين ذوي الأفق الإنساني الينزِّ عرقاً يسقي التراب ، و كرامةً تسترُ الحال و تكفي عن السؤال !!! .
    و ها هي ليلو أماره في هذا الصباح تأخذ زينتها السودانوية ، و ذلك من خلال المشاركة البهية لقبائل السليم بجرداقهم و نقارتهم و فنجفانهم ، و الفور بفرنقبيتهم و إبرتهم الضائعة ، و الشلك برقصاتهم و ( طوريهم ) و ملابسهم الزاهية و حلقات العاج المحيطة بالمعاصم ، مع الريش و اللاوو و دقات الربابة و الطبول . حيث كان الاحتفال مقاماً شرق السوق ، و على مقربةٍ من بيوت شيوخ أولاد سليم ، على ظلال أشجار اللالوب . نحرت البهائم بجميع أنواعها ، فشبعت الجموع – عصيدةً سليميةً – و ( ملاح شرموط أخدر ) ، و ارتوت من العصير ( أبو رقبه ) و اللبن الرائب ( النَّسيه ) ، و بدأ الرقص الجماعي على إيقاعات النقاره ( الشلكية و السليمية و الفوراويه ) على التوالي ، لتتعفّرَ سماءُ القرية نواحي شرق سوق ليلو أماره مضمخةٌ بالطَّيب و روائح ( فليل دمور المسّخ الأرياح ) ، ممتزجةً بعبير ( سوار باريس ) ، متداخلةً مع أدخنة الأخشاب المحروقة لصناعة الطعام .
    اِنتصف نهارُ ليلو أماره ، فاستراحت الجموعُ الوافدةُ و المقيمةُ اِستعداداً لفعالياتِ ( العصريه ) ، متجرعةً أكواب العصائر ، شاربةً للشاي و القهوه . حينذاك كانت فتياتُ السليم يجهزن أنفسهن اِستعداداً لغناء و رقصات ( الفنجفانج ) و التي تبدأ – عادةً – عصراً و تنتهي بُعيد المغرب ، لتتواصل الأفراحُ – ليلاً – باحتفالية ( إبره ودّرت ) ذات الأصول الفوراوية و التي يشارك فيها شبابُ ألوان الطيف القبلي نواحي ليلو أماره و ود دكونه و ما جاورهما في دراما إجتماعية مازحة و بريئة ، و مسك الختام الاحتفالي يكون مع استدارة القمر ، حيث يلتفح الشبابُ ملاءاتٍ متدجّجين ب ( الدرقات ) و ( العكاكيز ) للمشاركة في رقصات ( الطورو ) المنحدرة من تقاليد الشلك الاحتفالية الخاصة بالصبية و الليالي المقمرة طوال العام .
    عصرَ ذاك اليوم البهيج ، بدأت الجموع تتحلق في دائرةٍ تحت شُجيراتٍ ثلاثٍ من العرديب كانت تقع على مرمى حجر من بيوت أصحاب الاحتفالية .. و صدحت ( أم ديوان ) السليمية حكّامةُ القبيلة ذات الصوت الموغلِ في مداراتِ التطريب ، و نداوةِ اللحن المشاغبِ لكوامنِ العشق المُحكّرِ في التواريخِ البهية ، مهيجةً ( بِركَ ) الفروسيةِ و بحارَ الرجال ، وهي تقود وصلة ( الفنجفانج ) :
    " … مِن الله خَلقا ، الخوف ما بِعَرفا ..
    أبو الحُرّه عاصي ، أسدَ الخَلا … "
    عندها ، تفاقمت مشاعرُ أبناء السليم ، و سرت العدوى لافةً الحضور جميعهم . فتقدم ( وداعة الله ) هذا الشاب السليمي المسكون فتوةً و نضارة ، مدفوعاً بما أصابه من انفعال بغناء أم ديوان و ظلال دلالاته المثيرة ، خاصةً وقد تصادف أن والدته كان اسمها ( الحرّه ) ليندلقَ اللحنُ في عروقه و ( يتشخصن ) فيه . دخل الفتى المهتاج حاملاً بيده اليمنى بندقيةً ذات ( ماسورتين ) يطلق عليها الوددكوناب ( أم روحين ) ، فأطلق الرصاصةَ الأولى و هو يضع يده اليسرى على رأس أم ديوان ، هازاً اليد اليمنى في انفعال . حينها كانت الزغاريد تختلط بصوت و دخان البارود ، و عندما خفت الزغاريد ، قفل راجعاً و هو يضع البندقية على كتفه اليمنى ، و فجأةً انطلقت الرصاصةُ الثانية و التي كانت داخل الماسورة الأخرى ، و كان لصوتها المكتوم دلالاتٌ تشي بإصابتها لجسم ما … الصمت يعلو – فجأةً – و الأعين تتابع اتجاه فوهة البندقية ، ليصير ( مقبول أكيج ) جسداً يتضرج بدمائه الحامية المندفعة نافورةً تسقي وريقات إحدى شجيرات العرديب التي كان يقف تحتها شامخاً بقوامه الفاره ، مدثراً بجلبابه الأبيض الناصع حالَ عمامته و مركوبه الفاشري ، حيث كان يعمل في التجارة ( القطاعي ) مع التاجر سعيد المبارك سليل ديار الزيداب ، و الذي قد تبنى مقبول و هو ابن سبع سنين ، لينشأ و يتربى على يده و يكون من ألمع أبناء الشلك الذين برعوا في تجارة القطاعي ، و لكنّ القدر أعمى كما يقول الناس . في ومضِ البرق تحلقت الجموع حول جثته الهامدة ، و مع الحوقلات و التشهدات تفرق الجميع ، و حقبت النسوةُ أطفالهن مولولاتٍ في صياحٍ و فزع . اِنفضت الساحةُ إلا من ( أبو آسيا ) عمدة وددكونه و بجانبه ولداه و ابنا أخيه و الشيخ إسحاق تيسه ، فطلب من الصبية إحضار ماء ، و بدأ ( تكتيل ) المرحوم و ذلك بوضع الماء على عينيه الجاحظتين و هو يتلو آيٍ من الذكر الحكيم . و عندما أشرف على الانتهاء ، سُمع هديرٌ لأصواتٍ تترنم بأغنياتٍ كأزيزِ الرياح العاتية ، فأدرك أبو آسيا بحسه القيادي أنها رقصةُ الحرب و الموت التي يؤديها الشلك في جماعة ، و أن القبيلة انفعلت بسقوط أحد أبنائها مقتولاً برصاص فرد من السليم ، حينها انتفض العمدة و أرسل أوامره لإسحاق تيسه بأن يخف تجاه الجنوب ليوقف الزحف الشلكي المنفعل بالثأر ، فانطلق تيسه ليلفى الثائرين أمام القنطرة المنتصبة على الترعة الرئيسية لمشروع ليلو أماره . حال وصوله توقفت الجموع و تضامت صفوفها و هي تحرك ( الحراب ) و ( الكواكيب ) و ( الدرقات ) أماماً و خلفا ، يمنةً فيسرة ، و يشتد هدير الأصوات المشبعة بأغنيات الحرب . فما كان منه ( تيسه ) إلا و أن صاح فيهم بلغةٍ شلكية فصيحه ، داعياً إياهم للهدوء و التزام الصبر ، وكنتَ تسمعُ أحدَ الشباب المنفعلين يصيح بمقطع حماسي يتطاير منه الزبد الموشي بالحرب ، فيجيبه في هارمونيةٍ بعضُ الأصوات المتفرقة . خفت الانفعالات ، و الصدور التي كانت تغلي بدأت في الهبوط التدريجي نتيجةَ تأثير كلمات تيسه عليهم ، و بفعل شخصيته الكاريزمية و مقامه المحترم لديهم ، و من مقولاته لهم بلسانهم " … الله واحد ، و حات جوك أتانق ، مقبول و وداعة الله ولدنا كلنا ، شلك و سليم و فور و علياب ، و زي ما قال جاقو : البلد دا بلد شلك و سليم و الباعوضه و نحنا كمان … " . تفرقت جموع الشلك الثائرة ، بينما ظل أبو آسيا يرابط نواحي مداخل بيوت أهل الاحتفالية حمايةً لهم من انفعالات طائشة . و بوصول الشرطة من نقطة وددكونه ، تم احتواء الموقف و حبس المتهم وداعة الله ليرسل إلى مركز كدوك و يحاكم بعدها أمام محكمة رث الشلك بخمسِ سنوات ، قضى منها سنةً بالسجن العمومي للمركز ، و قد تم إطلاق سراحة بعد دفع ( الدّية ) و التي وصلت إلى خمسين بقرةً ، استطاعت ألوان الطيف القبلي بوددكونه و ليلو أماره و البشاره من سليم ، و جعليين علياب ، و فور ، و برقو ، و بني هلبه ، و زغاوه ، و تعايشه و كواهله التباري في دفعها ، حتى الشلك أبوا إلا أن يشاركوا بالدفع . و من المدرِّ لجيشانِ العاطفةِ موقفُ ( تيسه ) ، حيث إنه أقسم بالله و جلاله بأن تُؤخذَ بقرتُه الوحيدة مع عجلها مساهمةً منه في الديه ، فقبلت منه المساهمة بعدَ تعنُّت برغم حاجة أبنائه الصغار للبن ، و لكنّ العمدة حلف بالطلاق بأن يقبل منه تيسه بقرتين حلوب و ... هل صارَ من حقِّ العصافيرِ الغناءُ على سرير النائمين و الدنيا يكسوها التشتتُ و يعشعشُ في مفاصلها الخراب ؟ و هل آن لنا التأكد من أن ( الزَّوْلنة َ) الشاملةَ قد دخلت مفاهيمُها قلبَ أجندةِ ( الوطنِ ) كهدفٍ مبدئي !!! ؟

    و نواصل
    د. حسن محمد دوكه


    نقلاً عن صحيفة سودانايل السايبرية .




    (عدل بواسطة منوت on 08-13-2005, 00:13 AM)

                  

العنوان الكاتب Date
هل للشُجيراتِ من إيراقٍ أكثرَ فاعليةٍ وحميميةٍ ، يا جميل ؟ منوت08-12-05, 01:20 PM
  Re: هل للشُجيراتِ من إيراقٍ أكثرَ فاعليةٍ وحميميةٍ ، يا جميل ؟ منوت08-12-05, 01:27 PM
  Re: هل للشُجيراتِ من إيراقٍ أكثرَ فاعليةٍ وحميميةٍ ، يا جميل ؟ منوت08-12-05, 02:49 PM
  Re: هل للشُجيراتِ من إيراقٍ أكثرَ فاعليةٍ وحميميةٍ ، يا جميل ؟ منوت12-11-05, 01:47 PM
    Re: هل للشُجيراتِ من إيراقٍ أكثرَ فاعليةٍ وحميميةٍ ، يا جميل ؟ مطر قادم12-11-05, 02:30 PM
  Re: هل للشُجيراتِ من إيراقٍ أكثرَ فاعليةٍ وحميميةٍ ، يا جميل ؟ منوت12-11-05, 03:03 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de