كتب بريش الدائش يقول إنني دوَّشته دوشا شديدا بقولي:" إن النوبة السودانيون هم الذين اقترحوا تقديم الرقيق إلى العرب الفاتحين"! ومن شدة دوشه ومما غشيه من إغشاء كاد أن يغشي عليه نقل كلامي على نحو مغشوش. فإني لم أقل:" إن النوبة السودانيون". وإنما قلت:" إن النوبة السودانيين". لأن البدل تابعٌ لما قبله رفعا، ونصبا، وجرا، كما حدثتنا كتب النحو قديما. وطالما كانت النوبة على النصب، لأنها اسم إن؛ فإن البدل يلزمه النصب في هذا الحال، ولا يحتمل الضَّم الذي أراد أن يسومه عليه بريش سوما غشوما! ورجْعا إلى أصل القول، فلم يكن لبريشٍ أن يدوش كل هذا الدوش، لو كان مطلعا على شيء ولو يسير مما سجلته كتب التاريخ العربي والغربي الطارفة والتليدة في موضوع الرق! فهناك آلاف الكتب التي صدرت في هذا الموضوع، وجلُّها ذكر أن الأفارقة كانوا يصطادون مواطنيهم بالغارات والحروب الأهلية، ويستعبدون من يصطادونهم، ويشروْنهم بثمن مُجزٍ أو بخس في الأسواق. وأكثر الرقيق الإفريقي الذي نقل إلى أمريكا إنما ابتاعه وكلاء السفن البيض من المواطنين الأفارقة السود. إن هذا هو ملخص ما سجلته الكتب التاريخية المتكاثرة التي لم يقرأ بريش واحدا منها، ولا إخاله رأى واحدا منها، ولا سمع به. ومع ذلك نصب من نفسه - اعتباطا - عمدة في الموضوع، ومقررا فيه، ومفتيا فيه. ومن الجهالة ما قتل! ومن منطق الجهالة القاتل الذي يتشدق به بريش ويشقق منه المشتقات اللفظية غير الشائقة قوله إن:" التأريخ (يقصد التاريخ!) المدون والمكتوب (المدون ياهو ذاتو المكتوب!) يقول إن الغزاة العرب جاءوا (يقصد جاؤوا!) أصلا من صحراءهم (يقصد صحرائهم!) لسرقة ثروات بلاد النوبة واصطياد الرقيق الذي كان مظهرا اجتماعيا مهما لديهم". ولم يدلنا هذا الدائش على مصدر أو مرجع واحد من كتب (التأريخ المدون والمكتوب!) يسند قوله هذا! والسبب في هذا هو عدم وجود أي مصدر تاريخي يقول بهذا الزعم. وعلى افتراض أن هذا المصدر التاريخي موجود فعلا فإن بريشا أعجز من أن يصل إليه أو يسمع به! وكفاه بذلك عجزا مُهيضا وجهلا مُستفيضا. فمثل هذا الشخص شبه العامي لا يستطيع أن يدافع عن أي قضية ولو كان الحق معه. فكيف وهو على البطلان المستبين؟! ومن فرط جهله الذي ناهز جهل الأميين أو أربى عليه قوله:" لكن هل حقا بلاد النوبة كانت مقفولة حتى يتم فتحها من قبل بدو أجلاف عراة حفاة"؟ فهو يظن أن لفظ الفتح يأتي دائما في مقابل لفظ الإغلاق أو القفل ونقيضا له!! فإن لم يكن البلد مفتوحا فهو مغلق إذن أو مقفول! وإن لم يكن الباب مفتوحا فهو مغلق إذن أو مقفول! وإن لم تكن العُلبة مفتوحة فهي مغلقة إذن أو مقفولة! ولا ترى بريشا في تفكيره وتصويره إلا سائرا على نمط من هذا القياس المقفول! ولذلك يخطئ الوصول إلى معاني الألفاظ على نحو معقول. ومنها لفظ الفتح الذي يأتي في السياق الذي نحن بصدده بمعنى النصر. وبدهي أن النصر ليس نقيض الإغلاق أو القفل! وحتى لو تواضعنا على لغة بريش وتنزَّلنا إلى مستوى فهمه المنخفض للمعاني والتصورات فيمكننا حينئذ أن نقول له إن بلاد النوبة لم تكن (مغلقة أو مقفولة) في وجه الزحف الإسلامي كما ظن! ولم تكن عصيَّة على العرب الفاتحين كما يظن الكثيرون. ولم يرجع العرب عنها لأن جندها استأصلوا عيون المجاهدين الفاتحين كما قيل. فإنهم لم يفقـأوا إلا مائة وخمسين عينا فقط من عيون المسلمين كما ذكر المؤرخون. وقد كان بإمكان الجيش الإسلامي العرمرم أن يمضي إليهم ويهاجمهم ويكتسحهم اكتساحا. وإنما تراجع الجيش المسلم لأنه راضَ النوبة على القَبول بشروط الإسلام السلمية العادلة التي تتمثل في السماح بحرية الفكر، وحرية المعتقد، وحرية نشر الدعوة إلى الإسلام. وهذا ما اشتمل عليه الاتفاق الأول الذي أبرمه النوبة مع سيدنا عقبة بن نافع رضي الله تعالى عنه. وعندما نكص النوبة عن موقفهم، ونقضوا شروط الصلح الذي أبرموه مع المسلمين، وبغوا في الأرض، جرد المسلمون عليهم حملة تأديب كبرى بقيادة سيدنا عبد الله بن أبي السرح رضي الله تعالى عنه. وكرة ثانية فاء الفريقان إلى الصلح الذي ضمن للمسلمين حرية الدعوة إلى الإسلام في أرض النوبة، وما كان لهم من مبتغى سوى ذاك. وقد كان من أهم ما اشتمل عليه الصلح: * تعهد النوبة بضمان أمان كل من يحُلُّ بديارهم من المسلمين أو من عاهده المسلمون حتى يخرجوا منها سالمين. * تعهد النوبة برد كل من يلجأ إلى بلادهم من أعداء الإسلام المحاربين وإخراجه من أرضهم. * تعهد النوبة برعاية المسجد الذي ابتناه المسلمون بدنقلا وإضاءته وألا يمنعوا أحدا عن ارتياده. * تعهد المسلمون أن يدفعوا أغذية متنوعة للنوبة، على أن يدفع النوبة الثمن بثلاثمائة وستين رأسا من أوسط رقيق بلادهم، وقد كان النوبة من اقترح دفع الثمن بهذه الكيفية، لأن الرقيق كان متوفرا لديهم؛ إذ استمرأوا استرقاق الشعوب غير النوبية بغيا وعدوانا. * تعهد المسلمون للنوبة بعدم غزوهم بلادهم، أو فتحها، لا لأنها (مغلقة أو مقفولة)على فهم بريش، وإنما لأنها رضخت لمبتغى المسلمين العادل، وهو ضمان حرية الفكر، والاعتقاد، والدعوة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة