مستقلين .. شيوعيين .. الثنائية الغير بنائة وأزمة المثقف السوداني بقلم كوكو موسى

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-04-2024, 03:19 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
07-12-2017, 10:00 PM

مقالات سودانيزاونلاين
<aمقالات سودانيزاونلاين
تاريخ التسجيل: 09-12-2013
مجموع المشاركات: 2045

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
مستقلين .. شيوعيين .. الثنائية الغير بنائة وأزمة المثقف السوداني بقلم كوكو موسى

    09:00 PM July, 12 2017

    سودانيز اون لاين
    مقالات سودانيزاونلاين-phoenix Arizona USA
    مكتبتى
    رابط مختصر



    إن المتابع من التقدميين واليساريين واللبراليين السودانيين لجزء كبير من النقاشات الدائرة في الأسافير هذه الأيام وفي الفترة السابقة لابد أن يكون قد أصيب بالإرهاق الفكري الغير خلاق الناتج عن المعركة الفكرية الدائرة حالياً بين الشيوعيين المخلصين للماركسية بشكلها الكلاسيكي وبين المستقلين المتعصبين لمنهج التحليل الثقافي وجدلية المركز والهامش ، والمثقفين المتعاطفين مع كل من الفريقين هنا وهناك ، ولكلٍ مبرارته وأدواته الفكرية التي تسوقه إلى نتيجة عقلانية لاغبار عليها .. ولكن الغبار موجود! وإن لم يكن في الأدوات والنتائج ، وهو كثيف يخنق الأنفاس ، فهو يغطي حاملي الأدوات أنفسهم حتى لانكاد نتبيين وجوههم وماذا يرتدون .. سنحاول هنا أن نوضح من أين أتى أصلاً هذا الغبار الذي يُعَفـﱢر أوجه وعيون الجميع فيجعلهم عمياناً وهم يحملون فؤوسهم ليحطتبوا ما يمكنهم من إشعال النور في معركة الإستنارة ليجدوا أن ما احطتبوه كان هو شعف منازلهم التي يحتمون تحتها ، وأن هذا الشعف نفسه قد تم حرقه ليضيء الطريق للعدو.
    أولاً وقبل كل شيء نريد أن نوضح أن الآراء والتحليلات الواردة هنا تندرج تحت طائلة الـ Nasty talk كما يقول فناني الراب Rap الأمريكيون (يستخدم الراب غالباً كأحد الأساليب لمعالجة القضاية الإجتماعية المؤلمة بطريقة صادمة من قبل الشرائح المضطهدة) ولهذا ستوفر على نفسك الكثير من العناء بعدم القراءة إذا كنت لا تحب حديث الجروح المفتوحة وتبكيتها ، فسنحاول هنا أن نبكت هذه الجروح بإدعاء توافر النية الحسنة للمساهمة المتواضعة في معالجتها ، وإيذاء الجرح أحياناً لايعني أن المعالج يقصد الضرر.
    طبعاً من المعروف أن السبب في إشعال هذه المعركة الفكرية هو إستقالة الفريق عبدالعزيز آدم الحلو في مارس الماضي من منصبه في الحركة الشعبية لتحرير السودان - شمال ، وما تبع ذلك من أحداث وتداعيات ، فقد أصبح هذا من نافلة القول وحديثاً ممجوجاً ، فلو نظرت لأي مقال أعلى هذا المقال بقليل أو أسفله في الصفحة الإلكترونية التي تقرؤها الآن ستجد مقالاً عن هذا الموضوع. ويعتقد الكثيرون أن الإستقالة كانت تكتيك سياسي شديد المكر من الفريق الحلو ، رغم أن الجميع لم يسألوا أنفسهم لماذا لاقت إستقالته هذا التفاعل الغير مسبوق ، هذا التفاعل مبرر بشيء واحد فقط وهو أنها قد لامست قضايا كانت تغلي عميقاً في نفوس قطاع كبير من (حركة الهامش) والمتعاطفين معهم ، وحركة الهامش هذه (وتعرفون ماذا نقصد بالهامش!) والتي أصبح للكثير من المثقفين التقدميين بما فيهم أصدقاء الأمس القريب موقف واضح منها ، حيث قد أدلى الجميع تقريباً بدلوهم ، كانت من المحركات الرئيسة لهذه الإستقالة ولهذا فليس ما يهمنا ما إذا كان الحلو مكاراً فهذا شيء يخصه وضميره ولكن مايهمنا الحراك الناتج عن ما فعله. وكنقطة أخيرة في موضوع الإستقالة هذه فقد حاجج الكثيرون بأن من تآمرية الإستقالة أنه قد تم تقديمها إلى مجلس تحرير جبال النوبة وهو مجلس غير قومي لايمكن أن يكون مختصاً بقبول إستقالة نائب رئيس الحركة وقطعاً هذا صحيح (ولايهمنا هنا التبريرات القانونية) ولكن مايغفل عنه البعض بأنه كيف سيقدم الحلو إستقالته لمجلس ورئاسة قومية ذكر هو نفسه في إستقالته أنه قد تم فقدان الثقة فيها مبدئياً وهذه أمانة في يده لايمكن أن يسلمها لمن لايثق فيه (ليس بالضرورة عدم ثقة شخصية) وكلنا يعلم من أين أتته هذه الأمانة فالمنصة التاريخية التي إنطلق منها نضال عبدالعزيز آدم الحلو داخل الحركة الشعبية هي منصة جبال النوبة وذلك لعدة مرات وليس مرة واحدة وليس بالضرورة أن تكون هذه ممارسة عنصرية فلابد أن تكون هناك قاعدة ما Constituency للإنطلاق فالأشياء ليست مجردة تنطلق من الهواء كما يتخيل الكثيرون كما أنه ليس بالضرورة أن تنتمي عرقياً للقاعدة التي إنطلقت منها في مثل هذا السياق وإلا لكان الإنتخاب للبرلمانات مشروطاً بإنتماء عرقي للقاعدة الإنتخابية ، ولهذا ففي ظل فقدان الثقة في المؤسسات القومية فلابد أن ترد الأمانة إلى أهلها الأولون وهي المنصة التي تم الإنطلاق منها وقد يبدو أيضاً أن هذا تراجعاً مؤسفاً للمشروع القومي وهذا صحيح إلى حد بعيد أيضاً لمن ينظر للأمور من زاوية معينة ، ولكن الخطأ هنا لايمكن تحميله للمستوى القاعدي الذي تم رد الأمانة إليه فالخطأ هنا يقع مباشرة على المستوى القومي (فالفشل هناك!) ففي جميع التنظيمات البشرية (سياسية ، إقتصادية ، إدارية ، .. إلخ) لايمكن تحميل المسؤلية للمستويات الأدنى. وهنا رد الأمانة ليس مرتبطاً بقناعة المؤتمن الشخصية بحيثيات رد هذه الأمانة ففي حالة الحلو مثلاً إذا ما أخذنا موضوع تقرير المصير كنموذج ليس بالضرورة أن يكون الحلو مقتنعاً به ولكن الإستقامة القيادية تحتم عليه ثلاثة أشياء لا ثالث لهما أولاً: في ظل مشروع السودان الجديد الوحدوي المتفق عليه فإنه لزاماً أن الحلو قد قام بمجهوداته قدر المستطاع لتوعية قواعده بتلافي هذا الخيار (رغم أنه ليس بالضروة أنه يعني الإنفصال لكن الخطر يظل كبيراً هنا). ثانياً: أنه قد فشل في هذا المجهود وأن القواعد مقتنعة بإدراج هذا الحق لأسباب عميقة ليس لديها علاقة بقدرات الحلو التوعوية ، أسباب ألقينا عليها الضوء في مقالات سابقة وسنحاول في هذا المقال كذلك ، هنا تحتم الإستقامة والأمانة القيادية ودون إدخال الأجندة الشخصية أن يتم رفع هذا الخيار للمستوى القومي. ثالثاً: في حالة عدم تمكن الحلو من تنفيذ أي من الأمرين فلا يصبح أمامه إلا أن يتقدم بإستقالته لأنه في هكذا وضع أصبح ليس هنالك شيء ليقدمه وهذا ينطبق على المطالب الأخرى غير تقرير المصير ، هكذا بكل بساطة!. وما ذكرناه من ممارسة في النقاط الثلاثة السابقة هو أمر غير متصور في العقلية السياسية السودانية والمرتفع الثقافي الذي تنحدر منه مما قاد إلى الفشل على المستوى القومي للحركة فقد كان لزاماً كذلك وبنفس الكيفية أن يقوم المستوى القومي بتوعية القواعد وإقناعها ، ليس بالكلام القديم الذي لا يسمن ولايغني عن جوع ، ولكن عن طريق تبني تحركات وإستراتيجيات وتكتيكات جديدة مقنعة و في حالة فشلها في هذا يجب عليها أن تقوم بتبنى مطالب جميع القواعد من منطلق إنسانوي حقوقي بحت إذا كانت تدعي أنها حركة إنسانوية وليس تبني مطالب أغلبية متخيلة كانت أم حقيقية على حساب مطالب قواعد أخرى تعتبر أقليات أعياها النضال الوحدوي في نظرهم ، ففقه الأقليات هذا هو ذاته الذي أدى إلى قيام الحركة الشعبية ومن قبلها حركة الأنيانيا وغيرها من الحركات المنتشرة الآن على أساس مناطقي وعرقي وهذا نتاج منطقي لفشل التنظيمات السياسية السودانية يمينها ويسارها في جعل الصراع قومي تحس هذه القواعد إحساس حقيقي بقوميته.
    وبما أننا إدعينا في المقدمة أعلاه بأن هناك غباراً والذي ليس سوى سلوكيات ومفاهيم تمارس غالباً دون وعي كموروث ثقافي عتيق متجذر عميقاً ، فسنحاول في ما يلي أن نلقي الضوء على بعض من هذه السلوكيات والمفاهيم التي تشوب تعاطي المثقفين السودانيين (بالضرورة أعني مثقفي اليسار وباقي التيارات اللبرالية) مع المشكل السوداني الأهم وهو مشكل النزاع بين المركز والهامش ، سواء رضي البعض بهذه التسمية أم لا ، فلا بد أن نعطي لهذا المشكل إسماً لكي نسطيع أن نتحدث عنه وقد رضي قطاع كبير من المثقفين السودانيين بهذا الإسم وبالتالي أصبح هناك من يُعرفون بالمهمشين .. هؤلاء المهمشين ، وفيهم القروي والحضري والمثقف ومتوسط المعرفة والجاهل والحكيم والأمي .. إلخ ، لديهم زاوية للرؤية ينظرون بها للمثقفين المذكورين ينتج عنها إنطباعات وأسئلة ربما تكون ساذجة ، غبية ، ذكية ، عميقة ، إنصرافية ، أو خبيثة وربما شريرة! وهذا طبيعي فبما أنهم بشر فبينهم جميع الصفات المذكورة ، ولكن بما أنهم كذلك محل للفعل من قبل هؤلاء المثقفين ، سواء كان فعلاً سياسياً أو ثقافياً ، فمن حقهم أن يحصلوا على إجابات لكل الإسئلة التي تعتمل في صدورهم من المثقفين المعنيين. وبهذا فسنحاول أن نلقي الضوء ونخوض النقاش حول هذه الأسئلة والإنطباعات من وجهة نظر هذا المهمش. هذا المهمش الذي أنكر الكثيرون وجوده آيدلوجياً وقالوا أنه ليس سوى بوليتاريا ضل طريقه في الصراع الطبقي.
    ولكي نسلط المزيد من التعريف على هذا المهمش حتى لايكون هنالك خلط فنحن نقصد به ذلك المهمش على أسس عرقية وثقافية ومناطقية ذلك التهميش والذي ظاهرياً على الأقل أدى إلى إندلاع الحروب المستمرة منذ ما قبل الإستقلال إلى الآن. أما المثقف المعني هنا فهو مثقف المركز سواء إنتمى لهذا المركز عرقياً أو ثقافياً والمركز نفسه المعني هنا هو المركز الذي يصدر منه التهميش تجاه الآخرين وهو مركز عربي مسلم ثقافياً وليس بالضرورة عرقياً ولهذا أصطلح عليه بالإسلاموعروبي والعروبة تأخذ المرتبة الأولى في التراتيبية يليها الإسلام ولكن هذا لايعني أن كل الأعراق تسرح وتمرح بحرية في هذا المركز بمجرد جهرها وتسليمها أنها عربية ومسلمة فهناك معايير عرقية لا بد من التطابق معها أهمها اللون والشكل وللغة العربية كلغة أصلية واللكنة اللتي يتم بها تحدث هذه اللغة ، فبالنسبة للون على قول الدكتور منصور خالد فلابد أن يكون هو اللون البُني الصحيح (وليس أي لون بُني) فهذ اللون في ثقافتنا يتدرج إلى أسفل غامقاً حتى يصبح أسوداً فيقع صاحبه تحت طائلة (العب) ماراً بمرحلة (الفرِخ) واللذي هو أقل سواداً ويصعد إلى إعلى فاتحاً ماراً بمرحلة (الأصفراني) حتى يصبح أبيضاً فيقع صاحبه تحت طائلة (الحلبي) وليس حظه أكثر بكثير من حظ قرينه العب في الـ Equilibrium العرقي السوداني وإن كانت مساحة تحركه أفضل (الدكتور منصور خالد له وصف ممتع لموضوع العروبة الصحيحة في السودان في إحدى كتبه للأسف لا أذكر أي واحد بالضبط ولكن أعتقد أنه - السودان أهوال الحرب وطموحات السلام) كما أن هناك مجموعة ملامح معينة تدعم اللون فليس دائماً اللون البُني الصحيح يعني أنك عربياً وكذلك إذا تطابق اللون والملامح فقد تُسقط عنك اللغة واللكنة الحق العروبي ولسبب ما لا ينطبق هذا على مجموعة القبائل النوبية (الدناقلة والمحس). وبالضرورة فإن هذا المركز هو مركز قابض على كل مناحي الحياة وليس السياسة فقط ، والمثقف المقصود هو الذي يدعي إنعتاقه من ثقافة هذا المركز لصالح الثقافة الإنسانية المعاصرة.
    هذا المثقف لديه سمات وسلوكيات ومفاهيم مشتركة حتى مع قرينه المثقف في أقصى اليمين وبعضها بديهياً مشترك مع أقرانه من خارج المركز من مثقفي الهامش ، ففي النهاية نحن جميعاً في العالم الثالث. وبالطبع هذا المثقف لم يأتي من الهواء فهو نتاج مؤسسات المركز ، ومعروف في علم الإجتماع Sociology أن المؤسسة Institution هي وحدة إجتماعية كالأسرة مثلاً ، وهذه المؤسسات يمكن أن تكون رسمية وغير رسمية كالحكومة مثالاً للأولى والنظم الإجتماعية الصارمة شديدة التنظيم كالتراتيبية الطبقية أو العرقية أو السيطرة الذكورية الأبوية مثالاً للثانية ، و المؤسسات الغير رسمية ذات قواعد ومعايير وتقاليد إجتماعية غير مكتوبة ولكنها تتبع بدقة ودون وعي حيث من تعريف المؤسسة أنها متجاوزة لوعي ومقاصد الأفراد. هذه المؤسسات نفسها تتكون من مؤسسات ووحدات إجتماعية أصغر منها (كالأسرة ثم الجيرة ، الحي ، المدينة ، الدولة ، .. إلخ) وهذه المؤسسات تسلك سلوكاً ليس له علاقة بسلوك المؤسسات الأصغر المكونة لها فكلما كبرت المؤسسة عكست سلوكاً يبتعد تماماً عن سلوك المؤسسات الصغرى المكونة لها وهو مايسمى علمياً بالـ Emergence وهي ظاهرة تنطبق على العلوم الطبيعية كذلك وهي ظاهرة مركزية في دراسة النظم المعقدة بما فيها ظاهرة الكائنات الحية العضوية (الحياة) ونشوئها من تفاعلات كيميائية. وهذا في حالة السودان مثلاً يفسر الذهول لدي الكثير من أفراد الهامش الذين عاشوا في المعاقل الجغرافية لثقافة المركز خاصة لمن لم يعيشوا في القيتوهات (التجمعات السكنية لأهل الهامش) بأن كيف يكون جيراني الطيبون والشهمين والنبيلون والمحترمين قبل كل هذا ، يقومون بكل هذه الأفعال الشنيعة عندما يصل الأمر لمرحلة الدولة. وسوف نقفز فوق سمات هذه المؤسسات التي أنتجت المثقف الذي نتحدث عنه لضيق المساحة فقد يكون هذا في سانحة أخرى ونتحدث عن بعض سمات هذا المثقف نفسه.
    من أهم هذه السمات هو تقديس المعرفة والشخصيات وهذا ناتج عن التربية تحت مؤسسة الثقافة الدينية فتصبح هناك خانات جاهزة ليست صالحة للملء إلا مرة واحدة في كل مرة فالشيوعي الملحد مثلاً فرغ هذه الخانات من القرآن والسنة والرسول ليحل محلها الماركسية والديلاكتيك وماركس فيصبح هذا دينه الجديد بنفس درجة التعصب للدين القديم ويصبح لا محل لمعارف جديدة إلا للإطلاع بغرض الرد على الخصوم الكفرة. وإذا كان ممكناً سيرد عليهم بالرصاص ليكفيه الله!! شر الإطلاع. وبنفس الكيفية فإن المستقل إذا كان أنصارياً من قبل فسيفرغ خاناته من المذهب الأنصاري والصادق المهدي ليحل محلهما جدلية المركز والهامش ومنهج التحليل الثقافي وأبكر آدم إسماعيل ومحمد جلال هاشم وسيكون مستعداً لحمل نفس الحربة والكوكاب ليطعن بها مؤخرة كل شخص سيسجد لغير منهجه الجديد ، وهكذا دواليك.
    وبأثر لايقل عن الأثر السابق في التعامل مع المعارف والمفاهيم يأتي أثر مؤسسة التعليم الرسمي مسنوداً بقوة من مؤسسة الإعلام الرسمي والشعبي حيث أن مؤسستي التعليم والإعلام هما الأداتان الخطيرتان لأي نقلة بشرية رئيسية في أي بلد أو حيز جغرافي بشري. وقد كرست هاتين المؤسستين لتعليم تلقيني صارم ذو توجهات معينة لامكان فيه للعقل الإنتقادي أو التأملي وتصل الصرامة الآيدلوجية لهاتين المؤسستين في كثير من الحالات لتزوير الحقائق العلمية والبحثية بطريقة لا أخلاقية صارخة. وبالتأكيد فإن معظم المثقفين السودانيين لم ينجوا في تعليمهم وثقافتهم الأساسية من هذه المؤسسات ، الأمر الذي أدى لشيوع ثقافة الأستاذ الملقن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه والكتاب المدرسي الذي من المستحيل أنه يحوي شيئاً غير الحقائق ، فإنتقلت نفس هذه الممارسة إلى الأحزاب السودانية يمينها ويسارها بما فيها عقوبة الجلد (وقد شاهدت هذا بأم عيني) ، فيصبح هكذا مثقف من الصعب عليه أن يتصف بالمرونة الفكرية أو التسامح أو رؤية الأشياء من زوايا أخرى غير زاويته ناهيك عن إنتقاد زاويته نفسها ، فمعظم المثقفين السودانيين حصلوا على ثقافتهم عن طريق التوجيه من كادر أعلى في الرتبة الحزبية يوجههم لقراءة كتب أو الإطلاع على مادة معينة بل وغالباً يتم تأليف كتيبات جاهزة في شكل ساندويتشات فكرية وثقافية للإطلاع السريع إختصاراً للزمن ، فلا يعدو الأمر أن يكون تبديلاً للمدرسة بشكلها المعيب لدينا بالحزب. ولهذا يمكن أن نطلق على هكذا مثقف لقب المثقف المدرسي والذي بدل أن تكون المدرسة مدخلاً له للإنطلاق لآفاق العلم والمعرفة الحرة تكون هي محطته الأولى والأخيرة فلا يفتك من ربقتها إلا إلى اللحد.
    كما أن هناك مفهوم التفوق العرقي المتجذر لا شعورياً لدي أعتى مدعي التحرر وبما أن هناك دلائل واضحة تشير إلى هكذا تفوق إلا أن له أسباب موضوعية نذكر بعضها هنا ، أولها عامل اللغة ، فاللتفاعل في نواحي الحياة المختلفة للمركز بالنسبة للمهمش فإن اللغة تشكل عاملاً حاسماً يفوق تصور البعض ، فمعروف أن اللغة هي حامل ثقافي ، فا لكي تبحر داخل ثقافة معينة وتتعامل داخلها بكل أريحية لابد أن تجيد لغتها بكل سكناتها ليتم التعامل معك كعضو كامل (أو شبه كامل) وبالتالي تحصل على حصة كبيرة من الإمتيازات التي تمنحها الثقافة المعينة لأعضائها ، فإجادة لغة (إنسان أمدرمان) مثلاً وهي اللغة العربية الدارجة الرئيسية لثقافة الوسط والمركز بطريقة صحيحة تضعك في مرتبة أعلى من الغير حتى لوكنت من الهامش وتمكنك من التواصل والتعامل بكفائة فلا تبدو غبياً. أما في النواحي الرسمية كالتعليم مثلاً فإن اللغة العربية الفصحى مع لغة الوسط هما اللغة الرسمية للتعليم مما يُهيئ المسرح تماماً لتفوق إنسان المركز ، أما في عهد التعليم باللغة الإنجليزية فلقد كانت الإنجليزية والعربية الفصحى ولغة الوسط هي لغة التعليم مما كان يضطر غالبية كبيرة من أهل الهامش خاصة الجنوبيين من إجادة لغتين غير لغتهم الأم وهو أمر مدهش وينم عن تفوق كما ذكر الدكتور منصور خالد من قبل (متعه الله بالصحة والعافية - نعيد ذكره لأنه علامة في دحض حجج المركز). وفي إعتقادي أن أكبر ضربة قامت بها الإنقاذ ومن قبلها مايو وقد تضرر منها الجميع هامشاً ومركزاً هو تعريب التعليم وضعضعة مكانة اللغة الإنجليزية ، فلو كانت ثورة الإنترنت قد أتت ووجدت التعليم كما كان أولاً ، فصدقوني لاختلف المنظر كثيراً ، فلن تصدقوا لأي درجة تشكل اللغة الإنجليزية حاجزاً للولوج إلى معارف ومفاهيم وثقافات أخرى. وذات صفوة المركز التي دمرت التعليم بشكله القديم تحرص تماماً أن ينال أبنائها تعليم إنجليزي رفيع المستوى داخل وخارج السودان ، تعليم بعيد المنال عن الأغلبية ، فلايصبح هناك مجالاً للمنافسة. وفي نفس سياق التفوق فإن إنسان المركز يملك شبكة إجتماعية فعالة منتشرة ومهيئة لإحتياجاته. كما أن الأوضاع الإقتصادية للمهمشين حيث مناط بهم أصلاً أن يكونوا قاعدة الهرم الإقتصادي في وسط ثقافة إقتصادية ريعية نهبوية للمركز (متسقة مع ثقافة مركزه الكبير هناك قديماً وحديثاً) تُدخل المهمشين في مايسمى بعقلية الندرة Scarcity mindset أو Scarcity tunnel وموضوع عقلية الندرة هذا نتاج مجهودات بحثية رائدة قام بها العالمان البروفسير Eldar Shafir من جامعة برينستون وزميله Sendhil من جامعة هارفرد قاما بتجميع مجهوداتهما في هذا الموضوع في كتاب يسمى (الندرة: لماذا الحصول على القليل جداً يعني الكثير) صدر في العام 2013م ، خلاصة أبحاثهما تتلخص في أن نفس الشخص يسجل معدلات ذكاء مختلفة طبقاً لحرمانه أو عدم حرمانه من شيء مهم لديه كالمال مثلاً ، فبعد إجراء إختبارات مختلفة بعضها مصطنع وبعضها على أرض الواقع وفي أماكن مختلفة ولشرائح متنوعة ثبت أن الحرمان من المال أو الزمن مثالاً وليس حصراً أدى لإنخفاض معدلات الذكاء الـ IQ بمعدل عشرة درجات ، وقد إتضح أن هذا الأمر يؤثر بصورة كبيرة في عملية إتخاذ القرارات لدي الفقراء حين ما يتعلق الأمر بإستراتيجيات الخروج من الفقر حيث يتم التركيز على الحوائج اليومية (رزق اليوم باليوم) ، كان من أهمية البحث أن تم تعيين أصحابه كمستشارين للرئيس الأمريكي السابق أوباما في مايتعلق بسياسات مكافحة الفقر. بالإضافة لما تم ذكره فإن الإرتباك الثقافي لإنسان الهامش الذي يأتي طازجاً إلى المركز قد تجعله يبدو مضحكاً لدي الكثيرين بنفس الكيفية التي يبدو بها إنسان المركز مضحكاً في الخليج حيث كل من عاش هناك يعرف أنه مادة ممتعة للتندر والضحك في التلفاز والشارع ، وسيجد نفسه في نفس الوضع المربك في أوربا مثلاً ولكن دواعي الإحتشام الإنساني هناك تمنع من الضحك!. ومما سبق ذكره يجب ألا يتخيل البعض أن المركز هو الخرطوم فقط فالمركز ينتقل بمؤسساته الرسمية والشعبية إلى الهامش نفسه ليهمش أفراده هناك وأحياناً عن طريق أفراد من الهامش نفسه معاد إنتاجهم بكفائة تثير الإعجاب في مؤسسات المركز.
    ما سقناه من حديث في الفقرات السابقة يسلك بنا الدروب نحو بعض الأسئلة والإنطباعات والتي ذكرنا في المقدمة أننا سنتعرض لها من وجهة نظر المهمشين في الفقرات التالية.
    هناك إنطباع بأن المثقف السوداني المعني يخجل من طبيعة الصراع المتخلفة ولهذا يصر على النقاء الصراعي الطبقي لهذا الصراع - إذا جاز التعبير - فالشواهد تقول أنه يريد أن يكون في مصاف واحد مع زميله الأوربي والآسيوي في القرن السابق والعربي الآن وسابقاً أيضاً فهو يربأ بنفسه عن طبيعة الصراعات في القارة الأفريقية ما تحت الصحراء وينكر إنه إمتداد لتلك الصراعات وكأني به يخوض حواراً مع زميله العربي والذي الصراع لديه متقدم أكثر منا فحواه (ويش لون هذا اللي تقولوه ويش هاي الخرابيط ، صراع عرقي ومش عرقي ، مايصير هذا ، يكفي فشلتونا قدام الربع) أو الشامي يقول له (ويش خَيو ما تِخجَلو ، لك هيك يصير عندكو) أو حبيبنا المصري يقول له بعتاب (ليه كدة بس يابني ، ما تؤلوش كدة عيب يابني ، دي حاجات تعر مصر). ووضعنا هذا والذي هو كالرقراق (الرقراق في الدارجة السودانية هو ظل الشجر الذي تتخلله أشعة الشمس الحارقة) وعدم ثقتنا الثقافية هو في رأيي الذي أقعد بنا من أن نقدم شخصيات كتلك التي قدمتها دول أفريقية كنا أكبر منها حجماً في جميع النواحي كسنغور ، نيريري ، لومومبا ، كينياتا ، نكروما ، وغيرهم وكذلك الحبيب بورقيبة أو جمال عبدالناصر في شمال أفريقيا. رغم أنه إبان إستقلالنا كانت كل الأمم الأفريقية تتطلع إلينا كما قال المفكر الكيني الكبير علي مزروعي. وكانت القارة تعتقد أننا سنكون ماردا واقفاً حطم أغلاله ولن يوقفه شيء ولكننا أصرينا أن نحبو والأغلال في أعناقنا في إتجاه نعلمه جميعاً رغم أنه كان مقدراً لنا أن نكون أكبر بكثير مِن مَن حبونا نحوهم. كما أنه ليس بالضرورة أن تقع الصراعات ذات الخلفية الثقافية والعرقية فقط في دول شديدة التخلف مثل السودان فغالبية الصراعات التي أدت لتقسيم الدول هي من هذا النوع (مثال الهند وباكستان والإتحاد السوفيتي نفسه ويوغسلافيا السابقة وأرتريا وأثيوبيا والإستفتاءات الدورية التي تقوم في عدد من الدول المتقدمة وقبلها حركة الحقوق المدنية الأمريكية) ولهذا ففي الواقع على الأرض ليست كل الصراعات طبقية فالصراعات الطبقية غالباً لاتؤدي لتقسيم الدول. أما في حالتنا ليس كل المهمشين بوليتاريا وإن كانت هناك حدود وسقوفات توضع في عملية إحتياز الثروة ولكن من لم يتم تهميشه في المال ووسائل الإنتاج سوف يتم تهميشه في نواحي أخرى كثيرة لاداعي لذكرها هنا وبالتالي فهناك برجوازية وبوليتاريا في الجهتين ليست بالضرورة متحالفتين وكل في جهته يمارس نفس الممارسات التقليدية لكل طبقة ورغم ذلك البرجوازية والبوليتاريا لكل جهة تصطف سوياً لتقاتل نفس التشكيل في الجهة المقابلة وهذا أمر نعيشه ونعرفه جميعاً ونموذج الزغاوة وإن تم ذكره بكثرة ليس ببعيد فهي مجموعات تقريباً كلها ثائرة بأغلبية يجب أن تثير الريبة لمن لايريدون أن يرو مايحدث على الأرض رغم إنها توصف دائماً بأنها من أغنى قبائل السودان ، ولكنهم كلما إزدادوا غنى إكتشفوا أن البلد ليس معنياً بغناهم هذا وأن القواعد سارية كمسيرة الجمل والكلاب تنبح في مسيرة إستفزازية لم يصلح معها غير حمل السلاح. وما نتحدث عنه شديد الوضوح ولا يحتاج للكلام أصلاً وهذا مايفسر السخط الشديد من وجهة نظر الهامش تجاه كتابات مثقفين يعتزون بهم جداً فتبدو لهم هذه الكتابات مع محاولات لي العنق الآيدلوجي كمن ينطح رأسه في الحائط بعناد وبطريقة مؤذية لصاحب هذا العناد أكثر من أي جهة أخرى فيصبح الأمر كأن هناك مريضاً يحس بألم مضني في جانبه الأيسر بينما يصر عليه الطبيب بأن الألم في جانبه الأيمن بل ويقرر بأنه سيفتح له هذا الجانب ليرى ما بداخله وعند فرار المريض من المستشفى لينجو يطارده الطبيب إلى البيت ليقول له بأنك لم تحترمني فأنا طبيب كبير مختص في الجانب الأيمن ولا أستطيع أن أرى الجانب الأيسر!! وهذا في رأيي أمر مستفز للغاية وقد حدث مؤخراً حتى من كاتب كبير نكن له إحتراماً عميقاً كالدكتور حيدر إبراهيم ، حيث أصدر مقالاً أدى لتراشق مؤسف جعله يصدر مقالاً ثانياً أقل توازناً من الأول ثم مقال ثالث إستشهد فيه بنظرية موت المؤلف في الأدب حيث يتم التعامل مع النص فقط ، وأخشى أن يكون الدكتور قد مات فعلاً لدي قرائه من الهامش (قد أصبت أنا شخصياً كاتب هذه السطور بالإحباط من هكذا مقالات تصدر من هكذا قامة فقد كان هذا أمراً بعيد التصور ، فأنا نفسي نتاج مؤسسات المركز أقدس الشخصيات!!). وقد جره هذا إلى مخاشنة جانبية مع الطيب مصطفى الذي حاول الترمم على الخلافات الأيدلوجية للإخوة في الإستنارة .. حقيقي ودون مهاترات لا تليق هذا الشخص ’’الطيب مصطفىʽʽ يذكرني بالضبع!.
    هل هناك مواثيق غير مكتوبة يتفق فيها المثقف المعني الذي يدعى الإنعتاق من ثقافة المركز (نعني الإنعتاق من الجوانب الثقافية الرجعية طبعاً) مع نفس هذا المركز. لقد كان للدكتور لام أكول أجاوين - نقتبس منه هنا رغم عدم شعبيته هو والدكتور رياك مشار لدي الهامش المحسوب للشمال لأسباب معروفة منذ نضال ما قبل إستقلال الجنوب وهي أسباب سارية حتى الآن Strategic conflict - فاللدكتور لام أكول في كتابه (الثورة الشعبية لتحرير السودان ـ ثورة أفريقية) تلميحات عن المواقف الغير إيجابية للقوى اليسارية وخصوصاً الحزب الشيوعي تجاه الحركة الشعبية الأم إبان إنضمامه إليها في الثمانينات رغم رفعها لشعارات ماركسية قحة في ذلك الوقت ، وللذين لا يعرفون تاريخ الرجل بالمناسبة فقد كان نجماً سياسياً يسارياً معروفاً في الشمال قبل إنضمامه للحركة الشعبية رسمياً في العام 1986م بعد فترة من العمل السري ومعروف عنه أنه شخص متوقد الذكاء ولهذا لا يمكن أن تكون ملاحظاته سطحية ، وإحدى هذه الملاحظات والتي سنقوم بإيرادها هنا كانت في سياق فترة إنتفاضة أبريل 1985م التي أطاحت بالنميري وهو يتحدث عن التجمع الوطني لإنقاذ البلاد والذي حوى كل القوى اليسارية وعن المجلس العسكري الإنتقالي. ونورد هنا الإقتباس حرفياً دون أي تدخل أو تعديل كما ورد في الصفحة رقم 289 من كتابه وهو كما يلي:- ’’رفض الجيش الشعبي لتحرير السودان التفاوض مع الجنرالات في الوقت الذي إعتبر نفسه حليفاً للتجمع. ولكن مهما تكن الفوارق بين المجموعتين إلا أنهم متفقون على موضوع سياسي رئيسي ولهم فيه فهم موحد ألا هو أن الجيش السوداني هو رمز الوحدة الوطنية وأنهم سوف لن يسمحوا بتدميره أو هزيمته. بكلمات أخرى فأن أي تعاون بين التجمع الوطني لإنقاذ البلاد مع الجيش الشعبي لتحرير السودان لابد أن يستبعد أي إنتصار حاسم للجيش الشعبي في ميدان المعركة على الجيش السوداني. قلة من الشماليين السودانيين يمكنهم المناقشة علناً عن قسوة ومجازر الجيش في الجنوب أو حتى الشك في مصداقية البيانات التي تصدر من الجيش عن الحرب. هذا ميثاق غير مكتوب يوحد شمال السودان. أدرك العقيد جون قرنق هذه الحقيقة بالطريقة الصعبة عند إستيلاء الجيش الشعبي على الكرمك في عام 1987م. حينها قامت الحكومة بإطلاق تصريحات من شأنها تأجيج الحرب وإثارة المشاعر العدوانية في الشمال، وتم مناشدة الجميع للمساعدة في الدفاع عن البلاد من «العدوان». بعد ذلك جمعت التبرعات المالية والمادية للمساهمة في تحرير الكرمك من دنس المتمردين. من ضمن الذين تم عرضهم بطريقة ملفتة في وسائل الإعلام السودانية وهم يقدمون التبرعات لهدف التطهير هذا كان السيد محمد إبراهيم نقد سكرتير عام الحزب الشيوعي يحيط به رفيقاه الآخران واللذين كانا عضوين في الجمعية التأسيسية.ʽʽ إنتهى الإقتباس. وفي إقتباس آخر من الصفحة التالية ، صفحة 290 في نفس الموضوع : ’’لقد ظل الجيش على الدوام موالياً للحكومة الموجودة في السلطة، وهذا الأمر ليس مثار دهشة خاصة إذا علمنا أن سجله الوحيد في المعارك كان ومازال في الحقيقة هو الحرب في الجنوب فقط (أنسى عن الرحلات القصيرة إلى مصر والعراق)، وهو موضوع قل مايختلف عليه الشماليون.ʽʽ إنتهى الإقتباس. ما الذي يجعل الدكتور لامكول يحمل إنطباعاً كهذا؟. وهناك شائعات قوية بأن عدم وقوف القوى السياسية السودانية المختلفة مع هبة سبتمبر المفاجئة من العام 2013م حيث تخطى الشارع السوداني الأحزاب المتكلسة التي أخذتها الهبة هي والحكومة على حين غرة كان تواطئاً غير رسمي مع النظام مخافة الإنهيار التام الغير مسيطر عليه من قبل القوى السياسية المعارضة مما قد يؤدي إلى أن يملأ هذا الفراغ قوى الهامش وحركاته المسلحة. تم خذلان صبية وشباب وفتيات في عمر الزهور قدموا أرواحهم بالمئات رخيصة للإنتصار لكرامتهم وكانت صبيات المدارس تهتف في الجمهور الذي أنهكته الإنقاذ (شعب جعان لاكنو جبان) ، لقد لقن الشباب السوداني الغض ديناصورات الأحزاب درساً في الإقدام والتضحية لن ينسوه وسيظل وصمة عار في جبينهم أبد الدهر.
    لماذا لا يطابق الشيوعي واليساري السوداني المخيلة التي في رؤوسنا منذ الصبا عن الشيوعي الأمثل من واقع ثورات التحرر العالمية والأفريقية وتورطه الكثيف في ثورات الريف بغض النظر عن إنتمائه لها عرقياً وإثنياً مع أن هناك نمازج طيبة مشرفة في السودان - لكنها لا تنم عن توجه يساري عام - رغم أن السودان من أكثر الدول بل أجدرها بأن ينطبق عليه هذا النوع من النضال وبالطبع ليس مطالب من كل شيوعي أن يكون هكذا ، فكل حسب مقدرته وإمكانياته وظروفه. لكن الآية معكوسة في السودان مع عدم القول بأنه ليس هناك مجهودات في الريف ولكنها أيضاً ليست توجهاً عاماً فالمهمش بالشكل الذي عرفناه به عندما يأتي إلى المدن التي بها شكل الإنتاج الحديث يتم التسابق عليه من قبل القوى اليسارية ليصبح رصيداً بوليتارياً يتم التفاخر به ، ولكن ذات المهمش عندما يتم قصفه وحرقه وسحله في مناطقه التي يأتي منها يتم إتهامه بأنه قد تورط في صراع عنصري متخلف مخجل لايجوز! وبالتالي لدي الكثيرين حتى من اليسار فهو يستحق مايحُل به (وماعندنا ليك أي حاجة) ورغم أن القليل من الإطلاع على أسس علم الإجتماع توضح أن ما يحدث من ثورات بالطريقة التي لا يُحبها اليساريون السودانيين أمر لا مفر منه ورغم أنه يفترض أن الأحزاب اليسارية أحزاب راديكالية في معتقداتها وقد جائتها الراديكالية على طبق من ذهب ، إلا أن سلوكها تجاه هذه الثورات غير متسق ومعتقداتها حتى لو إفترضنا أنها قد أسقطت العنف الثوري من أدبياتها. وهذا يقودنا إلى سؤال آخر وهو هل الأحزاب اليسارية في السودان غير راديكالية (نعني بالراديكالية هنا الإيمان بالتغير الجذري عن طريق العنف الثوري) على غرار الأحزاب الشيوعية في أوربا الآن وهل يصح هذا في مثل ظروفنا؟ بالتأكيد إن معظم أحزابنا اليسارية راديكالية والشواهد على ذلك كثيرة ولكنها مزدوجة المعايير فهي تدعي أنها غير راديكالية عندما يتعلق الأمر بثورات الهامش ولكن في حالة الإستيلاء على السلطة بالإنقلابات العسكرية في الشمال فهي راديكالية ، وأكثرها إدعائاً للوداعة وهجوما على ثورة الهامش كالبعث مثلاً أكثرها تعطشاً لإحتياز السلطة راديكالياً إذا وجدت الفرصة. ولهذا فإن ثورات الهامش بالنسبة لهم ليست أكثر من نهر يجب توجيه مجراه ليروي قطنهم الذي سيغزلون به ثورة أحلامهم. وبالنسبة للمهمشين فهذه القوى ليست سوى الوجه الآخر للعملة إذا إفترضنا أن الوجه الأول هو جانب القوى اليمينية وهي عملة إستنفذها التضخم.
    هل عدم الإتفاق الأيدلوجي الشكلي (واضح أن الإختلاف ليس جوهرياً) هو سبب التعاطي السلبي للتقدميين السودانيين مع الثورات التي إنطلقت من الهامش ناهيك عن الإنخراط الكلي فيها. فإذا إفترضنا أن كل الذي يقوله من يرون بوضوح أن هناك هامش ومركز بأن هناك خطاً تقع النقطة (ج) في آخره و (ب) في منتصفه و (أ) في بدايته وهدف الجميع الوصول إلى النقطة (ج) ويصر من لايؤمنون بوجود هامش ومركز بأن السباق يبدأ من النقطة (ب) بينما أصحاب الهامش والمركز يقولون لهم - لسع ياخونا فيكم الخير أرجعو ورا شوية السباق ده بادي من النقطة (أ) ولسع ما إتقدم للنقطة (ب) - والجميع واقفون في لا نقطة ولا يستطيعون التقدم لأي نقطة! منخرطين بحماس في حوار (تعال لي قدام وأرجع لي ورا) في حين أن النقطة (ج) واضحة للجميع فلماذا لا يتغاضى الجميع عن نقاطهم ويوحدوا جهودهم توحيد حقيقي نحو النقطة المرجوة. أم أن أصحاب النقطة (ب) ينتظرون كما في سباق التتابع أن يصلهم أصحاب النقطة (أ) وهم أهل الهامش ليسلموهم العصاة أياها ليواصلوا هم الطريق إلى النقطة (ج) ، في هذه الحالة أخشى أن لا يجدوا هذه النقطة في نهاية الخط وأن يجدوا خطاً ممتداً إلى ما لا نهاية.
    نكتفي بهذا القدر من الأسئلة والإنطباعات مما يقودنا إلى النقطة الأخيرة وهي التبعات التي تترتب على ما ذكرناه عن هذا المثقف وأهمها فقدان الثقة الواسع في هذا المثقف من قبل الهامش والتي قد تؤدي إلى شرخ في الوجدان القومي السوداني قد لا يمكن لملمته بسهولة وسيؤدي إلى ضياع مشروع هذا المثقف نفسه وربما إستيقاظه متأخراً جداً وليس هناك هامش عرقي يتأفف من شكل الصراع معه فيجد نفسه مهمشاً هو ومعه هامش عرقي آخر جديد (الجزيرة أو النيل الأبيض مثلاً) ونجده يكرر نفس المسرحية (ياخوانا عيب ماتقولوا كدة ده صراع طبقي ياخونا) لو كان صراعاً طبقياً فقط في جوهره لكان قد أدى لثورة رأسية (لا نعني الإنتفاضات على غرار أكتوبر و أبريل) وليس الثورات الأفقية التي إشتعلت مناطقياً وعرقياً في بداياتها على الأقل ونأمل أن تجر معها باقي الفئات الواعية بغض النظر عن أعراقها ومناطقها والجارية منذ ما قبل الإستقلال وحتى الآن.
    وإخيراً إسمحو لي أن أتحدث في ملحق صغير عن فزاعة الجنوب ، فقد درج الجميع في اليسار واليمين على تخويف تململ الهامش الذي يتخذ مسارات قد تهدد الوحدة الوطنية بشكلها الحالي بفزاعة الجنوب وما آل إليه ، والصراع في الجنوب ليس إثنياً مؤدلجاً ويأخذ طابع التوترات العرقية التقليدي في القارة الأفريقية والذي ينتهي غالباً بتبني ’’الثقافة الغربيةʽʽ وقيمها ولو جزئياً مباشرة دون عوائق أيدلوجية وهو أمر حدث في معظم الدول الأفريقية مما أدى لتجاوز الكثير منها لعقبات كبيرة في فترة وجيزة وسجلت نماذج أثارت إعجاب جميع المراقبين ، قد يعتقد البعض بأننا نلمح تلميحاً خبيثاً هنا وهذا ليس تلميحاً بل المقصود تماماً ما في مخيلتك! وهو أن الثقافة البدوية العربية الإسلامية ستعوق أي محاولات جادة للتقدم والنهضة وحتى لا يُجن البعض فلا يعنينا هنا الإسلام والثقافة العربية بفهمها المجرد (مفاهيم وقيم العدل والتسامح والتكافل والإيثار .. إلخ) ولكننا نقصد الثقافة المعروفة المطبقة على أرض الواقع عبر التاريخ منذ فجر دولة بني أمية إلى الآن ، فالثقافة العربية هي ثقافة بشرية بها عيوب جوهرية مثلها ومثل أي ثقافة بشرية أخرى وقد أثرت هذه الثقافة في الممارسة الإسلامية على أرض الواقع عبر التاريخ وصولاً إلى ما نعيشه الآن في السودان كمثال فقط على الأرض في سياقنا هذا ومن إفرازاته أزمة الجنوب الحالية نفسها. فإذا لم تحدث مراجعات فكرية عميقة لهذه الثقافة فستظل سبباً للنزاع الأبدي في أي مكان حلت فيه ، وعدم وجود آلية لفض أو تخفيف النزاعات متجذرة في الثقافة العربية ولكي لا يصدعنا البعض فلهم الإطلاع على كتابات الدكتور محمد عابد الجابري ومحاولته الرائدة في تحليل الثقافة العربية كبداية للمساهمة في مشروع نهضوي جديد لهذه الثقافة.
    وفي الختام ففي سعينا لإيجاد الحكمة يجب أن نعي بأنه لا توجد حكمة واحدة تأخذ بناصية الحقيقة وأن هناك عدة أوجه لهذه الحقيقة تحتمل الماركسية وتحتمل منهج التحليل الثقافي وغيره فالحكمة تؤخذ حتى ولو كانت من الشيطان (حكمة الإرادة الحرة) فحتى الله لم يقمط الشيطان أن يكون حر الإرادة!! ولهذا لابد من محاولة إيجاد مقاربة جديدة للصراع تصطحب معها الجوانب الثقافية المتخلفة للنزاع وصولاً لنقطة الصراع الطبقي البحت وسيكون هذا إنجازاً ضخماً يعني أننا قد نجحنا في خلق مجتمع قومي متماسك أصبح الصراع فيه حداثوياً يمكن أن يفتخر به المثقف السوداني! وبهذا تبقى لنا سؤال واحد وهو هل سيأتي اليوم الذي سيتكون فيه تيم الأحلام من الشيوعيين والمستقلين والقوى المستنيرة الأخرى ليعودوا بكأس دوري النور والظلام في هذه الرقعة من الكرة الأرضية التي تسمى بالسودان .. أم سنكتفي كلنا بكأس مانديلا؟!!

    كوكو موسى
























                  

07-14-2017, 00:18 AM

Talb Tyeer
<aTalb Tyeer
تاريخ التسجيل: 05-30-2006
مجموع المشاركات: 499

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مستقلين .. شيوعيين .. الثنائية الغير بنائة � (Re: مقالات سودانيزاونلاين)

    لنا راي واضح في الشيوعيين واليساريين الشماليين بالتحديد ....فهم عندنا " كيزان اما حيارى واما سكارى، فمتى فكت الحيرة او السكرة رجعوا الى اصلهم الكيزاني واصبحوا اكثر تطرفا"..... فالامثلة عندنا كثيرة من على احمد سليمان واحمد عبدالرحمن ويسن عمر الامام وعبدالباسط سبدرات والقائمة تطول لنصل لامين حسن عمر وحتى نقد في ايامه الاخيرة قد تصوف.......لذا لا نستغرب في وقوفهم في صف واحد مع اليمين الشمالي..... كنا سنستغرب ان وقفوا عكس ذلك........لذا فالدكتور حيدر ابراهيم ليس بحالة شاذة......فهو قد وقف فعلا في مكانه الصحيح بالرغم التغليف الذي كان يتم من كتاباته السابقة.... ولكنه اظهر وجهه الحقيقي وبصورة سافرة تدعو للتعجب.......وبفعله ذاك حطم كل ما بناه من ثقة وجدها من قبل من الهامش السوداني...
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>

تعليقات قراء سودانيزاونلاين دوت كم على هذا الموضوع:
at FaceBook




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de