كتب الكاتب الفاتح جبرا المتوفرة بمعرض الدوحة
|
Re: .. بضع ذكريات فنية وأخرى متفرقة طريفة.... (Re: الأمين عبد الرحمن عيسى)
|
وأنا حديث التخرج عملت في البنك الزراعي بعطبرة و كنا نقدم سلفيات للمزارعين في المنطقة من شمال مشروع الزيداب حتى جزيرة مقرات في التخوم الشمالية لمنطقة الرباطاب.. وكنا أيضا نمول المترات والمشاريع على نهر عطبرة.. قدم الأستاذ حامد جعفر إلى البنك ينشد قرضا.. وجلس إلى مكتبي لأكمل له إجراءات التسليف..ثم لاحظ الأستاذ حامد إسمي مكتوبا بالكامل أمام طاولتي و سألني إن كنت إبن الأستاذ عبدالرحمن أحمد عيسى الذي كان مفتشا للتعليم في مديرية دارفور في أوائل الستينات ورددت بالإيجاب.. فنهض الرجل يحييني بحفاوة وترحاب مرة ثانية وقال لي أنت لا تعرف المعروف الذي أسداه لي والدك، فقد كنت حديث التخرج وتم تعييني في مدرسة نائية في أقصى جنوب دارفور.. شددت الرحال إلى هناك لكني إضافة للبعد والمشقة رزيت بالعمل مع ناظر سامني من المعاملة غير الكريمة ما لم أقدر على احتماله.. و حررت خطابا لمكتب التعليم طالبا نقلي.. كان رد مفتش التعليم انه سيمر على المنطقة في ظرف وجيز وسوف يعمل على حل مشكلتي.. وبالفعل جاء المفتش غير أنه بعد أن درس حالتي.. إعتذر لي أنه لا يستطيع نقلي من مديرية دارفور لمديرية الشمالية.. لكنه قال لي سوف أنقلك إلى مدرسة ستسعد فيها بمن ستعمل معه.. ولقد نقلني إلى مدرسة كتم .. وكان ناظرها الأستاذ إبراهيم شيبون.. ولعمري لقد صدق الأستاذ عبدالرحمن عيسى.. فلم أر من قبل ولا من بعد من يماثل الأستاذ إبراهيم شيبون خلقا ..
قلت له مفتخرا، وإبراهيم شيبون هو أيضا أخي الأكبر.. تذكرت في تلك اللحظة والدتي زهرة بت الفحيل والبشر بائن في وجهها و إبراهيم قادم من كتم من دارفور.. تلك كانت أول مرة أشاهده فيها وكنت الحظ تلك المودة والمحبة البادية في وجه إبراهيم وأعجب حين أسمعه يدعو والدتي بأمي زهرة.. وعلمت إذاك أن إبراهيم هو ابن خالتي عائشة بت الفحيل الأخت الكبرى لأبناء الفحيل والتي توفيت مبكرا..
وابراهيم شخص غير عادي.. رجل أتم مكارم الأخلاق.. شهم ، كريم، بار بوالده وإخوته وأهله.. وسيم طلق المحيا، جميل و صارم في غير قسوة..لا يخشى في الحق لومة لائم، دعي ذات مرة لإجتماع يعقده والي ولاية شمال كردفان وكان وقتها ( فيصل مدني مختار) في أوائل عهد الإنقاذ وتأخر وصول الوالي ساعة كاملة والجميع في انتظاره، ثم لما حضر إعتذر للجمع عن تأخره وشرع في حديثه.. غير أن إبراهيم تصدى له قائلا أن ليست تلك سمات القادة، وأخبره أن العديد من الناس تعطلت مصالحهم وهم في إنتظاره، ونصحه أن من الأحرى أن يكون أكثر دقة ولا يتأخر وتعجب الحاضرون من هذا الذي ينتقد الحاكم.. غير أن الوالي إعتذر ثانية ووعد أن يكون دقيقا مستقبلا.. كان كثيرا ما يؤمنا لصلاة الجمعة في مسجد حاج جقود، وكنت أجد في خطبه مواضيع غير مطروقة وتربية بناءة للمصلين تخللها مواضع الآيات الكريمة من القرآن الكريم والأحاديث النبوية.. والمصلون كنت تجدهم مشدودين إلى الخطبة منتبهين ويودون لو لا تبدأ الصلاة ولا ينقطع الإمام عن حديثه.
حدث ذات مرة خلال عمله بالتربية والتعليم أن وجد أحد زملائه على غير العادة حزينا. وسأله عما به.. فأخبره زميله بما كان من أبناء عمومته وبناته لما تقدم لخطبة إحداهن... كيف أنهم رفضوه وأساءوا إليه بسبب أصل والدته التي هي من جنوب البلاد.. قال له إبراهيم، أيفعل أهلك بك هذا ؟؟ أشهد ألله أنني أزوجك الآن أختي.. وكتب إبراهيم إلى عمه وقال له " لقد زوجت أختي فلانه بزميلي فلان" وبالفعل كان رد عمه أن نعم الزوج الذي تختاره أنت لابنة عمك. وفي أيامه الأخيرة.. قابل شخص العم نصري عبدالوهاب وطلب منه أن يزورا إبراهيم في بيته الثالث الجديد، فقال له نصري أني أعرف أن لإبراهيم بيتين فقط.. لكن الشخص قال له لقد بنى إبراهيم بيته الجديد وهي دار فسيحة تشع بهاء وضياء فيها سرير في وسط المنزل عليه فراش أبيض.. وقال إن إبراهيم كان في انتظارهما هناك.. تلك رؤيا حكاها لي العم نصري وقال لي لقد عرفت بعدها أن إبراهيم سيغادرنا قريبا...
وفي أم روابة كنا أنا وأبن خالي أبوبكر الفحيل ذات يوم ضيوفا على إبراهيم في منزله الحكومي حيث كان يعمل في مكتب التعليم بعد الظهر.. تغدينا وتوجه إبراهيم إلى داخل منزله ليستجم بينما سولت لنا أنفسنا ذلك اليوم أن نقوم بمغامرة ما.. فقد ترك إبراهيم مفتاح العربة الميركوري تحت الوسادة في السرير الخارجي المفرش في تلك المظلة.. أخذنا المفتاح وأدرنا ماكينة العربة وأنطلقنا نجوب بالعربة شوارع أم روابة الفسيحة .... عدنا بعد ساعات .. لنجد إبراهيم وسائق العربة وأهل بيته في الشارع في انتظارنا.. أوقفنا العربة في وجل وهبطنا منها وسلمنا المفتاح في تأدب لإبراهيم دون أن نتفوه بشيء..
أخذ إبراهيم المفتاح منا وناوله للسائق وقال له بلهجة حاسمة.. خذ هذا المفتاح وأكشف على سيارتك إن كانت سليمة أم لا؟ ثم خذ هذين الولدين إلى الشرطة وافتح بلاغا ضدهما.. وألجمتنا كلمات إبراهيم.. تدخل السائق بالإعتذار إنابة عنا وكذلك تدخلت زوجته الحاجة كلتوم راجين أن يتجاوز عنا هذه المرة.. غير أن إبراهيم كان جادا جدا في قراره ولا شيء سيثنيه.. كرر كلماته الصريحة للسائق.. وبلهجة آمرة هذه المرة.. وتأكدنا أننا محجوزون هذا الليلة في الحراسة.. ومرت دقائق خلناها دهرا في انتظار أن يعفو عنا إبراهيم .. مر الوقت بطيئا ونحن مستنصرين بالسائق والحاجة كلتوم إلى أن تنازل إبراهيم أخيرا.. غير أنه أشاح عنا وأعطانا درسا لن ننساه ما حيينا..
رحم الله آباءنا وأمهاتنا من آل الفحيل وآل شيبون... ورحم الله أخانا الأكبر إبراهيم وأزواجه وجعل مثواهم الجنة إنه سميع قريب مجيب الدعاء
|
|
|
|
|
|
|
|
|