|
Re: قراءة في رواية عرس الزين (Re: Sabri Elshareef)
|
1- السرد والايروس:
لن يخفى على القارئ أن هذا النص مكتوب بلغة ايروسية فائقة، بحيث يتضافر العنصر الايروسي والعنصر السردي في هذا التخييل، قصد خلق عالم خاضع لصوغ ايروسي من جهة أولى ولصوغ سردي من جهة ثانية، والنموذج الأتي خير نموذج عن هذا الزواج الفائق:
"تتابعت الأعوام، عام يتلو عاما، ينتفخ صدر النيل كما يمتلئ صدر الرجال بالغيظ. ويسيل الماء على الضفتين، فيغطي الأرض المزروعة حتى يصل الى حافة الصحراء عند أسفل البيوت تنق الضفادع بالليل، وتهب من الشمال ويح رطبة مغمسة بالندى تحمل رائحة هي مزيج من أريج زهر الطلع ورائحة الحطب المبتل ورائحة الأرض الخصبة الظمأي حين ترتوي بالماء ورائحة الأسماك الميتة التي يلقيها الموج على الرمل. وفي الليالي المقمرة حين يستدير وجه القمر، يتحول الماء الى مرآة ضخمة مضيئة تتحرك فوق صفحتها ظلال النخل وأغصان الشجر والماء يحمل الأصوات الى أبعاد كبيرة، فإذ ا أقيم حفل عرس على بعد ميلين تسمع زغاريده ودق طبوله وعزف طنابيره ومزاميره كأنه يمين دارك، ويتنفس النيل الصعداء، وتستيقظ ذات يوم فإذا صدر النيل قد هبط واذا الماء قد انحسر عن الجانبين، يستقر في مجرى واحد كبير يمتد شرقا وغربا، تطع منه الشمس في الصباح وتنس فيه عند المغيب، وتنظر فإذا أرض ممتدة ريانة ملساء نزك عليها الماء دروبا شيقة مصقولة في هروبه الى هجراه الطبيعي، رائحة الأرض الآن تملأ أنفك، فتذكرك برائحة النخل حين يتهيأ للقاح، الأرض ساكنة مبتلة، ولكنك تحس أن بطنها ينطوي على سر عظيم، كأنها امرأة عارمة الشهوة تستعد لملاقاة بعلها، الأرض ساكنة ولكن أحشاءها تضج بماء دافق هو ماء الحياة والخصب، الأرض مبتلة متوثبة تتهيأ للعطاء، ويطعن شيء حاد أحشاء الأرض لحظة نشوة وألم وعطاء، وفي المكان الذي طعن في أحشاء الأرض، تتدفق البذور، وكما يضم رحم الأنثى الجنين في حنان، ودفء وحب، كذلك ينطوى باطن الأرض على حب القمح والذرة واللوبيا، وتتشقق الأرض عن نبات وتمر" (ص 33-34).
أن هذا النموذج يكون حكاية مستقلة بذاتها داخل النص الذي يتمحور، كما نعلم، حول حكاية الزين، وبمفهوم ج. جنيت هي وقفة Pause تتقدم في شكل حكاية استعارية تكثيفية (بالمعنى الفرويدي) تعكس حياة الزين - البلدة الملأى بالحياة والحب، ولكي تعكس بقوة هذه الحياة الجديدة والفريدة، كان لابد من لغة ايروسية يتضافر فيها الجنسي والسردي للحصول على قوة الحياة القصوى.
إننا عندما نقرأ هذا النص السردي، فإننا ننتهي الى استنتاج مهم ان قوة الحياة القصوى لا تكون الا بالحب وفيه، سواء تعلق الأمر بحياة الكائن أو بحياة الجماعة، بل وبحياة السرد نفسه.
فالزين، تلك الشخصية المحورية في هذا النص، لا تستقيم حياته ولا تقوى الا بالحب، قتل الحب الزين وهو حدث لم يبلغ مبلغ الرجال وكانت الفتاة التي قتلته هي عزة بنت العمدة، فذات يوم وفي جمع عظيم من الرجال نفرهم العمدة لإصلاح حقله ارتفع صوته "عوك يا أهل الحلة. يا ناس البلد، عزة بنت العمدة كاتلا لها كتيل، الزين مكتول في حوش العمدة" (ص 20).، "وفوجئ الناس بتلك الجرأة" (ص 20). فما يقوله خطير، والأخطر منه أن يقوله أمام العمدة نفسه، غير أن الموقف خفت حدته حين انفجر الناس ضاحكين واستغرق العمدة في الضحك، وأخذ بعد ذلك يستغل العمدة الزين الذي لا حديث له الا حبه لعزة، فسخره "في أعمال كثيرة شاقة يعجز عنها الجن" (ص 20) وما إن مضى شهر حتى شاع في البلدة أن عزة خطبت لابن خالها "ولم يثر الزين ولم يقل شيئا، ولكنه بدأ قصة جديدة" (ص 21).
لقد كان الزين رسول الحب. كان ذواقة للجمال لا يحب الا أروع فتيات البلد جمالا وأحسنهن أدبا وأحلاهن كلاما، وما إن يبدأ في الحديث عن حبه لفتاة حتى تصبه هذه حديث القرية كلها ولا كبث أن تتزوج. ففطنت أمهات البنات الى خطورته كبوق يدعين به لبناتهن:"في مجتمع محافظ تحجب فيه البنات عن الفتيان، أصبح الزين رسولا للحب، ينقل عطره من مكان الى مكان" (ص23) ينظر الزين الى الفتاة الجميلة، فينوء قلبه الأبكم بهذا الحب، فتحمله قدماه النحيلتان الى أركان البلد، تجري هاهنا وهاهنا "كأنه كلبة فقدت جراءها" (ص 23) ويلهج لسانه بذكر الفتاة ويصيح باسمها حيثما كان، فلا تلبث الأذان أن ترهف وما تلبث العيون أن تنتبه، وما تلبث يد فارس أن تمتد فتأخذ يد الفتاة. وحين يقام العرس تجد الزين حاضرا ومساعدا.
