|
Re: برنارد لويس (Re: محمود الدقم)
|
3- استمر هذا التشتت فترة طويلة إلى أن طل علينا عالم مصري فذ، ليفك لغز ذلك التخبط، مُقدما الحل بعد طول انتظار. إنه الشيخ "رفاعة رافع الطهطاوي" الذي كان يعمل أستاذا بجامعة الأزهر في أوائل القرن التاسع عشر. تلك الجامعة التي لم تنلها أيادي التحديث حتى يومنا هذا.
فقد أرسله حاكم مصر في صحبة أول بعثة مصرية إلى باريس في عام 1826؛ وذلك في ضوء ما ارتآه الحاكم المصري حينذاك من ضرورة وحتمية اللحاق بالغرب. وفي تلك البعثة -التي اشتملت على 44 طالبا- كانت مهمة الشيخ تتمثل في القيادة الروحية والإيمانية للطلاب المصريين، حتى لا يزيغوا عن الصراط المستقيم؛ وهي لم تكن بالمهمة السهلة في ذلك الوقت.
وفي خلال فترة مكوثه بالعاصمة الفرنسية -من 1826 حتى 1834- أظهر الشيخ ولعا غير عادي بالعلم ربما أكثر من الطلاب أنفسهم؛ فألف كتابا مبهرا، يتحدث في صفحاته عن انطباعاته حول فرنسا ما بعد الثورة. وقد تم نشره في القاهرة عام 1834، ثم ترجم إلى التركية في عام 1839.
ظل كتاب "الطهطاوي" -على مدار عقود عديدة- النافذة الوحيدة التي يطل منها القارئ المسلم الشرق أوسطي على دولة أوربية حديثة (فرنسا)، فيتعرف عليها وعلى ملامحها دون مشقة لغوية. وقد أفرد الشيخ فصلا كاملا عن الحكومة الفرنسية، مشيرا فيه إلى مدى اهتمام الفرنسيين بمسألة الحرية، ومدى انكبابهم عليها.
في البداية، تعرض "الطهطاوي" إلى نفس ذلك التشتت الفكري -الدائر حينذاك- حول العلاقة غير المفهومة بين وضع الحُر الذي لم يعد عبدا وبين السياسة. إلا أنه أدرك بعد ذلك حقيقة اللغز، فأوضح مُلخصا: "حينما يتناول الفرنسيون قضية الحرية، فهم يعنون ما يعنيه المسلمون حول قضية العدالة".
والحقيقة أن الشيـخ قـد أصـاب بالفعل، حينما خرج بهذه الخلاصة. فكما يرى الفرنسيـون -والغربيون بصفة عامة- الحكومة الإيجابية في الحرية والحكومة السلبية في العبودية، فإن المسلمين يرون الحكومة الإيجابية في تمكين العدل والحكومة السلبية في تمكين الظلم.
إن هذه الرؤى المتناقضة تسهم في تسليط الضوء على الجدل السياسي الذي دق باب المسلمين منذ الحملة الفرنسية في عام 1798.. ذلك الجدل الذي نراه مستمرا حتى هذه اللحظة، في صور مختلفة وأشكال متنوعة.
|
|
|
|
|
|
|
|
|