انتقل الزميل المهندس ( رعد دفع الله مصطفى) إلى رحمة الله يوم 6 /8/ 2014 م بمدني

Quote: مصطفى دفع الله صحبي المُتمِم كيفي علي عبد الساتر جامعة الخليج العربي/البحرين قضيت إجازة عـيد الأضحى في السودان..... كـنت مهموما بلا ســبب واضح ....كـنت أقــرأ "أم درمان تأتي في قـطار الـثامــنة".... يرسم كمال الجزولي صورا عديدة ...... استوقفتني يا إلـفي المحــزون .. كيف وَهِــمــتَ أن الشــمــسَ.. تشــرق في الصــباح؟! لا شئ غــير بيارق الأكــفـان تخــفـق في .. الــرياح، نهـارٌ شــتوي أغــبـش ..... و نحن نمـوت في حـربٍ غـير متكافـئة ضـروس......أكـفاننا الفـضـفاضة تـخــفـق ..... .. بعد أسبوع من عـودتي إلى البحرين تلـقـيت خـبر وفاة مصطفى دفع الله و كنت و حيدا بالمنزل.. في عطله نهاية الأسبوع.. في مساء يوم شاتٍ حـزين.....نزلـت عـلينا موجة من البرد لم يشهدها الناس منذ عشرين عاما و نيف.....جـلســت أسمع عــويل الرياح تطرق بعنف على أبوابي الموصدة....شــعـرت بوحدة خانقـة.... كــنت أقرب الى البؤس و الضياع منه الى الحزن.... و دب في نفــسي خـدرٌ كاد يفـقـدني الإحـسـاس..... المســافـة التي تفـصل بين الحـقيقه و الخـيال تلاشــت فجـأة...... و بدأت أتلمس الأشياء. دخلنا جامعة الخرطوم في عام واحد و ستين من القرن العشرين.. جاء مصطفى من وادي سيدنا الثانوية....فركة كعب من حيث يرقــد شهداء كــرري، و جــئت من الفاشر الثانوية أسعى..... و كان في معـيتي بشـير حامد تيراب، و أحمد محمد بحر و محمد ابراهيم حـجر.....حـجر و بحـر و تيراب. أحد الطلاب قال لنا، لو كان معاكم سـلوكة كان بقـيتوا حـواشه. أول من اســتـقـبلـنا مـعـشــر الـبرالمة في ذلك الوقت كان فاروق كــدودة، رئيس الاتحاد..... طويل كــسـليل نخلة فرعاء... كان يتكـلم عن عــبود و كأنه يتكـلم عـن ابن الجـيران.. نفس عـبود الذي ذكرت اسمه في التدريب العسكري ( الكديت) في الفاشر الثانوية مرة، فأوقـفـوني ساعة كاملة .. انتباه في الحر..باللبس خـمســه و على ظهري قــوقــو مـلئ بالحجارة....و لكن هــنا جـامعة الخرطوم، حيث حـرية الكلام و حـرية الكتابة، و الـقــول و الـفــعـل. دخـلنا حجرات المحاضــرات نسـمع كلاما ممـتعا، و مبهـما في بعض الأحيان.....أستاذ عـلم الأحـياء كلاودزي تُمـســون يقـول لنا أن العالم بدأ بانفجار ضـخـم ما زالت أصداؤه تتردد في أرجاء الكـون منذ بدايات التاريخ الى يومنا هذا....كنا نتلقى الدرس من أساتذه ســودانيين و أجانب لهم شهره عالميه..... أقام لنا جيمـس واتســون سـلـســلة من المحاضـرات في نفس السنة التي نال فيها جائزة نوبل لاكتشـافه ســر الحياة في الحمض النووي، و غنى لنا ملك الجاز لِـوي آرمســـترونغ ، و زارنا المـناضـل الجسور اسـتوكلي كارمايكل و زوجه مريم ماكـيبا، المـغنية الـسـوداء جـنوب الأفـريقــية ذات الصوت العـمـيق الأبح . و بعد سنة أولى عـلوم تفـرقـنا على الكليات المختلفة .....وكنت أنوى دخول كلية الجيلوجيا و دخلتُ كلية الطب لأنه حسب وصية يوســف قــمــر أحد أقاربي في الجامعة، "ناس الطب سَــمحين و بَصّــهم سَـمح". كان هذا منطـقـه الوحيد في اثنائي من التقديم لكـلـية الـجـيولوجيا........كليه الطب لها برتوكولات عـتيقـة .. المشي فيها بحساب، و الكلام هـمس و القـميص أبيض و الثوب بلا نقـوش......و دخلناها....... مصـطـفـى دفـع الله و عصام الطيب بابكر و رياض بيومي و مهدي عبد الله الدنقلاوي الذي ان لم يجد ســمكاً أكل أبو نقدح و عبدالله سر الختم و الفاتح زين العابدين، ولد الشيخ الســماني البرير الذي نلقبه بالبُــقـة على وزن بُقة عَـقود الســم. و حسين محمد أحمد و عبد القادر الكدرو و حسن أبو الروس الذي وخط الشيب رأسه و هو ما يزال يافعا بالسنة الثانية بكلية الطب. و عبد الرحمن المفتي و جعفر قيلي و جعفر ابن عوف و مختار الخاتم الذي يقود عجلة بدون فرامل فيثير الغبار و الدهشة عند مدخل الكلية و يكاد أن يتسبب في حادث حركة يومي.....و دخلنا كالإعصار إلى كليه الطب و كـسـرنا عـمود البروتوكولات "كَــع". استقبلنا أولاد العاصمة و أدخلونا بيوتهم، كنا نذهب مع مصطفى دفع الله الى منزل عمه في نمرة ثلاثه. نطعم و نسقي و نتونس و ننفـض عـنا غـبار الغربة، و نذهب الى عـلايل أبو روف مع عصام الطيب بابكر، و الده الطيب بابكر كان يدعى المُظاهِر لأنه يقود المظاهرات ضد الانجليز في شندي ان لم تخـني الذاكرة. لم نحظى بمقابلة أخوته التجاني الطيب بابكر و أحمد الطيب بابكر لفارق العمرو لكنا كنا نحـتفي ببشرى الطيب الذي كان يدرس ببولندا...... ودخلنا منزل رياض بيومي الذي نال جائزة عـبود في ذلك الوقت ( تعطى للعشرة الأوائل في الشهادة الثانوية) و نالتها معه منى ابراهيم اسحق التي رفضت دخول الطب و ذهبت تدرس الكيمياء الضـوئية. منزل رياض بيومي يقع بين البوابة الجـنوبية لمستشفى الخرطوم و كوبري المسلمية....... يعجبني تعاملهم في المنزل.. كان يتكلم مع عم عبد اللطيف( والده) كأنه يتكلم مع صديق حـميم و كذلك مع كمال الأخ الأكـبر. نحن جـيلٌ تعـلمـنا بالـقـلم ، عَـلمنا ما لم نعـلم...... نكتب بقلم البوص و قلم الأردواز و قلم الرصاص و الكوبيا و الريشــة و الـسِــنّة و الــبـنـّة و قلم الحبر الســائل و الناشــف و قلم تروبن....... ما زلنا نشــتم رائحة الخـشــب الأغـبش في قلم الرصاص عندما نبريه بنصف موس الحلاقة...... روماتيزم المفاصل أصابت مصطفى منذ أن كنا طلابا في الجامعة....... أصابت نفس مفاصل اليد التي يحتاجها للكتابة ...... كان يكـتب في الطـــب و الأدب و الشـعر... كان رئيس تحرير مجـلة السـودان الطـبية ، يقـرأ الأبحاث قبل أن تنشــر في المجلة..... جُــملة مؤلف البحث تبدو ضـبابية غائمة المعاني يغير فيها مصطفى كلمة واحدة أو يغير ترتيب الكلمات فينقـشع الضـباب و تتضح المعاني. حكى لي فتح الرحمن عوض السـيد، بأنه عندما كانوا في المدرسة الوسطى بالقضارف، حانت منه التفاتة أثناء الامتحانات ....رأى أحد الأعراب في وسط المدرسة يشجع ابنه: عبد الله!.. أعصر القلم يعصر قلبك!! و عندما سألت فتح الرحمن هل عَـصَـر عـبد الله الـقـلم، أجابني : - جـا فــينا الأول. كان مصطفى يعصر القلم بهذه الأصابع الملتهبة ...روماتيزم المفاصل يسبب نوعاً من الألم يستقبلك في الصـباح الباكـر و يبقى معـك.. لم أسـمعه يوما يشـتكي و لـكـنه على عكس ذلك كان دائما ضاحكا ساخرا من هذا المرض اللعين..... جهاز المناعة الذي يحمي مصطفى انقـلب على مفاصل أصابعه يقـرضها كـفأر مسعور. و بعد سنين من المعاناة أخذ يتناول أدوية لـلـجــم جهـاز المـناعـة و تخـفـيف الألـم، و كان يتحمل مضاعـفات الأدوية بجَـلـد.... آخر مرة زرت فيها مصطفى كان مستلقيا على سريره يعاني من ألم حاد في الـســلـســلة الـفـقـرية..... و عـندما دخلت عـليه وجـدته هـاشا باشا سـاخراً كـعـادته - عـلى يا أخي ، الواحد فـينا بقـى زي أبونقــدح، كان رقـد ما يقـدر يقـوم. و يضـحك... و أنا أعــلم حــتى الضــحك يؤلمه لأنه يرســل ألما حادا كـطعـنة المنجل الى الرجـلـين. حـَصـحَـاص الـبـَلــيـلـَة الجــُوّا فــيها مَــحَـــرّق يا اب صـَبرا مــِتـِل بَــحَــــر المـحـــيط الغَرّق عندما كنا طلاباً في كلية الطب كنا نساعــد في حجــرات العمليات و نساهــر مع المرضى و نغـوص و نطفـو في كتب الفـيســيولوجي و الباثولـوجي و الكــيمياء الحــيوية و غـير الحــيوية، و عــندما نصــرف الــبيرســري في نهــاية الشـــهـر يذهـب بعـضـنا الى ســينما النيل الأزرق و الخـرطوم غـرب حـيث الأفـلام الـنـظـيفة...... و كلوزيوم حـيث الكاوبوي ال######ان ...... و سـينما حـلفـاية حـيث الكاوبوي أب بَـزغَــة..... و بينما يقضي حسين محمد أحمد و عبد القادر الكدرو وآخرون ليلهم يعبدون الله و يسـألونه أن يهدي أخـوتهم. ينزل البعض الى قـاع الـمـدينة لـلجلوس الى جنيات الانس ذوات الضـحـكة المـــغـناج... و لكن مصـطـفى دفع الله يبقى وحــيدا في الـداخــلـية يغـازل شـيطانة الـشــعـر. يسـلمني القـصـيدة سـاعة الانتهاء مـنها و قـد اكـتـســى وجـهـه جـدية مـن يقـود بارجة حـربية...... أقـرأها مـرة و مـرات ...... يترك شـعره في نفـسـي شـعورا مبهما لا أدرك كنهه. شـعورٌ هـو الى التأمـل و الحـزن اقـرب... حـزن يـشــوبه أمـل في مـســتـقـبل زاهٍ يتوارى في بطن الغيب... ازداد شـعـره تدفـقـا عـندما أشــرقـت في دنياه أنوار الكـردفـاني ... جــميلة كالـطـيف... كان يكتب الـشــعـر بالـيمـنى و يـنـتـف شــعر رأسه الـكـثيف باليســرى. كان مصطفى من القلائل الذين تخـرجـوا مـن الجامعة بعد ســت ســنين بدون مـلاحـق..... كان لا يقـرأ كـثيرا......له ذاكـرة قــوية "تجـنن" كما يقـول الـلـبنـانيون...... يمـســك الكتاب يقــلب صـفـحـاته كما يقـلب صـفحـات الجـريدة، و لكن مع ذلك كان يعــرف ما بداخله أكــثر مِـنّا الـذين قـرأنا هـذا الكتاب مرات. تخـرجنا من جامعة الخرطوم و انضـمـمـنا الى قـســم الباثولوجي ســويا ً في أواخــر تســعة و ســتين و كان معـنا ميرغني علي من أهلنا الكـتيّاب الذين يحـفـظون القرآن و يكتبون الشــعـر أيضاً .....كانت عـائلة الباثولوجي مترابطة على رأسـها بروفيسير أحمد محمد الحـسـن........ في ذلك الزمان لم يكن يُسـمح لأسـاتذة الـطب بفتح عـيادات خاصـة كنا نرجع جـميعا الى كلية الطب بعد الخامـسـة مساءً نقـرأ و نبحـث و ننحني على المايكروسكوبات، نتعلم تـشـخيص الأمراض من كبارنا الـذين عـلمونا ســحر الباثولوجي و بعضـاً من ســحر الحياة..... أحمد محمد الحسن و أحمد علي الطيب و الصادق عبد الوهاب و عبد القادر ساتي و عوض عمر و في الثامنة مساء نذهب للعشاء سويا في منزل البروفسير....و بعدنا جاءت أجيال أخرى الى قسم علم الأمراض أسهم مصطفى في تدريبهم....عفاف الحاج و محمد محمود و محمداني و مبارك المجدوب و آخرون. منحــتنا جامعة الخرطوم بعثة خـمس ســنوات...... في قـســم عـلم الأمـراض نذهـب في الســنـتيـن الأوائل لـنيل دبلـوم عـلم الأمراض و الجزء الأول من زمالة كلية أخـصائيي عـلم الأمـراض المــلـكية و نعــود لنترقي من مـســاعدي أبحاث إلى مـحـاضــرين و نقضـي ســنتين في التدريس و هذه أيضا فــرصة لـنكـمـل نصــف ديننا و نعود مرة أخرى لنيل الجـزء الثاني من الـزمالة. ذهب مصطفى الى لندن قبلي بسـنة و لحـقـته هناك و في فترة من الفترات كنا نســكن في نفـس المبنى و معنا رياض بيومي و كان معنا حـبيب الذي كان يدرس الهندســة في جامعة لندن ذلك الوقت...... ثاني مرة قابلت فيها حــبيب كان يبني محطة الكهرباء بأم روابة..... من لندن الى أم روابة... حتى بعد أن بنى مجموعة شــركاته الهندســية مــثل البدر الهندســية و ديكور هـاوس و غيرهما كان نـفـس حــبيب الضاحك البشــوش...... الذي يمشــي في المكتب حـفـيان. كنت أحـتمي بمصطفى في الملمات ...... عندما أكون معه أشـعر بأن الدنيا بخير، خاصة في نهارات لندن الباردة الـشــتوية المـمـطرة الغـبشــاء... مع أني كردفاني من النهود نحـب المطر ونقضى نصـف حياتنا فى إنتظاره و لكن مطر لندن شئ آخر، ينهمر لأيام دون توقف...... شَـكــشَـاكة دائمة .. أشـتاق فيها لرؤية الـشــمـس. و في رجعتنا لانجلترا في المرة الثانية كنت في ويلز و بقي مصطفى في لندن.....مازلت أحـتفـظ بالصورة التي التقطتها في إحدى زياراتهم لنا ...."لضـيفــينا عـذوبة دمـية حـولاء".....مصـطـفى و أنوار يدخلان الالفة في حياتنا..... يأتيان يجددان أحـزاني و أحـزان انصاف..... ياحـليلـكم دوام بطراكـم.....تنتهي عـطلة نهاية الأســبوع ســريعاً... يرجعان الى لندن .... و نتمنى أن يجـــونا عــايدين... يا الله. في ســبعــينيات القـرن العـشــرين أضـرب طلاب جامعة الخرطوم و اعــتصمـوا بمـباني الجامــعـة و حاصرهم رجال الأمن المـســـلحون..... و هدد الطلاب بنســـف مباني كلية العلوم إن اقتحم عليهم رجال الأمن حرم الجامعة.. كان الخاتم عــدلان أحـد قادة الطلاب في ذلك الوقت. و هدد أبو القاســم بســحق الجامعة و طلابها تحت جنازير الدبابات.... و أنذر الموقف بكارثة....فتح مصطفى حســن اســحق مدير الجامعةِ آنذاك باب التشاور ......و تكونت لجنة من الأســاتذة فيها مبارك علي كرار "أبو الزينة" و عوض عمر و عبد الحميد لطفي و محجوب عبيد و بشــير حمد و مصطفى دفع الله...... كانت هذه اللجنة تعمل ليل نهار في نقاش و حوار بين الطلاب و اللؤاء الباقر..... و حبســنا أنفاســنا لأســبوع و أكثر ..... و في النهاية أفلحــوا في ابعادنا من طرف الهاوية و انســحبت الدبابات و معها رجال الأمن و رجع الطلاب إلى الدراســة ......و أصبح أعضاء هذه اللجنة مثلا يحتذي بل و أبطالا في نظر طلابهم..... كان مصطفى دفع الله شــابا في ذلك الوقت أقرب في العمر إلى الطلاب منه إلى زملائه الأســاتذة. و عندما ادلهم ليل جامعة الخرطوم و ليل الســودان...... ترك معظمنا الأوطان و بقي منا نفرٌ قليل....... مصطفى دفع الله و جعفر ابن عوف و عبد الرحمن المفتي و...و... بنى جعفر ابن عوف صــرحا صــحيا و تعليميا لأطفال الســودان ...... و بقي عبد الرحمن المفتي يعالج أطفال أم درمان و يحــرس ارث آل المفتي المعنوي المتجذر في تراب أم درمان ....... و انطوى مصطفى دفع الله على طلابه يقيهم عاديات الزمان و مذلة الجهل و يضئ لهم ليلهم ذاك .....الداجي الطول. لقد ســبقك إلى دنيا الخلود كدودة و حبيب و محجوب عبيد و أبو الزينة و بقينا نحن ننتنظر اللحاق بكم.... طلابُك و زملاؤك و أصدقاؤك الذين ذكرت و لم أذكر يفقدونك يا مصطفى و يتمنون من الله أن يبشــرك برحمة منه و رضوان و يســكنك جــنات لك فيها نعــيم،و أن يلزم أنوار الكردفاني الصــــبر و الســـلوان و أن يطرح البركة في أبنائك محمد و أســامة و ســارة، انه ســميع مــجـــيب الــدعوات. ===