|
Re: الشوفينية و التمركز حول الذات و التشنّج ا� (Re: محمد عبد الله الحسين)
|
مارس 19, 2018 مركزية مصرية أم عربية بقلم: محمد أبوالفضل ( من تربّوا في الصغر على أنهم أعظم جنس وأقوى دولة عربية وشعاعها الثقافي امتد لجميع أنحاء العالم يصعب عليهم أن يتخيلوا عند الكبر المس بما
احتفظت به ذاكرتهم من حقائق.)
في أوقات كثيرة يلفت نظري بعض الأصدقاء من دول عربية مختلفة، إلى أن المصريين مركزيون بطبعهم. يرون أنفسهم فقط في هذا العالم. بلدهم أم الدنيا. من يشرب من نيلها يعود إليه مرة أخرى. يتصورون أنهم قادرون وحدهم على استيعاب كل الجنسيات، وصهرها في النسيج الوطني.
كنت أفكر في هذه المسألة، وأجد لها ظلالا واسعة من الحقيقة. غالبية المصريين يرون العالم وفقا لمقياس يتمحور حولهم، في البداية والنهاية. كل شيء يبدو كأنه خُلق من أجلهم ولهم إسهامات في كل شيء، بصرف النظر عن المستوى العلمي والثقافي والسياسي والاجتماعي القاتم.
عندما يتدهور حال الوطن، يهربون إلى الماضي ويجدون مياها وفيرة للنهل منها وكنوزا عريقة للاقتباس منها. نحن أكثر شعب تغزل ببلده واحتفى بقادته وخلدهم أحياء وأمواتا.
أغنيات أم كلثوم وعبدالحليم حافظ ومحمد ثروت وهاني شاكر وعمرو مصطفى، وكلمات عبدالرحمن الأبنودي وعبدالرحيم منصور وفؤاد حداد وسيد حجاب، وألحان بليغ حمدي وكمال الطويل، كلها علامات شاهدة على التضخم السياسي والحضاري، من خلال الطرب والموسيقى.
الجديد أن هذا المجال أصبح يشمل مطربين ومطربات عربا، مثل التونسية لطيفة واللبنانية نانسي عجرم والإماراتي حسين الجسمي والأردني عمر عبداللات وغيرهم، ما يوحي أن هناك سحرا خاصا ومنافع كثيرة في هذا البلد، بعيدا عن مدى تراجعه الثقافي، وحجم مشاكله الاقتصادية.
التنشئة في الصغر عبر المدرسة والمنزل والمجتمع، تتحمل جانبا من مسؤولية التثقيف المشوه عند قطاع كبير من المصريين، لأنها تغرس، من حيث تدري أو لا تدري، فكرة المركزية
أذكر أن الكثير من الأصدقاء العرب انتقدوا مصر وأهلها وعابوا الزحام في الشوارع والفوضى في وسائل المواصلات ومضايقات السائقين، مع ذلك لم يتورعوا عن زيارتها والتردد عليها. اتفق عدد كبير منهم أن هذا البلد لو تغير حاله وبات منظما وشعبه يستيقظ وينام مبكرا، لفقد جانبا من بريقه.
لم أتعجب من الانتقادات وهي في معظمها صحيحة، لكنني كنت أتعجب من مفارقة العشوائية والجاذبية، ومتلازمة تدهور الأحوال والتفاخر معا. قطاع كبير من المصريين ينتقدون بلدهم ويصبون اللعنات على أحوالهم. عندما يقوم غيرهم بذلك كأن شيطانا مسهم، ينتفضون للدفاع عنه بما يذكرك بمن يشرب الخمر في حانة حتى الثمالة، وإذا سمع من يسب دينه يستفيق ويتذكر قداسته ويهب للدفاع عنه.
الحكايات التي يمكن ذكرها في هذا السياق كثيرة ومتعددة، وكلها تدور حول صواب فكرة المركزية المصرية التي يصعب إنكارها. تفسيرها يعود إلى العمق الحضاري في الماضي والزهو به، وعدم وجود ما يضاهيه في الحاضر. لذلك يلجأ الحكام والمحكومون إلى هذا الإرث لمداراة فجوة خطيرة.
المشكلة أن المبالغة والتضخيم والعزف على هذا الوتر عموما، ترك أثرا مجتمعيا كبيرا، تجده في العالم والجاهل وعند المفكر ومحدود الثقافة والغني والفقير. تتلاشى وتتراجع هذه المسألة وفقا لدرجة الاطلاع والاحتكاك بعوالم أخرى حيوية وبها عافية سياسية وثقافية وعلمية. المعرفة عن عمق تزيل جزءا مهما من التضخم المعنوي، الفردي والجماعي، أو على الأقل تحد منه وتضعه في مكانه الصحيح.
التنشئة في الصغر عبر المدرسة والمنزل والمجتمع، تتحمل جانبا من مسؤولية التثقيف المشوه عند قطاع كبير من المصريين، لأنها تغرس، من حيث تدري أو لا تدري، فكرة المركزية بكل ما تنطوي عليه من معاني جيدة ومضامين معيبة ومختلة.
من تربّوا في الصغر على أنهم أعظم جنس وأقوى دولة عربية وشعاعها الثقافي امتد لجميع أنحاء العالم عبر التاريخ، يصعب عليهم أن يتخيلوا عند الكبر المس بما احتفظت به ذاكرتهم من حقائق وخيالات.
ناهيك عن ترسيخ فكرة أن الفراعنة، وهم أصحاب حضارة فعلا، اخترعوا كل شيء ولم يتركوا مجالا إلا وطرقوه باقتدار، في الفن والثقافة والهندسة والعلوم الطبيعية. هي نغمة يتزايد الاعتماد عليها وقت اشتداد الأزمات، أملا في تخفيف المشكلات.
الطريقة التي تعتمد عليها الكثير من الأسر في مصر لتربية أبنائها تتحمل جزءا مهما من التضخم، لأنها تقوم على وضع بذور الفخر العربي منذ الصغر، وبالتالي من المنطقي أن تبدو المركزية ظاهرة في التصورات والتصرفات.
الحاصل أن هذه القضية لا يحتكرها المصريون فقط، فهي ظاهرة عربية بامتياز. تتفاوت درجتها من دولة لأخرى حسب العمق الحضاري والانتماء القبلي. ربما يكون المصريون أعلى صوتا وأكثر صخبا وحرفية وإتقانا وتوظيفا.
العالم أصبح منفتحا، وتراجعت الانتماءات الإقليمية كثيرا، وتخلص مواطنو دول كثيرة من ميراثهم السابق، لكن تظل العقلية العربية مرتبطة بجذورها، حتى لو أمضت عقودا طويلة في دول أوروبا وأميركا
من يراجع كتابات بعض الصحافيين العرب يتأكد أن العالم يتمحور حول بلدانهم. السوري مستغرق في همومه التي لا تنتهي ويعتقد أن قلب وعقل العالم مشغولان به فقط. العراقي منخرط في النيل من الطوائف التي خربت بلده ومتحفز للانتقام من إيران والأميركان.
كما أن اللبناني لا يزال يحاول فك شفرة التعقيدات السياسية في بيروت ومصير الانتخابات النيابية في ظل تغول حزب الله. السعودي يبشر بنتائج مشروع ولي العهد محمد بن سلمان والتحولات الإيجابية في البلاد. المغربي يتفاخر باستقرار وأمن نظام بلده. التونسي منغمس في قفزه على التراث وتحقيق الطموحات المجتمعية التي لن تنتهي.
كل هذه العلامات تمر أمام أعيننا ولم أجد من يلوم من يتحدثون عن المركزية الشديدة التي تتحكم في عقل هؤلاء. قد يستطيع المصري الكتابة عن العراق والعكس، لكن كل يغني على ليلاه، وهي عادة عربية أصيلة.
الواضح أن مركزية المثقفين المصريين عتيدة، مع ذلك لا تختلف كثيرا عن مركزية أي مثقف عربي. المشكلة أن الوضع بدأ يتفاقم، فعندما يعتقد كل طرف أنه أكثر وعيا وحضارة، من الطبيعي أن يقلل من شأن الآخرين.
بالطبع مصر ليست أفضل بلد عربي، ولا يوجد البلد العربي الأفضل أيضا. من الممكن أن تجد ميزة نسبية في دولة، سياسية أو أمنية أو عسكرية أو اقتصادية أو ثقافية أو حضارية، أو في مجال حقوق الإنسان والديمقراطية والحريات. ربما تجد البعض من هذه المكونات في بلد، لكن من الصعوبة أن تجدها مجتمعة في دولة واحدة، ما يعني أن تكرار الحديث عن مركزية مصر فقط، يكشف عن أمرين مختلفين.
أحدهما ينم عن مرارات تجاه دولة تراجعت، ومع ذلك لا تزال تملك قدرة للتفاخر بنفسها والهجاء لغيرها. والآخر يريد التأكيد أن العالم مفتوح، ولهجة المركزية والقولبة انتهت وتجاوزها الزمن ولم تعد تؤثر في وعي المصريين أنفسهم.
الأمران، أو أحدهما، يمكن أن ينطبق على أي دولة أخرى، فكل الأزمات التي حلت بالعراق وسوريا وحتى اليمن، لم تمس الجذور. تجد مواطن أي من هذه الدول ينتفض بمجرد أن تقلل من شأن بلده، مهما كان خلافه مع النظام الحاكم، وبعيدا عن أي تدهور أو خراب لحق بالدولة.
رأيت فتاة سورية تطلب مساعدة من شاب في أحد شوارع القاهرة، راقبتها أخرى من نفس بلدها وعرفتها من لهجتها ونهرتها وعنفتها ولم تقبل عذرها، وقالت لها “أنت عار على سوريا، مثلك تعمل ولا تشحذ”.
نعم العالم أصبح منفتحا، وتراجعت الانتماءات الإقليمية كثيرا، وتخلص مواطنو دول كثيرة من ميراثهم السابق، لكن تظل العقلية العربية مرتبطة بجذورها، حتى لو أمضت عقودا طويلة في دول أوروبا وأميركا، فدائما يملك العربي حنينا لموطنه الأصلي، ما يمثل قمة المركزية التي قد تضاهي نظيرتها المصرية المعيبة.
محمد أبوالفضل
|
|
|
|
|
|
|
|
|