عما قريب يبدأ الجمهوريون وأحبابهم من العلمانيين الذين يناصرونهم موسم النواح في (حولية) شيخهم الذي قضى في مثل هذا الوقت منذ ثلاثين عاما خلت. ومن الراجح أن تصبح هذه (الحولية) عبر الزمن مناسبة تقليدية وممارسة رجعية لتمجيد الشيخ في شخصه وخلع شتى النعوت الخرافية المزعومة عليه. وذلك مع نسيان جوهر دعوته ومُتبنَّياتها أو تناسيها بحسبانها أضحت مبادئ متقادمة غير متناسبة مع إنسانية القرن الحادي والعشرين! وآية ذلك أن الكثيرين من أقطاب الدعوة الجمهورية الكبار نفروا منها وتبنوا مذاهب مخالفة لها تراوحت بين المذهب الإباحي الذي اتخذه الدكتور عبد الله النعيم في أمريكا، والمذهب العنصري الذي تولاه الدكتور الباقر العفيف في السودان. ولكن يحلو لجميع الجمهورين بعد ذلك أن يتمسحوا في مسيحهم المزعوم وأن ينسبوا إليه من المناقب ما يصوره في شكل قديس أو نبي أو نصف إله أو إله! وبهذا تحولت الدعوة الجمهورية إلى الطور (الطائفي) الذي تتجسد فيهاالفكرة في شخص زعيمها وتتجمد فيه. ويصبح الحديث المتكرر عن شخص الزعيم بديلا عن الحديث عن مبادئ الدعوة ومفاهيمها وتعاليمها. ومن هنا تنشأ الوثنية العقائدية التي تحدث عنها حكيم الجزائر مالك بن نبي حين قال: كلما غابت الفكرة برز الوثن! وهذا تحول مشهود في مسار هذه الطائفة السودانية الصغيرة الجديدة ذات الضجيج الإعلامي العالي. فهي كما نرى تدلف رويدا رويدا إلى ولوج هذا الطور الآسن بعد أن كانت ترغي وتزبد وتدعي أنها دعوة ثورة تقدمية في الفكر دائمة التجدد. ولكن مما ثبت من دروس تاريخ الفكر أن الدعوات غير الأصيلة تدخل في طور التجمد والتبدد سراعا مهما كان لها من زهو وبريق وقتي. ثم لا يغني عنها زيف التلميع الإعلامي المتكلف ولا يخفي ما ران عليها من صدأ. ومن أنماط التلميع الإعلامي الذي يبذل لزعيم الفكرة الجهورية هذه الصورة التقديسية التي روجها في موسم سابق من مواسم (الحولية) الباكية تلميذ له يدعى عبد الله عثمان إذ قال: " إن حياة الأستاذ محمود محمد طه، كما دوَّنها فى كتبه، وعاشها مجسدة فى اللحم والدم لحياة مدهشة بكل تفاصليها، مهما صغرت هذه التفاصيل أو كبرت، فمما يحكى عن الأستاذ محمود فى طفولته الباكرة أنه كان مع شقيق له، فأخذ شقيقه يقذف بالحجارة كما يلهو الصبيان، فقال له الأستاذ محمود ما معناه: لا تقذف بالحجارة، فالحجارة ليست لها عيون! وقال لإحدى بناته لما رأى عندها مبيد (البف الباف) قال لها مستنكرا: هسع دة فرقو شنو من المدفع الرشاش؟ هذا ديدنه اتساقا مع قوله: البر بالأحياء والأشياء. وقد حكى المرحوم الدكتور خليل عثمان محمود، الذى قضى فترة معتقلا مع الأستاذ، أن الأستاذ سأله يوما عن اختفاء كوب ماء قديم فقال خليل إنه قذفه، فقال له: مش حرام، خدمنا الفترة دى كلها نجدعوا! فنزلا يبحثان عنه حتى وجداه فجاء به الأستاذ وغسله وعلقه فى اعتداد تكريما له! وحادثة أخرى لها دلالتها الكبيرة، أنه لما رأى أحد تلاميذه يقتل نملة لم يرتض منه ذلك، وحدثه في ذلك فأجاب تلميذه: ولكنها عضتنى! فقال له عضها"! وهذه صور وحكايات خرافية وشبه خرافية تشبه إلى حد كبير الصور والحكايات الكاريكتورية التي رسمها ود ضيف الله لشخوص كتابه الفولكلوري الذي هو أحرى أن يدعى بـ (خُزَعْبِلات ود ضيف الله). وإذ سلمنا جدلا أن ما رسمه ود عبد الله من تصاوير نسبها إلى شيخه صحيح كله أو جله فلنا بعد ذلك أسئلة خاصة فيما يتصل بصورة (الكوز) الذي علقه محمود في اعتداد به وتكريم له! فهل يجب علينا يا ترى أو هل هو مما يستحب لنا أن نحتفظ بالآنية القديمة كلها من (كيزان) وغيرها، ونعلقها على حيطان الدور وسقوفها كما فعل؟ وإذا كان ذلك كذلك فماذا لو احتشدت حيطان الدور وأعاليها بالآنية المتآكلة حتى اكتظت بها، هل نتخلص من بقية الآنية التي لم تجد مكانا تعلق عليه أم نحتفظ بها في مكان آخر امتنانا لها واحتراما لخدمتها إيانا؟ وثمة سؤال آخر يخص الآنية نفسها، فهل يا ترى تحس هذه الآنية بهذا التكريم العظيم حتى نتجشمه من أجلها ونبذله لها، أم أن لهذا التكريم مغزى آخر لا يخص الآنية في حد ذاتها، وإنما يخص مقاما رمزيا أسطوريا في مقام (حيث لا حيث) الذي يكثر من الحديث عنه الأستاذ!؟ وأغرب من هذا كله ترحم محمود بجموع الصراصير واعتراضه على رشها بمبيد (بيف باف) لأنه كما قال يشبه في مفعوله المدفع الرشاش! فكيف يريد إذن أن تقتل الصراصير فإنه لم يقترح وسيلة رحيمة لقتلها والتخلص منها فرادى! على أن أغرب من هذا كله أن نرى شخصا رقيقا غامر العطف والإنسانية يرجو الرحمة للصراصير المسكينة ويأسى لإبادة البشر لها وتخلصهم من شرها ثم لا ينادي بالرحمة ولا يطلب الرفق بأحد من مخالفيه وخصومه السياسيين. فلم نعلم عن هذا الشخص أنه احتج على قتل أي من خصومه السياسيين على مدى أكثر من عقد من الزمان عاشه متحالفا مع سلطة البطش المايوي. فكم حصد النميري من أرواح الأنصار الأبرار ولم يحتج على ذلك هذا الشخص العاطفي الرقيق! وكم جندَل النميري من رؤوس الشيوعيين ولم يحتج على ذلك هذا الشخص الرفيق الرقيق! وفي الواقع فإن المدعو محمود محمد طه قد أبدى اغتباطه علنا بإبادة الأنصار بسلاحي المدفعية والطيران. ومن يراجع صحف أوائل سبعينات القرن الماضي يجد دلائل شتى على صحة ما نقول. ومن يراجع الكتاب الذي أصدره الحزب الجمهوري بعنوان (لماذا نؤيد ثورة مايو؟) يجد دلائل ساطعة على ما نقول. وبتأييد محمود محمد طه لسحق البشر وتورعه عن سحق الصراصير قدم هذا الشخص الانفصامي مثالا سودانيا ضاهى عن جدارة تامة المثال العراقي الأشهر في التحوط من دم البعوض والتهور في دم الحسين!
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة