|
|
 يابكري ابوبكر الحق قسم الله
|
قسم الله
حاج الطيب ود العوض من اهالى قرية اطرش سماع وهى تقع على اطراف الكسمبر والتى يحلوا للبعض ان يسميها لوكسمبرج المدينة الاوربية العريقة على سبيل التضخيم والطرافة..المت به ملاريا ليست كالمرات السابقة فقد اعيت هذه المرة الحقن والحبوب والعرديب والقضيم والبخرات واجبرته على ملازمة الفراش ..لكنه فى ذلك اليوم احس بشىء من العافية يدب فى اوصاله فقرر الخروج للحواشة .الحواشة نفسها لم تعد توفر لاسرته ضروريات الحياة الا انه لايعرف مهنة او مصدر رزق اخر غير الزراعة التى سمع انها دفعت بمزارعى الدندر والصراط والصقيعة والقضارف والمقينص والقدمبلية وهبيلة لحد الاعسار..لكن هذا هو قدره الذى لم يفكر فى يوم من الايام فى التمرد عليه او رفضه..عاونته زوجته ام الحسين بت قسم الله فى شد الحمار ثم اقتادته للخارج رغم عدم رضاها على خروج زوجها..استعان حاج الطيب ببقايا حائط قديم لامتطاء صهوة حماره..قسم الله هو اكبر اولاد حاج الطيب ..حمل اسم قسم الله تيمنا بجده لوالدته قسم الله ود المبارك..اكمل قسم الله دراسته الثانوية فى حنتوب الجميلة ولم تراوده احلام الوظيفة والجامعة وهوس الاغتراب ..قبل حاج الطيب بذلك الوضع المؤقت الى حين التحاق ابنه بالجامعة خصوصا انه من المتوفقين ..احد اقاربهم المتنفذين الذين ظهر عليهم الثراء المفاجىء وعدهم بالعمل على اعفاء قسم الله من التجنيد لانه الابن الوحيد فى الاسرة ..قسم اله اعتاد شقاوة الحواشات منذ صغره وكان لايقل قدرة ولا جلدا عن اى مزارع فى التفتيش ويتميز عن الكثيرين بنشاطه الزائد ..فوجىء قسم الله بحضور والده للحواشة والح عليه فى الرجوع للمنزل..وفى المنزل اخطات قدم حاج الطيب هذه المرة بقايا الحائط القصير الذى اراد الاستعانة بها للنزول من على ظهر الحمار فسقط على الارض وجاءت ام الحسين تولول على صوت حاج الطيب وهو يصيح يا لطيف ..يا لطيف وهرع الجيران الى المكان على اثر ولولة ام الحسين...فى مستشفى واد مدنى السنى تعاونوا على دفع تكلفة الفحص والاشعة مثلما تعاونوا ن قبل على دفع اجرة السيارة التى اقلتهم للمستشفى وقالوا لهم انها ملاريا حادة وكسر فى المخروقة ..وعندما عاد حاج الطيب لوعيه بعد فترة من الزمن الح على المرافقين بالعودة للقرية لان المسالة بسيطة وان شاء الله ما فى عوجة فعادت السيارة بكامل طاقمها السواق والمساعد وكامل ركابها ما عدا ام الحسين وابنها قسم الله ..صباح اليوم التالى خرج قسم الله من المستشفى لياتى بالادوية والاربطة من الصيدليات المجاورة ويعود كذلك بشىء ن الطعام الذى لم يتذوقوه منذ ان سقط حاج الطيب على الارض ظهيرة ليوم الفائت..كان ذلك اخر عهد حاج الطيب بولده قسم الله واخر عهد قسم الله بوالده حاج الطيب ..لم يعد قسم الله مرة اخرى للمستشفى ..جاء اجل الله وتوفى حاج الطيب بعد ثلاثة ايام من اختفاء ابنه قسم الله الذى كان يردد اسمه حتى خروج انفاسه الاخيرة ..تطوع اولاد الحلال بنقل ومرافقة الجثمان الى القرية .واولاد الحلال لاتخلوا منهم المجتمعات مهما بلغت الازمنة من رداءة ..وفى ذات مساء فى ديوان اولاد حاج الله جابو المكتظ بالضيوف ..بعض الضيوف تحلقوا حول التلفزيون يتابعون مشاهد رتيبة داخل احد المستشفيات فى ام درمان فجاة انطلق احدهم يصيح ..قسم الله ..قسم الله ود حاج الطيب ..ود المرحوم قسم اله فى التلفزيون تردد صدى الخبر فى كل فراغات القرية وازقتها..
البحث عن قسم الله بدا مع بزوغ فجر اليوم التالى وشارك فيه عدد كبير من ابناء القرية ..كانت المهمة سهلة بسبب وبفضل ذلك البرنامج التلفزيونى الذى ما برح يبشر الشعب بالحور العين والجنان فى اعلى عليين ويحث الشعب دائما بالتحرك العاجل من دار الممر الى دار المقر..وجدوا قسم الله فى ذلك المستشفى بام درمان ..افلح قريب قسم الله المتنفذ الذى ظهر عليه الثراء المفاجىء فى نقل قسم الله من المستشفى الى القرية بسيارته الفارهة التى يسميها البعض ليلى علوى والبعض الاخر يسميها مونيكا..وبدا قسم الله يحكى خرجت من المستشفى صباح ذلك اليوم لشراء الادوية والحقن والشاش والدربات .وجدتها لحسن الحظ فى اول صيدلتين اشتريت بعض الطعام واتخذت طريقى للمستشفى كان ذلك حوالى التاسعة صباحا .رايت اناسا فى مثل سنى يركضون فى كل اتجاه والعسكر يتعقبونهم ..عندما استوعبت الموقف كان قد احيط بى من كل جانب..كنت مثقلا بالاكياس ..ففى الحقيقة لم تتبادر الحرب الى ذهنى ..قطعا سيتركونى وشانى .كنت مخطئا اذ ما ان شرعت فى التحدث الى كبيرهم حتى بادرنى بلطمة قوية على وجهى اطارت صوابى قبل ان تتطاير اكياسى فى الهواء تذروها الرياح ..تناثرت فى كل اتجاه وقال اسكت يا ود ال....... تلقيت ركلة او ركلتين قبل ان احشر نفسى فى الدفار ..افرغت الحمولة فى معسكر الدفاع الشعبى الذى لايبعد كثيرا عن المدينة ..هناك حاولت ان اشرح لهم وضعى والدى الصريع وامى الهايمة وحشاى الجائع..لكنهم هذه المرة اشبعونى ضربا وركلا حتى سالت دموعى ودمائى وسلبوا ما تبقى معى من نقود ..وعيت الدرس ولزمت الصمت بعد ايام من العذاب نقلونا الى معسكر ما فى الخرطوم حيث رزحنا فى العذاب والتجويع لايام لا اذكر عددها بالتحديد ..ثم اقتادونا فى فجر كاذب عفوا اقصد باكر لمطار الخرطوم ..قالوا اننا سنطير الى معسكر جديد لمزيد من التدريب ..داخل الطائرة رايت عددا من الشباب فى مثل سنى وقد احكم وثاقهم الى مقاعدهم..اغلقت الابواب ..رفض قائد الطائرة الاقلاع بركاب مقيدين لان ذلك كما فهمت لاحقا يخالف قواعد سلامة الطيران ..اقلعت الطائرة لا ادرى بنفس قائدها ام بقائد اخر ..الشباب ما زالوا مقيدين الى مقاعدهم بعد ساعتين من الطيران المتواصل هبطت الطائرة ..تبين لنا انه مطار جوبا ..من مطار جوبا اقلتنا الشاحنات الى معسكر على مسيرة ساعتين توقف الركل والضرب والسب لاول مرة ..كان الطعام افضل كما وكيفا من السابق .حدثونا كثيرا عن الجهاد والاستشهاد والحور العين والاوطان والجنان وحماية الدين ومقاتلة الكفار ..حفظنا ما سمعناه من كثرة التكرار .كثير من الكلام ..قليل من التدريب..
انتظمنا مع شروق الشمس فى ذلك اليوم فى طابور طويل ..سرنا لاكثر من خمسة ساعات دون ان نعرف المهمة ولا الوجهة ..فجاة انهمرت زخات الرصاص من كل صوب ..ارتميت على الارض فى دقائق قليلة انتهى كل شىء ..لم نطلق رصاصة واحدة ..لا ادرى كم كم من الوقت بقيت منكفئا على وجهى ..ولكن عندما استطعت الوقوف مرة اخرى على قدمى كان الصمت يلف المكان ..سرت ساعات طويلة قبل ان افلح فى الوصول الى المعسكر ..كانت الدماء تغطى كل ملابسى لا اذكر ماذا حدث بعد ذلك..ولكن عندما استرددت وعى كنت التحف الارض والاربطة تحيط بى بكتفى وراسى وقدمى اليسرى فى تلك المستشفى الميدانى كنت قد اصبت برصاصة فى كتفى واخرى فى قدمى..جرح الراس كان بسبب ارتطامى بالارض ..التامت كل جروحى الا جرح القدم ..بعد فترة نقلونى مع اخرين الى جوبا ثم الى ام درمان ..علمت فيما بعد ان ثلاثة فقط ن رفاقى ورابغهم انا قد افلحوا فى العودة الى المعسكر ولا اعرف مصير الباقين ..فى يوم من الايام جاءت عربة التلفزيون للمستشفى دربونا عدة مرات على الاسئلة والاجوبة وكيفية مواجهة الكاميرا ..كان حديثى فى التلفزيون حسب التعليمات تماما ..
فى الصباح الباكر توكا قسم الله على كتف ابن خالته من جانب وعلى عصاه من جانب اخر حتى بلغ مقابر القرية..وقف طويلا عند قبر والده حاج الطيب ود العوض ..لم تذرف عيناه دمعة واحدة عندما كان يناجى ساكن القبر طالبا منه السماح على عدم رجوعه للمستشفى ذلك اليوم لكن ام الحسين بت قسم الله لم تتوقف عن ابكاء منذ عودة ابنها ..كانت تبكى زوجها اول مرة..
بعد فترة عاد قسم الله للحواشة من جديد بعيدا عن العسكر والبندر وعالم الدفارات والكشات والابادات ..لم يفقد سوى اصبعا واحدا من رجله اليمين ..لكنه فقد البراءة والاحساس بالامان والثقة بالاخرين..
حاشية .حاج الله جابو المذكور اعلاه هو من اواخر الكوادر التى ابرزها الحزب الشيوعى وسط مزراعى الجزيرة مجموعة معيجنة ناس الشيخ الامين الشيخ ويوسف احمد المصطفى ابو الصديق وابو الوزير الحالى محمد وعندما كنا فى حنتوب بداخلية دقنة كان الصديق يحكى لنا سيرة هؤلاء العظماء وكانت اشبه بالكرامات والعفاف والايثار والمسئولية والتفانى فى خدمة البلاد والعباد..عليهم الرحمة جميعا ..وكان عبد الله محمد احمد فضل المولى يتحفنا بقصص اغرب الى الخيال عن تاريخ المنطقة منذ ايام الشيخ القرشى ود الزين مرورا بحركة عبد القادر امام ود حبوبة وكان القليص يكثر الحديث عن جده الصالح رحمة الصقر الما هو رخمة وكراماته التى لاتعد..تحياتى لكل الكوكبة المبدعة والرائعة ..تلك الكوكبة المشرقة اشراقة الامل ..والمورقة ايراق الربيع..شلة حنتوب اوائل سبعينات القرن الماضى ..
|
|
 
|
|
|
|
|
| |
احمد حماد ادريس
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست