▫ لماذا يبدو لنا كل شيء ناقص في السودان ؛ لماذا كل الخطابات مبتورة وتحمل ارباع الحقائق وباقيها لغو ، لماذا لا نجد الا قلة من البارعين في مهنهم وندرة في الاحتراف؟
هناك اشكالية كبيرة فيما يتعلق بالاتقان المعرفي. يمكننا ان ندرك ذلك من حالة الهروب الجماعي للجماهير من اي خدمة محلية. هروب من الاطباء السودانيين ، هروب من الحرفيين السودانيين ، وغير ذلك ، حيث استقر لدى الوعي العام رفض تلقائي وانعدام للثقة في المنتج الوطني. خلال تأملي للمناشط العلمية كالدورات التدريبية في السودان ، في مجالات مختلفة كدورات ادارة المشاريع ، ودورات الطب الشرعي ، والورش والمؤتمرات وخلافه ، واطلاعي على بعض المجلات المحكمة peer-reviewed في مجال البحث العلمي على قلتها ، والبحوث والدراسات ، يمكنك ان تستشعر بدون تردد اشكاليات عديدة تتعلق بتطوير المعرفة العلمية ، وأنا لا اتحدث عما هو ادق من ذلك اي القدرات التحليلية والنقدية ، وانما اتحدث على ما هو ادني من ذلك اي التلقي المعرفي كأدنى سقف للمعرفة العلمية ؛ والذي يعتمد على منهج أحادي وهو المنهج الوصفي. لاحظ معي الكتب التي تؤلف في قضايانا العامة السياسية والاجتماعية ، لاحظ لعمليات التوثيق ، لاحظ حتى لمؤلفات الشروحات العامة ناهيك عن المؤلفات ذات التخصص الدقيق في مختلف فروع العلوم سواء كانت علوم ناعمة ام خشنة soft and hard science، وستجد رقة وهشاشة لا تتناسب مع الكثافة المعرفية في المؤلفات العلمية الأجنبية. والحقيقة أن هذا ناتج عن ضعف الاطلاع المتواصل على مستجدات وتطورات العلوم ، وهو ضعف تسببت فيه السياسات التعليمية العقيمة ؛ بالاضافة الى الحصار والعزلة التي وقع فيها السودان نتيجة لأخطاء سياسية ؛ فضلا عن الطبيعة النفسية للانسان السوداني الذي يميل الى التعلم عبر الممارسة العملية أكثر من الاطلاع الاكاديمي الممل ، والممارسة العملية رغم أهميتها الا أنها تغرق الانسان في محيط مغلق ينعزل في حدود التكرار المستمر لمفاهيم مستقرة لدى جميع الممارسين. والممارسة العملية لا تشجع على القفز على ما هو سائد بقدر ما تحجم اي رغبة في الخروج عن حدود هذه الدائرة. فالممارس يكتفي او يشعر بأنه قد حصل على ما يكفيه لأداء عمله وفق ما هو مقبول في المجتمع العملي. طبعا لا نغفل اشكاليات عديدة اقتصادية واجتماعية ؛ فللفقر أيضا ثقافته التي تطبع وعي الفرد ؛ فحصول شخص من الطبقة الكادحة على شهادة جامعية يكفيه تماما لاثبات مكانته في نطاق مجتمعه الصغير . ايضا ضعف الدولة اقتصاديا وازماتها السياسية تخلق شعورا عاما بالعمل داخل الحد الادنى من الانتاج الممكن. فشغف الابداع يتقلص ، فالموظف لا يعبأ بإيجاد حلول جديدة ؛ بل ربما لا يعبأ حتى بايجاد حلول للمشاكل الادارية والفنية التي تواجهه ، والمقصود بالموظف في هذا الشأن كل من امتلك مسؤولية العمل العام او الاكاديمي من اصغر موظف في الهيكل الوظيفي وحتى المسؤولين اصحاب المناصب الدستورية. ثقافة الجود بالموجود ثقافة بائسة جدا ، وهي التي انتجت شعبا يقف على أرضية هشة من المعارف الناقصة. ما معنى مثلا أن تجد بحثا علميا او هكذا يسمى ؛ لا يقف الا على مراجع علمية قليلة وضعيفة بل وقديمة، بالاضافة الى عدم التزامه بضوابط البحث العلمي ، وفوق هذا كله تجده بحثا مفككا وغير مترابط ولا يخرج بأي فائدة نظرية او عملية لضعف القدرات التحليلية. فهو كتحصيل حاصل لا يرفد المكتبة العلمية بأي جديد. للأسف تتدخل علاقات شخصية في مسألة تحكيم البحوث العلمية في المجلات العلمية المحكمة ، في إحدى الدوريات العلمية وجدت بحثا لأحد السياسيين لا يتمتع بأي منهجية. وهذا يضعف من القيمة الموثوقية للدورية حتى ولو كان قبول هذا البحث تم مجاملة. ولا توجد روابط علمية بين مجلات عالمية ومجلات علمية وطنية. المؤسسات التعليمية في الخليج بمستوياتها المختلفة فتحت افاق كبيرة عبر تحقيق تواصل وتبادل علمي مع المجتمع العلمي في تخصص معين. وهذا ما حقق طفرة محمودة في البحث العلمي. الباعث على الاطلاع العلمي مفتقد كثيرا لدينا وذلك لما ذكرناه من أسباب. ان معالجة هذه الأزمة ضرورية جدا ولا تقل خطرا عن الازمات السياسية والاقتصادية. لأن تطوير المعرفة يعني بالضرورة القدرة على تطوير الحلول بما يحل كل ازمات الدولة.
العنوان
الكاتب
Date
العلوم في السودان وضعف الاطلاع بقلم د.أمل الكردفاني
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
أمل الكردفاني
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست