|
Re: الفكرة الأساسية (Re: عليش الريدة)
|
في تلك الأمسية عندما ذهبت إليها في منزل أسرتها،لم أكن أتخيل على الإطلاق بشاعة ذلك المقلب الذي كانت تعده لي ..فعندما جلسنا كالعادة لوحدنا متقابلين ،في ذلك البهو الضيق..وبدأت هي كما تفعل في كل مرة،تتحدث معي بذلك الأسلوب الآسر،الذي يجعلني أمامها أبدو كتلميذ الصف الأول أمام مدير المدرسة السادي.. ثم فجأة كما تفعل في كل مرة،في نفس تلك اللجة التي تتوسط بحر كلامها هتفت : المكيف شغااال والمروحة مدووورة،إنت عرقان كدا مالك.. وبرغم أني كنت اسمع هذا السؤال في كل مرة آتي إليها،وبرغم أني كنت أجهّز أجوبتي المنطقية عليه ،قبل أن آتي في كل مرة..إلا أني لا أذكر أبدأ أن تفضلت ولو لمرة واحدة،بإجابة واضحة عليه..فقط كانت تخرج من فمي الكثير من التمتمة.. ثم تواصل هي :أنا امبارح قريت إنو اللسان ما وسيلة فعالة للتعبير،وإنو ممكن الناس يصلوا لمرحلة بعيدة جدا من الكلام والتفاهم بواسطة العيون..رأيك شنو في الكلام دا؟ كيف يكون لي رأي،والرأي تبيعة العقل، وأنا في تلك اللحظات لاعقل لدي،فقد خلعته كما أفعل في كل مرة،وتركته خلف باب البهو الموارب..ودخلت كما يدخل الناس إلى المساجد،حفايا و خاشعين.. : والله ممكن يعني الكلام دا يكون صاح.. :تجي نجرب؟ وهل أتي بي إليك،إلاّ شغف التجريب.. لكني قلت بتوجس واضح :كيف يعني؟ :لو عاينت لي في عيوني مباشرة لمدة دقيقة كاملة،أنا بقدر أعرف إنت بتفكر في شنو.. قالت دقيقة كاملة،ولم تقل دقيقة واحدة..المكارة تعرف كل شئ..لكني قد خلعت نعليّ خلف ذاك الباب الموارب..فلم تكن هناك جدوى من التظاهر بأن عقلي مازال في مكانه الطبيعي :حاضر.. :لكن في مشكلة بسيطة،قبل مانبدأ.. :مشكلة شنو؟ :قريت برضو إنو الموضوع دا عشان ينجح،لازم الناس تتقمص شخصية الكائنات الماناطقة..و عشان كدا أنا بقترح إننا نتخيل نفسنا قُمريتين..موافق؟ :يعني المطلوب منو شنو؟ :ما حاجة كتيرة،بس تفرد يديك كدا عل خفيف،وتقوم على أمشاطك كدا نص قومة،وتعاين لي في عيوني شديد،وتقول زي القمرية..قوقو،قوقو..موافق؟.. :مافي مشكلة.. وأصدقكم القول،لم يكن هناك شئ من كل هذه السخافات المتتالية،أحمل له هما ،أكثر من ذلك التحديق المميت في عينيها.. وعندما بدأت أنا في تقمص شخصية القُمرية،ووصلت لمرحلة أن أصيح بقوقو الأولى،نهضت هي فجأة من مقعدها واتجهت نحوي،كانت عيناي وحسب الاتفاق، ذاك الاتفاق الذي لايُعقد إلاّ بين قاهر ومقهور،تُصليا بنار الرغبة والنكوص.. ولم تكن هي أبدا نارا هادئة تدرّجية،كالتي يُطبخ عليها اللحم،وإنما كانت نارا تصاعدية عنيفة ،كتلك التي تُغلى فيها الماء للقهوة..كان وضعا لايمكن أبدا محاولة التأقلم عليه.. وأنا أحاول جاهدا أن أجد عقلي الذي تركته خلف ذاك الباب الموارب.. لقد كنت في أشد الحاجة إليه.. إلي أين تتجه هذه الفتاة الماكرة..ماذا يدور في هذا الرأس الصغير البديع..تبدو ثمة خطورة في الأمر.. تبدو الكثير من الخطورة في الأمر.. ثم فجأة،وبخطوة رشيقة جانبية،كأمهر راقصة باليه جادت بها المسارح العالمية، جذبت الباب الموارب..ولأن الباب لم يكن مغلقا بالكامل،ولم يكن مفتوحا بالكامل،وإنما كان في تلك الحدود الوسطية ،حدود انصاف الحلول،تلك الحدود التي لاتضيف للأوضاع المتأزمة سوى المزيد من التعقيد..لذلك انجذب الباب معها على مصراعيه..ويالهول ماظهر لي.. كان أبوها،واقفا خلف الباب الموارب، يتنصت علينا..وصاحت هي باندهاش،لم يبدو لي في وقته أنه مصطنع :أبوي؟ كويس إنك جيت،أنا ماقلتليكم الزول دا عندو نفسيات..عاين ليهو هسة عامليّ فيها قمرية.. لابد أن الأب كان يشعر بحرج شديد للغاية،لكنه تمالك نفسه وقال لي :السلام عليكم وذلك رغم أننا كنا نجلس سويا قبل دقائق معدودة.. وكنت أنا مازلت فاردا يديّ نصف إفرادة ،وواقفا على أمشاطي نصف وقفة..و تاركا لعقلي خلف ذلك الباب الذي لم يعد مواربا..لكن رغم ذلك الوضع الغريب،كنت أرغب في أن أرد على الأب تحيته، كنت أود أن أقول :وعليكم السلام..لكني للأسف الشديد،بدلا عن ذلك صحت :قوقو.. وقاوم الأب في البداية،لكنه سرعان ما انفجر ضاحكا، كان ضحكا صادقا ومحايدا،ضحكا من أجل الضحك في ذاته،وليس تحقيرا أو استهزاء..ومن ثم انفجرت أنا بدوري.. وحضرت بقية الأسرة مهرولة..قالت الأم:خير إن شاء الله؟.. لكن لم يرد عليها أحد،فقد كنت ورب الأسرة مانزال في متاهة ضحكنا الهستيري،وانتقلت العدوى سريعا،وتحولت تلك الأمسية إلى الأمسية العالمية لضحك الأسرة و الخطيب ..لكن الشخص الوحيد الذي لم يكن يضحك، هو هالة.. خطيبتي الرشيقة البديعة، والتي صارت لاحقا ،هذا البرميل المحير.. وعندما سقطت عيناي في لجة عينيها من جديد،كانت النار أخيرا،قد صارت بردا وسلاما،وتحول شعور التوجس والعذاب،إلى شعور من المتعة يستعصم عن الوصف،لقد كان التحديق في عينيها في تلك اللحظات،مثل أن يدخل مؤلف ملهم إلى تلافيف عقلك،ويتعرف على تصورك الذاتي المخبؤ ،غير المدرك بوسائل التفكير والتعبيرالمعهودة،لكيف يجب أن تكون سطوة الجمال،فيكتب ذلك التصور في كتاب ويضعه أمامك،ثم يقول لك:إقرأ..
|
|
|
|
|
|
|
|
|