وتبدأ قصة حب أخرى، فقد كان الزين "يخرج من كل قصة حب كما دخل، لا يبدو عليه تغيير ما، ضحكة هي هي لا تتغير، وعبثه لا يقل بحال، وساقاه لا تكلان عن حمل جسمه الى أطراف البلد" (ص 23). إن الحياة غير ممكنة الا بالخروج من قصة حب والدخول في قصة أخرى، ولا يمكن للحب أن يتواصل الا اذا تجنب تلك النهاية: الزواج، ودليلنا على هذا أن الزين، باعتباره رسولا للحب، قد انتهى بزواجه من نعمة، وبهذا الزواج يتراجع الحب وينهزم، وبخصوص هذه النقطة نوافق الناقد محمد خلف الله عبدالله على أن حياة ما قبل العرس قد "عاشها الزين بكل كيانه لحظة لحظة، ورشف من رحيقها قطرة قطرة، أي أن ذلك الحدث برغم الضجة التي أثيرت حوله وبرغم الترويج الذي لقيه ما هو في الحقيقة الا نهاية فاجعة لتك الحياة ولتلك الطاقة الغامرة التي كان يبثها الزين في قرية ودحامد." ( ومن هنا سنفهم لماذا ذهب الزين الى قبر الحنين حينما كانت احتفالات عرسه في أوجها، فقد كان ذلك الذهاب دلالة الاستسلام والاعتراف بالهزيمة، ان لم يكن الزين، كما يرى الشيخ محمد الشيخ (9).قد شيع نفسه بالفعل الى المقابر لاحقا بالحنين، ويكفينا أيضا أن نذكر أن الزين بعد الزواج صارعن الأعيان. (10). إن شرط الحياة هو الحب، لكنه ليس الحب الذي ينتهي الى الزواج، بل هو الحب الذي يجري وراء موضوعا باستمرار، أي أنه بالفقدان يستقيم الحب باعتباره رغبة، والموضوع ليسر امرأة بعينها بل هي المرأة: الزين يخرج من قصة حب امرأة ويدخل في في قصة حب امرأة أخرى. يعني أن الموضوع الحقيقي لهذه الرغبة هو الذي يبقى الزين على حاله ويبقي الحياة في أوجها. وبمعنى أخر، هو الذي يبقي ذات الحب مخصية، إذ كلما كانت هكذا تواصل الحب وتقوت الحياة: فالزين تنقصه بعض صفات الذكورة (يقول النص "ولم يكن على وجهه شعر اطلاقا. لم تكن له حواجب ولا أجفان، وقد بلغ مبلغ الرجال وليست له لحية أو شارب" (ص 12) ويختط غالبا بمجتمع النساء. وهذا يعني أن الحب والحياة يشترطان الإخصاء والأنوثة، فيحين تؤدي الذكورة واستعادة الفالوس الى الموت: يتقدم الزين "يوم عرسه هاشا بسوطه نحو ذكورته، بينما تتراجع نعمة يوم عرسها الى دائرة الظل أو الا ظلال الكامل (11)... يوم العرس يقف الزين، عند عودته من مقبرة الحنين وكأنا يودع الحياة السابقة. في قلب الدائرة "فكأنه صاري المركب" (ص: 104)، ولباسه خير دليل على دخوله عالم الذكورة: على رأسه عمامة كبيرة وفي يده سوط طويل من جلد التمساح. وفي اصبعه خاتم من ذهب له فص من الياقوت في هيئة رأس الثعبان (ص 96- 91).
لكز ما ينبغي الانتباه اليه هو استحالة الفصل بين حياة هذا الكائن التخييلي (والتي هي حياة التخييل نفسه) وبين حياة الحب (أي حياة الرغبة) وعندما تقارن بين بنية الرغبة وبنية السرد في هذا النص نكتشف خضوعهما لنفس الاولويات.
فالسرد، مثل الرغبة، لا يتواصل الا في غياب الموضوع (أي بعدم حصول اللقاء التام والنهائي بين الذات والموضوع). وهذه النتيجة قد توصل اليها ت. تودوروف في تحليله لأحد النصوص (12). لكننا إذا أردنا الدقة، وفي ارتباط دائم بالنص موضوع الدراسة، فإن بنية السرد - الرغبة خاضعة في نص عرس الزين للعبة "الاختفاء والعودة" التي تناولها فرويد بالدرس. فالزين يرمي بحبه الى فتاة الى أن تتزوج، فيستعيد قلبه، ليعيد مرة أخرى رميه الى أن ترحل الحبيبة فيستعيده، وبذلك تختفي الحبيبة لتعود وتعود لتختفي. والأهم في هذه اللعبة، التي يخضع لها السرد كما الرغبة، أنها محكومة بقانون التكرار والفقدان. باختصار نقول أن السرد في "عرس الزين" يحيا مادام الحس، بهذا المعنى،حيا، ويموت بموت الحب وقيام عرس الزواج. ولهذا سنفهم لماذا انتهت الرواية بحفل الزواج - العرس.
|
|
|
|
|
|
|
|
|