|
Re: وعماد عبد الله تاني... (Re: بله محمد الفاضل)
|
إستقياء الخلاص
هأنت على الجسر .. وحيدا. ذات التماعات الماء السوداء على ذات النهر تجري من تحتك .. عبِرَتُك كبقايا شررٍ ذاوي لألعابٍ نارية بائسة إلى تجاه الغرب من خلفك , متوسطٌ الجسر الحديدي القديم تماماً , فوق علبته الخامسة جاءت وقفتك المتهدلة . هواء الليل الصيفي متبلدٌ و كسولٌ يعجّ بحشراتٍ و طنين و أخيلة . الأفق الشرقي متكورٌ من أمامك كعدسةٍ سوداء محدّبة , بؤرتها سُرّة النهر المتمدد جسده كشقٍ نحتيٍ أزليٍ بطول المدينة النائمة . عبّأتَ رئتيك من الهواء الزئبقي إلى أقاصي طاقات أضلعك , خطوةٌ أمامٌاً .. كنتَ بعدها تعبر القضيب القديم للسكة الحديدية العتيقة .. ملتمعٌ و باردٌ من تحت قدميك بدا , استويت قائماً بكامل جذعك المنهك فوق الحاجز الشبكيّ منعدم اللون و الملمس , عبرته إلى حافة الأسمنت الضيقة متهتكة السطح يسّاقط ترابها تحت حمل قدميك العاريات .. فتتسمع غوص الحصوات المفتتة في الحِلكة تحتاً , يبتلعها الماء في فقعاتٍ خفيضة . بقيت زمناً و الجسر معلقاً من تحتك و خلفك .. و الظلمة من أمامك بحر . عالجتَ سروالك خالعاً فلامست الحافة الحديدية حراشف مؤخرتك العجفاء العارية , لم تقشعر من ملمسها الباهت الحاد .. فاقتعدتها بكامل ثقل عجيزتك . ألقيتَ بسروالك الداخلي و البنطال إلى ظلمة الهوة من تحتك بينك و عتمة النهر و لم تبالِ بالنظر . إنقطع للسابلة عبورهم بين ضلعي مثلث المدينة التي فتقها النهر القديم منذ سيلانه من جنات العدن , أو من حيث جادت منابعه العليا بجريانه الممل أول أمر خلقه . لا نأمة يختل لها السكون المضطرب لليل إلا و يعلو فوقها فحيح رئتيك المثقلتين بالهواء الرصاصي الثقيل , و بداخلك تعلو خفيضاً طقطقة قفصك الصدري كطرقعة الأصابع الضجرة . إهتزازاتٌ من تحتك راعشاتٍ هي حال الجسر مذ عبره الجند الأنجلوساكسون بثقيل أحذيتهم و تنوراتهم و قشالينهم , ثم غمسوا موسيقى القَرَب و شقرة بشرتهم في حليب البلاد فتخمّرت من يومها طعوم الأشياء .. و عمّ الضجيج العظيم . ساعة في ليل الخرطوم هي أسكنها و أعلاها صمتا . إنتصبت بطول قامتك , قامةٌ عضوض .. تتماسك عظيماتك على جلدك الدبِق و قليل لحيماتٍ واهنة تلوذ إلى بعضها البعض و كان بها خشيةً من أن تتفكك أربطتها و المفاصل , فتتفرق منك في الهواء الذي ترسب من حولك كمن ينتظر بشارةً ما . يخف أسفل جذعك العاري و يلتحم بالهواء داخلٌ في متن الأنعدام الوزني . مفرقٌ ما بين ساقيك تحس بلذةٍ غامضة تستشريك .. مانحٌ أعضاؤك بينهما إجابةً أولى للتساؤل الذي طالما لازمك عمّا جعلهم يطلقون عليها أعضاءً حساسة !! الآن تعرف . بقيت لوهلةٍ مختبراً شعوراً عذباً بمصافحة جسدك الأدنى للهواء الطليق للمرة الأولى منذ دهر . طوحت بآخر قضبان بين سجن جسدك المحموم بنزفه الداخلي و بين باحة الليل . راقبت قميصك الزنزانة ينزلق في الهواء المظلم كراية تهوي منهزمة , و تغيب تحت عظام الجسر الحديدية . .. هأنت على الجسر .. عاريا . الليل أمامك و مِن خلفك . معلقٌ لبثتَ كخفاشٍ وليد , متجمهرٌ حولك هواء و صمتٌ و .. جسرٌ قديم . قلصت ركبتيك فأنّ عظمها . تقوس منك الجذع قليلاً إلى الأمام كراكع . النهر معتمٌ و ساكنٌ , تقترب التماعاته الخجلى متدانيتك كلما هبط وجهك تجاه المهوى الساكن تحتا . استجمعت من الهواء ما وسعته رئتاك , و استزدته استنشاقا حتى تسرب إلى حويصلات مسامك و انتظمها .. منسرباً إلى شعيرات روحك و انبجس في ذرات تكاوينك و جينك , واندغم في كُلّكَ .. فصرت إلى حال البالون المتوتر . كنتَ تدفع بحجابك الحاجز في اللحظة التالية , تدفع معه برئتيك و إمعاءك و هيكلك العظمي و عُضيلاتك و روحك , تدفع في أنينٍ عظيم و زمجرةٍ حارقة هي أقرب إلى العويل . دفعت بكلك إلى حلقك المتسع إلى أقصاه , و فكيك فاغرين بامتداد مساحة وجهك المتكور كقبضة . لفظت بكل حمولة داخلك إلى حيث خارجه . نصف هيكل جسدك الأعلى منكفئٌ على أسافلك يصطكّ .. و تقيأت .. تقيأت .. كشلال أنهكه طول الأحتقان .. تقيأتَ . في انحناءك لعاصفة الخلاص الكبير , بصِرت عيناك - على وسع حدقتيها - بصِرتْ بجوفك يندلق مقذوفاً إلى خارجك . في نصف وعيك و نصف إعياءك .. رقبت تقيؤك لمعلمك العجوز في صفك الثاني يسقط إلى ظلمة الهوة .. معه تسقط فرقعة صفعته لك . يسقط " محجوبٌ " و هو يمزق نعلك القماشي في سطوة طفولته على طفولتك . يسقط قيئاً هزيم الرعد المفرقع طوال ليل خريفٍ قديمٍ تبعتك رهبته إلى يومك . رأيت قيؤك يندلق ساقطاً بحزنك لسيارة الأجرة تبتعد مبتلعةً لجسد عواطف الهاجد في صمته الأبدي . من جوف قيؤك يسقط أرق الليل و صوت المذياع : لم ينجح أحد , فيقعى صاحبك صالح مغشياً . تتقيأ عميقاً تحرجك الأبله من القبلة الأولى و بقايا ضحك الفتاة الساخر بين ساعديك . يسقط قيئاً جسد القمرية القطني الذي مزعته أناملك و " عوض " يتضاحكك .. و يسقط عوض إثرها و ذنبوك الأزل . يسقط نشيدٌ قديمٌ للمغني الكاذب و الشاعر الصفيق و لحنٍ مشروخٍ . يسقط الأساتذة المُنهِكيك بالصفع و الركل و التقريع . جاركم الممل في نحنحته الصباحية يندفع من جوفك قيئا . تسقط الأغنيات العنينة و المغنين المُسئمين و أصوات المذيعين الأعالج و موسيقى نشرات الأخبار و البيانات الأولى و مارشاتها و البزات الخضراء . تسقط قيئاً نيئاً تلك السيدة في الحافلة و رائحة إبطيها المقززين تزكمانك من وسط البلدة إلى آخر العمر . يسقط خالك إبراهيم و مشاويره الطويلات . تدلق من أحشاءك طابور الصباح العسكري الشتوي . تسقط اللوائح و القوانين و مديروك الأغبياء و مديروك أنصاف المعاتيه و حارس البناية بصوته المسلوخ و رائحة العرقي و العتمة في الأزقة الآهلة بالكلاب و آسن المياه . تتقيأ حذرك الساذج لابتسامة أضعتها من الفتاة المواجهتك في المستودع .. و تلك التي طمثتَ وردتها بفتاوى العشق . يسقط قيئاً إختناقك بكاءً لكذبك على جدك .. و كذب الحكومات عليك . تتقيأ تتقيأ أناسٌ أهلكوا قلبك بالضغينة و الموجدة .. و آخرين سألت الله لو انه ما صنعهم . تساقط قيئاً ململتك من الندوات السخيفة و الإجتماعات المختنقة بالأقنعة و الجمل المعلوكة و الاوجه المسطحات . تتقيأ بلزاك و جان دارك و تشيخوف و إليوت و الهارب و تهاويم الديالكتيك و ابن المقفع و البلوز و كلارك و موظف الجمارك و الحرس الجامعي و الشجرة التي لم تستر مغامرات ليلاتك العقيمة و رجل الشرطة ممصوص الوجه منتفخ الجيوب . كأسة الخمر الأولى و نحيب جدتك من وطء الكبر و تعاظم الشيخوخة و قلة حيلتها . تتقيأ ضعفك أمام صاحب الدكانة و تجنبك للجارة التي تلح في الأسئلة . قيئاً تندلق منك عناوين الصحف و الباعة و وكالات الأنباء و صور الحكام و المحكومين . تسقط منك الرغبات السرية و الأحلام المنطادية و مدير المدرسة اللص و استذكار الرياضيات و نطق موظف المصرف للفظة الأجنبية العرجاء . تدلق قيئك أزيز معدات طبيب الأسنان و رائحة غرف المستشفيات . تتقيأ كثيراً فلسطين و العراق و القرارات الدولية و رائحة روث الحمام في حائط المخبز و قوات الهجين و مذيع القناة و المعلق السمج في دوري الكرة و مشكلة دارفور و القيمة المضافة و الوالي الضحوك و كبيرة الصدر تلك التي تتعس صباحاتك بابتسامتها المغتصبة . تدلق قيئاً انتصاب أذنيك لصرير احتكاك الزجاج بالأسطح الخشنة و أصوات طرقعة العلكة بين شدقي تلك الملتصقة بك في القاعة الفارغة .. تتقيأ .. تتقيأ .. تتقيأ .. تخرج ركام وساوسك و هرطقات ظنونك قيئاً لزجاً . تتقيأ وقر القلب و الأسرار و الأحلام المُستحثات بلا جدوى , كتلاً غرائية دامية تتقيأها . تستفرغ جوفك من حسراتك على الغائبين و للقاعدين و للبلاءات و للبلاد الأجنبية تجوسها قدما قلبك من فرط الوحشة .. تتقيأ أعالي سقف قهرك و غبنك و لوعاتك و الخيبات و الوحدة الدائرية و وهنك و تكّات الساعة الزمنية و عطن شمس الصباحات و سوء الليل الغريب و .. تسولك للخلاص . .. هأنت على الجسر .. عاريا و خفيفا . جوفك و إياك أجوفين .. مُفرَغَين منك و من حَمْلِك .. تقيأتَ تاريخ جسدك و ذاكرتك و جوانحك و عقلك و مداركك .. تقيأت كل شئٍ حتى لآخر خطوٍ أوصلك منتصباً فوق الحافة الساكنة .. عاريٌ كأنما قد نُشِرتَ من توّك . ثمة ريح خفيفة الآن , ثمة أفقٍ و مرئيات .. و أنت . مددت ساقيك منفرجتين إلى حدها القاصي و رأسك ملقىً للخلف بجفنين مواربين .. ذراعيك على امتدادها إلى جانبي جسدك المطمئن في نقاء عراءه و طـزاجته و جدّته . الهواء اشتعل حراكاً و ابتردت نسيماته على حين فجاةٍ و التمعت للنهر صفحته , الموج تحتك ارتطم صافقاً العلبة الخرسانية و اهتز الجسر .. و أنت .. آذنتها صرخة من تجويف نقاءك الوليد : آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآي ي ي ي ي ي ي ي ي ي .....
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
وعماد عبد الله تاني... | بله محمد الفاضل | 05-10-14, 08:01 AM |
Re: وعماد عبد الله تاني... | بله محمد الفاضل | 05-10-14, 08:06 AM |
Re: وعماد عبد الله تاني... | بله محمد الفاضل | 05-10-14, 08:10 AM |
Re: وعماد عبد الله تاني... | بله محمد الفاضل | 05-10-14, 08:12 AM |
Re: وعماد عبد الله تاني... | عاطف احمد عثمان | 05-10-14, 09:30 AM |
Re: وعماد عبد الله تاني... | بله محمد الفاضل | 05-10-14, 09:44 AM |
Re: وعماد عبد الله تاني... | بله محمد الفاضل | 05-10-14, 09:48 AM |
Re: وعماد عبد الله تاني... | عاطف احمد عثمان | 05-10-14, 09:52 AM |
Re: وعماد عبد الله تاني... | بله محمد الفاضل | 05-10-14, 10:04 AM |
Re: وعماد عبد الله تاني... | عاطف احمد عثمان | 05-10-14, 10:35 AM |
Re: وعماد عبد الله تاني... | بله محمد الفاضل | 05-10-14, 10:43 AM |
Re: وعماد عبد الله تاني... | بله محمد الفاضل | 05-14-14, 07:44 AM |
Re: وعماد عبد الله تاني... | ناصر احمد الامين | 05-14-14, 08:42 AM |
Re: وعماد عبد الله تاني... | بله محمد الفاضل | 05-14-14, 09:21 AM |
Re: وعماد عبد الله تاني... | ناصر احمد الامين | 05-14-14, 09:42 AM |
Re: وعماد عبد الله تاني... | بله محمد الفاضل | 05-17-14, 08:53 AM |
Re: وعماد عبد الله تاني... | ناصر احمد الامين | 05-14-14, 08:58 AM |
Re: وعماد عبد الله تاني... | طارق جبريل | 05-15-14, 08:33 AM |
Re: وعماد عبد الله تاني... | ibrahim fadlalla | 05-15-14, 11:44 AM |
Re: وعماد عبد الله تاني... | بله محمد الفاضل | 05-17-14, 09:44 AM |
Re: وعماد عبد الله تاني... | بله محمد الفاضل | 05-18-14, 08:23 AM |
Re: وعماد عبد الله تاني... | بله محمد الفاضل | 05-31-14, 11:12 AM |
Re: ويا عماد عبد الله، يا عماد عبد الله يا اخي... | بله محمد الفاضل | 06-15-14, 09:38 AM |
Re: ويا عماد عبد الله، يا عماد عبد الله يا اخي... | بله محمد الفاضل | 06-15-14, 09:41 AM |
Re: ويا عماد عبد الله، يا عماد عبد الله يا اخي... | علي عبدالوهاب عثمان | 06-15-14, 04:07 PM |
Re: ويا عماد عبد الله، يا عماد عبد الله يا اخي... | بله محمد الفاضل | 06-18-14, 09:30 AM |
Re: وعماد عبد الله تاني... | بله محمد الفاضل | 06-18-14, 09:08 AM |
Re: وعماد عبد الله تاني... | بله محمد الفاضل | 06-16-14, 09:17 AM |
Re: وعماد عبد الله تاني... | بله محمد الفاضل | 06-21-14, 01:58 PM |
Re: وعماد عبد الله تاني... | بله محمد الفاضل | 06-24-14, 09:34 AM |
Re: وعماد عبد الله تاني... | بله محمد الفاضل | 08-02-14, 10:37 AM |
Re: وعماد عبد الله تاني... | بله محمد الفاضل | 08-04-14, 05:36 PM |
Re: وعماد عبد الله تاني... | mustafa mudathir | 08-04-14, 08:42 PM |
Re: وعماد عبد الله تاني... | الصادق اسماعيل | 08-04-14, 09:42 PM |
Re: وعماد عبد الله تاني... | بله محمد الفاضل | 08-05-14, 11:19 AM |
Re: وعماد عبد الله تاني... | بله محمد الفاضل | 08-06-14, 03:51 PM |
Re: وعماد عبد الله تاني... | Osman Musa | 08-06-14, 04:56 PM |
Re: وعماد عبد الله تاني... | بله محمد الفاضل | 08-07-14, 09:37 AM |
Re: وعماد عبد الله تاني... | الطيب مصطفى | 08-07-14, 01:49 PM |
Re: وعماد عبد الله تاني... | علي محمد الفكي | 08-07-14, 06:36 PM |
Re: وعماد عبد الله تاني... | بله محمد الفاضل | 08-09-14, 10:33 AM |
Re: وعماد عبد الله تاني... | بله محمد الفاضل | 08-12-14, 05:11 PM |
Re: وعماد عبد الله تاني... | بله محمد الفاضل | 08-12-14, 05:08 PM |
Re: وعماد عبد الله تاني... | بله محمد الفاضل | 08-31-14, 08:00 AM |
Re: وعماد عبد الله تاني... | بله محمد الفاضل | 09-24-14, 07:32 AM |
Re: وعماد عبد الله تاني... | محمود بكر | 09-24-14, 11:20 AM |
Re: وعماد عبد الله تاني... | عماد ساتي | 09-24-14, 01:03 PM |
Re: وعماد عبد الله تاني... | بله محمد الفاضل | 09-27-14, 08:48 AM |
Re: وعماد عبد الله تاني... | بله محمد الفاضل | 09-27-14, 08:32 AM |
Re: وعماد عبد الله تاني... | ودقاسم | 09-24-14, 01:31 PM |
Re: وعماد عبد الله تاني... | بله محمد الفاضل | 09-27-14, 09:31 AM |
Re: وعماد عبد الله تاني... | علي محمد الفكي | 10-07-14, 09:43 AM |
|
|
|