والشيخ العبيد ود بدر، راجل أم ضبّان، على يقينه بضرورة نصرة المهدي واقتلاع الحكم التّركيّ، كان يعرف أنّ الرّجل ليس هو المهديّ المنتظر. فالجميع يعرف مقولته الشهيرة التي يشكّك فيها في مهديّة الرّجل، لكنّ الموازنات تحتّم عليه نصرته، وربّما هو الواجب الدينيّ، والكشف الصّوفي الملزِم لأهل الطّريق. كان يردّدُ في صبحه ومسائه والخرطوم على وشك السّقوط في قبضة المهديّ "يا قيّوم.. ما أصل الخرطوم"، وذلك على الرّغم من أنّه أحد القادة الذين يحاصرونها لصالح الثورة. قبل شهرين من سقوطها توفيَ ود بدر، في أكتوبر عام 1884م، حسب التواريخ المتاحة. لكنّ أحد حوارييه المقرّبين، عوض السيد كركاب، لم يحزن، لم يأخذ فاتحةً في شيخه ولم يلزم الفراش. كان يقول إنّ ذلك ليس ميقات رحيل الشّيخ. مات لأنّه سأل ربّه أنْ يقبضه قبل أنْ يدخل المهديّ الخرطوم لحاجةٍ يعلمها ود بدر، وهو الواصل المكاشَف. بقيَ ود كركاب حواره ذاك، حتّى إذا جاء عام 1900م، فتح صيوانه للمعزّين. قائلاً إنّ هذا هو أوان رحيل الشيخ، وهذا مأتمه، فهمّوا للتعزية. لم يصل ود بدر الخرطوم، وفقاً لأمنيته، ودعائه صباح مساء. هل كان ينظر – مكاشفاً – لحكم الفرد الباطش، وسيرة بطانته القادمين الذين لم يتورّعوا عن قتل الشيخ فايد، الشيخ الخراسانيّ وغيرهم من العارفين؟ هل كان ينظر إلى بطانته وبني أبيه وهم يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الرّبيع، فرأى أنْ يرحل إلى جناب الحقّ قبل أنْ يفتتن في دينه ونفسه وأهله؟ الرّجال العارفون يعرفون أقدار الله قبل أنْ تقع. يخبرهم، يكاشفهم، يحنو عليهم ليجنّبهم مقته وغضبه وفتنته. لكن السذّج يعتقدون أنّهم من يصنعون التغيير ويصنعون أقدار الله ويتحكّمون في مآلات النّاس والأحداث. هل كان البروف غندور وزير الخارجيّة المقال، يعرف أنّه يخاطب من لا يملكون له، ولأنفسهم نفعاً ولا ضرّاً ولا موتاً ولا حياة أو نشوراً؟ هل كان يعرف أنّ الجميع تحت قبّة البرلمان، بمن فيهم رئيسه شخصيّاً، أستاذ المنطق بجامعة الخرطوم، لا يملكون منطقاً لتبرير سلوك وزارة المالية ومحافظ بنك السّودان تجاه البعثات الدبلوماسيّة التي لم تقبض مرتباتها لأكثر من نصف عام؟ البروف يعرف. إذن لماذا جازف وهو يعرف أنّ قرار إعفائه لن ينتظر ضحى الغد؟ البروف ذكيّ ونزيهٌ وحصيف. لم يكن لأحدٍ أنْ يعرف أنّنا – بعد ستين ونيف عام من الاستقلال – سنواجه وهُنا يعجزنا أنْ ندفع لبعثاتنا روتبهم. كنّا نضحك على حكومة جنوب السّودان حين عجزت، بعد سنواتٍ أربع عن ذلك. لكنّنا استعجلنا الضحك. فالذي قاله البروف يعني أنّنا لم نعد نملك ثمن حقنة البنسلين. لقد أفلسنا فلساً مريعاً مخجلاً، في الوقت الذي نتشدّقُ فيه بأنّنا وأنّنا وأنّنا. أفلسنا للدرجة التي قال فيها البروف إنّ الرئيس ونائب الرئيس ووزير رئاسة الجمهوريّة ظلّوا يتابعون الأمر مع محافظ البنك المركزيّ دون أنْ يتوصّلوا إلى حلّ لأزمة "الرهائن الدبلوماسيين السودانيين المحتجزين في سفاراتنا بالخارج". ولأنّه يعرف أنّ برلمان البروف، أستاذ المنطق، فاقدٌ للمنطق، قرّر أنْ يشركه في الحلّ، وهو يعرف أنّ قرار إحالته لن يتمّ التشاور فيه مع أحد، وهل ثمّة قرار تمّ فيه التشاور مع أحد؟ لأنّه يعرف ذلك قرّر أنْ يقول ما لا يُقال. حتّى أنّ مقالاً يُنسَب للسيّد حاتم حسن بخيت في الأسافير، يقول إنّ البروف تجاوز حدود اللياقة وفقد الدبلوماسيّة. فهل غضب الرئيس ومدير مكاتبه وغيرهم من المقرّبين لأنّ البروف فضح الوضع، أم لأنّنا وصلنا إلى هذا الوضع أصلاً منذ نصف عام؟ لأنّ الغضب لمجرّد أنّه فضحنا مشكلة كبرى في ترتيب الأهداف. نحن مفضوحون منذ زمنٍ بعيد يا سادتي. مشكلة البروف أنّه لم يدعُ – وهو أستاذ لطبّ الأسنان – بدعاء الرّجل الصالح، ألاّ يصل الخرطوم. لعل قبضةً استجابةً للدعاء كانت تليق بمقامه ووقاره ومنطقه المترابط في مقالاته المنطوقة جميعاً، وكنّا – أنا وبعض الحواريين – سنقيم عزاءه في عام 2021م، باعتبار أنّ ذاك سيكون وقت رحيله. نشر فى صحيفة الاخبار
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة