دخلتُ داخلية امتداد ترهاقا بجامعة الخرطوم للمرة الأولى في فبراير 1991 بصحبة أبي ـ رحمة الله عليه ـ فدلوني على الغرفة التي ينبغي أن أسكنها ، كانت هي الغرفة الثالثة يفتح بابها على الناحية الجنوبية تجاه مكتب القبول الذي يفصلها عنه صف من أربع غرف وسور . دخلت الغرفة فوجدت أحد قاطنيها شابا قصيرا ذا شارب واضح يتوكأ على عكازتين . كنت متوجسا ربما من العالم الجديد الذي أدخله للمرة الأولى والناس الذين لا أعرف منهم أحدا ، تبادلنا بعض كلمات التعارف فعلمتُ أنه أحمد الجنقول ، وقد تخرج حديثا في جامعة أمدرمان الإسلامية ، ويعمل تاجرا صغيرا في سوق بحري .
رويدا رويدا تكشفت لي شخصيته التلقائية المرحة المحبة للناس ، فقد كانت مناكفاته مع عصام صديقه وابن منطقته "تمبول" لا تنقطع ، فكل موقف بينهما ينتهي بضحكة مكتومة من عصام وأخرى مجلجلة من الجنقول .
ومن مقولاته الطريفة بالداخلية قوله (الضيف بترسل) ، فنتاج لوجود عدد من ذوي الإعاقة فإن المراسيل للأصدقاء بالداخلية تكاثرت ، ومن كثرتها فقد يتلكأ أحدهم تكاسلا أو قد يتماطل للإغاظة ، فكان الجنقول يغتنم فرصة مجيء الضيوف ويرسلهم ، وكانوا يلبون طلباته على جناح السرعة ، فيقول الجنقول ناصحا (رسل الضيف ..الضيف بترسل) .
كان يسخر من نفسه ومن مساكنيه ذوي الإعاقة سخرية دائمة ، وهي سخرية لا تنطوي على التقليل من ذوي الإعاقة ، وإنما تنطوي على أن تلك الإعاقات لا تعني شيئا .
كنا قد فقدنا جراء مقاطعتنا للامتحانات بنهاية السنة الأولى ، بسبب ملابسات مقاومة تصفية السكن والإعاشة والتي أفضت إلى اغتيال الطالب طارق محمد إبراهيم وتجميد النشاط وحل الاتحاد وفصل عدد من الطلاب ـ فقدنا جراء مقاطعتنا تلك ـ تحديدا نحن البرالمة ـ عاما دراسيا وفقدنا دعم "صندوق دعم الطلاب" نهائيا وإلى الأبد ، مما تسبب في شظف شديد في العيش. وكان الجنقول من الذين سدوا الفرقة .
فقد كان أحمد الجنقول كريما غاية الكرم ، فكم أطعمنا وسد جوعتنا بأطيب الطعام ، بالذات نحن الذين كنا نسكن غرفة شاع عليها اسم غرفة الكادخين ، طارق عبد الرحيم ، وصلاح الراعي ، وعمر التنكر ، وأنا ، فكم ذهبنا معا لتناول وجبة غداء فاخرة في إحدى الكافتريات المجاورة ، وكم "غَمَت" لنا حق الفطور قبل ذهابه إلى سوق بحري .
في ظل البيئة غير المهيئة كان الجنقول يوليني عناية كاملة ابتداء من تقطيع الرغيف أثناء الأكل ، مرورا بتقليم الأظافر ، وتوفيرا لصابون الحمام الراقي ، بل والمساعدة المباشرة في النظافة الشخصية ، كان الجنقول رؤوفا كأمي .
الجنقول إنسان طروب يحب جميل الغناء ، وكان كثيرا ما يترنم بأغنية (كيف لا أعشق جمالك) يغنيها بتلذذ شديد وصوت جميل تهتز له الأوصال . وهي الأغنية التي ستظل كلما أسمعها أرى الجنقول أمامي .
كان أحمد الجنقول ختميا محبا ، يظن بالناس الخير ، حبب لنا التصوف والصوفية وقد جذبنا إلى محاضرات الدكتور التجاني إسماعيل بكلية الآداب الراتبة كل ثلاثاء ، وساقنا معه لحولية السيد علي .
وبعد أن تخرجتُ وعدتُ إلى القضارف ما انقطعت تلفوناته عني قط ، كنت أنا دائما مقصرا وكان هو السابق للخيرات ، وكان لي وعد منه أن يزورني أثناء ذهابه لزيارة الشيخ أبوجلابية بكسلا ، وهو الوعد الذي لن يتحقق أبدا .
حبيبي الجنقول إن كنت قد نظّفتني مرارا بداخلية امتداد ترهاقا ، فها هي روحي ـ الآن ـ قد اغتسلت بأريج ذكراك .
ألا رحم الله الجنقول وأسكنه الفردوس الأعلى بمعية المصطفى صلى الله عليه وسلم .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة