|
Re: ما كل بارقةِ تجود بمائها يا..........زامينهوف! (Re: الزاكى عبد الحميد)
|
-3-
تعتز الأمم بلغاتها القومية لكونها أمر توجبه ضرورات التواصل الفكري والحضاري بين الأجيال المتعاقبة، لأن الجهل بلغة الأجيال السالفة يحرم الأجيال اللاحقة من الاستفادة من الإنتاج الحضاري السابق. ومن المعروف أن الحضارات تمر بمراحل وتتدرج في ارتفاع عندما تستفيد من المراحل السابقة. وإذا كان هذا يلزم كل أمة من الأمم من الوجهة الحضارية فإن الأمة العربية تشتد حاجتها إلى ذلك لتميزها بأنها صاحبة الرسالة القرآنية التي نزلت بلغة العرب ولا بد أن تبقى كذلك، ولأن في هذه الرسالة سر قوتها وحياتها وبقائها.
للغة العربية خصائص تميزها عن سواها وتدل على مبلغ عقول أهلها من الرقي وإن كانوا بادية راحلين. وهذه المميزات تضم فيما تضم الإعراب ودقة التعبير والمترادفات والأضداد والسجع والأعجاز والايجاز.
الإعراب كما يعرِّفه ابن جني في الخصائص هو الإبانة عن المعاني بالألفاظ والحركات. وقال وأصل هذا قولهم: "العرب"وذلك لما يعزى إليها من الفصاحة والإعراب والبيان مما يجعل قواعد النحو لديهم مرتبطة بالتعبير.
قدم أعرابي في خلافة الفاروق عمر فقال: من يقرئني شيئاً مما أنزل على محمد (ص) فأقرأه رجل من سورة (براءة)، فلما وصل إلى قوله تعالى " وأذانُ من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسولُه " قرأ" ورسوله" بالجر، عطفاً على "من المشركين" ومعنى هذه القراءة أن الله بريء من المشركين وبريء من رسوله أيضاً. ولذلك قال الأعرابي " فأنا أبرأ منه أيضاً". فلمّا بلغ ذلك عمر قال له : ليس هكذا يا أعرابي، وقرأ عليه بالرفع فقال الأعرابي: وأنا أبرأ ممن برئ الله ورسوله منهم. لأن قراءة الرفع تعني الابتداء فـ "رسوله" مبتدأ، خبره محذوف تقديره ورسوله برئ منهم. وقالوا إن عمر بعد هذه القصة أمر ألا يُقرئ القرآن إلا عالم لغة.
بالطبع لكل قوم اعجاز في لغتهم فيدلون بلفظ قليل على معنى كثير، ولكن العرب أقدر على ذلك من غيرهم لأن لغتهم تساعد عليه وقد تعودوه وألفوه. ومن هذا القبيل استعمال المجاز والكتابة وسائر أساليب البديع فإنها في العربية أرقى مما في سواها لأنها لغة شعرية كثيرة الكنايات والاشارات يسهل فيها التعمية والألغاز. وفي أخبار أهل البادية أمثلة كثيرة من هذا القبيل تدل على الذكاء وامتلاك ناصية اللغة. كقول جاسوس منهم وقع في أيدي الأعداء فحبسوه وألزموه أن يكتب كتاباً إلى ملكه يحمله فيه على مداهمتهم ويوهمه بقلة عددهم وأسلحتهم غشاً وتغريراً. فكتب إلى الملك كتاباً قال فيه:
"أما بعد... فقد أحطت علماً بالقوم وأصبحت مستريحاً من السعي في تعرف أحوالهم وإني قد استضعفتهم بالنسبة إليكم. وقد كنت أعهد في أخلاق الملك المهلة بالأمور والنظر في العاقبة. فقد تحققت إنكم الفئة الغالبة بإذن الله. وقد رأيت من أحوال القوم ما يطيب به قلب الملك. نصحت فدع ريبك ودع مهلك. والسلام".
وسلم الكتاب إلى العدو ثم أرسلوه إلى الملك بعدما اطلعوا عليه. فحين استلم الملك الكتاب فطن إلى ما أراد الكاتب وقال لحاشيته: إن الجاسوس وقع في الأسر فأصبح مستريحاً من السعي وأنه رآهم أضعافنا وإننا قليل بالنسبة لهم إذ لمح بآية" كم من فئة قليلة ..." ولفتني إلى الأناة إذ جعلها عادةً لي. وأراد قلب حروف الجملة الأخيرة فتكون "كلهم عدو كبير عد فتحصن"..
إن التمسّك بلغة القرآن وتعلمها واجب ديني .. جاء في الأثر أن عمر الفاروق مر على قوم يسيئون الرمي فقرعهم فقالوا " إنا قوم متعلمين" فأعرض عمر مغضباً وقال "والله خطؤكم في رميكم لأهون علي من خطئكم في لسانكم. فقد سمعت رسول الله (ص) يقول: رحم الله إمراً أصلح من لسانه. وسمعته يقول: تعلموا العربية فإنها تثبت العقل وتزيد في المروءة" وعمر يرى أن صواب قولهم هو "إنا قومُ متعلمون"..
ووصف إدوارد بوكوك وهو أول مَن شغل كرسي اللغة العربية في جامعة أكسفورد (1604- 1691) العربية بأنها "لغة الدين الوحيدة ولغة الديبلوماسية والتجارة الرئيسة". وقال ما من لغة كالعربية تحسن استخدام "الاحتراس". والاحتراس عند ابن أبي الإصبع هو " أن يأتي المتكلِّم بمعنىً يتوجّه عليه فيه دَخَل (بفتح الدال والخاء-أي شبهة) فيفطن لذلك حال العمل فيأتي بما يخلصه من ذلك". وذلك كقول الخنساء في أخيها صخر:
ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلتُ نفسي وما يبكون مثل أخي ولكن أعزِّي النفسَ عنه بالتأسِّي
فاحترستْ بالبيت الثاني حتى لا يظن أن أخاها مساوٍ لغيره من الهالكين ومثاله أيضاً قوله تعالى: "وادخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء" فقوله من غير سوء" احتراس من البرص مثلاً... وكفى بذلك دليلاً والله أعلم....
|
|
|
|
|
|
|
|
|