لقد ادعى دعوى الأصالة ومرتبة الوصول التي ترتب عليها ترك الصلوات كثير من أهل الزيع قبل محمود محمد طه. وقد ترددت هذه الدعوى من أفواه أناس زعموا أن الصلوات ذوات الحركات تصبح غير ذات قيمة متى حقق القلب معناها. ومتى ارتقى بها حتى وصل إلى درجة يتكمن فيها من الأخذ عن الله تعالى كفاحا من غير واسطة. ويستغني المرء من ثم عن الأخذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وممن نسب إليهم القول بهذه البدعة الغليظة الشبلي في قوله:" إن صليت جحدت، وإن لم أصل كفرت". وممن قال بهذا الزعم الحلاج القائل:" اعلم أن المرء قائم على بساط الشريعة ما لم يصل إلى مواقف التحديد؛ فإذا وصل إليها سقطت من عينه الشريعة واشتغل باللوائح الطالعة من معدن الصدق، فإذا ترادفت عليه اللوائح، وتتابعت عليه الطوالع، صار التوحيد عنده زندقة، والشريعة عنده هَوَسا، فبقي بلا عين ولا أثر. إن استعمل الشريعة استعملها رسما، وإن نطق بالتوحيد نطق به غلبة وقهرا". فمن بلغ الحد الأقصى من العبادة، بإفادة الحلاج هذه، سقطت عنه تكاليف الشريعة! ومن قصد البحر استقلَّ السواقيا! ففي هذا المقام من مقامات الشرك يصبح التوحيد زندقة في مفهوم هذا الرجل! وتصبح الشريعة عنده هَوَسا! وتنتسخ الشريعة وتلغى وتضحى بلا عين ولا أثر! وهذا المعنى قريب جدا من المعنى الذي استشهد له الصوفي السوداني الشيخ الهميم في مواجهة الإمام الحسن الزهراء، رضي الله تعالى عنه، حين ردد قول الشاعر الباطني المشتد في غلوه ابن عربي الحاتمي الأندلسي: تركنا البحارَ الزاخراتِ وراءنا فلم يدرِ أهلُ الفقهِ أنَّى توجَّهنا! والمعروف أن الشيخ الهميم - كما روى عنه مؤرخ الخزعبلات ود ضيف الله - قد تزوج بتسع نساء، وجمع منهن بين أختين، وذلك بناء على رفع تكاليف الشريعة عنه أو اعفائه وتسريحه من قيودها كما زعم! ولا ندري إن كان الهميم قد هجر فرض الصلاة بما أنه شخص أصيل واصل أم لا؛ فإن ود ضيف الله لم يرو لنا من خبر ذلك شيئا. وفي عصر قريب من عصر الهميم أورد الشيخ محمود غوثي الشطاري أن شيخه شرف الباني قد ترك فرض الصلاة ولما احتج الناس عليه قال:" إن الله أعفاني عن الفرض، وقال عينك عيني؛ أي ذاتك ذاتي". فهو يحتج بضرب الوهم الذي تلبس ببعض الصوفية حين توهموا أنهم قد تلبسوا بذات الإله! ومن خلاعة بعض الواصلين الواهمين أن أنشأ يقول: خلوتُ بمن أهوى فلم يكُ غيرُنا ولو كان غيرٌ لم يصحُّ وجودُها! وفي نمط آخر ولكنه نمط فريد من الخلاعة الروحية سوَّغ أحد الأصيلين بزعمهم، ويدعى أحمد المعشوق، تركه لفريضة الصلاة بقوله:" إني امرأة حائض لا تجب الصلاة علي"! وقد ذكر مؤرخ التصوف الباطني، عبد الوهاب الشعراني، في معرض حديثه في طبقاته عن أحد الأولياء الواصلين بزعمهم، فقال:" سيدي شريف كان يأكل في نهار رمضان ويقول أنا معتوق وأعتقني ربي". فهو يأكل في نهار رمضان كما كان محمود محمد طه يأكل في نهار رمضان. وقد روي عنه أنه قال إني آكل في نهار رمضان ولكني لا أشبع! ولا شك أن الشيطان كان يقاسمه طعامه، بما أنه يأكل في نهار رمضان، ولذلك ما كان يشبع! وقد تحدث الشعراني عن شيخ آخر من الواصلين، اسمه شهاب الدين النشيلي فقال إنه:" كان ينادى خادمه فإذا لم يجبه أو تأخر عنه، لأنه يصلي، يقطع الشيخ عليه صلاته زاجرا، ويدفعه أمامه قائلا: كم أقول لك لا تصلي هذه الصلاة المشؤومة"! ولا شك أن الخادم كان أجود فهما من صاحبه، وأجلَّ ورعا منه، وكان سيده الغاوي يود أن يغويه! ومن هذه الطائفة من المبتدعين الغلاة الماجنين الذين ادعوا دعوى الأصالة وأنكروا فرض الصلاة استقى محمود محمد طه سمومه. فكانوا شر سلف لشر خلف!
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة