(*) 1 والإذاعة السودانية التي أنشأها المستعمر الإنجليزي بعد سنوات طويلة من تجربة فنية غنائية سودانية ضاع اثر معظمها بسبب غياب أدوات التوثيق , تنشغل في بداية نشأتها بالدور الذي أنشأها الإنجليز من أجله و هو دعم المجهود الحربي للحلفاء في الحرب العالمية الثانية و تغبيش وعي الجماهير تجاه قضية الحرية و شيطنة المحور الاخر ، و تجييش الشعوب المستعمرة لدعم المستعمر في حربه مع النازي و الفاشي و إقناع شعوب المستعمرات بان النازي و الفاشي هما أعداء الانسانية و الحضارة ، وهو دور لعبته معظم إذاعات المستعمرات بنجاح . الأمر الذي جعل الإذاعة السودانية تؤجل لعب دورها الحقيقي في خدمة الثقافة و الفن و الأدب و التراث السوداني ، كوسيط ناقل و كموثق حتى نهاية الحرب و التي أفرزت واقعاً جديداً كأي حرب في تاريخ البشرية ، أختفى الطنبارة ، سيطر اللون الذي عرف فيما بعد بالحقيبة على الساحة ، صنعت الإذاعة ثقافة مركزية لدرجة ان عشة موسى تترك الغناء بلهجة الهوسا و تتحول هي و شقيقتها الجداوية لتقديم غناءً بلهجة وسط السودان . مهلة العبادية و أم الحسن الشايقية كانتا في ذلك الوقت قد وضعتا لبنة الغناء النسوي و دفعتا ضريبة غناء المراة في المجتمع السوداني الذي كان لا يسمح الا بغناء الإماء - السراري - الخدم - الرقيق و غناءهن يكون حصراً في مدح سيدهم أو التغزل فيه او غناء أشعاره في مدح محبوبته أو دابته او فخره بنفسه و بقبيلته على أكثر تقدير . والغناء في السودان ذلك الموروث الممتد و المتعدد الذي كان شجرة مورقة و يانعة أسهمت الإذاعة السودانية و مؤسسة متولي عيد - عبيد عبدالنور في اختزاله في ماتقدمه دار بيت الأمانة من غناء مشروط بعلاقته بسلم المركز الموسيقي أو لهجته الحية المتداولة المشتقة من العربية ، بينما حصر غناء الشعب الحقيقي في كونه فولكلور و هو تعريف بائس وقتها لأنه كان فناً حياً معاصراً و لم يتخلى عنه أهله بعد و تم إجبارهم على التخلي عنه شيئاً فشيئاً بفعل سلطة الثقافة المركزية و أدواتها النافذة و تحول فعلاً إلى فلكلور بعد أن أجبر الجميع على الخضوع لمعيار مركزي ثقافي كانت الإذاعة أداته القوية ذات الموج الجارف لكل ثقافة عدا ثقافة المركز . عشة موسى نفسها وجدت نفسها تغني لهجتها الحية كفلكلور ميت , و أنساقت خلف كونها (الست ) في مقابل (الست أم كلثوم ) في شمال الوادي . المجتمع السوداني بعد انزواء المهدية بدأ في التعافي من الواقع السلفي و وضع المرأة كان قد بدا يعود الى ما أرساه نظام محمد علي باشا العلماني الذي لم يهتز إلا بعد ظهور محمد عبده و رشيد رضا و تلميذه حسن البنّا في عشرينيات القرن الماضي . كان المجتمع السوداني حينها أكثر قبولاً لحقوق المرأة من المجتمع المعاصر و كان ذلك بفعل الدولة كما كان التراجع الحالي أيضاً بفعل الدولة الحالية التي هي إمتداد لحقبة شريعة نميري . في عصر عشة موسى كان المنع أسرياً و هو توجه أسري ضد حركة المجتمع و الدولة , لذلك كان هنالك غناء نسوياً قبل الحقيبة معاصراً لفترة الطنبارة - اي ماقبل ١٩٢٠, قبيل الحدث المفصلي (إضراب الطنابرة) و الذي أدى لظهور أغنية الحقيبة و الكورس الحديث . زهرة نجدي و بت العقاب و بت بلابل و بت البرنديسي و مغنيات كثيرات كن قد اشتهرن منذ ماقبل المهدية و توقفن و عدن بعد توقف خمسة عشرة سنةً تقريباً ، أي بعد زوال المهدية . وكانت أم الحسن الشايقية قد سجلت أغنية (أم جبين يضوي )في العام ١٩٢٧ تقريباً على أسطوانة كأول مغنية سودانية تخوض تجربة التسجيل على أسطوانة . و كذلك أم بشاير و أم جابر أسهمتا أيضاً في ترسيخ لونية (التم تم )و نشره و كان السودانيون يقصدونهم حتى كوستى . إلا أن التوثيق الحقيقي بدأ بالإذاعة كما أن الانكفاء الذي تعرض له المجتمع السوداني و دورات التردي الحضاري التي لازمت فترات المهدية - مطلع الثمانينات حتى الان - جعلت التراث الغنائي النسوي يقاس بحال المجتمع الراهن ، و هذا ليس صائباً على الإطلاق .
يروج بين المثقفين أن ( التم تم) صنيعة الرقيق إلا أنه حديث تنقصه الدقة, لان الغناء اصلاً في المجتمعات القبائلية الرعوية هو صنعة الرقيق و لا تغرننا الأسماء التاريخية التي نوردها هنا و هناك , فمعظمهم كانوا إما رقيقاً أو من نسل(المعاتيق) أي الأرقاء السابقين . و هذا الأمر له إسقاطاته حتى على تاريخ الفن الحديث أي مابعد الطنابرة ، فقد كان الحاج محمد احمد سرور يستنكر في باديء الأمر أن يغني مع كرومة و يستنكف الأمر من واقع أصل كرومة, رغم ما عاناه الحاج محمد أحمد سرور نفسه من عنت المجتمع الذي كان يصم المغنين بالصعاليك . لذلك فإن العنصرية كانت ذات تأثير أكبر من الجندر على واقع الغناء النسوي ، لأن المجتمع كان منفتحاً إلى حد كبير في مسائل المرأة و مشاركتها في (بيت اللعبة )ورقصها و شبالها و لبسها ، والواقع المعاصر هو وليد مابعد شريعة نميري – حقبة الإسلاميين الحالية ، و هذه ثلاثة عقود ذات خصوصية فيما يتعلق بالمرأة و ثلاثة عقود كافية جداً لتدجين المجتمع عبر أجيال نشأت تحت هذا الواقع .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
كمال علي الزين
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست