|
Re: بأس المركز ومكر الهامش (Re: عليش الريدة)
|
وكان عصام قد قدم إلي المدينة لأول مرة من قريته النائية قبل خمسة عشر عاماً , جاء لأنه قد قبل في الجامعة الأهم في تلك المدينة ,ولصعوبة السكن الداخلي بتلك الجامعة, ولقلة امكانيات أسرته اضطر إلى أن يسكن مع أسرة خاله , وبعد أن تخرج ساعداه تفوقه الأكاديمي و حظه المدهش, على العثور علي وظيفة معقولة وذات مستقبل مبشّر,وبعد أن سلخ عدة سنوات في مهنته , كافأ تلك الأسرة بأن تزوج إحدي بناتها , ومضت حياته الزوجية علي ما يرام , فصفاء زوجته جمعت بين الصفتين الذهبيتين : الجذور القروية القريبة, ونشأة المدينة الحضرية , لذلك استطاعت أن تنال رضاءه وإعجابه بسهولة تامة , ولم يكن يحدث بينهما أي نوع من أنواع المشاكل, عدا الشئ القليل والطبيعي الذي لا يخلو منه أي بيت. لكن رغم استقراره الأسري والمهني, إلا أن عصام كان علي الدوام فريسة للهواجس التي لا تنتهي , فالمرتب المحدود, والغلاء الطاحن, والواجبات الاجتماعية تجاه عائلته الكبيرة في القرية , وتجاه الأهل الذين يزورون المدينة باستمرار , كل تلك الأمور جعلت من رأسه مرجلا يغلي بالأفكار والتخيلات التي تنجرف نحو البؤر السوداء والمأساوية.. كان يصحو باكرا ويبدأ مباشرة في القيام بالإجراءات الروتينية, التي تكفل له الوصول لمكان عمله في الوقت المناسب, وتنتهي تلك الإجراءات بإعداده بنفسه لكوب الشاي المخلوط باللبن, واستوت ثمرة التطبع المدني في هذا التنازل الذي يقدمه لزوجته في كل صباح , ولأنه لا يطلب أي مشروبات في مكتبه خلاف الماء القراح , حرصا علي التوفير من جانب, وسدا لباب الجدل مع عامل البوفيه, الذي دائما ما يصر علي الزيادة في الكمية الحقيقية للمشروبات التي طُلبت, وخاصة تلك التي تسدد قيمتها عند آخر الشهر, ولأن زوجته لم تكن من النساء اللائي يتمتعن بالقدرة علي مفارقة الفراش, قبل أن تعلن الشمس بارتفاع واضح عن إطلالتها علي الأرض, لذلك كان لا يجد حرج في تقديم ذلك التنازل عند كل صباح , وبمجرد أن يرتشف الجرعة الأخيرة من كوب الشاي, يتجه مباشرة نحو الشارع لتبدأ أولي الخطوات إلي ساحة العمل الكؤود , محاذرا في كل يوم أن يتعرض لأي مواقف قد تدخله في نفق الاحتكاكات برؤسائه, فهو يحرص علي الوصول لمكان العمل قبل ربع ساعة علي الأقل من الزمن الرسمي , و لا يغادر إلا بعد مضي مثلها علي الأقل بعد النهاية الرسمية للعمل , وكان يحرص جدا علي التطبيق الحرفي للتوجيهات والضوابط المنظمة , بل كثيرا ما كان يزيد عليها فضلا من عنده , ولم تكن لديه أية اهتمامات جانبية يمكن أن تتسبب له في متاعب ملازمة , أو آراء قد يساء فهمها , فهو لا يحب كرة القدم وليس لديه فريق يشجعه , وهو لا يحب السياسة وليس لديه حزب يمكن أن يتهم بالميل إليه , وهو بطبيعة الحال لا ينتمي لأي جماعة دينية, وسطية كانت أم طرفية, وهو كذلك ليس لديه الطموح الظاهر في إبراز القدرات التي قد تعتبر ذات طابع تنافسي للذين هم في الدرجات الأعلى , لذلك فإن عصام كان دائما في الركن المظلم الذي يصعب علي المشاكل أن تراه رغما عن الأعين الثاقبة التي حظيت بها.
|
|
|
|
|
|