|
Re: من سيرة أبو القنعان (Re: ودقاسم)
|
وعند منتصف النهار كانت الشمس مستترة خلف الغيوم ، والسماء تنذر بالمطر ، وكانت القافلة قد أطلّت على مشارف البلدة . لكنّ فاطمة تفاجـأت بمنظر الرعاة يسوقون ماشيتهم والزرّاع يقومون بأعمالهم في الأراضي التي تمرّ عليها القافلة . وغير بعيد عن البلدة قامت قرية بيوتها من القشّ، من الواضح أنها قرية هؤلاء القوم الذين رأتهم فاطمة يعملون بالرعي والزراعة . توقفت القافلة في مواجهة بعض الزرّاع ، ألقوا عليهم التحية ، فردوا بأحسن منها . سألتهم فاطمة : كم من السنين أنتم هنا ؟ قالوا : بضع سنين . وبدأت تسألهم عن أهل البلدة الأصليين ، لكنهم كانوا لا يحرون جوابا . كل منهم يقول كلاما مختلفا . لكنهم جميعا اتفقوا أنهم لم يجدوا أحدا هنا حين استوطنوا البلدة وأقاموا قريتهم . هذه البلدة ظلت هكذا على مر الأيام . قالوا لها أنهم عرفوا من آبائهم وحكمائهم أنّ البلدة الصفراء – هكذا يسمونها – إما أنها بيوت للجن ، أو منازل كانت مملوكة لقوم عصوا الله فأهلكهم الله بما فعلوا من المعصية . قالوا أنه كلما اقترب شخص أو حيوان من البلدة الصفراء تهيج الريح ، وتنطلق الأعاصير ، وتنبعث أصوات غريبة كأنها تخرج من باطن الأرض فتطرد كل من يقترب منها . حتى الحشرات والجرذان لا تستطيع الاقتراب منها. وأنّ حكماءهم حذّروهم من هذه البلدة ، ومنعوهم من الدخول إليها ، واعتبروها بلدة الموت والدمار لكل من يسعى للوصول إليها ، فهي بلدة مسكونة ومحروسة بالأرواح الشريرة . ومن بعيد بدأت البلدة لفاطمة كأنها لم يمسها التغيير ، لم تنبت الأشجار بشوارعها وأزقتها ، ولم تتأثر البيوت بالمطر أو الرياح . ولم يحاول أحد أن يسرق شيئا من الذهب المكشوف أمام كل الناظرين . وقد بدأت البلدة - كما توقعتها فاطمة - ساكنة لا حياة فيها. وزوج فاطمة ينتابه شيء من الخوف ، فيسأل فاطمة : أين هم أهلك ؟ هل هم أحياء أم أموات ؟ بل هل هم من البشر مثلنا ، أم أنهم من الجن ؟ هل قطعنا كل هذه المسافة وبذلنا كل الذي بذلناه لنصل في نهاية مطافنا إلى مدينة أشباح ؟ وفاطمة تجيبه بوضوح هذه المرة وكأن الله أنطقها : أهلي بشر ، مثلك ، مثلي ، لم يكونوا عصاة ، ولا مجرمين، لكنهم هلكوا بالجوع رغم الغنى الذي تراه واضحا أمام عينيك . سأدخل عليهم وأوقظهم وأحدّثهم واحدا واحدا، وسترى بعينيك وتسمع بأذنيك أنهم سيعرفونني ، فأنا الناجية الوحيدة ، وأنا ابنتهم من أصلابهم ، وستعرف أنت وزوجتك أنني لست خادمة ، بل أنني – أنا – من كنت أتدلل على الخدم والحشم . كل الذهب الذي تراه أمام عينيك كان ملكا لأهلي جعل الله لهم التصرف فيه ، تماما ، كما جعل لك أنت التصرف في الأرض وفلاحتها ، وهو بالتأكيد ورثة لي . حاول الزوج إقناع زوجته أن تتراجع عن دخول البلدة ، والتخلي عن أحلامها ، وطلب منها أن يعودوا من حيث أتوا باذلا لها الوعود بحياة كريمة ومعاملة طيبة . طفق يذكّرها بما سمع من أفواه المزارعين ويخوفها من المصير القاتم الذي ينتظرها إن هي أصرت على تنفيذ ما عقدت النية عليه . قال لها امام الشهود : ستنطلق الريح والأعاصير تحت قدميك ، وستحملك الريح بعيدا فلا نجد لك أثرا . الداخل إلى هنا مفقود ، ولا أحد يعرف مصير الذين حاولوا الدخول قبلك . لم يخرج من هذه البلدة أحد ، أنت فقط التي خرجتِ فكتب الله لك السلامة ، وربما أن خروجك كان قبل وقوع اللعنة على القوم . لكن فاطمة لم تخف ، ولم تكن لتتوقف وتعود أدراجها إلى الذل والمهانة ، وهي ترى أنها سارت الطريق كله وبقي أمامها القليل جدا. لن تتراجع حتى لو كلفها ذلك حياتها وحياة ابنها . قالت له ، كما كنت أنا غريبة على أهلك فأنت أيضا غريب على أهلي ، وكنت أنوي أن أعرّفك عليهم، وكانوا سيمنحونك الأمان ، لكنّك لا تستطيع مقابلة أحد ، وأنت ترتجف من الخوف وتحمل الحذر القاتل بين جنبيك ، فلتبق أنت هنا في رفقة هؤلاء المزارعين ، لكن أنا وابني منهم وإليهم ، فاتركنا ندخل عليهم وحدنا ، وهم سيتعرفون علينا ويستقبلوننا أحسن ما يكون الاستقبال . وقد عدنا إلى ديار أهلنا ، نحن الوارثون لهذه الثروة والمالكون لهذه الديار ، سنعمرها أنا وابني ، وسنستعين بجيراننا من الفلاحين والرعاة وسننصهر معهم ، فنصبح أسرة واحدة لا ضغائن بينها ولا حسد ، ولا خوفٌ من مسغبة ولا فقر . وإن متنا فلسنا أفضل ممن ماتوا قبلنا، وأثق أننا سنكون في موتنا أفضل من حياتنا في الذل . ثم بدأ زوجها يترجاها أن تترك له الولد الصغير وتدخل هي إلى حيث شاءت ، فلربما تحدث بعض الأمور التي لن يحتملها الطفل أو تكون أكبر من إدراكه فيصاب بما لا نتوقعه . لكن إصرار فاطمة لم يكن ليهزمه أحد . هي ما زالت تحس ألم الصفعة ، وتتذكر معاملة الزوجة الكبرى ، والنظر إليها كشخص اُلتقط من طرف الحقل . كل ذلك كان يضيّق خياراتها ويدفعها دفعا إلى ارتياد التجربة الصعبة وتحمّل نتائجها مهما كانت . إما حياة كريمة لها ولإبنها ، وإما موت كريم لهما معا في آن واحد . تريد ان تقف أمام الموت بشجاعة كما فعل أهلها من قبل، وستسوق ابنها معها ولن تتركه للذلّ بعدما رأت الذل بعينيها . ستأخذه معها وهي تثق أن أهلها سيعرفونها وأن الله سيكرمها بوراثتهم ، وأن المجد كله سيرثه هذا الولد الصغير . وأمام هذا الإصرار الغريب استجاب الزوج على مضض ، وبقي إلى جانب الفلاحين والرعاة الذي تجمهروا ليراقبوا دخول فاطمة إلى البلدة الصفراء ، وهم لا ينتظرون لها عودة ، إنما يتوقعون لها ولإبنها الموت ، أو الاختفاء من هذه الحياة ، فلا يعرف لهم أثر .
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
من سيرة أبو القنعان | ودقاسم | 09-28-15, 08:44 PM |
Re: من سيرة أبو القنعان | ودقاسم | 09-29-15, 06:27 PM |
Re: من سيرة أبو القنعان | ودقاسم | 09-30-15, 05:10 PM |
Re: من سيرة أبو القنعان | ودقاسم | 10-01-15, 05:51 PM |
Re: من سيرة أبو القنعان | يوسف السماني يوسف | 10-01-15, 06:12 PM |
Re: من سيرة أبو القنعان | ودقاسم | 10-13-15, 07:45 PM |
Re: من سيرة أبو القنعان | ودقاسم | 10-02-15, 03:34 PM |
Re: من سيرة أبو القنعان | ودقاسم | 10-03-15, 02:28 PM |
Re: من سيرة أبو القنعان | ودقاسم | 10-04-15, 05:15 PM |
Re: من سيرة أبو القنعان | مامون أحمد إبراهيم | 10-04-15, 09:07 PM |
Re: من سيرة أبو القنعان | ودقاسم | 10-05-15, 05:14 PM |
Re: من سيرة أبو القنعان | أحمد الشايقي | 10-06-15, 11:40 AM |
Re: من سيرة أبو القنعان | ودقاسم | 10-06-15, 05:55 PM |
Re: من سيرة أبو القنعان | ودقاسم | 10-07-15, 05:40 PM |
Re: من سيرة أبو القنعان | ودقاسم | 10-08-15, 06:00 PM |
Re: من سيرة أبو القنعان | ودقاسم | 10-10-15, 09:07 PM |
Re: من سيرة أبو القنعان | ودقاسم | 10-11-15, 06:17 PM |
Re: من سيرة أبو القنعان | ودقاسم | 10-12-15, 06:25 PM |
Re: من سيرة أبو القنعان | ودقاسم | 10-14-15, 08:42 PM |
|
|
|