إنتبه فجأة لأنه مشنوق بحبلٍ يتدلي من أحد فروع شجرة النيم التي طالما تفيأ ظلالها أيام عمره منذ الطفولة ، اليفاعة و أيام فتوة الشباب و حتي بعد أن تزوج و صار أباً، مشنوقاً كان، عيناه جاحظتان، شفتاه متورمتان و محتقنتان بدم يابس و لقد جفّ زبدٌ عليهما فلمعتا، في أنفه إختناق لحَظته طيور آخر الليل، حزّز الحبلُ القاتل أعلي عنقه فتمزق الجلدُ تحته و إنصرّ بنزيف متجمد. إنتبه احمد لذلك الموت جيّداً. و انكشفت لبصيرته جميع الأحداث التي ستعقب ذلك الموت. اكتشف الذاهبون لصلاة الفجر موتَه مشنوقاً بحبلٍ يتدلي من أحد أفرع شجرة النيم أمام باب بيتهم، صُعِقوا، قرعوا بأصابع العَجَلة بابَ بيتِ الطبيب من أبناء الحي، هُرِع إليهم الطبيب و خمرُ الليل يمسح بالبذاءة سطح عفونة فمه . هو احمد بن الحاج اسماعيل مات مشنوقاً بحبل يتدلي من أحد أفرع شجرة النيم أمام بيتهم، تخرّج احمد مهندسا و عمل في المؤسسة العامة للطرق و الجسور ثم أدار أعماله الخاصة بعد التشريد من الخدمة العامة. عرفه الحي طفلاً ذكياً و مؤدباً و عرفه الناس بالحي شاباً مبادراً بالخير و خدوماً ، عرفته المدينة كواحد من أبنائها الأكثر نشاطاً في المطالبة بالحقوق و الوقوف بصلابة لرد ظلامات المركز الحاكم بالحديد و النار، العذاب ، التعذيب، الإفقار و الحصار، لم يكن أحدٌ يعرف ما كان بداخله من آمال منخسفة، أحلام موءُودة و إكتئاب. لم يكن المهندس احمد مختلفاً عن أبويه أمام الناس فأمّه الحاجة سكينة التي يسبقها طعامها و شرابها و هي تسقبل الزوار و الأغراب و الأهل بالبشر و المودة.بكتها شوارع المدينة عندما رحلت عن الدنيا، تلك الشوارع التي عرفت مشاويرها بالوصل و العطاء للمحتاجين و الذين خانهم الزمان و تركتهم انظمة الحكم بيد سفلي تستقبل العطايا و المنح. أبوه هو الحاج اسماعيل صاحب الديوان المفتوح و الرجل مسموع الكلمة ليس من سلطة يحوزها و لكن بسبب حِكْمةٍ، شجاعةٍ و كرَمٍ يتوفر عليهم يقدّمُه الناس ليقودهم و يكون وجههم . قال الطبيب الذي فُجِع بمنظر الجسد المعلق بعد أن مسه بيد المعالج؛ بسماعته، يده و جهاز قياس الحرارة، قال: مات احمد قبل ثلاثة ساعات. الحركة غير المعتادة في الشارع ؛عويل النساء و بكاء الرجال أيقظ ناس الحي فكانت في أول من فتحوا ابواب دورهم ليستطلع الأمر بنت الجيران زينب. رأت زينب انصراف أعمامها و أخوالها و رجال الجيران عن صلاة الفجر و انهماكهم في الأمر ثم رأت احمد معلقاً في أحد أفرع شجرة النيم أمام بيتهم، معلقاً و هو في جلباب نومه، يداه علي جانبي جسده، رأسه متكيء،عنقه محزوز، القدمان و قد ارتختا بزواية واطئة ، يتحرك جسده المعلق بحزم من هبة الريح. رأتهم ينزلون الجسد و في المكان تتردد عبارة لا إله الله.. يا ستّار..لا حول و لا قوة إلا بالله.. أعوذ بالله. قالت زينب: وا حسرتي عليه ..وا حسرتي علي أحلامه المبددة و طموحاته المدفونة..واحسرتي علي بنته و ولديه و علي زوجته و أختيه.. وا حسرتي علي جهده الذي سرقته تفاهات الأيام المتعاقبة..وا عذابي من غيابك و انت تعلم أنني قد اكتفيت منذ زمان بإقتناص لحظات أراك فيها دون كلام. ثم قالت لماذا يا احمد؟ سمعت روحه تلك الحسرات و ذلك النعي فزينب هي حبيبة مراهقته و فتاة أحلامه في اليفاعة و الصِبَا. كانت روحه منخنقة أسفل عنقه ،محبوسة تحت الحبل المصرور. عندما حلّ الرجالُ صريمة عقدة الحبل إهتزت شجرة النيم و أنّت و أدرك الجميع
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة