|
Re: الخــــدر (قصة قصيرة) (Re: بدرالدين بابكر مصطفى)
|
في ذلك اليوم وصلنا باكراً فأشار أبي إلى بيت منفرد في الجانب الشرقي من النهر وأمرني بالذهاب إليه ريثما ينتهي من بعض الأعمال الإضافية مثل تمييز حدود الديار، وهي عملية تحتاج إلى حنكة وفراسة إذ عليك أن تحدد أرضك وتترك للآخرين أراضيهم دون أن تمس سنتميتراً واحداً فيها... وللعجب تتم هذه العملية بسلاسة ويسر ويتفق الجميع بوجود عمنا إبراهيم أكبرهم سناً الذي يعرف جيداً أن فلان يحادد فلان وأن علان أرضه عودين ونص وذاك أرضه تبلغ ثلاثة عيدان... بدون أن أسأله ذهبت إلى حيث أشار، ووجدت باباً مفتوحاً فدخلت وجلست على عنقريب أُوقدت بجانبه نار عليها إبريق شاي، فأيقنت أن صاحبه قريباً جداً من المكان، استمتعت بهذا الدفء لدقائق، جاءت بعدها امرأة مسنة ذات وجه ودود، عذبة الملامح رغم كبرها... ما أن رأتني حتى أسرعت إلى وقبّلت رأسي بحنان بالغ وأمرتني بالجلوس دون أن تسألني من أنا، ألقت علي أحد ثيابها البيضاء القديمة تفوح منه رائحة العشب، ولا يخلو من الخيوط الخضراء هنا وهناك جراء تعثره بلوبيا الجروف... أسرعت خارجة ثم أتتني بكورة مليئة بالروب الطازج الثقيل القوام دون أن تستخلص منه (الفرصة) وهي الزبدة الناتجة من خش الحليب أو من الترويب، فازدرتها مرة واحدة، رغم أنها كانت أكثر من طاقتي، وجلست فترة طويلة دون أن أتكلم، بعد ذلك مدت يدها مرة أخرى لتقدم إلي كأساً من الشاي الساخن وهي جالسة على بنبرها، (أشرب يا وليدي) ، طيلة هذه الفترة لم تسألني من أنا ولم أقدم لها نفسي، وليس لي أي معرفة بشئون الأيتيكيت واللياقة لأعرفها بنفسي، أُمرت أن آتي إلى هنا وأتيت وهذا كل ما في الأمر... أحببت هذه المرأة (الربذية) التي تصارع الحياة في هذه البقعة المعزولة، استغربت لحيويتها رغم كبر سنها، واعتقد إن المرء إذا ارتاح من الخلايق ومشاكلهم ربما يجد السعادة التي تجدها هذه العجوز، فهاهي تدير أمورها دون مساعدة من أحد وربما رفضت عروضاً للمساعدة بإباء وشمم ، فقد وجدتها مرتاحة وسعيدة لا ينقصها شيء، عرفت من أبي فيما بعد إن ثمة قرابة تجمعنا ما، وأهلها هم ناس البيرة لكنها آثرت أن تكون بقرب أرضها وبهائمها ودون أن تحمل هماً آخراً وآثرت أن تتابع أحوالهم عن بعد... أتى والدي بعد فترة، سمعت صوته من خارج بيتها ذي الغرفة الواحدة، يصيح عمتي بت المنى ... كيف حالك؟ ... فترد ببشاشة أهلاً أهلاً حبابك ود أُكد بعد أن تميز صوته بسهولة... فيدخل ويسلم عليها وتقالده، فتدرك هذه اللحظة إنني ابنه وتسأله ضاحكة : دا ولدك؟ ... وحات الله أنا قايلاه نبي الله الخدر... فيضحك أبي كثيراً ويستمر في ضحكه حتى جلوسه بجانبي على طرف العنقريب... وأُصاب أنا بشيء من الحسرة لأني خيبت ظن هذه المرأة الطيبة، وتمنيت لو أن الأمر كان بيدي فحققت أحلام هذه المرأة البسيطة التي قطعاً لن تزيد عن مزيد من الزرع والضرع، ولم يكن باستطاعتي أن أتخيل تعاملها معي لو أنها أدركت منذ البدء إنني ابن بابكر ود أكد، ولكن حسن ظني بها وحبي لها يجعلني افترض أنها لن تضن علي بهذه الكورة الدسمة من الروب البِكري، ولن تضن علي بهذه القبلة الحانية والضمة الدافئة... هذه ضمن المواقف التي حفرت بذاكرتي حفراً ولن استطيع أن أنساها، مدى ما حييت، فالبلد رغم قسوتها علينا أحياناً، ورغم ضنك العيش وصعوبته هناك ... تخصّب خيالاتنا دوماً بذكريات عذبة. وأنا في هذا العيد (عيدي أنا) الذي لم أر منه شيئاً سوى الضجيج وجبال مكة وشعابها، التي لا أدري منها (التكتح)، وبين زحمة الحجيج في الأرض المقدسة، ليتني كنت حاجاً فأصيب ديناً بعد أن فرّت مني الدنيا، وأنا مداوم في أول أيام عيد الأضحى على أحد مداخل مكة، مرابطاً هناك، مرت أشرطة عديدة بذهني، وتذكرت العيد عندنا بالبلدة، فحنيني إليها لا ينفك يدعوني، رغم إني خرجت منها ساخطاً، عازماً على الرحيل عنها إلى أبعد ما استطعت، ضاقت بي الأرض بما رحبت أو هكذا تخيلت.. فـ قدلة يا مولاي حافي حالق، بالطريق الشاقيه جاموس الخلا... بدرالدين بابكر مصطفى 2005
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
الخــــدر (قصة قصيرة) | بدرالدين بابكر مصطفى | 11-28-13, 12:26 PM |
Re: الخــــدر (قصة قصيرة) | بدرالدين بابكر مصطفى | 11-28-13, 12:28 PM |
Re: الخــــدر (قصة قصيرة) | بدرالدين بابكر مصطفى | 11-28-13, 12:30 PM |
Re: الخــــدر (قصة قصيرة) | بدرالدين بابكر مصطفى | 11-28-13, 12:39 PM |
Re: الخــــدر (قصة قصيرة) | بدرالدين بابكر مصطفى | 11-28-13, 12:44 PM |
Re: الخــــدر (قصة قصيرة) | عبدالعزيز عثمان | 11-28-13, 01:43 PM |
Re: الخــــدر (قصة قصيرة) | بدرالدين بابكر مصطفى | 11-30-13, 08:16 AM |
Re: الخــــدر (قصة قصيرة) | عبيد الطيب | 11-30-13, 09:39 AM |
Re: الخــــدر (قصة قصيرة) | بدرالدين بابكر مصطفى | 11-30-13, 01:10 PM |
Re: الخــــدر (قصة قصيرة) | بدرالدين بابكر مصطفى | 12-01-13, 06:37 AM |
|
|
|