|
Re: مساء اليوم الخميس 28 يناير 2016 الفنان النوب� (Re: علي عبدالوهاب عثمان)
|
وفي جلستنا مع الفنان دولا تجسدت كل هذه المعاني والصور أمامي في لعمق صوته وتعابيره وطريقة أدائه قادتني إلى ذلك الزمن العتيق فهو يغني بهدوء بدون زعيق كما أهلنا في السابق لأنني تضايقت من بعض الشباب وطريقة إدائهم لأغنية الاندادي وما يصاحبها من زعيق ورفع العقيرة إلى طبقات عالية .. لأن البيئة لدينا هادئة وفي المجتمع الزراعي والسواقي الناس يعملون متجاورين ولا يرفع الصوت بالزعيق والصراخ إلا في حالة نداء المركب في البر الآخر أو عند حدوث مصيبة ... ، على عكس الغناء في المجتمع الرعوي ففيه رفع للصوت وحداء يشق الصحراء لكي يسمع الآخر وكذلك يزيل الخوف عن النفس لأن الغناء يزيل الرهبة عن وحدة الليل .. فالفنان دولا طريقته في الغناء مثالية ومطابقة لواقعنا ولكن المشكلة أننا كما قالها أديبنا سيف الدين وهو يتحدث عن تاريخ اغنية أندادي "لدينا الاطار اللحني الجميل .. ولكن الكلمات كانت فقيرة وعشوائية " وينطبق ذلك على الاغاني القديمة حتى جاء نورالدين سيد علي هذا الرائع الذي أرتقى بأغاني الأندادي إلى مستويات لم نكن نتوقعها .. وفي سياق مقالته تطرق سيف الدين إلى هذه الابيات التراثية : الله ووا مسكة تلى كربشين ووامسكه مصر كربشين ووامسكه أبا مسكه نيقلقين طاقة لمبتودقلقين " توليه كربشين قي وو مسكا " الكربشين كان يتم جلبه من مصر كان نوع من الكرب "توليه" فيه نوع من الخيلاء والدلع والغنج كما نهى عن الرجال جر الازار بطراً .. مجد هذه الصفة لدى النساء .. لأنها مدللة ومنعمة بخيرات مصر وهي ليست مصر الحالية بل مصر الخديوية عهد الرخاء .. فكان أهلنا يقصدون مصر حتى من لديهم المال والوفير .. فهذه الصفة ( توليه ) رمز للثراء والدلال .. وفي مشابهة تماماً لتلك الابيات النوبية التي تغنى بها خليل فرح وهي من نوادر الشعر النوبي التي رواها الناس عنه فكان خليل يداعب بنات العائلة على سبيل التمجيد وليس ذاك الغزل فيقول :
ديل إنقا أردل سوك ووو سكينة
والمعني هنا ( سكينة .. أرفعي ذيل فستانك أو جرجارك عن الأرض ) ربما كانت تمشي بغنج وخيلاء ودلال فخليل يداعبها مازحاً .. أرفعي عنك ذيل الجرجار يا سكينة .. وهي نفس تفاصيل الصورة في صاي ودنقلا
ثم نأتي إلى ( طاقة لمبتود أليقن ) هي شبة ( اللمبة في الطاقة ) .. وهنا كان الأحرى عدم ذكر ( الطاقة ) لأن اللمبة كانت توضع في ما يسمى (تودي) ويكمن أن تكون ( تودي لمبتود أليقن ) والمعروف عن (تودي) أنها دائماً ما تكون عند مدخل (الديوكا) المطبخ ما بين المطبخ والاسمون ( صالة جلوس النساء ) وكان اللمبة وتسمى ( لمبة بنية ) بعد أن ظهرت ( الفوانيس الزجاجية ) ولسلامة المنزل وعدم إشتعال الحريق لأبد أن تكون محفوظة داخل محمية فكانت هذه اللمبة توضع في حفرة داخل الحائط وخاصة عند المطبخ .. أما المشكاة التي وردت في القرآن .. مشكا هي الشمس بالنوبية المحسية .. وهي الطاقة الجانبية التي تدخل منها أشعة الشمس إلى البيت في النهار وفي الليل يمكن حجزها ووضع اللمبة فيها لتكون مصدر الضوء (مشا شارت ) أشعة الشمس بالمحسية وبالأندادي ( مسل شا ) وأحسب أن مشكاة أقرب إلى المحسية لأن الامتداد النوبي إلى مصر كانت مناطق جبلية وبناء حجري على عكس منازلنا الحديثة حالياً ..
وبيت القصيد والأغنية التي صرعتني حتى أنني خرجت عن مسار الحفل وكأنني في ليلة عرس مقمرة في أرتقاشا .. هي أغنية بتولا ( مع إصراري على أنها – لا – وليست بالتاء المربوطة ) وأن هذا الإسم جاء من التأثير الفاطمي الذين حكموا مصر وقربهم وميلهم لشيعة أهل البيت ، كما أن إسم (عشوراء ) او (أشورا) من الاسماء المتداولة للنساء في الزمن الماضي في مناطقنا بفعل هذا التأثير أيضاً ..
ليتني كنت أعرف أن هذا الرائع دولا سوف يشدو بأغنية (بتولا) كنت سأنتهز الفرصة وأطرح مقدمة بسيطة عن الأغنية وعن هذا الايقاع الذي إنقرض عن تراث الأندادي ولم إسمع به منذ نصف قرن أو أكثر إلا من هذا المبدع ( دولا) .. كانت ضمن أغاني ( هومبي – كرريه ) الكرير وأحسب أنني سمعت في التلفزيون احدهم يقول ( حومبي ) وهذا النوع من الايقاع المصحوب باللحن الجميل .. كان من الصعب على الشباب أداءه لأنه يعتمد على قوة الحنجرة مع إظهار للقوة ( الفتونة ) ولفت أنظار البنات .. وطريقة الأداء ( صفقة واحد ثم كرير مع إيقاع بسيط على الأرض بالأرجل ) أما الصعوبة فكانت في الرقص لأن الحركة الجسدية للمرأة في هذه الرقصة كانت تعتبر خارج السياق فكانت خاصة لنساء من لفئة معينة في فئات المجتمع آنذاك ... فقد أجاد دولا تقديم هذه الاغنية وكأنه عايش ذلك الزمان رغم صغر أنه مازال في مقتبل العمر ولكن التذوق وحب الفن والتراث المدعوم بعلم الموسيقى جعله متفرداً في الأداء بكافة التفاصيل .. حتى (لحظة الصمت ) خلال الاغنية وبعد كل كوبليه التي تسمح للراقصة بتغيير الحركة الجسدية جاء بها دولا وبطريقة إحترافية علمية ولكن أحسب أن الموهبة هي أهم معطيات الفن وهو مشبع بها ..
للحديث بقية ..
|
|
|
|
|
|
|
|
|